22/04/2020

"الغول" أخطر ما يواجه البشرية بعد تلاشي الوباء

  || في لحظة الخوف على الوجود ، يتقبل الانسان التنازل عن حريته في صنع حياته المستقلة. حينها سيجد كثيرا من تجار الانجازات والاساطير ، يعززون خوفه كي يسيطروا عليه|| 
ابدأ من مقال السيدين جون ميكليثويت وأدريان ولدريدج في هذه الصحيفة يوم الاثنين المنصرم ، والذي بدأ بفرضية ان الاستجابة لتحدي وباء كورونا كانت فوضوية في معظم الدول الغربية. وهذا يرجع في تقدير الكاتبين الى ترهل الادارة الحكومية ، قياسا الى نظيرتها في الدول ذات النظام المركزي ، مثل الصين وتايوان.
Target, Whole Foods, Other Retailers Offer Special Hours for ...
استخدم الكاتبان ارجاعا في غاية الذكاء الى توماس هوبز ، لتقديم غريزة "الخوف على الوجود" كأرضية للمقالة. في 1651 نشر هوبز كتابه "لفياثان" الذي يعد لبنة اولى في فلسفة الدولة الحديثة. و"اللفياثان" حيوان خيالي ، ذكر في التوراة انه كان يبتلع البشر والمراكب في أعالي البحار ، واستخدمه هوبز كرمز لقلق الوجود الكامن في اعماق النفس البشرية ، تماما مثلما نتحدث احيانا عن الجن والتنين والغول ، وكلها كائنات اسطورية ليس لها وجود واقعي ، لكنها محرك نشط لمشاعر الخوف في اعماق البشر.
رأى هوبز ان اي مجتمع يحتاج الى "غول" كبير ومخيف ، يردع الناس عن العدوان على بعضهم. وهذه فكرة استعارها من ارسطو الذي برر التزام الناس بالقانون ، بخوفهم من العقاب ، وليس حبهم للفضيلة. الخوف من الدولة/الغول هو الذي يحمي الناس من اشكال الخوف الصغرى ، كعدوان جارهم على اشخاصهم واملاكهم. اذا لم يكن ثمة لفياثان/غول ، فلعلي اقتل جاري ، وسيضطر الجار للتسلح كي يحمي نفسه. وهكذا يتحول المجتمع الى ظرف حياة متوحشة تسود فيها "حرب الجميع على الجميع". الغول الذي يعنيه توماس هوبز هو الدولة. وهو يرى انها يجب ان تكون مطلقة وقوية كي تردع كافة رعاياها.
حسنا.. ما الذي اراد الكاتبان قوله وراء قصة اللفياثان العتيقة؟
اراد الكاتبان التحذير من ان فشل الحكومات الليبرالية ، في احتواء قلق الوجود المهيمن على نفوس الناس ، ربما يدفعهم للقبول بحكومة متغولة. طالع خريطة العالم اليوم: المدن كلها مغلقة وغالبية الناس سجناء في بيوتهم ، خوف العدوى.  كورونا هي "غول" العصر. ولن يجد الناس بأسا في الاستسلام لحكومة اكثر تغولا ، اذا أثبتت قدرتها على دحر "غول" كورونا.
سيقول احد القراء: حسنا.. وما العيب في هذا؟ طالما كانت قادرة على اعادة الحياة الى طبيعتها فلنجرب حظنا معها!.
حسنا. لقد جرب العالم هذا مرات عدة. ومن الجنون توقع نتيجة افضل اذا كررت ذات التجربة. خذ مثلا تجربة الحزب النازي في المانيا ، والحزب الفاشي في ايطاليا  ، قبل الحرب الكونية الثانية. خذ أيضا تجربة الجنرال فرانكو الذي وضع اسبانيا في الثلاجة اربعين عاما. صعد هؤلاء الى السلطة على انقاض ادارات مترهلة وفاشلة. نجح هتلر مثلا في اعادة النظام والانضباط والفاعلية الى الدولة الالمانية. ثم احتكر مصادر القوة  العامة واحدا واحدا ، حتى تحول الى "غول" حقيقي. ثم اقحم المانيا والعالم كله في حرب حصدت نحو 50 مليون قتيل.
حين يهيمن الخوف على نفس الانسان ، فسوف يتقبل الاستسلام والتنازل عن حريته في صنع حياته المستقلة ،  وسوف يوجد الكثير من تجار الانجازات وتجار الاسطورة ، الذي يعززون حالة الخوف عند الناس كي يسيطروا عليهم.
قد لا تتوفر امامنا بدائل تستحق الاهتمام ، لكن الامر ليس فوق ارادتنا. بوسعنا ان نختار بين الخضوع للخوف ومن يتاجر به ، او استنهاض ما لدينا من طاقات فكرية ومادية ، وتكرار المحاولة مرة بعد مرة ، حتى نهزم "لفياثان" كورونا.
الشرق الاوسط الأربعاء - 28 شعبان 1441 هـ - 22 أبريل 2020 مـ رقم العدد [15121]

