عرض المشاركات المصنفة بحسب مدى الصلة بالموضوع لطلب البحث فتاوى. تصنيف بحسب التاريخ عرض كل المشاركات
عرض المشاركات المصنفة بحسب مدى الصلة بالموضوع لطلب البحث فتاوى. تصنيف بحسب التاريخ عرض كل المشاركات

20/05/2014

حلاق المؤمنين


استذكر احيانا "حلاق المؤمنين" الذي كنت امر به يوميا في طريقي الى المدرسة. وكان الحلاق المفضل للمشايخ. واشتهر بانه لا يحلق لحية ولا يستقبل حليقي اللحى. وفي تلك الايام كان العرف الجاري بين المشايخ ومن حولهم ، يعتبر حليق اللحية فاسقا. والفسق وصف يطلق في العرف الخاص كمقابل للايمان. وكان مما درسته ايام الصبا ان "كاشف الرأس" قد يلحق بالفاسق ، فلا يؤم الجماعة ولا تقبل شهادته ، ومثله من يأكل في الطريق ، لانه يعتبر ناقص المروءة. وسمعت قبل مدة ان بعض القضاة لا يقبل شهادة او تزكية ممن لا يغطي رأسه.
هذه بالتأكيد مسائل فرعية وصغيرة جدا. لكنها – وكثير من امثالها – تحولت عند بعض الناس ، في بعض الاوقات على الاقل ، الى صراط مستقيم ، او ربما حدا فاصلا بين الكفر والايمان. وحين يمر الزمن ويستذكر الناس المعارك التي اثارتها هذه المسائل ، يأسفون على الوقت الذي انفقوه فيها ، والعداوات التي اكتسبوها من ورائها ، ثم يسخرون من انفسهم او يسخرون من زمنهم.
بعد عشرين عاما من الان سوف نستذكر – على سبيل التلطف – عدد المحرمات التي اصبحت حلالا ، مثلما نستذكر اليوم فتاوى تحريم ركوب الدراجة واكل الروبيان والعمل في البنوك والجمارك وجوال الكاميرا وتحية العلم وكثير من امثالها.
التوسع في التحريم ظاهرة معروفة في المجتمعات التقليدية. فهو احد السمات الرئيسية لثقافتها التي تتسم بميل حمائي ، يتمظهر غالبا على شكل  مبالغة في اصطناع خطوط دفاع عما يعتبرونه جوهريا او ضروريا. وهذا هو السبب الذي يحملهم على الباس التقاليد ثيابا دينية او التعامل معها كأخلاقيات مرتبطة بالدين.
بعبارة اخرى فلسنا ازاء سلوك ديني ، بل ميول اجتماعية تلبس رداء الدين. ومن هنا فليس معيبا ان يقف فقيه ليقول انه قد تراجع عن رأي او فتوى سابقة له ، لان علمه اتسع ، او لأن الفهم العام والعرف الاجتماعي تغير. كما انه ليس مطالبا بالاعتذار لمن اخذوا برأيه السابق ، فقد فعلوه باختيارهم ، وكانوا – مثل ما هم اليوم – عقلاء ومسؤولين عن خياراتهم الخاصة.
ليست هذه مشكلة على اي حال. المشكلة هي قسر الناس على رأي او فتوى ، نعلم – اجمالا – انها قابلة للتغيير. هذا القسر قد يكون مخصصا حين تتبناه جهة حكومية مثل الوزارات او هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد يكون عاما حين يوصف معارضو ذلك الرأي بانهم فسقة او ملحدون او معادون للدين ، وامثال تلك الاوصاف الفارغة.
زبدة القول انه ليس من الحكمة قسر الناس على اتباع الفتوى ، سيما في مواضع الاختلاف. خير للدين ان  يتبع الناس تعاليمه وهم في راحة ويسر ورغبة ، بدل ان يتبعوها مضطرين كارهين او مستثقلين.

