23/10/2006

صيانة الوطن في سيادة القانون

سواء كنت تحب المواطن الاخر او تبغضه فان رايك فيه لا يؤثر على وصفه كمواطن يتساوى معك في الحقوق والواجبات. المواطن الاخر شريك لك في الوطن ، ويجب ان يتمتع – اخلاقيا وقانونيا – بنفس الحقوق التي تدعيها لنفسك ، كما يتحمل نفس الواجبات التي تطلب منك بمقتضى عضويتك في الجماعة الوطنية. صحيح ان الناس قادرون على اختيار اوطانهم ، لكنهم غير قادرين على سلب غيرهم وطنيته وحصته في وطنه. الوطن شراكة بين افراد احرار متساوين في الحقوق والواجبات . لا يستطيع احدهم افتراض حق لنفسه يزيد عن الاخرين الا بموافقتهم . القاعدة العامة ان جميع اعضاء الجماعة لهم شريحة من الحقوق هي الحد الادنى الذي لا يمكن سلبه ولا حجبه ولا اختصاره باي مبرر او قانون.
الوطن ليس احتشادا لبشر في رقعة جغرافية . بل هو منظومة قانونية – اخلاقية جرت صياغتها على  نحو عقلاني ومقصود وفق فلسفة خاصة وقواعد عمل محددة . ومن هنا فان العلاقة بين المواطنين ضمن المجتمع السياسي الواحد ليست عفوية ولا هي تطور طبيعي عن علاقات عضوية مثل العائلة. وهي ليست من نوع العلاقات الطبيعية التي تقوم على اساس وحدة الدم مثل العائلة والقبيلة ، وليست من نوع العلاقات التجارية المؤقتة التي تقوم على اساس التبادل المالي مثل المنظمات التجارية ، كما انها لا تدور حول مصلحة محددة كما هو الحال في منظمات الاعمال ومجموعات المصالح والاتحادات النقابية .
 قامت فكرة الوطن على قاعدة الشراكة الابدية في الارض والموارد الطبيعية والمتجددة . ووضع القانون لتحديد طبيعة هذه الشراكة ومعناها وكيفية الاستعمال الامثل للارض والتوزيع العادل للموارد ، وصيغة العلاقة المناسبة بين المواطنين ، كي يحصل جميع اعضاء الجماعة على حقهم كاملا ، يتساوى في ذلك الصغير مع الكبير ، الوضيع مع الرفيع ، والبعيد مع القريب .
الهوية الوطنية التي نسميها اختصارا بالمواطنة هي المعيار الوحيد للعلاقة بين المواطنين ، مهما اختلفت اصولهم والوانهم وثقافاتهم ومتبنياتهم العقيدية والحياتية . ربما اجد نفسي خيرا من جاري ، وربما ترتاح نفسي لابن قريتي ولا ترتاح لابن القرية الاخرى . ربما افضل الناس من شريحة خاصة على من ينتمون الى شرائح اخرى . ربما اتبنى عقيدة او مذهبا او ايديولوجيا تعتبر اهلها ارقى من غيرهم او اقرب الى الصلاح ، وربما تحصر الخير فيهم دون غيرهم . لكن هذه الاعتبارات كلها متبنيات شخصية ، هي حق للفرد ، لكنها لا تصلح اساسا لتحديد طبيعة العلاقة بين المواطنين ، ولا تصلح لتبرير حجب الحقوق عن شريحة معينة . فالعلاقة بينك وبينهم قائمة في اطار اخر ، على ارضية اخرى ، وتحكمها منظومة قواعد وقيم مختلفة .
حين نقبل بحمل الهوية الوطنية ، فاننا نقر – ضمنيا – بمنظومة القيم والقواعد التي تنطوي عليها فكرة الشراكة القائمة على تكافؤ القيمة بين اعضاء الجماعة ، وتساويهم في الحقوق والواجبات ، وكون القانون حاكما على العلاقة بين كل منهم والاخر. لا يستطيع احد مهما علا كعبه ومهما وجد في نفسه من ميزة على غيره ، ان يقبل بحمل هوية الوطن ثم يقرر لنفسه حقوقا فوق الاخرين . وسواء كان لديه مبررات ، او عرض ادلة ، او استعان بالقوة او ببليغ الكلام ، فانه لا يستطيع تجاوز حصته التي تماثل حصة كل فرد آخر.
من اجل صيانة علاقة التكافؤ والمساواة في الحقوق والواجبات ، وضعت القوانين التي توضح حدود العلاقة بين الافرد ، وتسمي الانتهاكات التي ربما يمارسها بعضهم على غيره ، والوسائل المتبعة لتصحيح ما ترتب على تلك الانتهاكات من فساد . تتعزز المواطنة برسوخ سيادة القانون ويتسع الفساد والبغي اذا ضعف القانون او فقد هيبته او قل الاهتمام بتطبيقه . ولهذا السبب اتفق علماء السياسة قاطبة على ان سيادة القانون وتطبيقه على نحو واحد ، على الجميع من دون تمييز ، هي الخطوة الاولى لصيانة النسيج الوطني وترسيخ المواطنة ، وبسط العدالة في توزيع الموارد ، وكبح البغي والظلم