مقالات ذات علاقة



20/04/2020

مناقشات حول تجربة الصين ، نقاط القوة ونقاط الضعف فيها

النموذج الصيني في التنمية


بيانات بالارقام عن تطور الاقتصاد الصيني بعد تطبيق برنامج الاصلاح الاقتصادي لعام 1980   اقرأ اكثر....



معالجة الفقر على الطريقة الصينية

في 1974 توقع الوزير الفرنسي الان بيرفيت ، نهوضا هائلا للصين ونشركتابا عنوانه "عندما تنهض الصين سيهتز العالم". هذا المقال يلقي الضوء على ابرز التمايزات بين الطريقة التي اتبعتها الصين وتلك التي اتبعت نموذج التنمية الغربي. إقرأ أكثر .....








لا يوجد نموذج تنمية خال من العيوب. ليس هناك برنامج كامل الاوصاف. حين تختار هذا النموذج او ذاك ، فكر اولا: ما الذي يهمك في المقام الاول وما هي حاجاتك المرتبطة بالثقافة المحلية والبيئة المحلية وتطلعات الناس. التنمية ليست مالا ينفق في مبان بل اسلوب لتطوير حياة البشر.  إقرأ اكثر....

Coronavirus: drones in China, chasing citizens who do not wear ...ما بعد كورونا .. عبودية جديدة؟

الميل للتمركز وتوسيع السلطات ، واستغلالها للسيطرة على حياة الافراد ، احتمال مقلق في مرحلة ما بعد كورونا. ربما لن تكون ممكنة بكاملها ، لانها ليست واقعية تماما . لكن على الانسان ان يحذر من الميل الغريزي عند الاقوياء لاستعباده ، فهذا سيكون اسوأ قدر ينتظره.. إقرأ اكثر....



.......................................     نماذج بديلة     .......................................

فكرة التقدم باختصار

مفتاح التقدم اذن هو الايمان بان كل ما في الكون يعمل وفق قانون ثابت ، هو سنة الله في الخلق. وكل جزء من هذا القانون آية ، تدعو الانسان لفهمها  واستيعاب مخرجاتها  . إقرأ اكثر....








"تقليد" النماذج الناجحة ليس شرطا لازما لنجاح التنمية في هذا البلد او ذاك. على العكس من ذلك ، فان النجاح رهن بالاستثمار الامثل للامكانات المحلية ، وتحويل التنمية من سياسة تنفذها هيئات حكومية محددة ، الى مشروع وطني يجد فيه كل مواطن فرصة لابراز قدراته وامكاناته ، حتى يصل من خلاله الى صورة المستقبل التي يريدها لنفسه ولابنائه... إقرأ اكثر....

