18/04/2005

جرائم امن الدولة : وجهة نظر اخرى



كتب زميلنا الاستاذ محمد المقصودي داعيا مجلس الشورى الى التعجيل في وضع قانون لجرائم امن الدولة (الوطن 13-4-2005) على خلفية الحوادث الارهابية التي شهدتها البلاد اخيرا. واود التاكيد على ما ذكره من تمايز هذا النوع من الافعال الجرمية عن غيره من الجنايات ، بالنظر الى الدوافع ، والآثار وكذلك الجهة المستهدفة . 
واتفق مع المقصودي على امكانية ارجاع هذه القضايا الى المحاكم العادية ، لكني ارى ان اجراءات التقاضي ينبغي ان تكون متمايزة ، بالنظر الى تمايز موضوع ومادة الجرم فيها . هذا التمايز وما يترتب عليه من اجراءات يمكن ان يلحظ في القانون الذي يعرف موضوعات الفعل الجرمي وعقوباته.

من ناحية اخرى فاني اخالف الاستاذ المقصودي ما يبدي من تعجل اصدار قانون كهذا. ذلك ان جرائم امن الدولة ، مثل سائر الاعمال المخلة بالنظام العام هي اعراض لمشكلات اعمق منها ، فاذا كان وضع القانون يستهدف معالجة اثار المشكلة ، فاللازم ان يسبقه توصيف للمشكلة نفسها وتحديد لسبل علاجها . الاساس في هذه الفكرة ، هو تعريف العمل الجرمي باعتباره بغيا ، اي سعيا الى اغراض تخالف الصالح العام بوسائل لا يقرها القانون المعلن . وفي هذا الاطار فانه يلزم اولا تحديد الاغراض الموافقة للصالح العام وتلك المخالفة له ، وينبغي تحديد الوسائل التي يقرها القانون وتلك التي يمنعها .

تقع جرائم امن الدولة ضمن نطاق الجرائم السياسية ، وهي تعرف في الجملة بالمحاولات التي تستهدف تغير النظام العام او الاساءة الى الامن الاجتماعي والاستقرار او فرض اراء وتوجهات على الجمهور بوسائل عنيفة او غير قانونية. هذا النوع من التحديد ضروري لتمييز الاعمال السياسية العادية عن تلك التي تدخل ضمن تعريف الجرم . وقد شهدنا في الايام الاخيرة بعض الامثلة على الحاجة الى مثل هذا التعريف ، واخص بالذكر الدعاوى التي اقيمت على الاساتذة الافاضل د. حمزة المزيني وعبد الله بن بخيت وغيرهم ، والتي يظهر في طياتها اختلاط عسير بين ما هو تعبير مشروع عن الراي وما هو خروج عن العرف ، وبين ما هو تعريض بمصلحة خاصة وما هو اساءة الى الصالح العام .

بكلمة اخرى ، فان الحاجة تقتضي اولا اصدار مدونة قانونية تعرف حقوق المواطن ، ولا سيما حقه في التعبير السلمي عن رايه تجاه اوضاع مجتمعه ومؤسساته ومنظوماته الادارية. وتحديد الاطارات والوسائل القانونية التي يستطيع من خلالها مناقشة تلك الاراء والتعبير عنها والدعوة اليها . واظن انه ينبغي البدء بهذا بالنظر الى عاملين :

الاول : ان اصدار القانون المذكور يستهدف كما هو واضح تحديد الممنوعات والردع عنها . ترى ، هل حددنا المسموح اولا حتى نحدد الممنوع؟ . ربما يعترض قائل بان المسموح هو كل ما لم يحدد باعتباره ممنوعا (رجوعا الى الاصالة الشرعية للبراءة او الاباحة في الاعمال) ، لكن الواقع يظهر ان مثل هذه القاعدة لا يمكن تطبيقها في السياسة بالنظر الى صعوبة التوفيق بين التحديد الشرعي والتحديد العرفي - والاداري بطبيعة الحال- للمباحات . فاللازم اذن ايضاح المجالات الممكنة للعمل السياسي لكافة الناس والتذكير بحقهم في استثمارها للتعبير عما يريدون.