11/10/2006

الهندسة وسخرية الاقدار



الهندسة الاجتماعية هي واحد من الحقول العلمية التي اثارت اهتمام الكثير من السياسيين والعلماء في اوقات مختلفة، لكنه - مع ذلك – بقي على حاشية اهتمام المجامع الاكاديمية. جوهر فكرة الهندسة الاجتماعية هو تفكيك النظام الاجتماعي ثم اعادة تركيبه وصياغته على نحو خاص. الزعيم، سيما ذلك الذي ينظر الى نفسه كصاحب رسالة او رؤية تاريخية، يرغب في ان يرى جميع افراد شعبه على شاكلته: يحملون افكاره ويتبنون مبادئه ويتطلعون الى اهدافه، ويرون فيه المثال الاعلى او الانسان الكامل الذي يستحق الاتباع.
ترجع هذه الفكرة الى زمن قديم جدا، فهي ترتبط فلسفيا بنظرية النظام ونظرية الانسان الكامل المعروفتين في فلسفة ارسطو. تصور ارسطو العالم المثالي على شكل نظام ثابت تتحدد فيه ادوار الناس واعمالهم ومكانتهم على نحو يشبه ما نفهمه من فكرة «القدر».
ثمة من يولد كي يصبح ملكا، وثمة من يولد كي يعمل فلاحا، او فيلسوفا او جنديا او تاجرا، فاذا قبل كل فرد مكانه وعمل فيه بافضل ما يستطيع ولم يتطلع الى ادوار سواه او ينافسهم فيها، فان الحياة الاجتماعية ستستقر وتتطور بالتدريج نحو صورة المدينة المثالية. ولهذا عارض ارسطو النظام الديمقراطي لانه يفتح الباب للصدف الخارجة عن التخطيط والنظام، بخلاف النظام الارستقراطي الذي يضمن وصول افضل الناس واعلاهم علما ومكانة الى السلطة السياسية وادارة المجتمع.
تطورت هذه الافكار العتيقة الى المذهب السياسي الذي يعرف اليوم باسم الشمولية او التوتاليتارية، وخلاصته ان الحاكم او النخبة الحاكمة تحمل رسالة تاريخية الى المجتمع الذي تحكمه، وان على المجتمع ان يمكنها من فعل ما تشاء في سبيل تحويل مضمون هذه الرسالة الى واقع قائم.
كان الزعيم النازي هتلر بين ابرز الذين تبنوا هذا المذهب، وكافح كفاحا مريرا في سبيل تحويل المانيا الى قلب العالم ونجح الى حد كبير، لكنه وصل الى ذروة نجاحه في الوقت الذي وصلت اخطاؤه ايضا الى الذروة، فكانت نهايته كما نعرف. وكرر التجربة نفسها ستالين في الاتحاد السوفييتي السابق، لكنه وصل الى ذات النهاية التي اودت بهتلر ولو على صورة مختلفة. وفي السنوات الاخيرة حاول بعض الزعماء الاقل شأنا، مثل الرئيس العراقي السابق صدام حسين، تقليد تلك التجربة، فانتهى الامر بتحول العراق الى جحيم لاهله وجيرانه.
