25/07/2024

الحداثة التي لا نراها

صديقي محمد الحرز ، الشاعر والكاتب المعروف ، متشكك في محتوى الجدالات التي تدور حول تصنيف الحداثي والتقليدي. فهو يقول صراحة انه لا ينبغي اتخاذ التصنيف السائد في اوربا معيارا للتمييز بين اهل الحداثة ومعارضيها. ويقول ايضا انه ليس من السهل ان يتبنى شخص ما الحداثة صراحة وعلنا ، لان مجتمعنا لا زال مرتابا في هذا التوجه ومن يتبناه. في نهاية المطاف فان الحرز لا يقدم فكرة ، بل يحكي هما ، أظن ان كثيرا من الكتاب وأهل الرأي ، قد عاناه او عبر عنه في وقت من الأوقات.

محمد الحرز

وقريبا من هذا المعنى تحدث الاكاديمي المعروف د. حسن النعمي ، عن النسق الثقافي العام في العالم العربي ، الذي يميل لانكار هيمنة العقل ، خلافا للحال في أوربا ، التي تقدس العقل وتجعله محور المعرفة ومصدرها الوحيد. الحداثة تدور حول العقل وكونه مهيمنا على العالم. وهذا معيار رئيس للتمايز بين الثقافة الاوروبية المعاصرة ونظيرتها العربية ، التي تستمد معظم طاقتها من التجربة التاريخية ، وترجح النقل على العقل أو نتاجه الصرف.

الامر العجيب في جدل الحداثة والتقاليد ، في منطقة الخليج بأسرها ، ان اكثر المتحدثين عنه هم الأدباء ، واكثر المعارضين لهم هم المشايخ. أقول انه عجيب ، لأن منظومة القيم والمعايير التي تعتبر جوهر الحداثة ، منتشرة في كل جوانب حياة المجتمع ، بينما يركز الأدباء على "الأشكال" الادبية الحديثة ، أكثر من تركيزهم على القيم المعيارية للحداثة.

افترض ان العديد من الكتاب الحداثيين خصوصا ، منتبهون الى هذه الاشكالية. فمجتمعنا يتحرك بثبات واصرار نحو الحداثة ، بقيمها ومعاييرها وتمظهراتها الحياتية. لتوضيح هذه المسألة ، سأشير الى التحول الجاري في ثلاثة قطاعات ، هي التعليم ، الصحة ، والتجارة. تغطي هذه القطاعات ما يقرب من ثلثي الحراك الاجتماعي اليومي ، في بلدنا واي بلد آخر ، فهي تستقطب قوة العمل وحركة راس المال وتوجه الانشغالات الذهنية للافراد. هذه القطاعات باتت اليوم بعيدة عن القيم التقليدية ، اكثر تمثلا لقيم الحداثة ، وأشد رغبة فيها. ربما لا يرى كثير من الناس في هذه القطاعات تجسيدا للحداثة الناضجة ، لكني واثق تماما انه لا يمكن تصنيفها في الدائرة التقليدية ، ان أردنا التزام معطيات الواقع المشهود.

انظر مثلا الى المحاور الرئيسية التي تدور حولها معيشة الناس ، هل تنتمي الى عصر الحداثة ام عصر التقاليد ، اليست البنوك هي قطب الرحى في حركة راس المال؟. ثم انظر الى مواقف الناس حين يشعرون بالمرض ، هل يتوسلون بالجن والسحر والاساطير ام يراجعون الطبيب. صحيح ان هناك من يلجأ للخيار الأول ، لكن خذ احصائية وزارة الصحة عن عدد مراجعي المستشفيات والعيادات في عام واحد ، ستجد ان جميع الناس تقريبا اختاروا السبل الحديثة في علاج انفسهم. والحال نفسه بالنسبة للتعليم وكافة النشاطات المعيشية.

الذي أردت قوله ان الحداثة ليست قصرا على التعبيرات الأدبية ، كي نقول انها موجودة او مفقودة في المجتمع السعودي ومجتمعات الخليج عموما. الحداثة منهج حياة يعتمد العقل والعلم كمصدر وحيد للمعرفة ، ومعيار لتمييز ما يصح وما لا يصح. وهذه قد تتجسد في مفاهيم يعبر عنها لفظيا ، او تتجلى في سبل عيش يتبعها الناس ويلتزمون بها وبما يترتب عليها ، حتى لو لم يطلقوا عليها اسم الحداثة أو اوصافها.

