12/07/2023

لو كان الانسان ذئبا لما تحضر

قبل عقدين من الزمن تقريبا ، كانت الدكتورة منى البليهد تعد اطروحتها للدكتوراه ، حول "الهوية الثقافية لدى طلاب وطالبات المرحلة الثانوية في المملكة". وفي اطار الابحاث الميدانية المتعلقة بالموضوع ، سألت د. البليهد عينة من طلبة الثالث ثانوي عن رأيهم في القول السائر "إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب" فأجاب 70 بالمائة منهم بالموافقة عليه ، أي انهم مقتنعون بأنه لا يمنع الناس من العدوان عليك الا خوفهم منك. ثم تساءلت الباحثة: بعد بضع سنين سيلتحق هؤلاء بسوق العمل ، وسيتعاملون مع الناس ، فهل سيتمثلون دور الذئب حينذاك؟. 

تذكرت هذه القصة القديمة نوعا ما ، حين صادفت هذا الأسبوع أربعة كتاب ، اتفقوا في مقالاتهم على ان الانسان فاسد بطبعه ، وهذا ما يبرر ظلم الناس لبعضهم ، سيما من لا يعرفونهم. 

أعلم أن كثيرا من القراء الأعزاء يعتبرون هذا الامر من قبيل المسلمات. وربما استغربوا اعتراضي على الفكرة وانكارها جملة وتفصيلا ، فكيف تنكر ما اجمع عليه اهل العلم والشعراء جيلا بعد جيل؟. 

والحق ان غالب الثقافات القديمة ومن بينها العربية تميل بقوة الى هذا المنحى ولذا احتفل اسلافنا ومعاصرونا بأمثال قول المتنبي:  

"الظلم من شيم النفوس فان تجد...ذا عفة فلعلة لا يظلم"  

"ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم.. ومن لا يظلم الناس يُظْلمِ" 

ورأيت عددا من اجلاء المفسرين يصرف الآية المباركة "وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا" الى نفس المعنى السابق ، اي فساد الطبيعة البشرية. 

ولعل القراء الاعزاء قد لاحظوا ان فهم الطبيعة البشرية على هذا النحو ، قد اتصل بمفهوم الشجاعة ، فتحول المفهوم المركب الى تقديس للقوة المادية واحتفاء بالسيف ، كما في شعر زهير السابق الذي يحتفي بظلم الغير حماية للأرض والعرض ، وكأن هذا لا يسلم الا بذاك ، بل قيل هذا صراحة على لسان المتنبي "لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى...حتى يراق على جوانبه الدم" ومثله قول ابي تمام "السيف اصدق انباء من الكتب". مع ان الكتاب يصون حياة خلق الله والسيف يهدرها ، فلا ادري كيف يكون هذا اصدق من ذاك؟. 

لا بد من ايضاح ان تلك الابيات ، قيلت جميعا لمناسبات بعينها. ولعل اصحابها لم يقصدوا ان تكون الفكرة بذاتها مطلقة. لكن واقع الحال يخبرنا ان الرسالة الداخلية لكل منها ، قد تجردت عن ظرفها الخاص ، وتحولت الى مسلمة يتبادلها الناس في مختلف ازمانهم واحوالهم ، دون ان يتوقفوا قليلا لمساءلتها او التأمل في معناها ، وهو معنى ناقص ومجروح قطعا ، ان لم نقل انه خطأ في الجملة والتفصيل. 

من المفهوم ان كافة الامم والثقافات تحتفي بالسيف والسلاح. لكن عصر النهضة الاوروبية شهد حدثا مهما ، هو انكماش الفهم القديم للطبيعة البشرية ، وبروز مفهوم نقيض ينظر للانسان باعتباره عاقلا وخيرا ، بمعنى انه لو وقف امام خيارين ، فسوف يختار ما هو اصلح له ولغيره: انه يختار ما يصلح له لأنه عقلاني يحسب عواقب الافعال ، وهو يختار ما ينفع غيره ان لم يكن به ضرر على نفسه ، لأنه كائن اخلاقي. وفقا للفيلسوف المعاصر جون رولز ، فان ما يميز الانسان عن بقية الكائنات ، هو قابليته لاكتشاف العدل والخير في الاشياء والافعال ، وتمييزه عن الشر ، واختيار الخير في معناه العام.  