طبق المذهب الشمولي على اشكال مختلفة، وقد راينا في التجارب السابقة عنصرا يتكرر باستمرار هو محاولة الحكومة اعادة صياغة النظام الاجتماعي من خلال تغيير البنية السكانية. ركز هتلر قليلا على هذا العنصر واستهدف خصوصا الطائفة اليهودية، فعمل على اضعافها وابعادها عن اي مركز مؤثر في السياسة اوالاقتصاد او التعليم او الاعلام. اما ستالين فقد قام بعمل نموذجي اذ نقل شعوبا بكاملها من مناطقها واعاد اسكانها في اماكن اخرى ضمن عملية خلط قسري بين القوميات المختلفة بهدف اضعاف او تفكيك الهويات الموروثة لصالح الهوية السوفيتية الارقى.
قام صدام حسين بتجربة مماثلة فقد نقل العديد من العشائر الكردية الصغيرة من مواطنها الى مناطق عربية في الجنوب، وهجر الى خارج العراق اربعين الف عائلة من ذوي الاصول الايرانية، كما استقدم نحو ثلاثين الف عائلة من مصر واعاد اسكانها في مناطق في الشمال والوسط بهدف اضعاف الهويات العشائرية والمذهبية والقومية لسكان المناطق المستهدفة.
لم تفشل هذه التجارب فحسب، بل ادت ايضا الى اضعاف النظام السياسي في كل دولة شهدتها فشل هتلر واصبح مشروعه وصمة عار في تاريخ اوربا والعالم. ويذكر مشروع ستالين كسبب مهم وراء انفجار الاتحاد السوفيتي وسقوطه في 1991. اما العراق فقد تحول شبح «الهندسة الاجتماعية» التي طبقها النظام السابق الى محرك للتنافر والمخاوف ومبرر لدعوات التقسيم التي نسمع بها كل يوم.
يعتقد الزعماء انهم سيكونون احسن حالا لو اعادوا تركيب النظام الاجتماعي على نحو يناسب طموحاتهم. لكنهم في حقيقة الامر لا يريدون اكثر من تثبيت جذورهم في الارض، وتحويل سلطتهم من ظرف مؤقت الى «قدر» نهائي. نقطة الضعف الكبرى في هذه المشروعات هي موضوعها، اي البشر الذين يراد اعادة صياغتهم. لو كان الامر يتعلق بجمادات او مكائن لكان الامر هينا، فالجماد يبقى في اي مكان تضعه فيه.
 اما الانسان فهو كائن متحول، تستطيع ان تفرض عليه مكانه في يوم معين، لكن من المستحيل ان تفرض عليه غده ومستقبله، ومن المستحيل ان تحدد منتجات عقله وميوله فاذا خضع اليوم وبدا ان الامور ستستقيم كما خطط لها، فمن السفه الظن بان غدا سيكون مثل اليوم. انسان اليوم هو غيره في الغد، واذا لم يكن مختلفا فان ابنه سيكون مختلفا ولهذا فان مشروعات الهندسة الاجتماعية لم تنجح في اي بلد. ومن الاسلم والانفع اذن البحث عن سبل اخرى لتعزيز السلطة، وتعلمنا تجارب العالم المتحضر ان تحقيق الاجماع الوطني والتوافق هو اكثر السبل نجاحا واقلها كلفة.
  صحيفة الأيام البحرينية 11 / 10 / 2006م 