الحداثة بقطبيها ، العلم والعقل ، ليست نظاما محدد الأطراف. بل هي مشروع بنهايات مفتوحة للتطور والتحول. وكلما بلغ مرحلة انكشفت أمامها مسارات جديدة. لذا لا ينبغي اعتبار المستوى الفعلي لمجتمع معين (الغرب مثلا) معيارا نهائيا تقارن به المجتمعات الأخرى. ما هو مهم في الحقيقة هو ما ذكره د. حسن النعمي في حديث مسجل: محورية العقل وكون نتاجه معيارا وحيدا لما يقبل او يرفض. ولا أرانا بعيدين عن هذا ، حتى لو قبلنا بعض التحفظات من هنا او هناك.

الشرق الاوسط الخميس - 19 مُحرَّم 1446 هـ - 25 يوليو 2024 م

https://aawsat.com/node/5043509/

مقالات ذات صلة

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية

الحداثة كحاجة دينية -النص الكامل للكتاب

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

11/07/2024

اصلاح العقل الجمعي

 

دعنا نفترض ان حكومتنا قررت اصلاح او تطوير الثقافة الوطنية ، في السياق الذي اسميناه في الشهر الماضي "الهندسة الثقافية" ، فما هي الاهداف التي ينبغي ان تحتل المرتبة العليا في سلم اولوياتها؟.

للاجابة على هذا السؤال ، دعنا نوضح مسألتين: أولاهما وظيفة الثقافة والدور الذي تلعبه ضمن المخطط العام للتطوير في بلد بعينه. اما الثانية فعن طريقة توظيف الثقافة في خدمة الاغراض الوطنية العامة.

بالنسبة للمسألة الاولى ، فان الثقافة التي نعنيها هنا ، هي مكونات الخلفية الذهنية التي توجه السلوك الجمعي ، والتي نسميها أحيانا العقل الجمعي او العرف العام ، اي الطريقة التي يتبعها عموم الناس في تحديد ما هو مناسب او غير مناسب من السلوكيات الفردية. ونتعرف على هذه عادة في ردود فعل الناس على المواقف التي يواجهونها في حياتهم اليومية ، ولا سيما المواقف التي تتعلق بمسائل جديدة او غير معتادة.

نعلم ان 90 بالمائة من سلوك الافراد عفوي ، يصدر من دون توقف او تفكير. لكنه مع ذلك يبدو للناس معقولا. لأنه يعتمد على قناعات مسبقة ، جرى التوصل اليها وتثبيتها في الذاكرة ، كمعيار لما ينبغي للانسان ان يفعله او يعرض عنه. خذ مثالا من حياتك اليومية: فحين تركب سيارتك صباحا ، فان ذهنك يقوم بمئات من العمليات العقلية ، التي تشمل اختيار الطريق واستعمال السيارة ، ومقابلة التحدي الذي يمثله السائقون الآخرون. كل هذه العمليات تجري بشكل متوال وسريع ، اي انك تقوم بها طيلة الوقت ، من دون ان تشعر بكل جزء منها ، أو تقرر سلفا ما الذي ستفعل الآن وما الذي ستفعل لاحقا. توالي هذه العمليات بات ممكنا بعدما جرى تثبيت مرجع معياري لكل عملية منها ، في الذهن او الذاكرة. والحقيقة ان جانبا كبيرا من النشاط الذهني للانسان ، ينصرف الى صياغة واصلاح هذه المراجع او قواعد العمل. ومن هنا أيضا فان المهمة الكبرى للاصلاح الثقافي ، تتمثل في هذه النقطة على وجه التحديد: مسح القواعد العتيقة او غير المتناسبة مع حاجات الانسان وحاجات عصره ، وانتاج قواعد جديدة.