 الاقتصادية 20 مايو 2014
مقالات ذات علاقة


17/05/2006

تركي الحمد



شعرت بالحزن حين قرأت مقابلة الدكتور تركي الحمد في موقع قناة العربية الاسبوع الماضي. يمثل تركي الحمد واحدا من العلامات البارزة في ميدان الثقافة العربية المعاصرة. فهو من ذلك النوع من المفكرين الذين قد تعشقهم او قد تبغضهم، لكنك لا تستطيع تجاوزهم او اغفالهم. انشغال الناس به يذكر بالمتنبي
انام مليء عيوني عن شواردها 
ويسهر الناس جراها ويختصموا
يقول تركي الحمد انه سيهجر مسكنه بحثا عن الامان، فان لم يجده فقد يهجر وطنه كليا. اتمنى ان لا يحدث ذلك واراهن على بقية من عقل عند هؤلاء الذين ضيقوا على الرجل حتى اضطروه الى الرحيل. لكن عليهم ان يفهموا ان هذا لو حصل فسيكون لوثة في تاريخهم الى يوم الدين

كل من قرأ التاريخ يذكر بالفخر والاكبار اولئك الزعماء الذين حموا اهل الفكر واحتضنوهم، كما يذكر باشمئزاز اولئك الذين قهروا اهل الفكر وآذوهم. حين تمر السنوات ستكون اخبار اليوم تاريخا. حينئذ سيقال ان تركي الحمد المفكر البارز قد تعرض للقهر على يد «فلان» الذي اهدر دمه او تسبب في تهجيره
وسيذكر المقهور الى جانب اهل القلم. بينما يضيع القاهر في عتمات التاريخ، او ربما يذكر في صف الجلادين والقتلة. نذكر اليوم ابن سينا، ونذكر ابا حامد الغزالي، ونصير الدين الطوسي، والجاحظ، وابن رشد. عاصر كل من هؤلاء الرجال عشرات من حملة السياط والسكاكين وكتاب فتاوى القتل، فمن يذكر هؤلاء ومن يعرفهم؟. لقد تعفنوا في قبورهم وذابت سكاكينهم في التراب، بينما تحولت اقلام اولئك الى اشجار شامخة، تؤتي اكلها كل حين باذن ربها. نصيحتى لاصحاب فتاوى القتل ولمنظمي حملات التهديد والارعاب، ان يرحموا انفسهم، وان يكرموا ذرياتهم واهليهم بالعودة عن هذا الطريق الذي نهايته سوء الذكر ابد الدهر.


في ماضي الايام كان شيخي يقول لي ان الاخلاق دار والسياسة دار اخرى، ولا تدخل الثانية حتى تخرج من الاولى. ومرت الايام وفهمت ان الدارين دار واحدة، وان المشكلة لا تكمن في السياسة، بل في الشعور بالقوة والاستغناء، اي امتلاك السلطة او الرغبة فيها. بعض الناس يملكون سلطة الدولة ويملك غيرهم سلطة على القلوب

كل صاحب سلطة يرغب في القهر او يمارسه قصدا او سهوا، فالقهر هو التعبير الوحيد الحقيقي عن القوة والتميز عن الغير. لكن الاخلاق هي لجام السلطة. وهي ما يحول بين صاحبها وبين تحويلها الى اداة للقهر. يمكن لشيخ الحارة ان يقهر الناس مثلما يمكن للامير والوزير، كلا بحسب قوته ونطاق سلطته. يمكن لهؤلاء ايضا ان يتورعوا عن القهر، اذا ربطوا نوازعهم بلجام الاخلاق. واول الاخلاق هو احترام حق المخالف في الحياة والامان الشخصي، والخصوصية وحرية العقل وحرية التعبير عن الراي.
حاجة السياسة الى الاخلاق قادت الفلاسفة المعاصرين الى التمييز بين نطاقين من الحقوق الفردية: الحقوق الطبيعية والحقوق التعاقدية. الحقوق الطبيعية هي تلك المساحة من الحياة الشخصية الخاصة بكل فرد، والتي لا يجوز لشخص آخر ولا لحكومة ولا لفقيه ولا لشيخ قبيلة ان يتدخل فيها تحت اي مبرر او عنوان