06/10/2006

ماذا تختار... عصا موسى ام المكنسة؟

 || ما يدفع الانسان الى العنف هو اكتشافه للمضمون السياسي للفقر. اهمال الدولة يولد عند الناس شعورا بان فقرهم ليس ناتجا عن تقصيرهم ، بل عن خلل في بنية النظام السياسي ، الذي لا يهتم بهم او لا يريدهم اغنياء ||
قبل وقت طويل نسبيا، كتب د. محمد جابر الانصاري عن مواطن عربي ينهض لحرب يتوقع مقتله فيها لكنه لا ينهض لتنظيف الطريق امام بيته. هذه الملاحظة العميقة يمكن تطبيقها على منظمات وحكومات تنهض لخوض حروب تنفق فيها مئات الملايين، وقد كانت تستطيع اتقاءها لو انفقت بضع عشرات من تلك الملايين على التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحسين مستوى الحياة لاولئك الذين تحاربهم.  بعبارة اخرى، فانت مخير بين ان تدفع مليون دولار لشخص كيف يكفيك شر الحرب او تنفق عشرة ملايين في الحرب عليه. 
 ربما يبدو هذا الكلام مغريا للناس الذين يحسبون المسألة رياضيا. لكن السياسة لا تدار على هذا النحو. السياسيون واصحاب التاملات يفضلون الابتعاد عن التبسيط، ويعتبرون كلاما من صنف الذي ذكرناه سذاجة مغرية. انا ايضا اعتقد انها فكرة ساذجة ومغرقة في التبسيط. لكني اجد - من ناحية اخرى - ان الحقائق بسيطة وان الفهم الساذج او الفطري هو اقرب الافهام الى جوهرها. كثير الكلام لا يغير حقائق الاشياء ولا يزيدها وضوحا.
الحرب في اليمن ، والحرب السابقة في السودان ، والحروب الاخرى التي طحنت المئات في الجزائر والعراق وباكستان وافغانستان ، كان يمكن تفاديها او على الاقل اختصار حجمها والامها ، لو انفقت موارد مناسبة على تنمية المناطق المشحونة بالعنف. جاء متمردو الجزائر من ولايات فقيرة بحثا عن حياة كريمة في العاصمة. وفي باكستان يدور التمرد المسلح في الولايات الجبلية الشمالية ، وهي الاشد فقرا وتخلفا في هذه البلاد. وانطلقت حرب السودان في الجنوب ، الذي طالما ضربته المجاعات والاوبئة بسبب غياب اي مشروع تنموي جاد.
ارتباط العنف بالفقر ليس من اسرار السياسة. منذ زمن طويل كان علي بن ابي طالب يقول "عجبت للجائع كيف لا يخرج في الناس شاهرا سيفه". يقدم د. تركي الحمد اشارة ذكية الى هذه العلاقة مستشهدا بتفسير الفيلسوف الفرنسي روسو ، الذي رأى ان الفقر بذاته لا يدفع الانسان الى العنف. ثمة كثير من الناس فقراء جدا لكنهم مسالمون. ما يدفع الانسان الى العنف هو اكتشافه للمضمون السياسي للفقر. اهمال الدولة يولد عند الناس شعورا بان فقرهم ليس ناتجا عن تقصيرهم ، بل عن خلل في بنية النظام السياسي ، الذي لا يهتم بهم او لا يريدهم اغنياء. عندئذ يجد الناس انفسهم امام خيارات كلها مريرة: الصبر على حياة بائسة، او الهجرة الى بلاد اخرى، او التمرد.
هذا وجه للمشكلة . لكن ما الذي يجعل التمرد خيارا وحيدا، رغم عواقبه الكارثية الواضحة؟. لو فكر كل فرد في حل شخصي لمشكلته، افليس من الممكن ان ينتهي جزء كبير من المشكلة؟.
هذا يعيدنا الى ملاحظة الدكتور الانصاري ، عن هوس العرب بالحلول الحاسمة واعراضهم عن الحلول الطويلة الامد والتدريجية. سواء كنا نفكر في مواجهة عدو او في تحسين مستوى معيشتنا ، فاننا نفكر دائما في حلول كاملة وفورية، حلول بالضربة القاضية. لا يختلف الافراد عن الحكومات، فالجميع يفكر على هذا النحو. احد الاسباب يكمن في  افتقار ثقافتنا الى القيم التي تعلي من شأن الحلول التدريجية والمساومة والتفاوض. لكن لعل السبب الرئيسي يكمن في فلسفة التربية والتثقيف ، التي تؤكد على احتكار الدولة للشأن العام.
نتعلم في مدارسنا ان الدولة هي الجهة الوحيدة المكلفة بتنمية البلاد. يضاف الى هذا ان الدولة لا تسمح عادة للافراد والجماعات الصغيرة ، باقامة اطارات خاصة لتنظيم مشاركتهم في الجهد التنموي. لا شك ابدا في ان المجتمع الاهلي يستطيع المشاركة في علاج المشكلات وملء الفراغات وتعويض مواضع القصور في الاداء الحكومي. ابسط الامثلة على ذلك هو النشاطات الثقافية والجمعيات الخيرية الاهلية التي تسد بالتاكيد فراغا محسوسا .
هل يعني هذا ان المجتمع قادر على معالجة مشكلة العنف والحروب المتنقلة؟
المؤكد ان المجتمع قادر على ان يشارك في العلاج. لكن دوره يتوقف على مبادرات حكومية لتمهيد الطريق امام المجتمع كي يقوم بهذا الدور. قبل ذلك يجب ان نفكر جديا في الثمن الباهظ الذي تدفعه الدولة للحرب على المتمردين، والذي كان يمكن توفيره او تخفيضه لو عملت على تبريد البيئات المنتجة للعنف والتمرد. هذا يحتاج طبعا الى مراجعة جذرية لخريطة توزيع الموارد المالية، اي توجيه الجزء الاعظم لانماء المناطق الفقيرة بدل شراء الاسلحة. 