العامل الثاني: يتعلق بالحذر من اتخاذ القلق من تكرار الاعمال الارهابية مبررا للتجاوز على الحقوق الفردية . وقد شهدنا في اوقات سابقة ، وفي دول عديدة ، ممارسات من هذا النوع ، تضمنت في بعض الاحيان ما يمكن وصفه بعقوبات جماعية ، اي معاقبة عائلة او عشيرة او قرية باكملها لجرم ارتكبه واحد او عدد صغير من افرادها . هذا العقاب قد يكون ماديا (كالحرمان من وظائف معينة) او معنويا (كالاشارة اليهم باعتبارهم بيئة الجرم او التشهير بخصوصياتهم الثقافية باعتبارها قرينة للجرم) . 
ان الكلام في قانون لجرائم امن الدولة في ظرف يشهد تعبئة نفسية واعلامية مكثفة ، قد يرجح الميل الى التشدد ، وهو ما يظهر من كلام الاستاذ المقصودي عن اعتبار الجرم متكامل الاركان حتى قبل الشروع فيه . مثل هذا التعريف المتشدد الذي يميل اليه الناس في اوقات الازمات ، يخشى ان يتخذ مبررا لتشدد في الردع ربما يطال الابرياء او يبرر استعمال القانون على نحو متعسف . او ربما تتخذه الاجهزة الادارية واجهزة الضبط ذريعة لتجاوز صلاحياتها ، او حتى الاستيلاء على صلاحيات القضاء ، كما يظهر في حالات الامر بتوقيف الافراد او منعهم من السفر او الحجز على املاكهم بقرارات ادارية.

لا يختلف اثنان على  ضرورة وضع جرائم العنف ضمن نطاق قانوني واضح ، يراعي حقوق المجتمع كما يراعي حقوق المتهمين ، لكن ينبغي اولا عرض البدائل التي نريد الناس ان يستعملوها للتعبير عن ارائهم كي لا ينزلقوا الى مساقط 
العنف.

04/04/2005

عن قضايا النشر وما بعدها



قضايا النشر التي نظرتها المحاكم في الاسابيع الماضية وما اثارته من جدل حول دخول النزاعات المتعلقة بحرية التعبير ضمن ولاية المحاكم ، تستدعي اعادة نظر في تعريف الموضوع من أساسه وطبيعة الاجراءات الادارية والقضائية المناسبة للتعامل مع الخروقات المفترضة للقانون.
لا شك ان ولاية المحكمة هو جوهر الموضوع ، ويبدو لي ان هذا من الامور البديهية . في وقت من الاوقات ، اليوم او غدا ، يجب ان تستقل السلطات العامة ، التشريعية والتنفيذية والقضائية ، فيمارس كل منها عمله في معزل عن تاثير الاخرى . ان استقلال السلطات هو الركن الاول من اركان التطور السياسي ، وهو - بالنسبة للقضاء على وجه الخصوص - الحجر الاساس لضمان العدالة. مهمة السلطة التنفيذية هي تطبيق القانون في الموارد التي لا تنطوي على نزاع . اما الفصل في الخصومات والمنازعات ، سواء على الولاية او على تعريف الموضوع ، او نوعية العقوبة ، فهو بلا شك مهمة القضاء دون غيره .

لكن من ناحية اخرى ، فان القول بهذه الصلاحيات بشكل مطلق ، ينطوي على مشكلة عويصة ، سببها هو الخلاف القديم – الجديد على طبيعة عمل القاضي ومصدر ولايته . وهذه - بالمناسبة - مورد جدل دائم حتى في الاقطار التي تتمتع بنظام قضائي متطور.

يدور هذا الخلاف بين مفهومين : مفهوم يستند الى التراث الفقهي الاسلامي ، يعتبر القاضي مجتهدا ذا ولاية مطلقة في كل جزء من اجزاء الدعوى . وهي ولاية لا يحدها اي قانون او سابقة قضائية . ومفهوم مستحدث يذهب الى ان التغير الهائل في طبيعة الحياة المعاصرة اوجد مفاهيم جديدة واساليب جديدة للحياة والعمل ، وبالتالي موارد نزاع ، لم تكن منظورة في الموروث الفقهي . لقد تطور هذا الموروث ضمن اطار حيوي بسيط يسهل الاحاطة بتفاصيله .