تضم هذه المساحة حق الحياة الامنة، وحق الملكية واختيار السكن وحق التفكير والراي. اعتبرت هذه الحقوق طبيعية لانها جزء من جوهر انسانية الفرد، وحرمانه منها انتهاك لانسانيته.
 لا يحصل الانسان على هذه الحقوق لانه يعيش في مجتمع معين، او يدين بدين معين، او ينتمي لجماعة او طبقة اجتماعية بعينها، بل يتمتع بها لانه انسان وحسب. وبهذا فان الجميع سواء فيها: المسلم والكافر، حامل الجنسية والغريب، المرأة والرجل، الغني والفقير، المثقف والجاهل، المؤمن والفاسق. اعطانا الله هذه الحقوق ساعة ولادتنا مثلما اعطانا اجسامنا وعقولنا وارواحنا، فلا يجوز لنا ان نتخلى عن اي منها كما لا يجوز لاحد ان يسلبها منا.


جوهر الاخلاق السياسية يكمن في احترام هذه الحقوق. فمن يهدد حياة الناس، او يهدد امانهم الشخصي، او خصوصيتهم او ملكيتهم او حريتهم في التفكير والرأي، فانه يخرج بالضرورة من دار السياسة الاخلاقية، ويتحول الى جبار او جلاد. الجلاد هو من يقهر الناس بسوطه او سكينه مباشرة، والجبار هو من يستخدم هؤلاء الجلادين، او يغريهم، او يؤثر على عقولهم، اي - بشكل عام - يقرر افعالهم وان لم يشارك فيها مباشرة.

الوضع المحزن الذي عبر عنه تركي الحمد هو مثال على ما يمر به المثقفون والمفكرون واهل الراي من عسر حين يمارسون ابسط حقوقهم. وهو اشارة على الخلط المؤلم بين ما يفترض في الداعية من الالتزام بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي احسن، وبين واقع دعاة اليوم، او بعضهم على الاقل، الذين لا يميزون بين الاقلام والسكاكين. هؤلاء الذين غفلوا عن الواجبات الاخلاقية في السياسة والحياة، لا يفرقون بين مجادلة المخالف بالحكمة والعمل على اسكاته بالقوة والتهديد.


20/09/2008

من يستطيع اتخاذ قرار القتل

انشغلت البلاد هذا الاسبوع بفتوى الشيخ صالح اللحيدان الذي اجاز قتل ملاك القنوات التلفزيونية غير الملتزمة بتعاليم الدين الحنيف. ومع ان اللحيدان الذي يراس مجلس القضاء الاعلى حاول لاحقا التخفيف من حدة فتواه واصدر ما يشبه الاعتذار عنها ، الا ان الجدل حولها لم يتوقف. واللحيدان واحد من الثلاثة الكبار في المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية ، وهو ينتمي الى مدينة البكيرية بمنطقة القصيم التي جاء منها معظم الزعماء الدينيين وكبار رجال الدولة. 

هل يُعذر الجاهل بجهله في أمور دينه ؟ : الشيخ صالح اللحيدان حفظه ...

وخلال العقد الاخير اصبح مع زميله الشيخ صالح الفوزان نقطة جذب للتيار التقليدي المتشدد ، واتخذ مواقف معارضة للملك عبد الله ، كان ابرزها معارضته لالحاق تعليم البنات بوزارة التربية بعدما بقي نصف قرن تحت هيمنة المؤسسة الدينية ، فضلا عن تجميده لبرنامج اصلاحات في الجهاز القضائي. كما اظهر في مناسبات عدة قلقه من تساهل الحكومة مع ما يعتبره تناميا مضطردا للاتجاه الليبرالي بين السعوديين.

ولفت الانتباه في الجدل المذكور سكوت الاعلام الرسمي عن الهجوم الشرس الذي تعرض له اللحيدان. كما ان مفتي المملكة الشيخ عبد العزيز ال الشيخ ، ناى بنفسه عن الجدل قائلا انه لم يبلغ بحيثياته . اما الشيخ عبد المحسن العبيكان المستشار في وزارة العدل وعضو مجلس الشورى فقد نشر ردا عنيفا على اللحيدان واتهمه بتبرير الارهاب والاساءة الى سمعة البلاد . وياتي الهجوم الصحفي على اللحيدان بعد ايام قليلة من هجوم مماثل على زميله في هيئة كبار العلماء الشيخ صالح الفوزان على خلفية معارك مع صحفيين وكتاب راي. ويقول كثير من السعوديين ان ما جرى يدل على نهاية العصر الذي كان محرما فيه توجيه النقد الى رجال الدين ولا سيما الكبار منهم.