26/09/2006

الحرية والنظام العام

|| الحرية حق للمواطن لانه شريك في ملكية ارض وطنه. من الناحية الاخلاقية والدستورية لا تملك الدولة اي حق في "منح" الحرية او حجبها. الحرية الفردية والحريات العامة ليست ملكا للرئيس كي يمنحها ، وليست ضمن حدود صلاحياته الدستورية كي يحجبها ||

يطالب دعاة الاصلاح بالحرية ، لانها حق لهم ولكل مواطن. ومن دون الحريات الفردية والعامة فان المواطنة تصبح كلمة فارغة من اي مضمون. في ماضي الزمن كان اعضاء القبيلة او سكان القرية اتباعا لرئيسهم. وامتد هذا المفهوم بعد قيام الامبراطوريات الكبرى ، فاصبح عامة افراد المجتمع اتباعا للامبراطور او الحاكم.
 وبقي هذا المفهوم سائدا في دول العالم حتى 1789 ، حين اصدر برلمان الثورة الفرنسية وثيقة حقوق الانسان والمواطن التي مثلت اول تقرير رسمي لشريحتين من الحريات ، تقرر الاولى ما هو حق للانسان باعتباره انسانا ، بينما تعالج الثانية الحقوق التي يتمتع بها المواطن بسبب انتمائه للمجتمع وشراكته فيه. 
التمييز بين الحقوق الطبيعية ، اي تلك المرتبطة بانسانية الانسان ، والمدنية او الدستورية المرتبطة بشراكته في المجتمع السياسي ، هو ثمرة للنقاشات الفلسفية والفكرية التي شهدتها اوربا منذ منتصف القرن 17 ، والتي انتهت الى تاسيس ما نعرفه اليوم من فلسفة سياسية حديثة تهتدي بها جميع الدول المتقدمة. في حقيقة الامر فان تطور هذا المفهوم كان حجر الزاوية ، في النهضة العلمية التي قامت على ارضيتها وفي اطارها الحضارة المعاصرة.
ثمة فارق جوهري بين مفهوم الحرية الذي تطور في هذا السياق ، وذلك المفهوم الذي يتبناه التقليديون. هذا الفارق يكمن في فكرة الشراكة في الوطن. ففي الازمان الغابرة لم يكن الانتماء الوطني او الاجتماعي اساسا لحقوق معينة يتمتع بها الافراد. في بعض الحالات كان ثمة امراء صالحون "يتفضلون" على رعاياهم بحقوق او حريات معينة ويفضلون لين المعاملة على التشدد ، وربما استشاروا بعض اهل الراي او نخبة القوم قبل اتخاذ القرارات الرئيسية.
والواضح ان مفهوم الحرية الذي يتبناه التقليديون لا يختلف كثيرا عن هذا السياق ، فهم يفضلون الملاينة على التخاشن والمشورة على الانفراد بالراي. كما يفضلون حل التعارضات بالمعروف بدل استعمال القوة. 
ولا شك ان هذه الميول تستحق التقدير. لكن هذا المفهوم لا يقود – في نهاية المطاف – الى الحريات الفردية والمدنية التي يطالب بها عامة سكان الارض في هذا الزمان. بل هو اقرب الى فكرة التسامح التي تتماثل مع الحرية في بعض الجوانب ، لكنها تختلف عنها في الارضية الفلسفية التي تنبعث منها ، كما تختلف عنها في الاطار القانوني الذي تعالج ضمنه قضاياها ومترتباتها. انها اقرب الى قرار "من فوق" مثل ميل الاب الى استعمال اللين مع ابنائه ، او قرار رئيس شركة بمداراة موظفيه. وهذا يختلف اختلافا بينا عن مفهوم الحرية الذي اطلق النهضة العلمية والصناعية التي يعرفها عالم اليوم .