لكن مع التعقيد الهائل للحياة المعاصرة وتشعب الاطراف والعلائق بين كل مسألة والاخرى ، اضافة الى تنوع الانعكاسات المترتبة على كل عمل ، قد اوجب الاتجاه الى التخصص على كل صعيد اداري ، او تنظيمي ، او قضائي . ومنذ ستينات القرن الماضي حاولت الدولة ايجاد منظومات شبه قضائية موازية للمنظومة الاساسية ، تتولى الحكم في النزاعات التجارية والعمالية والمالية ، وبعضها لا زال فعالا . وكان انشاء هذه المنظومات محاولة لاستيعاب مشكلة التنوع في الاختصاصات وضرورة التخصص في ممارسة القضاء .

وفي معظم دول العالم ، تنطوي منظومة القضاء الاساسية على تفرعات متخصصة ، فثمة محاكم خاصة للامور العائلية ، واخرى للنزاعات التجارية ، وثالثة لقضايا الامن الوطني وهكذا. ومع الاتجاه الى التخصص ، ظهر قضاة ومحامون متخصصون في جانب محدد ، فهذا مختص بقضايا الملكيات الثابتة كالعقار ، وذاك مختص في قضايا الملكية الفكرية والفنية ، وثالث في القضايا المالية ، واخر في العلاقات العائلية ، واخر في الترحيل .. الخ .

وامتد التطور ايضا الى تصنيف القضايا ذاتها ، فقسمت الى دعاوى جنائية واخرى مدنية . وفي معظم دول العالم تصنف قضايا الاساءة المعنوية او تشويه السمعة او القذف - ومن ضمنها قضايا النشر - ضمن النوع الثاني ، ولا تترتب عليها اي عقوبات بدنية او تعطيل الحريات الاساسية ، بل تتعلق بها غالبا غرامات مالية اضافة الى طلب اعتذار علني . كما  يشترط ان تجري المحاكمة بحضور هيئة محلفين يمثلون – معنويا على الاقل – الراي العام .

خلاصة الكلام ، ان تلك القضايا التي اغلق بابها عمليا بقرار من السلطة التنفيذية ، قد فتحت الباب على موضوع اوسع ، هو الحاجة الى تطوير اجراءات التقاضي بما يتناسب وتغير انماط ومجريات الحياة . وفي ظني ان ابرز ما ينبغي السعي فيه هو المزيد من التخصص واعادة تعريف موارد النزاع بالرجوع الى المفاهيم الجديدة والعلائق المختلفة التي اصبحت واقعا في حياتنا ، بقدر ما ازاحت وبشكل نهائي المفاهيم والعلائق التي ورثناها من اسلافنا الذين يسكنون القبور.

31/03/2005

مجتمع العقلاء

فكرة الدولة الحديثة في نموذجها الليبرالي ، هي من غير شك ثمرة المعالجة الرائدة للمفكر الفرنسي جان جاك روسو الذي اشتهر بعمله الابرز "العقد الاجتماعي".


والحقيقة ان توماس هوبز هو الذي ابتكر نظرية العقد الاجتماعي ، لكن الاضافات التي وضعها روسو وتفسيره الجديد لفلسفة قيام الدولة ومسارات الحياة والعمل الجمعي في المجتمع السياسي ، هي التي جعلت هذه النظرية تنسب اليه في المقام الاول. ولهذا فان اعماله تلقت قدرا اقل من النقد من جانب الباحثين والمنظرين اللاحقين له ، خلافا لاعمال هوبز التي لا تزال موضعا للمجادلة بين الباحثين حتى يومنا هذا.
رأى هوبز المجتمع الانساني قبل الدولة ميدانا للصراع بين المصالح المتنافسة المتاتية من نزعة طبيعية في الانسان للتملك والسيطرة والاستمتاع . وراى ان المجتمع اقام الدولة من اجل ان تحميه من شرور نفسه في المقام الاول. وفي رايه ان تحقيق هذا الغرض يستوجب اقامة حكومة ذات جبروت ، ولهذا لم يعترض على الطغيان واعتبره نتيجة طبيعية لقيام الدولة .
اما روسو فقد نظر الى المجتمع الانساني باعتباره منظومة عقلائية ووصف اتجاه البشر الى العيش معا وتبادل المصالح باعتباره الدلالة الابرز على عقلانية الانسان . ومن هذا المنطلق فقد راى في اتفاق الناس على اقامة الدولة ، عملا عقلائيا ، يتناقض مع قبولهم بطغيان الدولة او جبروتها.
وخلافا لفكرة مجتمع الشقاق التي تبناها هوبز كوصف لمرحلة ما قبل الدولة ، فان روسو وصف المجتمع الانساني في تلك المرحلة الافتراضية بالمجتمع المدني . 

