هتلر يخطب في حشد ضخم في 1933 |
لا بد ان جميع القراء قد سمعوا بالعبارة التي يكثر تردادها، وفحواها انه لا توجد حرية مطلقة، وانه لا بد من تقييد الحريات الفردية بالقانون او الاخلاق.. الخ. هذه الفكرة بذاتها كانت موضع انشغال الناس في اوربا في السنوات القليلة التي تلت الحرب العالمية الثانية. قبل الحرب مال معظم مثقفي اوربا الى نموذج الدولة الليبرالية الكلاسيكية، التي لا تتدخل في حياة الناس ولا في السوق الا في اضيق الحدود. لكن هذه الفكرة تراجعت بعد الحرب الى حد كبير بالنظر الى عاملين:
اولهما الدمار الهائل الذي
شهدته مختلف البلدان، مما استوجب جهدا منظما وجمعيا لاعادة الاعمار، وهذا يستدعي
بطبيعة الحال تخطيطا وادارة مركزية لتوزيع الموارد.
اما السبب الثاني فهو تفاقم
الاتجاه الى التخطيط المركزي في اوربا الشرقية والصين، وهو اتجاه حقق في تلك
الحقبة المبكرة بعض النجاحات الملموسة على المستوى الاقتصادي لفتت أنظار
الاوربيين. معظم المثقفين كان واعيا بجوهر المشكلة المطروحة. على احد الجانبين
هناك بلد يحتاج الى اعادة بناء وبالتالي حكومة قوية وقادرة على التدخل.
وعلى الجانب الثاني، كان ثمة قلق من ان القبول
بتدخل الدولة في السوق وفي حياة الناس سوف يحولها الى «غول» عصري، يبتلع الحريات
المدنية ويقيم نظاما تحكميا شديد الوطأة، شبيها بالغول السياسي الذي كتب عنه توماس
هوبز في القرن السابع عشر.
ولم يكن كثير من هؤلاء المثقفين قلقا على حريته فقط، بل
كان قلقا من ان منح الدولة سلطات غير محدودة، قد يدفعها الى الطغيان وربما الدخول
في حروب جديدة، مثلما فعلت حكومة هتلر، التي استغلت سلطاتها المطلقة فورطت المانيا
في حرب ضروس اكلت الاخضر واليابس. ولو لم يكن الامر على هذا النحو لاستطاع المجتمع
الالماني معارضة اتجاه الحكومة العدواني واعاقة انزلاقها نحو الحرب.
كان السؤال الذي شغل الناس يومئذ:
هل نغامر بمنح الدولة سلطات مطلقة لاعادة تنظيم حياتنا
وازالة آثار الحرب ؟. أي: هل نقدم المصلحة المادية الواضحة على الحريات المدنية،
ام نحافظ على هذه الحريات ولو ادى الامر الى تعطيل الاعمار؟. من الواضح ان غالبية
الناس سوف تميل الى الخيار الاول، لان ضغط حاجات الحياة اليومية اشد من ان يقاوم.
لكن المثقفين وقادة الرأي نظروا الى نهاية المسألة وليس بدايتها.
قدم ايزايا برلين حلا بسيطا، خلاصته التمييز
بين مفهومين للحرية سلبي وايجابي. ينطبق المفهوم السلبي للحرية على المساحة الخاصة
بالحياة الشخصية التي يتصرف الفرد فيها وفقا لقناعاته الخاصة ومن دون تدخل احد،
سواء كان شخصيا او قانونيا. من ذلك مثلا حرية التفكير والتعبير والاعتقاد، وحرية
الانسان في العيش والعمل كما شاء طالما لم يزاحم الغير.
طبقا لرأي برلين فان هذا النوع هو التجسيد الابسط
لمفهوم الانسانية، ويعد حرمان الانسان منه انتقاصا من انسانيته. ولهذا وجب ان يحمى
بالقانون لا ان يحدد بالقانون. فلا يجوز اصدار قانون يحد من حريات الناس الشخصية
التي اودعهم الله اياها يوم خلقهم. اما الحرية الايجابية فيتجلى تطبيقها في
المساحة التي يشترك فيها الفرد مع غيره من ابناء المجتمع.
بعبارة اخرى فهي منظومة الحقوق والحريات التي يحصل
عليها الفرد بالاتفاق مع بقية اعضاء الجماعة، وهي لهذا السبب حرية يقررها القانون
وتوضع حدودها بالتوافق والتراضي. قال برلين انه يمكن للمجتمع منح الحكومة حق
التدخل في المجال الثاني شرط التزامها بحماية الاول والامتناع عن اختراقه.
قد يكون من العسير تحديد فاصل دقيق بين
المساحتين، لكن ما يمكن قوله هنا هو ان لكل فرد شريحة من الحريات الاساسية التي
ينبغي احترامها على الدوام وفي جميع الظروف، لانها شرط للانسانية. واظن ان هذا
يوضح المجال الذي يجوز فيه تحديد الحرية من دون ان يعد التحديد طغيانا، وذلك الذي
لا يجوز للمجتمع الاقتراب منه لانه حرم خاص للفرد يفعل فيه ما يشاء، ولا يخضع لغير
رقابة ضميره ومن فوقه رب العالمين.