وتشكل القضية في مجملها دليلا على تصاعد الصراع بين جيلين من رجال الدين. الجيل القديم الذي استمد قوته من المؤسسة الرسمية ونجح في تحويلها الى مركز قوة شخصي ، والجيل الجديد الذي يحاول الاستقواء بالشارع ، ولا سيما الطبقة الوسطى ، لازاحة سلفه. ولم تحسم الحكومة امرها ، فهي من الناحية الرسمية تقف مع الجيل القديم الذي يعتبر حليفا معروفا ، لكنه في الوقت نفسه عاجز عن تفهم الحاجات السياسية للدولة ، سيما بعد احداث 11 سبتمبر التي رسمت صورة قاتمة للمملكة وتوجهاتها الدينية. من ناحية اخرى فان كثيرا من كبار مسؤولي الدولة يميلون الى الخطاب المعتدل نسبيا الذي يعبر عنه دعاة من الجيل الجديد مثل عبد المحسن العبيكان وعايض القرني وسلمان العودة . ويعتقد ان هؤلاء اقدر على اعاقة انتشار التيار الذي يوصف بالسلفية الجهادية ، المؤيد لزعيم القاعدة اسامة بن لادن . لكن الاجهزة الحكومية ، لا سيما الامنية منها ، لا تثق تماما في الدعاة الجدد ، خاصة وانهم جميعا صنعوا نفوذهم خارج الاطار الرسمي ، وكانت لهم توجهات معارضة في الماضي.

  من ناحية اخرى فان الجدل يمثل نوعا من الاختبار لنفوذ الاطراف المشاركة فيه. تساءل احد المراقبين : اذا كان اللحيدان يرى ان ملاك القنوات الفضائية يستحقون القتل ، فلماذا لم يحرك القضاء الذي يرأسه لاتخاذ اجراءات فعلية ، خاصة وان معظم القنوات التي يدور حولها الجدل مملوكة لسعوديين او يشارك في تمويلها سعوديون. "حين تكون خارج السلطة – يقول احدهم - فان فتواك هي مجرد رأي ودعوة ، اما حين تملك السلطة اللازمة فانك مسؤول عن تنفيذ ما تراه حقا وضروريا". لكن الجميع يعلم ان اللحيدان لا يستطيع تنفيذ فتواه حتى لو كان رئيسا للجهاز القضائي . قضية مثل هذه تحتاج الى قرار سياسي يتجاوز السلطة القضائية ، وهو يعلم انه لا يملك هذا القرار وان قرارا  كهذا لن يتخذ في اي وقت . في مناسبات سابقة تدخلت الحكومة لصالح منتقدين للمؤسسة الدينية الرسمية ورجال الدين . وقبل عامين حكم احد القضاء بالجلد على الدكتور حمزة المزيني ، وهو اكاديمي ومفكر اشتهر بنقده العنيف للمؤسسة الدينية ، لكن تدخل الحكومة ادى الى تعطيل الحكم استنادا الى نص في قانون المطبوعات يخص وزارة الاعلام بالحكم في جرائم النشر . وقيل يومئذ ان الحكومة لم تشأ السماح لرجال الدين المتشددين باستثمار سيطرتهم على القضاء في تصفية حسابات خاصة .

من المؤكد ان سكوت الهيئات الرسمية عن الجدل الحاضر هو اسلم الخيارات . فهو سيكفل من جهة تفهيم كل طرف بالحدود التي ينبغي ان يتوقف عندها ، وسيضمن من جهة اخرى اضعاف موقف رجال الدين الكبار الذين ربما فكروا في استثمار مكانتهم لاعاقة سياسات حكومية لا يرتضونها .