المفهوم الجديد يعتبر الحرية "حقا للمواطن" يتمتع به لانه شريك في ملكية الارض التي نطلق عليها اسم الوطن. وسواء كان الرئيس كريما او بخيلا ، لينا او خشنا ، متفضلا او ممسكا ، فانه لا يملك من الناحية الاخلاقية او من الناحية الدستورية "منح" الحرية او حجبها. بعبارة اخرى فان الحرية الفردية والحريات العامة ليست ملكا للرئيس كي يمنحها ، وليست ضمن حدود صلاحياته الدستورية كي يحجبها. بل ان وجوده على مقعد الرئاسة وتمتعه بالصلاحيات والامتيازات التي يتفوق بها على غيره ، مشروط بحمايته لحقوق مواطنيه وحرياتهم وتكريس جهده للدفاع عنها ومنع الاضرار بها او تعطيلها من جانب اي هيئة اخرى حكومية او غير حكومية.
لهذا السبب فان دساتير الدول المتقدمة ، تنص صراحة على بطلان اي قانون او قرار او اجراء حكومي يؤدي بصورة من الصور الى تعطيل حريات المواطنين. ولحسن الحظ فان واضعي الدستور العراقي الجديد قد توصلوا الى صيغة مبتكرة ، تمثل حلا لاشكالية العلاقة بين الدين والحرية. اذ تنص معظم دساتير الدول العربية كما هو معروف على ان الاسلام مصدر اساسي للتشريع والقانون. لكن كان ثمة خشية من ان يستثمر بعض المتشددين واصحاب العقول العسيرة هذه المادة في اصدار قوانين او سياسات تعطل الحريات الفردية ، كما هو مشهود في عدد من الدول العربية التي تصدر فيها بين الحين والاخر قرارات حكومية او احكام قضائية تعطل حريات التعبير او العقيدة او العمل تحت مبررات تلبس ثوب الدين او التقاليد.
 الحل الذي توصل اليه المشرعون العراقيون ، هو اضافة مادة تنص صراحة على الغاء اي قانون يعارض المتفق عليه من الدين الحنيف او يضيق حرية المواطن (المادة 2). وهكذا ربطت بين الالتزام باحكام الدين وحماية الحريات الفردية. ومن المأمول ان يسهم هذا التاسيس الدستوري في اطلاق حركة فكرية واجتماعية نشطة بعد ان تستقر الاوضاع في العراق في قادم الايام.
من المفهوم بطبيعة الحال ان مفاد الحرية لا يتحقق على ارض الواقع ما لم يكن الامن والنظام العام مستقرا. ولذا قيل بان الحرية لا توجد الا في مجتمع يحكمه القانون. لكن شتان بين قانون يسعى لحماية الحرية وقانون يسعى لتعطيلها بحجة الامن والاستقرار. ومن المؤسف ان هذا هو الميل الغالب عند الكثير من الحكومات العربية. واذا كان للعلم من فائدة ، فان العديد من الدراسات الجديدة المدعومة باستنتاجات عن تجارب فعلية ، قد توصلت الى ان تعطيل الحريات لم يؤد ابدا الى سيادة الاستقرار ، بل ادت في كثير من الاحيان الى نقل التوتر الاجتماعي من السطح الى تحت الارض وانتجت حالات التمرد والانشقاق التي نعرفها في العالم العربي اليوم. 




مقالات ذات علاقة

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...