الحقيقة انه لولا عقلانية الانسان وخيريته ، لما تقدمت البشرية ، ولبقيت مثلما كانت قبل الاف السنين. ان فعل الخير لا ينحصر في مساعدة الفقير والمسكين ، بل يشمل كل عمل يسهم في عمران الارض وتحسين حياة البشر وتطورها في اي صورة من الصور. وكل ما نراه من حولنا شاهد على عقلانية الانسان وخيريته. 

الشرق الأوسط الأربعاء - 24 ذو الحِجّة 1444 هـ - 12 يوليو 2023 م 

مقالات ذات صلة: 

 

 

 

05/07/2023

من دربند الى ستوكهولم: خط التحول المنتظر

صباح عيد الاضحى ، اقامت الشرطة السويدية خطا أمنيا أمام المسجد الكبير في العاصمة ستوكهولم ، لحماية سلوان موميكا ، الذي أعلن انه سيحرق نسخة من المصحف ويدوسه بقدميه ، تأكيدا على انضمامه لتيار اليمين المتشدد. ومعروف ان الرجل لاجيء من العراق ، يسعى لاقناع الطيف المعادي للمسلمين بدعم محاولاته للدخول مبكرا في الحياة السياسية.

بعد هذا بساعات كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يزور الجامع الكبير بمدينة دربند ، على ساحل بحر قزوين ، حيث ظهر امام كاميرات التلفزيون وهو يضم نسخة من مصحف قديم الى صدره ، ويحيطه بيديه ، بينما يحدث مستقبليه عن احترام الدولة الروسية للقرآن وكافة الكتب المقدسة ، ورفضها اي اهانة او جرح لمشاعر أتباعها "خلافا لما يجري في دول أخرى حيث يهان الكتاب المقدس ، ولا تفعل الدولة اي شيء للتعبير عن احترام معتقدات سكانها".

بوتين خلال زيارته الجامع الكبير في دربند 29 يونيو 2023
جريمة حرق المصحف ، قد تتحول الى حجر زاوية في السياسات الأوروبية الخاصة بالتعدد الثقافي والهجرة والاندماج. نعلم ان هذا ليس الحادث الأول من نوعه. فقد جرى بنفس التفاصيل تقريبا في ابريل 2020 ، ثم في يناير من العام الجاري. وفي المرة الأولى اثمرت الحادثة عن صدامات واسعة بين الشرطة ومهاجرين محتجين ، وسجلت اصابات واحرقت سيارات ، واعتقل عدة اشخاص.

الجديد في الحادث الأخير ، هو تزامنه مع الصدامات الواسعة التي شهدتها فرنسا بعد مقتل الشاب الجزائري ، نائل المرزوقي على يد الشرطة يوم 27 يونيو المنصرم. لكن هناك ايضا عدة حوادث تساهم جميعا في تحويل هذا الحادث الى قضية متشعبة الانعكاسات ، ونشير خصوصا الى موقف الرئيس الروسي ، الذي سيجير دون شك للصراع السياسي الموازي للحرب في اوكرانيا ، وهو – كما نعتقد - حلقة من حلقات الصراع الاوسع نطاقا ، الذي يدور حول عودة نظام القطبية الثنائية (روسيا والصين من جهة والدول الصناعية الاخرى في الجهة المقابلة).

ويظهر ان رسالة بوتين قد وصلت فعلا ، حيث تحدث بيان للجامع الازهر بامتنان ، عن موقف الرئيس الروسي ، بينما ندد بما يمكن اعتباره موقفا سلبيا من جانب الحكومة السويدية. لا اعتقد ان روسيا قد كسبت – بشكل نهائي – تعاطف العالم الاسلامي ، فلديها – هي الاخرى – مشكلاتها. لكن كلمة الرئيس بوتين في الجامع القديم ، قدمت جوابا للسؤال الذي يدور في أذهان الكثير من المسلمين ، سؤال: من يقف معنا اذا تعرضت هويتنا او مقدساتنا للتهديد او الاهانة.