فيما يخص المسألة الثانية فان أبرز التحديات التي تواجه مجتمعنا ، هي تحدي الحداثة ، ولا سيما استيعابها من خلال معالجة نقدية ، تسمح بتنسيج قيمها الرئيسية في نسيجنا الثقافي ، وصولا الى انتاج ظرف ثقافي / اجتماعي حديث ، لكنه غير منقطع عن التجربة التاريخية. لا اقصد – بطبيعة الحال – ان يكون المجتمع الجديد استمرارا للتجربة التاريخية ، بل ان يكون واعيا بها ، قادرا على نقدها واختيار ما فيها من محاسن ، مدركا لحدود تأثيرها على تفكيره في قضايا اليوم.

استيعاب الحداثة يعني التمييز بين ما هو علمي وما هو اسطوري او خرافي في حياتنا ، والتأسيس على العقلانية والعلم. ليس من الضروري استبعاد الاساطير او انكارها ، طالما بقيت في إطار الفولكلور والتخيل ، ولم تتحول الى اساس تبنى عليه قرارات او مواقف. يجب أن نصارح انفسنا بأننا ورثنا طائفة واسعة من العناصر الثقافية التي تعطل عقولنا او تثبط همتنا ، وفي نهاية المطاف ، تعيق ما نطمح اليه من نهوض علمي واقتصادي واجتماعي.

بناء على ما سبق ، فان استراتيجية وطنية لاصلاح الثقافة ، ينبغي ان تحدد أهم أهدافها في: معالجة التقاليد والموروثات التي تدفع العقول نحو البناء على الاسطورة او القيم اللاعقلانية او المتعارضة مع مستخلصات العلم.

لحسن الحظ فان هذه المهمة الكبرى ليست عسيرة كما قد نظن. ذلك ان علاجها متوفر فعلا وقليل الكلفة. هذا العلاج هو الغاء القيود على تدفق المعلومات والضمان القانوني لحرية التعبير والنشر. ان رسوخ الخرافة في الاذهان سببه الرئيس هو ضيق الافق الثقافي ، وعدم الاضطرار الى مجادلة الموروث. فاذا وجد الانسان نفسه في مواجهة خيارات عديدة معارضة لمحتوى ذاكرته ، فسوف يضطر للتفكير والمقارنة. وهذا يكفي – في اعتقادي – كي يكتشف العقل الفارق الجوهري بين ما يحويه فعلا وبين الجديد الذي يعرض عليه.

الخميس - 05 محرم 1446 هـ - 11 يوليو 2024 م    https://aawsat.com/node/5039036/

مقالات ذات صلة

 

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

التقدم اختيار.. ولكن

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

الثقافة المعوقة للنهضة

الثقافة كصنعة حكومية

الحداثة تجديد الحياة

الحكم اعتمادا على العقول الناقصة

حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد

رأس المال الاجتماعي

عقل الاولين وعقل الاخرين

عقل العرب ، عقل العجم

العقل المؤقت

فكرة التقدم باختصار

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

القيم الثابتة وتصنيع القيم

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

هكذا خرج العقل من حياتنا 

الهندسة الثقافية: تمهيد موجز

04/07/2024

لمحة عن تحولات المجتمع والثقافة

تنطلق التحولات الاجتماعية بتأثير عوامل مختلفة ، سياسية واقتصادية. بعض العوامل يطلق مسار التغيير ، وبعضها يحدد وجهته او يؤثر في سرعته. ويقال في العادة ان سياسات الدولة محرك قوي للتغيير. كما ان تحولات الاقتصاد والسوق تعجل الحراك بين الطبقات الاجتماعية ، وتسهم في تغيير الثقافة السائدة. تحولات السياسة في النطاق العالمي مؤثرة هي الأخرى ، ولا سيما تلك التي تحدث في المجتمعات الأقوى اتصالا او الأكثر تاثيرا. نعلم - على سبيل المثال - ان تحولات المجتمع الامريكي ، تنتقل سريعا الى الساحة الدولية فتغدو ظاهرة كونية. لكن التأثير ليس حكرا على هذه البلاد ، وانما نضرب بها المثل لسعة تأثيرها في النطاق العالمي. 

ابراهام ماسلو (1908-1970)

هذا ليس من نوع الكلام العام الذي يقال في سياق "السوالف" ، فهو نتاج لدراسات علمية معمقة وميدانية ، على تحولات جرت تكرارا في أكثر من بلد. زبدة القول ان التغيير حقيقة من حقائق الحياة التي لا يمكن منعها ، وانه يحدث بتأثير عوامل عديدة. ولذا لا يحسن بالعاقل ان يتصدى للتحول الاجتماعي او يقاومه او يتخيل امكانية وقفه.