تكشف هذه القضية عن جانب من التجاذبات الكثيرة التي يحفل بها المشهد السياسي في منطقة الخليج ، ولا سيما تلك التجاذبات الدائرة حول مكانة الدين في الحياة العامة وحدود الدور السياسي لرجال الدين ، الذين في مؤسسة الدولة والذين في خارجها.

20 سبتمبر 2008

مقالات ذات صلة

تحولات الاسلام السياسي في السعودية ومستقبله

التيار الديني والدولة في المملكة : تحليل لمسار العلاقة

بعد عام على صدوره : بيان "نحو دولة الحقوق والمؤسسات" حجر زاوية في تاريخ التيار الديني السعودي

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

ثوب فقهي لمعركة سياسية

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

رأي الفقيه ليس حكم الله

 فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

 في الفتوى والتخصص

 تحولات التيار الديني – 5 السلام مع الذات والسلام مع العالم

الشيخ القرني في باريس وجهات "الخطر" وقهر العامة

  لتفاصيل حول فتوى الشيخ اللحيدان ، انظر  العربية.نت (14-9-2008)

20/12/2010

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

؛؛ المدخلي: مهما تشدد السلفيون لا يبلغون عشر ما كان عليه السلف من شدة على أهل البدع لدرجة أنهم يأمرون بقتلهم ويطاردونهم ويذلونهم،،


اتاح لي رمضان المنصرم (1431ه) فرصة لقراءة الجدالات الداخلية المزمنة بين اجنحة التيار الديني في المملكة.من اقصى اليمين التقليدي الى اقصى اليسار الاصلاحي مرورا بالصحويين والمتشددين والمعتدلين والعصرانيين .. الى اخر الاوصاف التي يطلقها كل فريق على بقية الفرقاء ، او يطلقها الاخرون من خارج التيار على شخوصه وجماعاته.
الشيخ عبيد الله الجابري
وهذه بالطبع ليست اوصافا موضوعية ولا خالية من الغرض. لكنها على اي حال تقال من اجل التعريف ، لان تلك الاجنحة تابى تعريف نفسها باسم خاص، وتصر على انها هي الجماعة المقصودة في رواية "الفرقة الناجية" او "الفرقة المنصورة " ، وهذا المسمى الاخير تعريف جديد طرحه احد الدعاة ولم يقبله جميعهم.
تحفل تلك الجدالات بقضايا ومواضيع وتوصيفات وتفسيرات واستدلالات تصلح بذاتها موضوعا للدراسة والتدليل على البيئة الثقافية وانساق المعرفة التي يعبر عنها كل جناح. ولاحظت في هذه الايام رواجا لوصف جديد هو "التمييع". وأظن ان الشيخين سلمان العودة وعايض القرني هما اكثر من يرمى به الان. 

واظن ان هذا الوصف قد ظهر في ادبيات الجدل الديني للمرة الاولى في العام 2004 على يد حركيين جزائريين من اتباع التيار المسمى بسلفية المدينة (او الجامية كما يسميهم اعداؤهم) ، ثم تداوله نظراء لهم من ليبيا ، قبل ان ينتقل الى التداول بين الحركيين في المملكة. وكتب احدهم رسالة اسماها "المجموع البديع في الرد على شنشنة التمييع" وافتتح اخر مجموعة انترنتية عنوانها "الجمع البديع في بيان معنى التمييع". وتحدث عنه الشيخان ربيع المدخلي وعبيد الجابري وهما من ابرز رموز ذلك التيار. ورفض المدخلي اعتبار الوصف مصطلحا معياريا ، لكنه يصح ان يطلق على اولئك الدعاة الذين قال انهم "يميعون اصول الاسلام ويرققونها ويهونون من شأنها، بل يحاربونها". 

