||انفصال المعرفة الدينية عن تيارات الحداثة
، أبقى ثقافتنا العامة اسيرة للتراث القديم بلغته ومفاهيمه وطرق تعبيره الخاصة.||
النقاش حول مقالة الاسبوع الماضي ، لفت انتباهي
الى غفلتنا عن التحول التاريخي للمفاهيم والمصطلحات وحتى المعاني الأولية للالفاظ.
وذكرني هذا بقصة في بواكير دراستي لاصول الفقه ، قبل اربعة عقود تقريبا. فقد اطنب
الاستاذ في شرح العلاقة بين اللفظ و المعنى والفرق بينهما ، وبين العام والمصطلح ،
وبين المعنى الحقيقي والمجازي.. الخ.
لا اتذكر الآن مما تعلمته يومذاك ، سوى
اشارات بقيت في الذهن ، من بينها تأكيد الاستاذ على ان "التبادر علامة
الحقيقة". والمقصود بهذا القول ان لكل لفظ معنى حقيقي ، نعرفه اذا تبادر قبل
غيره الى أذهاننا. ووفق ما تعلمته يومئذ فان المعنى الأول للفظ يبقى لصيقا به على
الدوام.
ومرت السنين ، فتعلمت ان اللغة ليست كائنا
مستقلا ، بل هي جزء من ثقافة المجتمع الذي يتحدثها ، وانها – خلافا لما تعلمته سابقا
– لا تنتج المعاني. فالمجتمع هو الذي ينتج المعاني ، ويلصق بكل منها اللفظ الذي
يراه قادرا على حمل المعنى وايصاله.
اما المعاني فهي التصوير الذهني لعناصر
الواقع ، المادية مثل التعاملات ، والنظرية مثل الاخلاقيات والمعارف والجماليات
والمثل والاعراف.
المعاني اذن هي ما نريد التعبير عنه حين
نتحدث. اما اللفظ فهو وعاء المعنى او ظرف الرسالة. ونعلم ان الناس لا ياكلون
الوعاء ، بل الطعام الذي فيه ، ولا يهتمون بالظرف الذي يحمل الرسالة ، بل بالرسالة
التي في الظرف.
بعد هذا الاستطراد اعود الى مقالة الاسبوع الماضي ، التي ذكرت فيها
ان مفهوم الحرية في التراث الفقهي الاسلامي محدود في معنيين ، هما الاسر/السجن
والرق/العبودية. فقد اثارت هذه الدعوى جدلا ، فحواه انها تنطوي على رجم للفقه
وأهله بالقصور او التقصير.
ايزايا برلين |
لكن صديقي المهندس فؤاد عسيري لفت انتباهي
الى حقيقة غفلت عنها ، وخلاصتها ان مفهوم الحرية الذي نعرفه اليوم ، لم يكن
متداولا في غابر الزمان. وقد ذكر المفكر البريطاني-الروسي ايزايا برلين انه أحصى 200 تعريف للحرية ، يشير
كل منها الى معنى متمايز عن نظيره. ذكر برلين هذا في محاضرة شهيرة جدا سنة 1958
عنوانها "مفهومان للحرية" وقد اصبحت نصا مرجعيا في التراث الفلسفي الخاص
بالحرية. وفقا لهذا التعداد فان اكثر من ثلاثة ارباع تلك التعريفات/المعاني يرجع الى
القرن السابع عشر وما بعده.
بعبارة اخرى فان معظم المعاني التي ينطوي
عليها مفهوم الحرية ، لم تكن معروفة أو متداولة في الماضي ، بل تطورت وتبلورت في
سياق التطور العام الذي مر به المجتمع الانساني خلال القرون الثلاثة الماضية.
هذا لا يعفينا – على اي حال – من الاشارة
الاجمالية الى نقطتين مهمتين:
الاولى:
ان اغفال البحث الفقهي لمفهوم الحرية الحديث ، ناتج – حسب ظني – عن اعتزاله لتيارات
العلم والفلسفة الجديدة ، رغم سعة تأثيرها في حياة البشر جميعا ، المسلمين وغيرهم.
الحرية من القيم المعيارية الكبرى ، وهي تشكل ارضية لشريحة واسعة من احكام الشريعة
والقانون. ونعلم ان الزمان متغير اساسي في تشكيل موضوع الحكم الشرعي وأغراضه.
الثانية:
ان انفصال المعرفة الدينية عن تيارات الحداثة ، أبقى ثقافتنا العامة اسيرة للتراث
القديم بلغته ومفاهيمه وطرق تعبيره الخاصة. هذا احد الاسباب الذي تجعلنا نتعامل مع
قيمة عظيمة مثل الحرية بشيء من الارتياب ، وتضطرنا لتبرير ارتيابنا بان معانيها
ولدت او تطورت في الاطار المعرفي الغربي ، وندعي ان لدينا مفهوما مختلفا. وهذا
بعيد عن الحقيقة. ولو كان لبان.
الشرق الاوسط الأربعاء -
1 جمادى الآخرة 1440 هـ - 06 فبراير 2019 مـ رقم العدد [14680]
https://aawsat.com/node/1578121/
مقالات ذات علاقة
ايزايا برلين
الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات (دراسة
موسعة)