ومن هنا فان فكرة المجتمع المدني التي انتشرت منذ اواخر ثمانينات القرن العشرين تنسب في الاساس اليه . المجتمع الانساني – في راي روسو – قادر على العيش مع الدولة او بدونها ، وفي كلا الحالتين فانه اميل الى التوافق والسلام واقامة علاقات مصالح بناءة . ان عقلانية البشر هي التي تدفعهم الى التسالم والتوافق والعمل المشترك . ومن هنا قال بان الغرض الاساس للدولة ليس المحافظة على النظام العام وقمع المشاكسين – كما ذهب توماس هوبز – بل تنظيم العمل الجمعي الهادف الى تحسين مستوى الحياة والمعيشة لعامة اعضاء المجتمع . على هذا الاساس فقد قرر روسو ان ممارسة الدولة للقمع ضد المجتمع ككل او ضد جزء منه ، هو نقض صريح لفلسفة وجودها

ومثلما عالج هوبز مشكلة العلاقة بين الدين والدولة ، فقد عالجها روسو ، لكن من منظور مختلف . ركز هوبز جل اهتمامه على نفي حق الكنيسة في الطاعة العامة ، ورأى ان الدولة هي الكيان الوحيد الذي له حق قانوني في فرض طاعته ، وكان بذلك يعالج مشكلة تنازع السلطة بين رجال الدين والسلطة السياسية . اما روسو فقد قدم تصورا سوسيولوجيا لدور الدين في حياة الناس وتاثيره على علاقاتهم ، يدور في الاساس حول الفصل بين المثاليات الدينية المجردة والتطبيقات العملية التي يتداخل فيها المثالي بالواقعي .

ان فكرة "الدين المدني" التي قدمها روسو ، لا تزال هي القاعدة الاساس لجانب كبير من البحوث المتعلقة بعلم اجتماع الدين . هذه الفكرة – بصورة مبسطة – تقول بان الدين الذي يمارسه الناس ويتحدثون عنه ، هو نموذج خاص من الدين تشترك في صياغته عوامل كثيرة ، من بينها المثاليات والمجردات الواردة في النصوص الاصلية ، اضافة الى المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية والتجربة التاريخية الخاصة للمجتمع . وعلى ضوء هذه النظرية اعتبر ان الدين الواحد يمكن ان يتخذ نماذج شتى وان هذا الاختلاف يرجع في الاساس الى نوعية العوامل التاريخية والواقعية التي تعرض لها كل مجتمع على حدة . بكلمة اخرى فان فهم المجتمعات للدين ، ودرجة تاثير الدين في حياتها ، وموقعه من منظومتها القيمية وبنياتها العلائقية والمادية ، هو انعكاس لعوامل غير دينية . ومن هذه الزاوية فان ما يوصف بالتعصب الديني في مكان او التسامح في مكان اخر ، وما يعتبر التزاما شديدا بالدين هنا او تساهلا هناك ، لا يرجع في حقيقة الامر الى الدين نفسه ، بل الى العوامل التي تسهم في صنع التجربة الاجتماعية في كل مجتمع ، سواء التجربة التاريخية ، او مصادر المعيشة ، او مستوى الثقافة والتقنية ، او درجة التفاعل مع المجتمعات الاخرى المختلفة في تجربتها ونظام حياتها.