تمييع اصول الاسلام ومحاربتها يكمن – حسب راي الشيخ - في ميل بعض الدعاة الى اللين ورفضهم للتشدد والغلو. وهو يعيب على السلفيين المعاصرين تركهم لما كان عليه نظراؤهم السابقون من شدة بالغة على مخالفيهم. ويقسم بالله ان سلفيي هذا اليوم مساكين: "والله الذي لا إله إلا هو أنه لا يوجد شدة الآن في السلفيين المساكين . و إنه مهما تشدد السلفيون في مواجهة الباطل و البدع لا يبلغون عشر معشار ما كان عليه السلف من الشدة على أهل البدع لدرجة أنهم يأمرون بقتلهم ، ويطاردونهم ، ويهجرونهم ، و يضربونهم ، ويذلونهم".
لست مهتما بتحديد موارد الحق والباطل في تلك الجدالات ، بل بدلالاتها السوسيولوجية ثم السياسية. فيما يتعلق بالجانب السوسيولوجي ، فقد وجدت فيها تطبيقات عديدة لواحدة من النظريات التي اثارت كثيرا من الجدل ، اعني بها تلك التي تقول بان عامة الناس يشتركون في صياغة نموذج التدين السائد في عصرهم الخاص. التصور الغالب ينحو الى اعتبار "الفكرة الدينية" منتجا معياريا للنخبة العليا من علماء الدين ، الذين يجتهدون في فهم النص وقراءة قضايا الواقع المعاش ، ثم يصدرون اراءهم التي تعامل باعتبارها فتوى او رايا دينيا ، او "توقيعا عن رب العالمين" ، حسب تعبير الشيخ ابن القيم. بالنسبة للملتزمين بتلك الاراء والفتاوى ، فان تطبيقاتها تعتبر "ممارسة دينية" تنطوي ، مثل "الفكرة الدينية" ، على قدر من القداسة المستمدة من ارتباطها المباشر بالمصدر الاعلى للتشريع اي النص المقدس.
اذا تابعت تلك الجدالات وما ترتب عليها من فتاوى واراء ومواقف ، فسوف تجد ان كثيرا من الحالات شهدت مسارا معكوسا ، فالفكرة الدينية او الفتوى لم تنتج ممارسة دينية ، بل  العكس هو الصحيح: الممارسة الدينية ، اي هموم وانشغالات عامة المؤمنين او بعضهم ، ولا سيما الناشطين منهم ، هي التي حددت لعالم الدين او صاحب الفتوى نطاق الرأي الذي سيصدر لاحقا. 

بعبارة اخرى فان الفتوى او الراي الذي يلبس رداء التشريع او التوقيع عن رب العالمين لم يكن اجتهادا مستقلا في النص ، بل هو موقف مسبق تجاه موضوع صيغ على شكل مسألة. واذا وضعت السؤال والجواب في اطار الصراع بين الاجنحة المختلفة ، فسوف تجد ان الراي الذي يرتدي عباءة الدين ليس سوى صياغة لنفس الموقف السياسي او الاجتماعي الذي يتخذه صاحب الفتوى تجاه الطرف الذي هو موضوع للفتوى ، تاييدا له او تنديدا به. اما بقية الكلام فليس سوى تفاصيل جانبية.
عكاظ 20 ديسمبر 2010  https://www.okaz.com.sa/article/370121/


مقالات ذات علاقة



11/09/2019

الحلول الفضائية

|| الحلول الميتافيزيقية هي تلك الاجوبة السجالية التي تدعونا للبحث عن الحلول والاجوبة في التراث. هؤلاء يرون التراث دينا من عند الله ، وهو يحوي جوابا لكل سؤال وحلا لكل مشكلة||

