06/11/2025

ماذا يفعل السياسيون؟

"السياسة بوصفها حرفة" رسالة صغيرة الحجم ، وهي في الأصل محاضرة مطولة القاها عالم الاجتماع المعروف ماكس فيبر ، امام اتحاد الطلبة بجامعة ميونيخ في 1919. نالت الرسالة شهرة واسعة في النصف الثاني من القرن العشرين ، مع بروز الدراسات المكرسة لتفسير الفعل السياسي واخلاقياته. ويظهر ان فيبر استهدف في تلك المحاضرة ، تعزيز الاتجاه العقلاني ، في مواجهة الميول المثالية التي تشيع عادة بين الطلبة الجامعيين. وكان هذا ضروريا عقب الهزيمة المذلة لألمانيا في الحرب العالمية الأولى ، حيث شاع اتجاه قومي متطرف ، يقال انه وفر – لاحقا – أرضية ثقافية استثمرتها تيارات سياسية شعبوية ، مثل التيار النازي الذي تزعمه أدولف هتلر.

الرسالة الداخلية لتلك المحاضرة هي: من يريد احتراف العمل

ادولف هتلر
السياسي ، فعليه ان يستوعب الفوارق الجوهرية بين الوعظ والسياسة. ممارسة السياسة شيء مختلف تماما عن الكلام السياسي ، كما انه مختلف عن الحرف الأخرى. ان أردت المحافظة على اخلاقيات بسيطة ، فان السياسة ليست المكان المناسب ، فهي مكان للاخلاقيات المركبة ، حيث يجد المرء نفسه امام خيارات عسيرة بين السيء والأسوأ ، وليس بين الحسن والسيء ، وهو في كل حالة مضطر لاتخاذ قرار ، والا فقد دوره في هذا المجال.

جوهر السياسة – يقول فيبر – هو ارتباطها بأدوات الجبر والعنف. حين تكون في دار العبادة ، ستسمع تحذيرا من الاعمال التي تصنف في خانة الإساءة للغير ، او ظلم الضعيف او تخريب البيئة وأمثالها. وسيخبرك الواعظ ان هذه الأفعال تستدعي غضب الله والعقاب في الآخرة. واذا كنت في المدرسة ، فسوف يخبرك الأستاذ ان مخالفة أنظمة المرور والبناء وأمثالها قد تؤدي الى احتمال غرامات وخسائر ، وربما السجن. في كلا الحالين يركز المتحدث على ارشاد المستمعين ، واقناعهم بتجنب الأفعال التي تعرضهم للاذى. اما رجل السياسة فلا يصرف وقتا في اقناع أحد ، بل يتخذ قرارات توضح بجلاء ان من يخالفها سوف يتعرض للعقاب. الفارق اذن بين رجل السياسة وغيره ، ان هذا يهدد بالعنف المباشر وهو يملك أدواته. أما الواعظ والأستاذ فدورهم يقتصر على "لفت نظر" المستمعين الى العواقب المحتملة لأفعالهم.

بعبارة أخرى فان جوهر العمل في المجال السياسي ، هو الزام الناس بما يريده رجل السياسة ومنعهم مما لا يريده. قد تتوافق هذه الأوامر مع ارادات الناس في بعض الأحيان ، لكنهم في معظم الحالات ، يفعلون ما يأمرهم رجل السياسة خوفا من العقاب.

-         ما الذي يدعو ماكس فيبر لهذا الحديث؟

أشرت في المقدمة الى رغبته في معالجة الميول المثالية التي تلبس ثوب الاخلاق الكاملة. مع انها في حقيقة الأمر بعيدة جدا عن واقع الحياة وحاجاتها. بعبارة أخرى فاننا جميعا نتمنى الخلاص النهائي من الجبر والخشونة في كافة المعاملات: المعاملات بين الآباء والأبناء ، بين الأصدقاء والجيران ، بين التجار والمستهلكين ، بين رجال الدولة والمواطنين ، أو بين مواطني هذه الدولة وغيرهم من مواطني الدول الأخرى. هذه أمنية. لكن في واقع الحياة ، يستحيل إدارة البلاد من دون التلويح بأدوات الجبر ، في بعض الأحيان ، بل في غالب الأحيان.

هذا أمر لا أظن عاقلا ينكره. لكن العاقل سيخشى الانزلاق من "التلويح" بالعنف الى استعماله بشكل مبتذل ، أي تحويله من أداة في الخلفية الى أداة وحيدة للتعامل مع الناس. من ذلك مثلا ان تترك الحديث مع الناس ، الى تهديدهم بالسجن والتغريم وغير ذلك ، في كل صغيرة وكبيرة.