جواب كهذا لا بد ان يزعج التحالف الغربي ، لأنه ببساطة يمهد الطريق لعودة التحالفات القديمة بين موسكو والعالم الثالث. وهو يشي بتحول جوهري في نظام العلاقات الدولية.

الحوادث التي تزامنت مع حرق المصحف ، تشكل في مجموعها اطارا تحليليا جديدا ، لا بد ان يؤخذ بعين الاعتبار في الدوائر الأوروبية. واحتمل ان نقاشاتهم التالية لن تتمحور حول حرية التعبير أو احترام المقدسات ، كما حصل في المرة السابقة ، بل حول الانعكاسات التي يمكن ان يقود اليها حادث من هذا النوع ، نظير اضطرابات باريس ، أو استثمار سياسي عالمي النطاق ، كما يظهر من توجهات الرئيس الروسي.

هذه اذن لحظة مواتية للمسلمين في اوربا. احتمل ان الخطاب السياسي للنخبة الحاكمة ، لن ينشغل في الأيام القادمة بمفهوم الدمج الثقافي الجبري ، كما جرت العادة في الاشهر الماضية ، بل سيدور غالبا حول الاستيعاب السياسي في اطار تعددي ، كما فعلت بريطانيا والولايات المتحدة من قبل.

انها فرصة لمن استوعب معناها. واظن ان على المسلمين المسارعة في اغتنامها ، بالانخراط الواسع في الحياة السياسية والمشاركة الفاعلة في الانتخابات العامة والمحلية ، لانها الطريق الوحيد للحصول على ما يطالبون به ، في اطار القانون.

الشرق الاوسط الأربعاء - 17 ذو الحِجّة 1444 هـ - 5 يوليو 2023م     https://aawsat.com/node/4416236

مقالات ذات صلة

ابعد من تماثيل بوذا

حرب الرموز

استنهاض روح الجماعة

الاسئلة الباريسية

الاسئلة التي تزيدنا جهلا

تلميذ يتعلم وزبون يشتري

ثقافة العيب

حديث الغرائز

الحر كة الا سلامية ، الغرب والسيا سة ( 2 من 3 )

حول طبيعة السؤال الديني

خطباء وعلماء وحدادون

داريوش الذي مضى

الدرس الباريسي

دعوة لمراجعة مفهوم الامة/القومية/الوطنية

الشيخ القرني في باريس

العلاج الجذري لفتن العنصريين

عن العولمة والبقالين والحمالين و السمكرية و

قادة الغرب يقولون دمروا الاسلام ابيدوا اهله

المسلمون البريطانيون ومشكلة الهوية

وهم الصراع بين الحضارات

اليوم التالي لزوال الغرب

28/06/2023

الغائب الكبير في السودان وروسيا


اكتب هذه السطور استدراكا على فكرة لصديقي الأستاذ عثمان العمير ، فكرة هي اشبه بالنبوءة عند بعض الناس ، وهي ترتيب منطقي للحوادث عند آخرين. في اوائل مايو المنصرم كتب العمير معلقا على تصريحات قائد ميليشيا فاغنر ، يفغيني بريغوجين ، الذي انتقد فيها وزارة الدفاع الروسية. وتساءل: هل يفضي هذا الى مشهد شبيه بما جرى في السودان ، أي تمرد الميليشيا على حكومة موسكو؟. وهو ما جرى فعلا في الاسبوع الماضي ، وفاجأ الجميع.

المحللون الذين تابعوا الحدثين الروسي والسوداني ، ركزوا على ثنائية القوة العسكرية. فهم يعتقدون ان وجود قوى مسلحة خارج اطار الجيش ، سيفضي – طال الزمن ام قصر – الى صراع بين القوتين. هذا تحليل يسنده تنظير علمي متين ، فضلا عن التجارب الواقعية المتكررة.

لكني أود النظر في زاوية أخرى ، هي حاجة كل بلد لما يسمى في الفلسفة السياسية "المجال العام" الذي يسهم في تحييد القوى المسلحة ومنعها من القفز على السلطة ، او الانخراط في الصراعات السياسية الاهلية.

