شهدنا في السنوات العشر الاخيرة تصاعدا
في الدعوة الى تجديد في الفقه الاسلامي ، متوازية مع الجهود الجارية في اكثر من
بلد ، لتطبيق ما امكن من النظم والقوانين الاسلامية في الحياة العامة ، وخلال هذه
الفترة شهدنا ظهور مصطلحات وعناوين جديدة مثل (فقه الواقع) و (فقه السياسة) و (فقه
الاقليات) وغير ذلك من المصطلحات الشبيهة التي تشير بمجموعها الى حاجة لفقه نشط
يعالج مشكلات المسلم المعاصر.
لقد ظهر معظم هذه المشكلات كنتيجة لتباطؤ مسيرة
البحث الفقهي ، فيما عجلة الزمن تتحرك سريعا الى الامام ، خالقة قضايا جديدة
وحاجات جديدة تحتاج بدورها الى تكييف شرعي لابد ان يقوم على اجتهاد جديد.
وقد حاول بعض الفقهاء والمفكرين تحديد
مواضع القصور في موقفنا الفكري الراهن ، فدرس بعضهم الفجوة الحضارية التي تفصلنا
عن الحضارة الغربية النشطة ، وحاول استنباط نموذج للعلاقة بين المسلمين والغرب ،
يضمن انتقال التجربة العلمية والحضارية ، دون الاضرار بأخلاقيات المجتمع المسلم
وعقيدته .
وحاول آخرون استنباط تكييف فقهي لبعض الممارسات
الحياتية ، التي تبلورت في الاطار الحضاري
الغربي ، واصبحت لازمة لا يستغنى عنها للحياة والمعيشة ، في العالم الاسلامي كما في
غيره من العوالم ، مثل تجربة البنوك الاسلامية .
وحاول
غير هؤلاء تطوير نظرية للعلاقة بين الانسان والشريعة من ناحية ، والانسان والطبيعة من
ناحية اخرى ، باعتبار هاتين العلاقتين مفتاحا لفهم مرادات الاسلام ، والحد الفاصل
بين ثوابته ومتغيراته .
جدل صحيح
وقد لقيت هذه الدعوات ترحيبا من جانب ،
كما اثارت الغضب من جانب آخر ، فثمة في
العالم الاسلامي من يشعر بالقلق من عواقب اي دعوة تتناول تبديلا او تعديلا فيما هو
قائم ، وثمة من يشعر بان السابقين لم يتركوا شيئا للخلف ليضيفوه .
وفي تقديرنا ان هذا الجدل بحد ذاته
علامة صحة مستأنفة في الجسد الاسلامي ، الذي اوهنته سنين الركود الطويلة ، وهو
ايذان بعودة الشريعة نظاما للحياة ، بعد ان بقيت قواعدها - منذ
سقوط الحضارة الاسلامية حبيسة الكتب.
ان الجدل في صلاحية بعض الفقه الموجود
بين ايدينا للتطبيق على حياتنا المعاصرة ، لا يعني باي حال شكا في الدين ، او خروجا
عن الصراط المستقيم ، انه شك في العلم ، لا يؤدي - بالضرورة - الى
تراجع عن الايمان ، فالعلم ينتمي الى مجال قابل للأخذ والرد ، شانه شان جميع
المعقولات الاخرى ، اما الايمان فمستقر في القلب ، لا يتغير الا عن معرفة ويقين .
لا يمكن للفقه ان يتحرك من مكانه الا اذا
تفاعل مع حاجات عصره ، ولا يمكن له ان يجيب على هذه الحاجات ، الا اذا تفاعل مع
القاعدة العلمية والحياتية التي قامت عليها ، هذا التفاعل المطلوب لا يتحقق في جو
السكون والركود ، فالجدل يلعب دور المثير للهمم ، فوق انه يركز الاضواء على
الاولويات ومواضع القصور .
لهذا السبب يبدو ضروريا اتاحة الفرصة للنقاش حول
المسألة حتى يأخذ مداه ، فهو الطريق الوحيد الذي يكشف لنا عن حاجاتنا ، وربما كشف
لنا عن وسائل للمعالجة توفر بعض الجهد الذي نحتاجه .