المسلمون الذين سبق لهم الدعوة إلى طريق ثالث ـ معظمهم على الأقل ـ افترضوه شيئا جديدا ، مستقلا ومختلفا عن الطروحات السائدة ، الليبرالية والاشتراكية وما هو تجميع من هذي وتلك ، وهذا الاقتراح يثير سؤالا ضروريا فحواه:  هل لدينا مشروع اسلامي جاهز ليحل مكان أحد الطريقين؟.. إقرأ اكثر....

15/04/2020

متشائمون في غمرة الوباء ، لكنني متفائل

استطاع العالم تجاوز مآسي الحرب الكونية الاولى والثانية. مآسي كورونا وآلامها ليست اضخم ولا اعمق. فلم نتشاءم وامامنا تجربة تنبض بالحياة؟

قرأت اليوم حديثا للمفكر الامريكي نعوم تشومسكي ، تناول التأثير الكارثي لوباء كورونا على حياة الناس. وينتهي الحديث متفائلا بانتصار البشرية على الوباء. لكن التشاؤم كان طاغيا على معظم حديث تشومسكي. ويظهر ان تشاؤمه ناتج من ان بعض قادة الدول الكبرى لا يبدون مكترثين  بالمصير الواحد لسكان الكوكب ، قدر اهتمامهم بأن ينجحوا كأشخاص ، كي يحتفظوا بكرسي السلطة.
وجدت نفس الانطباع عند الروائية الهندية الشهيرة أرونداتي روي ، التي أبدت المها من انعكاس الكارثة على ملايين العمال الفقراء في مدن الهند الكبرى ، الذين وجدوا انفسهم بين ليلة وضحاها ، بلا مال ولاعمل ولامسكن ولاطعام  ، ولا قطار يركبونه كي يرجعوا الى اهلهم في الأرياف البعيدة ، ولا أحد يحتمل رؤيتهم ، فضلا عن مد يد العون لهم في هذه المحنة. ان الصورة التي ستبقى في ذاكرة العالم عن حكومة الهند الحالية ، هي تلك التي تظهر فريقا من رجال الشرطة ، يجلدون المشاة بعصيهم الغليضة ، كي يتحركوا بسرعة الى خارج المدينة.
مثل تشومسكي ، يستذكر هنري كيسنجر ، وزير الخارجية الامريكي السابق ، اجواء الحرب العالمية الثانية ، قائلا ان التأخر في احتواء الوباء ، لايهدد  فقط التعاون الدولي ، بل يهدد ايضا العقد الاجتماعي للبلدان الكبيرة او التي تعاني أصلا من انقسامات ، مثل الولايات المتحدة الامريكية واوربا.