لا بد من القول ابتداء ان نقاشا كهذا ، يفترض توفر سياق اجتماعي وثقافة سياسية ونظام علاقات ، لا تتوفر عادة في المجتمعات التقليدية. ولهذا فقد يكون النقاش غير ذي صلة بالأوضاع التي نناقشها. لكنني مع ذلك ارى ان طرح الموضوع سيستثير السؤال البديهي: لماذا نجح الآخرون في الوصول الى هذه النقطة ، ولماذا اخفقنا في ذلك؟. ان تفكيرنا في هذا السؤال سيحملنا خطوة الى الأمام. وهذا بذاته جزء من عملية التطور التي نتمناها في مجتمعاتنا.

المجال العام هو الفضاء الذي يتيح للناس مواجهة بعضهم ، ليتشاركوا في الرأي او يختلفوا من دون جبر ولا خديعة. ان السمة الاولى التي تسمح بقيام هذا الفضاء المشترك وانسياب التعاملات فيه ، هو عدم انفراد اي جهة أهلية بقوة فائقة او سلطة مادية او معنوية ، تمكنها من اقصاء الاطراف التي تتبنى رأيا او مصلحة مخالفة للبقية.

وفقا لرأي الفيلسوف المعاصر يورغن هابرماس ، فان المجال العام هو الرحم الطبيعي لما نسميه اليوم "الرأي العام" الذي ينمو ويتبلور في سياق التبادل المتواصل للأفكار والآراء بين المواطنين ، حول القضايا العامة ، بما فيها تلك القضايا الخاصة التي يرى بعضهم ان لها بعدا عاما ، او انها تؤثر على المصالح المشتركة. لا يستطيع المواطنون جميعا ممارسة السلطة ، وليس من الحكمة ان يفعلوا. لكن من المهم ان يشاركوا بالراي في القضايا التي تؤثر عليهم ، او التي يكون أشخاصهم او مصالحهم جزء من موضوعها.

دعنا نتخيل ان هذا المجال كان موجودا في روسيا ، فهل كان بوسع الرئيس بوتين ان يشن الحرب على اوكرانيا ، دون ان تسمع مليون صوت محتج؟. او لنذهب الى الجنوب ، الى الخرطوم التي انتفضت فمهدت الطريق للاطاحة بالرئيس السابق عمر البشير ، اما كانت تستطيع فعل الشيء نفسه مع الذين امسكوا بالزمام بعده ، ولو حصل هذا فهل كانت البلاد تنزلق الى الحرب الأهلية التي نقترب منها اليوم؟. بل لو ذهبنا مسافة ابعد زمنيا: هل كان صدام حسين سيغزو ايران ثم الكويت ، لو كان المجتمع قادرا على الاعتراض العلني على قرار كارثي كهذا؟.

هذه الأمثلة كلها تشير الى مواقف ضرورية من حروب كارثية. لكني اريد الاشارة ايضا الى ان كل مجتمع يحوي العديد من اصحاب الافكار والكفاءات والاشخاص الذين لديهم رؤية مستقبلية ، يمكن ان يكون احدها او بعضها مفتاح الباب نحو التحولات التاريخية الكبرى في مجال العلم او الاقتصاد او غيره.

لا يمكن لهذه الرؤى العظيمة ان تظهر أو تتبلور ، ما لم يكن ثمة فضاء آمن وسليم ، يمنح الاحترام اللازم والقيمة المناسبة لكل رأي او فكرة ، سواء كانت عظيمة حقا او كانت بسيطة.  

الشرق الاوسط الأربعاء - 10 ذو الحِجّة 1444 هـ - 28 يونيو 2023م  https://aawsat.com/node/4405426

مقالات ذات صلة

اربع سنوات ونصف على اقرار نظام الجمعيات الاهلية

ترمب على خطى يلتسن

الجمعيات الاهلية : الترخيص في غياب القانون

حان الوقت كي يقيم المثقفون نواديهم المستقلة

سوريا قد تكون بوابة الحرب الباردة

عرب اوكرانيا وعرب روسيا

في الطريق الى المجتمع المدني

كي تستمر المنتديات الأهلية رافدا للحياة الثقافية

مجتمع الاحرار

المجتمع المدني كاداة لضمان الاستقرار

من المبادرات الثقافية الى الحياة الثقافية

من المجتمع الطفل الى المجتمع المدني: تأملات في معاني اليوم الوطني

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...