قبل سنوات قال سياسي عراقي ان تحقيقا داخليا كشف عن آلاف "الجنود الفضائيين" على قوائم رواتب الجيش. وعلمنا فيما بعد ان المقصود بالفضائي هو الاسم الذي لا مسمى له. فقد يكون اسما لشخص ميت ، أو لشخص لم يولد أصلا.
"الحلول الفضائية" مثل نظيرها العراقي ، اسماء بلا مسمى ، لكنها بالطبع ليست في الجيش. بل في الجدالات اليومية لدعاة الاصلاح الديني.
Image result for mujtahid shabestari
د. محمد مجتهد شبستري
ويغلب على ظني ان كافة القراء الاعزاء يعرفون الحلول والنظريات الفضائية ، ولعل بعضهم يستعملها أيضا. وكنت  التفت اليها حين قرأت للفقيه المعاصر محمد مجتهد شبستري ، حديثا عن "الحلول الميتافيزيقية" ، وهي مرادفة لأختها الفضائية. وتنطبق على قصة رجل جيء به لمحكمة يرأسها عالم رفيع الشأن. فتحدث الشيخ أولا عن عدل الاسلام ، وسبقه للغرب في اقرار حقوق الانسان وضمانه لكافة الحريات الانسانية. لكنه في نهاية الجلسة ، حكم على المتهم بالسجن ، لتأليفه ونشره كتابا يعارض آراء فقهية مشهورة ، ويدعو لاستبدالها بقانون وضعي.
وفقا لتعريف شبستري ، فان الحلول الميتافيزيقية هي تلك الاجوبة السجالية التي تقول انه يتوجب علينا البحث عن الحلول والاجوبة في التراث ، لانه من عند الله ، فهو يحوي جوابا لكل سؤال وحلا لكل مشكلة.
حسنا نحن نصدق هذا.. لكننا نريد ان نراه في ارض الواقع. لسنا بحاجة لمن يخبرنا عن سبق الاسلام للغرب في اقرار الحريات الشخصية ، بل نحتاج للاقرار بحق الاشخاص الذين معنا  في ان يعبروا عن رأيهم ، حتى لو تعارض مع معتقداتنا او فقهنا. نحن ندعو حراس العقيدة الى تبني مبدأ حرية الاعتقاد والعبادة والتعبير عن الراي في الدين وغير الدين ، كي نصدق انهم يؤمنون بما قالوه عن سبق الاسلام الى حقوق الانسان وتفوقه على الغرب في حمايتها. ان حديث القاضي عن عدالة الاسلام ليس سوى حل فضائي لا علاقة له بالواقع أصلا. أما الذي جرى في الواقع فهو ان شخصا عوقب بالسجن دون أن يرتكب جرما ، سوى تعبيره عن رأيه بطريقة متمدنة.
اظن ان الصلة بين الجنود الفضائيين والحلول الفضائية قد اتضحت الآن. فهذه وتلك اسماء وحقائق مفترضة ، يتحدثون عنها ويقيمون لها اعتبارا ، لكنها غير موجودة في أرض الواقع.
لقد ذكرت مثال حرية التعبير  ، سيما نقد الخطاب الديني ، لأنه واضح ومتكرر. ولأن منع النقد مدعوم بفتاوى وروايات.  ولأن اشخاصا قتلوا واخرين سجنوا أو جردوا من حقوقهم المدنية ، بعدما مارسوا ما يفترض انه حق اصلي في التعبير عن الرأي.
لكن عدا هذا فهناك مسالة التجديد ، ومكافحة الفقر ومنع الاستغلال وحماية الضعفاء وقضايا المساواة والعدالة التوزيعية الخ.
والذي ألاحظه ان اصحاب الحلول الفضائية يمارسون لعبة ظريفة: حين تقول مثلا ان المعاملات التي ابتكرها الفقهاء لتحليل معاملات البنوك ، لا تعالج المشكل الاصلي اي الاستغلال ، سيردون عليك بآيات وأحاديث تؤكد على العدالة والرحمة بالضعيف الخ.. فاذا جادلتهم بان هذا مجرد توجيه وارشاد ، وان المهم هو ما حوله الفقهاء الى فتوى او قانون ، أجابوك بأنهم اهل الاختصاص في معرفة النص ، وربما تواضعوا قليلا فقالوا ان تقصير الفقهاء لا يعني قصور الاسلام. لكننا نعلم ان هذه الاجوبة كلها فضائية ، تحاول ابعاد الانظار عن موضوع السؤال الاصلي ، بطرح موضوع جديد ، يحول النقاش الى نقاش حول الاسماء ، بدل الموضوعات والوقائع. هذه ببساطة فكرة الحلول الفضائية.
الشرق الاوسط الأربعاء - 12 محرم 1441 هـ - 11 سبتمبر 2019 مـ رقم العدد [14897]
https://aawsat.com/node/1896956/

مقالات ذات علاقة 
 الحداثة كحاجة دينية  (النص الكامل للكتاب(

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...