لاحظت ان غالبية المفكرين الذين سئلوا عن توقعاتهم ، كانوا متشائمين تجاه وضع العالم  بعد تلاشي وباء كورونا. هذا على الأقل أبرز استنتاج خرجت به من قراءات مكثفة خلال الاسابيع الخمسة المنصرمة. لكني أجد من اللازم اخباركم بأني لا أزال متشككا في المبررات التي يعرضها اولئك المفكرين ، رغم القيمة الرفيعة لوجهات نظرهم والأدلة التي يستندون اليها.
أعلم ان الاسبان والايطاليين لم يكونوا سعداء بتعامل شركائهم في الاتحاد الاوربي ، وان الولايات المتحدة تريد معاقبة الصين ، بحجة كتمانها لحقيقة الوباء في بداياته. أتابع ايضا التجاذب الاعلامي بين الرئيس الامريكي وحكام الولايات ، حول مسؤولية كل طرف عن التصدي للكارثة وانعكاساتها. وفوق هذا وذاك ، أعلم ان أول اجراء اتخذته حكومات العالم ، هو اغلاق حدودها ومحاولة حل مشكلاتها بنفسها. وهذا منهج عمل كان العالم قد تخلى عنه في  العقدين الماضيين ، لصالح منظور كوني للمشكلات والحلول.
اني غير مقتنع بدواعي التشاؤم لاسباب ثلاثة: أولها ان تيار العولمة بات اسلوب معيشة وعمل على امتداد العالم ، بحيث لايمكن الغاؤه بقرار. اما الثاني فهو ان الميل للانكفاء على الذات في المجتمعات التي ضربها الوباء ، قابلته في ذات الوقت مبادرات دعم دولي ، بدوافع مختلفة. من ذلك مثلا  ارسال روسيا كتيبة الحرب البيولوجية ، لتعقيم مدن الشمال الايطالي. وقد حظيت هذه القوة بترحيب تجاوز المتوقع. وحصل مثله في صربيا أيضا. أضف اليه المساعدة التي قدمتها كوبا والصين ومصر للدول المصابة بالوباء. هذه المبادرات وامثالها لن تكون بلا نتيجة ، وآلام اليوم ليست نهاية الطريق.
اما الثالث فهو التجربة التاريخية. ان اطراف الحرب العالمية الثانية ، هم انفسهم رواد الانفتاح والتعاون الدولي منذ نهاية الحرب حتى اليوم. المؤكد ان هذه السياسات استندت الى حاجات اقتصادية اضافة الى مشاعر انسانية. فلماذا نستبعد حراكا مماثلا اليوم؟. ان مآسي كورونا ليست اضخم من مآسي الحرب الكونية ، وآلامها ليست اعمق من تلك الآلام ، فلم نتشاءم وامامنا تجربة تنبض بالحياة؟.
الشرق الاوسط الأربعاء - 21 شعبان 1441 هـ - 15 أبريل 2020 مـ رقم العدد [15114]