قرر روسو ايضا ان الجماعة ، او عامة المواطنين ، هي المكون الاساس للاجتماع السياسي وان الدولة فرع من هذا الاجتماع وان انتظام الاجتماع السياسي رهن بتحقق قدر عال من الحريات العامة والمساواة بين اعضاء الجماعة . اطروحات روسو تتمتع باهمية خاصة لانها ساهمت – الى حد بعيد – في تحرير الفلسفة السياسية من التاثيرات العميقة للفلسفة اليونانية القديمة ، وقدمت تصويرا جديدا للمجتمع السياسي باعتباره مجتمع المواطنين لا مجتمع الطبقات الذي تتحكم فيه النخبة.

29/03/2005

الغول

اذا لم يكن توماس هوبز ابرز صناع الفكر السياسي المعاصر على الاطلاق ، فلا شك انه اكثرهم تاثيرا على مختلف المذاهب السياسية ، والى حد كبير على الاتجاهات الفلسفية الجارية في عالم اليوم. ولد هوبز في ويلتشير جنوب بريطانيا ، في 1588 وتوفي في 1679 ، وسجل نظريته السياسية في كتابه الاشهر "لفياثان" وهو اسم يلخص جوهر فلسفته السياسية . ورد مصطلح لفياثان في التوراة كوصف لحيوان بحري خيالي هائل القوة قادر على ابتلاع الناس والمراكب. وورد في نصوص اخرى كرمز للامبراطورية البابلية في العراق القديم التي كانت يومها اعظم الدول على وجه الارض.
اظن ان قرب المصطلحات العربية الى هذا المعنى هو "الغول" وهو ايضا رمز لكائن خيالي ذي هيمنة لا تقاوم ، لكنه – مثل اللفياثان – غير موجود في الحقيقة ، بل هو رمز يصنعه الانسان لوصف القوى التي لها وجود بشكل او باخر ، لكنه لا يعرف حقيقتها ولا يستطيع مقاومتها. انه من هذه الزاوية مثل الجن الذين يرمزون لخوف الانسان اللاواعي من المجهولات. انها اذن كائنات اعتبارية ، وجودها المادي الموضوعي مشروط باعتبار الناس وليس مستقلا بذاته .
هذه الفكرة تلخص تصور هوبز للدولة التي يراها ضرورة للحياة الاجتماعية التي لا تستقيم بدون مصدر للخوف ، اي عامل ردع للافراط في استعمال الحقوق الطبيعية من جانب بعض الناس. الدولة في نظر هوبز هي كائن اعتباري ، قوتها وقابليتها للردع ليست نابعة من ذاتها بل من رغبة الناس في ان تكون كذلك . لقد ارادها الناس رمزا للقوة المطلقة فاصبحت كذلك . ولولا هذا الاعتبار لما كانت كذلك ، لانها في نهاية المطاف تتكون من افراد يمكن ان يختلفوا او يتفقوا ، يمكن للناس ان يقبلوهم او يرفضوهم ، ويستطيعون استعمال القوة المادية لفرض مراداتهم وقد يعجزوا . بكلمة اخرى يمكن للدولة ان تكون القوة المطلقة في مجتمع معين ويمكن ان تكون مجرد واحدة من قوى كثيرة تتصارع على السلطان.
رأى هوبز المجتمع الانساني قبل الدولة ميدانا للصراع بين المصالح المتنافسة المتاتية من نزعة طبيعية في الانسان للتملك والسيطرة والاستمتاع . وهو يصف هذا النوع من الحياة بالحالة الطبيعية ، حيث يلقي كل شخص على مراداته صفة الحق وما دونها صفة الباطل . الحق والباطل في راي هوبز هي اوصاف لغوية للارادات ، انها بكلمة اخرى فن بلاغي وقدرة على رسم صورة لما يريده المدعي وما لا يريده . ان قدرة هذا الشخص على استعمال فنون اللغة في اقناع الغير او دحض حجتهم هو ما يحول ارادته الى حق وارادة الاخرين الى باطل .