-         ما الذي يحدث حين يبدأ المجتمع في التحول؟.

دعنا نضرب مثالا عن شاب ينتمي لعائلة ريفية فقيرة ، انضم للمدرسة ثم الجامعة وتخرج بشهادة عالية ، فحصل على وظيفة مرموقة: ماهو تصنيفه الاجتماعي الآن (في اي طبقة). وكيف سيعامله الناس وكيف سينظر هو الى نفسه والى معاملة الناس له؟.

لعل  بعض القراء يتذكرون "هرم ماسلو" الذي يقرر ان الانسان في حالة الفقر المطلق ، سيكون مشغول الذهن تماما بما يمكنه من مواصلة العيش. فاذا حقق كفايته من هذا ، سينشغل بتحقيق الامان كحاجة نفسية ذات علاقة مباشرة بالعيش والكرامة. ومع نجاحه في هذه المرحلة ، سيتجه الى ما اسماه ابراهام ماسلو بالحاجات الاجتماعية ، وأبرزها الحاجة للتماثل مع الغير ، أي اقرار المحيطين بأنه مساو لهم وليس أدنى منهم ، وانه جدير بنفس المكانة التي يتيحها النظام الاجتماعي القائم لكل اعضائه. بعد ذلك تأتي مرحلة البحث عن التقدير ثم تحقيق الذات.

هذا مثال عن فرد ، أظن ان كثيرا منا قد لاحظه يوما ما. لكن ثمة مراحل زمنية تشهد تحولات واسعة النطاق ، في المجتمع كله ، تنعكس على سلوكيات كافة الافراد او غالبيتهم. وأظن ان كثيرا من السعوديين الذين تتراوح اعمارهم بين الاربعين والستين قد مروا بهذا التحول ، او شهدوه في اشخاص من جيرانهم او معارفهم ، في سبعينات القرن العشرين ، حين تعرض المجتمع السعودي لتحولات عميقة ، بتأثير خطط التنمية الاقتصادية الاولى والثانية (1971-1980). ومثله ما حدث بعد الاجتياح العراقي للكويت أواخر 1990.

حين تستعرض طيفا واسعا من ابناء المجتمع ، سترى ان كثيرا من الشخصيات الرفيعة اليوم ، جاءت من عائلات متواضعة اقتصاديا او اجتماعيا. لكن مكانتهم ارتفعت نتيجة تعليمهم او ارتفاع مداخيلهم او أدوارهم الاجتماعية او مراكزهم الوظيفية. وهنا لا نتحدث عن عدد من الافراد ، بل عن ظاهرة عامة نستطيع – من دون تحفظ – اعتبارها صورة نموذجية للتحول الاجتماعي.

مجتمع ما بعد التغيير ، بكافة افراده او غالبيتهم ، يحمل مشاعر مختلفة عن تلك التي كانت في الماضي. وهذا يولد ردود فعل قد لا تكون مواتية في جميع الأحيان. ان رغبة الأفراد ، ولا سيما من الجيل الجديد ، في التساوي مع الغير ، قد ينظر اليها من جانب الجيل الاكبر سنا كتمرد على نظام القيم السائد. وقد يميل بعض هؤلاء للتشدد في التعامل مع تعبيرات الشباب عن انفسهم ومراداتهم. وعلى الطرف المقابل فان الشباب ربما يواجهون هذا الموقف بردود فعل غاضبة. هذا الموقف وذاك ، هو التجلي الأبرز لما يسمى صراع الاجيال ، وهو – في الاساس - صراع ثقافي وتعبير عن تحول ثقافي.

 الشرق الاوسط الخميس - 28 ذو الحِجّة 1445 هـ - 4 يوليو 2024 م

https://aawsat.com/node/5036864/

 

في مسألة الجبر والاختيار: هل حقا نملك اراداتنا؟

بعض القراء مطلع – بالتأكيد - على الجدل القديم ، حول كون الانسان مسيرا او مخيرا . وهو جدل أثاره سؤال بسيط: إذا كان الانسان يفعل ما يفعل بار...