08/04/2020

هل نستطيع التعايش مع الوباء


||لا يمكن مواصلة اغلاق السوق وتعطيل الحياة الاجتماعية. ادعو للتعايش مع الوباء ، اي اعادة فتح السوق والاعمال ، مع الابقاء على بعض الاحتياطات الوقائية||
قرأت مثلكم تعليقات الصحف التي تشكو من عدم التزام الناس بالبقاء في بيوتهم. وتقول ان هذا يتسبب في تعطيل القضاء السريع على فيروس كورونا. في التلفزيون يقولون الشيء نفسه ، والذين ينشرون اراءهم على منصات التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك ، يكررون ذات الدعوة ، بنفس الالفاظ تقريبا.

لقد بدا لي ان الدعوة للبقاء في البيوت ، باتت شعارا يتفق عليه كافة البشر اليوم. الكل يردد نفس الكلمات ، بنفس القدر من العاطفة ، من رؤساء الدول الى زعماء الاديان مرورا بالوزراء والخبراء وحتى الفتاة الصغيرة التي تحدثت على تطبيق سنات شات: كلهم يطالبونك بالبقاء في دارك.
حسنا.. سنبقى في البيت. لاننا نعلم انه لا يوجد لقاح يقي من الاصابة ، ولا علاج لمن أصيب. لكن السؤال الذي يلي هذا ، هو: الى متى؟. اعلم ان بعض الخبراء سيقول: حسنا  الى ان ينتهي الوباء ، او نصل الى مستوى السيطرة (ويعبر عنها عادة بعدم التصاعد المضاعف لأرقام المصابين والضحايا). هذا لا يكفي لانه لا يحدد وقتا ، كما اننا لسنا متأكدين من نقطة الاشباع الحدي ، الذي يتحول المسار بعدها الى اتجاه تنازلي.
دعني اتحدث هنا بصورة انطباعية بحتة. انني لست خبيرا. لكني وكثير غيري ممن يعتمدون كلام الخبراء يشعرون بقدر من الحيرة. لا اتحدث عن التطمينات والتحذيرات ، فهذه لا تفيدنا بشيء ، بل عن المعلومات التي تقال باعتبارها نتاج خبرة. خذ مثلا كلامهم عن الانتاج التجاري للقاح ، فهم يقولون انه الآن في مرحلة التجارب السريرية ، في 8 او 9 دول على الأقل ، لكنه لن يكون متاحا لجميع الناس قبل نهاية العام الجاري.
اللقاح سيفيد الاشخاص الذين لم يصابوا ، اما المصابين فعلا فيحتاجون الى دواء ، فماذا عن الدواء؟
يتحدثون عن العلاج بالبلازما ، وهي جزء من الدم يحوي الأجسام المضادة ، التي ينتجها الجسم بعد الاصابة بمرض ما. والعلاج بالاجسام المضادة لدى المتعافين ، معروف في الطب ، ويقال انه استخدم للمرة الأولى لمواجهة وباء الانفلونزا الاسبانية التي اجتاحت العالم في 1918 وخلفت نحو 100 مليون وفاة.  ونعلم الان ان الولايات المتحدة وفرنسا والصين وايران وايطاليا ، ودول اخرى ، جربت هذا الدواء ونجحت. لكن الواضح ايضا ان هناك حدودا (لا اعرفها) تحول دون استخدامه على نطاق واسع.
زبدة القول انه لا دواء متوقعا قريبا ، وعلينا ان نتعايش مع الوباء حتى نهاية العام الجاري على الاقل.  
هل هذا يعني ان يستمر الاغلاق وحظر التجول حتى نهاية العام ايضا؟
اظن ان بعض الناس سيقول: وما المشكلة في ذلك؟
قد يكون هذا القائل طالبا ، يعلم انه قد نجح في العام الجاري ، او قد يكون موظفا حكوميا يعلم ان راتبه سيصله حتى لو استمر حظر التجول عشر سنين. لكن ماذا عن بقية السوق والاقتصاد الوطني عموما؟.
لو استمر الاغلاق فان عشرات الشركات الصغيرة ستموت ومئات الآلاف من الوظائف ستتبخر.
لهذا السبب فانني ادعو الى الانتقال من حالة المواجهة الوقائية مع الوباء ، الى التعايش معه. هذا يعني اعادة ترتيب السوق والاعمال على نحو يسمح بعودة معظمها الى العمل المعتاد ، مع الابقاء على بعض الاحتياطات الوقائية. ربما لا نستطيع فتح كافة الاعمال ، لكن علينا اعادة تنشيط اكبر قدر ممكن من الاعمال ، سيما في القطاعات المنتجة والداعمة للانتاج ، كي نمنع الانزلاق نحو الركود.
الشرق الاوسط الأربعاء - 14 شعبان 1441 هـ - 08 أبريل 2020 مـ رقم العدد [15107]
https://aawsat.com/home/article/2222421/