بهذا الوصف المتطرف لفكرة الحق (والمقصود بطبيعة الحال الحقوق الدنيوية) اراد هوبز اضعاف حجة الكنيسة التي تزعم ان الحق هو كلمة البابا ، وان هذه الكلمة لها قدسية ذاتية نابعة من اتصالها بالسماء. اراد هوبز التشديد على ان المجادلات السياسية كلها تقوم على اعتبارات دنيوية ، وتستهدف بصورة او باخرى الحصول على قدر اكبر من القوة المادية او السلطة . السعي للسلطة ، ضمن اطار الدولة او ضمن اطار المجتمع ، هو المجال الذي لا يتعب الناس منه ولا يملون ، وهو الامل المحرك لآمالهم وفاعليتهم في الحياة حتى ياتيهم الموت.

اراد هوبز من تشديده على الطبيعة الدنيوية للسلطة ، معالجة الاشكال الرئيسي في جدل الدولة والسياسة ، اي الطاعة ، وفي الحقيقة فقد اراد القول انه في مجتمع معين ، لا يمكن ان تتعدد الطاعة والا فسد النظام ، يجب – في رايه – ان تكون الطاعة العامة مختصة بالدولة خلافا للاعتقاد الذي روجته الكنيسة بان طاعة البابا مقدمة على طاعة الدولة . كان هذا التشديد ضروريا بالنظر الى الظرف الخاص الذي طرح فيه هوبز نظريته ، حيث كانت السيادة ، او ما يسمى اليوم الحاكمية العامة ، موزعة بين الدولة والامارات شبه المستقلة والكنيسة ، فقد رأى ان قيام نظام اجتماعي متين وفاعل ، مستحيل في ظل هذا التعدد .

اعتبر هوبز ان قيام الدولة هو نتاج لعقد اجتماعي فرضته الضرورة لكنه قام باراداة عقلانية من جانب كل افراد المجتمع . الناس توصلوا الى استحالة الحياة في ظل تصارع الارادات والمصالح ، فقرروا ان ضرورة النظام تقتضي حصر السيادة والسلطة والطاعة في جهة واحدة هي الدولة . من هذه الناحية فان السلطة والدولة والسياسة ، كلها كائنات اعتبارية ارضية ، اوجدها الناس لتنظيم امورهم ، وهم شركاء فيها شراكة اصلية بمقتضى الطبع الاولي ، وهي لم تقم الا على هذا الاساس ولا تستمر الا به.

استقطبت طروحات هوبز الكثير من النقد ، ولا زالت دراسات في نقد "لفياثان" تظهر بين حين واخر. لكنه مع ذلك لا زال ينظر اليه باعتباره مؤسس الفلسفة السياسية الحديثة ، والرجل الذي اضعف مرجعية الفلسفة اليونانية  القديمة ، فحولها – في نظر الباحثين - من مصدر وحيد للتفكير في السياسة الى مجرد تاملات خيالية ، اقرب الى الاخلاقيات الرومانسية منها الى تصوير السلوك الطبيعي للانسان.