يؤمن المسلمون جميعا بالاسلام شريعة
قابلة لتنظيم حياتهم في كل زمن وكل ظرف ، وهذا الايمان - على
الرغم مما اثير حوله من شكوك - يبقى رائدا لحركة المسلمين ، ومحركا لعزائمهم
نحو بعث الحضارة التي خسروها وربحها غيرهم ، لكن الايمان بصلاحية الاسلام لا يعني بالضرورة جاهزيته للتطبيق ، لاسيما عند الاخذ بعين الاعتبار تطبيقه في المجال
العام ، في صورة قانون للمجتمع او لبعض جوانب حياته .
فقه لكل عصر
لازال معظم ما نعرفه من الفقه الاسلامي
محصورا في اطار الاحكام الموجهة للفرد ، وموضوعا للاجتهاد القابل للتغيير في اي
وقت ، اما الاحكام الموجهة للمجتمع ، والمنظمة في صورة قانون يتسم بالعمومية
والدوام - ولو نسبيا - لازالت قليلة بل نادرة قياسا الى الحاجات الكثيرة
التي جاء بها التطور السريع للحياة المعاصرة .
وينتمي معظم علم الفقه الى ازمان نشاطه
السابقة ، وما انتجه الفقهاء المعاصرون دون اعتماد على جهد السابقين قليل جدا ،
يصل الى حد الندرة ، ان نتاج الفقهاء السابقين تعبير عن عصرهم ، وهو اجابة على حاجات ظهرت فيه ، ويحتاج كل زمان الى فقه
يجيب على حاجاته الخاصة .
ان حياة الناس وممارساتهم اليومية ، هي
موضوع علم الفقه (موارد تطبيقه) والتغير طبيعة لازمة في حياة الناس ، فما نعيشه
اليوم غير ما كان يعيشه اسلافنا ، وسيكون للذين ياتون من بعدنا حياة مختلفة عما
نعيش ، ويفرض هذا التطور اختلافا في موضوعات الاحكام الشرعية ، يحتاج الى بحث مستأنف ، ليس بتجميل النص او تحديث الاسلوب
، بل بمعالجة الموضوع من جديد ، باعتباره مختلفا عما سبقه .
العبادات والمعاملات
ان المقصود بالفقه الجديد بالدرجة الرئيسية هو
فقه المعاملات ، الذي تتسم معظم موضوعاته بالتغير مع تغير الزمن ، اما العبادات
فالجانب الرئيسي منها ثابت ومنصوص ، كما انها استأثرت في الماضي والحاضر ، بقسط
وافر من الابحاث الفقهية ، بحيث لايبدو ثمة حاجة ماسة الى اعادة نظر ، اللهم الا
في جوانب محدودة وفرعية .
ثم ان موضوعات فقه العبادات لا تتأثر بالتطورات الحياتية خارج الاطار المعرفي الاسلامي ، او لنقل ان تلك التطورات لا تمس
جوهر موضوعاتها ، بخلاف موضوعات فقه المعاملات ، التي تتغير كل يوم بفعل تغير
انواع الحياة وانماطها .
وحياتنا لا تتغير تبعا لتطور نبدعه
بأنفسنا ، حتى نحدد حركة التغيير في الاتجاه المناسب لشريعتنا ، نحن - وللأسف - نستهلك ابداع الآخرين ، على مستوى الافكار وعلى
مستوى السياسات والبرامج ، فضلا عن وسائل العيش ، وفي حال كهذه فان اغفال تطوير
الفقه سينتهي بالمسلمين الى العيش بشخصية مزدوجة ، تقيم العبادة كما امر الله
وتعيش حياتها كما اراده الغرب .
والحل الوحيد الذي بين ايدينا هو تنشيط
حركة الاجتهاد ، وتفعيل العلاقة الباردة بين علم الفقه وعلوم الحياة الاخرى ،
ومواجه تحدي التطور الذي لا ينتظر المتباطئين ، لعلنا نستكمل فيما يأتي من زمن ،
العدة اللازمة لبعث المدنية الاسلامية من جديد .