مقالات ذات علاقة










01/04/2020

ما بعد كورونا .. عبودية جديدة؟

|| بعض الناس يتقبل اخضاع حياته للرقابة المباشرة ، وهو يقول "لاتبوق ولاتخاف". لكن هذا نزول لا يليق بكرامة الانسان||
سأذكر القراء بصورتين ، لعل غالبيتهم قد صادف احداهما هذه الايام. الصورة الاولى لطائرة صغيرة مسيرة (درون) تقترب من سيدة في احد شوارع ووهان ، المدينة الصينية التي كانت بؤرة فيروس كورونا (او ربما مدينة اخرى) ، وثمة تعليق يفيد بان الطائرة أمرت السيدة بارتداء الكمامة والعودة للبيت. اما الصورة الثانية فهي لعربة مسيرة (روبوت) في العاصمة التونسية ، تقترب من سيدة ايضا ، لتامرها بالرجوع للبيت.
في كلا الصورتين ، شعر المشاهدون - أو معظمهم - بقدر من الضيق ، لما لاحظوه من فزع على وجهي السيدتين.  وظننت اننا ما كنا سنشعر بالضيق ، ولعل السيدتين ما كانتا ستشعران بالفزع ، لو ان الذي تحدث معهما رجل شرطة اعتيادي. لكن ان توقفك آلة وتصدر اليك أوامر ، فهذا يولد خوفا شديد في نفس الانسان يصعب احتماله ، سيما في ظروف الأزمة.
في الحادثتين حمولة رمزية ضخمة ، تشير لأحد المخاوف الكبرى التي تنتاب المحللين ، ازاء ما سيتلو انحسار وباء كورونا. كنت قد ذكرت في مقال الاسبوع الماضي ، ان شعور بعض الناس بنجاح النموذج الصيني في التعامل مع ازمة الوباء ، ربما ينصرف الى تجميل صورة الحكومات المركزية والشمولية ، حيث الانضباط والانتاجية مقدمة في القيمة على الانسان وحقوقه ، كما في الصين المعاصرة. ونقلت ايضا رأي خبراء قلقين من ان الوباء سيبرر منح النخب السياسية سلطات أوسع من المعتاد ، وان تلك النخب ستتمسك بالسلطات الجديدة حتى بعد زوال الوباء.
نعلم ان حصول النخب الحاكمة على سلطات إضافية ، يعني تقليص المساحات المفتوحة في الحياة العامة او الخاصة ، او ربما زيادة تمركز الدولة ، بدل التفويض التدريجي للسلطات نحو الادارات الوسطى.
كان نيقولو مكيافيلي ، المفكر الايطالي الشهير ، قد قال ان الناس لا يعبأون بكيفية توزيع السلطات ، لانهم لا يأملون في الوصول اليها. لكنهم يشعرون ان الحرية تعطيهم الامان الضروري للسعادة والاطمئنان. الحكومات التي تمارس رقابة لصيقة على الناس ، تجردهم من الامان ، لانها تجعلهم في حالة قلق دائم من ارتكاب خطأ. اما في ظروف الحرية ، فان الاخطاء الصغيرة التي اعتاد الناس على فعلها ، لا تودي بهم للسجن. الحرية – وفق مكيافيلي – ضرورية للناس ، لان الامان ضروري لحياتهم. والرقابة تقلص نطاق الامان.
الحقيقة ان التجربة الصينية (التي احبها بعض الناس) تضمنت نماذج لهذه الرقابة. ومنها مثلا ضبط حركة الافراد ومنعهم من ركوب القطارات او دخول المطاعم والاماكن العامة ، الا اذا عرفوا انفسهم بواسطة تطبيق خاص على هواتفهم المحمولة.
اعلم ان بعض القراء سيردد المثل المحلي السائر "لا تبوق – اي لا تسرق – ولا تخاف". وهو مثل يستعمل لتبرير خضوع الافراد لاجراءات امنية غير ضرورية ، وقد يكون غرضها الوحيد اشعار الفرد بانه تحت السيطرة.
والحق انه مثل غبي لايليق بعاقل ان يقبله على نفسه. لكنه - على اي حال - مثل مشهور. تخيل نفسك تقف بين ساعة واخرى امام مفتش آلي كي تخبره اين تذهب ولماذا. تخيل نفسك محاطا بعشرات الكاميرات التي تسجل دقائق حياتك اليومية ، حتى علاقاتك العائلية.     
 الميل للتمركز وتوسيع السلطات ، واستغلالها للسيطرة على حياة الافراد ، احتمال مقلق في مرحلة ما بعد كورونا. ربما لن تكون ممكنة بكاملها ، لانها ليست واقعية تماما . لكن على الانسان ان يحذر من الميل الغريزي عند الاقوياء لاستعباده ، فهذا سيكون اسوأ قدر ينتظره.
الشرق الاوسط الأربعاء - 8 شعبان 1441 هـ - 01 أبريل 2020 مـ رقم العدد [15100]

مقالات ذات علاقة

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...