اواخر مارس 2005

مقالات ذات علاقة

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

26/02/2005

من أجلنا لا من اجل بوش


دعوة الرئيس الامريكي الاسبوع الماضي الى دعم مسيرة الديمقراطية في العالم الثالث ، وفرت فرصة للحديث المكرور عن فرض الديمقراطية من الخارج ، والنفاق الامريكي في دعوة الدول النامية الى رعاية حقوق الانسان ، بينما يخرق جنودها ابسط حقوق السجناء في العراق وافغانستان وكوبا الخ..
جورج بوش
ولا شك ان سجل الحكومة الامريكية في مجال حقوق الانسان داخل بلادها ليس سيئا ، بالقياس الى سجلها الخارجي الذي لا يمكن امتداحه بأي حال. لكن ما ينبغي الاهتمام به هو وضع حقوق الانسان في مجتمعنا العربي وليس في اميركا. اذا كانت اميركا سيئة فلتذهب الى الجحيم ، لكن ماذا عنا نحن العرب هل نذهب الى الجحيم ايضا, ام نسعى لاصلاح حالنا بغض النظر عما يقوله الامريكيون وما يفعلونه.
المسألة ببساطة تدور حول واحد من احتمالين :
 اما ان حقوق الانسان في المجتمعات العربية مرعية او انها ناقصة. اذا كانت مرعية فليكشف العرب ذلك للعالم وليدعوا القاصي والداني كي يراها في الأنظمة والقوانين والاعلام.
 اما اذا كانت ناقصة فليقولوا الحقيقة لانفسهم وللعالم. كثير من مجتمعات العالم - ومن بينها المجتمعات الغربية جميعا - لا تخجل من الاقرار بأن حقوقا معينة تهدر او تنتهك لمبررات امنية او اقتصادية او ثقافية او غيرها, او لقصور على المستوى القانوني او الاجتماعي.
حقوق الانسان ليست مجرد عنوان, بل هي منظومة من المفاهيم والمعايير وطرق العمل التي ينبغي ان تحترم بشكل تفصيلي. ولكي يتحقق هذا الاحترام فانه يجب الاقرار بضرورتها, ثم وضع القوانين ولوائح العمل التي تعرفها وتحدد كيفية رعايتها, واخيرا تحديد الوسائل القانونية لتمكين عامة الناس من التظلم والشكوى اذا تعرضت حقوقهم للهدر والانتهاك.
قبل بضعة ايام احتفلت بعض الصحف العربية ، بقرار مجلس اللوردات البريطاني الذي الغى قانونا اقره البرلمان ، يسمح باحتجاز المتهمين بالارهاب دون محاكمة ، ولفترة غير محددة. ألغي القانون بناء على شكوى من سجين مسلم قال ان احتجازه دون محاكمة ، ينطوي على خرق لحقوقه الانسانية. وجادلت الحكومة بأن القانون ضروري للوقاية من اعمال ارهابية وشيكة. لكن مجلس اللوردات قرر ان هذا لا يبرر التغاضي عن حق المتهم في الحرية او الدفاع عن نفسه امام المحكمة. وقد ادعت الحكومة ان لديها ادلة كافية للادانة ، لكنها لا تريد عرضها امام المحكمة خشية انكشاف مصادرها الامنية. فأجابها المجلس بأن عليها في كل الاحوال ان تكشف تلك الادلة ، لتمكين المتهم من الطعن فيها.
وقد جرت عادة بعض العرب على العودة الى مكتبتهم ، كلما اثير موضوع حقوق الانسان ، واستخراج القصص التاريخية عن رعاية الاسلام لحقوق الانسان ، بما يُوازي ما يفعله الغربيون ويزيد. لكنهم ينسون - عادة - ان هذا كله كلام لا علاقة له بالموضوع ، لان المتهم بهدر حقوق الانسان ليس المجتمع الذي عاش في القرون الغابرة ، بل مجتمع المسلمين المعاصر ، بمن فيه من موجهين ومثقفين ومفكرين ودعاة ، واصحاب نفوذ وآباء وأمهات وأفراد.
قضية حقوق الانسان هي ابرز التحديات التي تواجه المجتمعات العربية في هذا الوقت. وسواء امتدح العرب الآخرين او قدحوا فيهم ، فان رأيهم لا ينبغي ان يكون مدار الاهتمام. يجب ان يتركز اهتمام العرب على ضمان هذه الحقوق لكل مواطن ومقيم. انه حق ثابت لكل انسان ، لا يستطيع احد ، قانونياً كان أو فقيها او تاجرا او شيخ قبيلة او زعيم حزب او مفكرا ، ان ينكره عليه. اذا اراد بعض الناس ان يتنازلوا عن حقوقهم فذلك شأنهم. لكن لا يجوز في اي حال ان نحرم احدا حقوقه رغما عنه.
من الجدير بالعرب ان يعيدوا النظر في الكثير من القوانين والتعليمات والممارسات التي تهدر فعليا حقوقا اولية واصلية للانسان ، في معيشته أو حياته.. الخ. واول الطريق الى هذه الغاية هو فسح المجال امام النقاش الحر بما يتضمن من نقد واقتراح للبدائل. المجتمع الذي يتمتع فيه الناس بحقوقهم وحرياتهم اقدر على الصمود امام التحديات والتهديدات, وهو اقوى على احتواء المشكلات والتوترات. تجربة العالم خلال القرن العشرين تكشف ان حركة المجتمع نحو التقدم العلمي والاقتصادي والتحرر من وصاية الآخرين لاتكتمل إلا إذا شعر افراده بان حقوقهم مصانة.
  - « صحيفة عكاظ » - 26 / 2 / 2005م  

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...