على الجانب الآخر ، فانه ليس متوقعا ان يلبس السياسي ثوب الواعظ ، أي ان يتخلى عن حل المشكلات ولو بالعنف ، لأنه ان فعل ذلك فقد فرط في دوره الرئيس ، أي إدارة البلد ، ولا أظن أحدا يريد أن يرى حاكما منصرفا الى الوعظ بدلا عن ممارسة الحكم ، حتى لو كان العنف مضمونا له.

الشرق الأوسط الخميس - 15 جمادي الأول 1447 هـ - 6 نوفمبر 2025 م https://aawsat.com/node/5205609

30/10/2025

انخفاض الخصوبة وتحدي الهوية


هذه خلاصة نقاش حول العوامل البنيوية التي تضغط على توجهات السياسة في أوروبا الغربية في الوقت الحاضر. وتلعب هذه العوامل أدوارا متفاوتة في كافة المجتمعات الصناعية ، كما انها تمثل تجربة متقدمة للمجتمعات التي تتجه نحو الاقتصاد الحديث بشكل عام.

يجدر الإشارة أولا الى فائدة التمييز بين نوعين من التحليل السياسي ، اكثرهما شيوعا هو الذي يركز على التجاذب بين الاطراف الفاعلة في الميدان ، بناء على ان نتائج التجاذب ، وما يكسبه كل طرف وما يخسره الآخر ، هو الذي يشكل الصورة الواقعية للحياة السياسية. اما النوع الثاني فهو الذي يركز على العناصر الجيوسياسية ، أي مصادر القوة وأسباب الضعف الثابتة ، التي لا تتغير بتغير الحكومة ولا البرامج السياسية. فهذه المصادر والأسباب تواصل تأثيرها في المشهد السياسي ، أيا كانت المجموعة الحاكمة.

سوف أركز في هذه الكتابة على انخفاض معدل الخصوبة. وهو أحد العناصر الجيوسياسية المؤثرة على مسارات السياسة. واشرحه مع الاخذ بعين الاعتبار تفاعله مع نموذج "دولة الرفاه" ، الذي تقوم عليه الدولة الأوروبية. وربما نعود للحديث عنه بشكل مستقل في مقالة قادمة.

معدل الخصوبة هو عدد الولادات المتوقعة لكل امرأة. ويجب ان لا ينزل دون 2.1 مولود لكل امرأة ، للحفاظ على نفس عدد السكان من دون هجرة. ولهذا أطلق على هذا الحد اسم "معدل الخصوبة الاحلالي". ولو اردنا المقارنة ، فان السعودية مثلا تحظى بمعدل مرتفع نسبيا ، أي 2.3 مولود حي لكل امرأة. اما في دول الاتحاد الأوروبي فقد انخفض المعدل الى 1.34 مولود لكل امرأة في عام 2023. معدل الخصوبة مهم ، لأنه هو الذي يحدد قابلية المجتمع لتوفير اليد العاملة الضرورية لتحريك العجلة الاقتصادية. فاذا تناقص عدد المواليد ، تناقص معه عدد الأشخاص المهيئين للعمل ، بينما يزداد بشكل معاكس ، عدد المتقاعدين الذين يحتاجون لم ينفق عليهم. في الوقت الحاضر تصل نسبة كبار السن (65 عاما وأكثر) في الاتحاد الأوربي ، الى 21.6 بالمائة من السكان. وهي نسبة تتصاعد باستمرار.

انخفاض عدد العاملين ، يعني تقلص الحراك الاقتصادي ، ومن ثم انكماش موارد الدولة ، التي تعتمد على الرسوم والضرائب. وهذا يقود طبعا الى زيادة الضغوط على نظام الخدمات العامة ، وتجميد أي توسع او تطوير يتطلب استثمارات كبيرة.

جرب عدد من الدول لا سيما فرنسا والسويد ، تشجيع الانجاب ، لكن هذه السياسات لم تلق نجاحا يذكر. الحل الآخر الذي يبدو معقولا ، هو السماح بالهجرة الواسعة. المانيا مثلا حصلت على 1.5 مليون مهاجر في 2022 و660 الف مهاجر في 2023. وتقول ارقام رسمية ان تدفق 200 الف مهاجر سنويا يضيف للاقتصاد الألماني نحو 100 مليار يورو على المدى الطويل. أي ان الهجرة تولد قيمة اقتصادية صافية ، رغم انها تبدو – في اول الامر – مكلفة. في الوقت الحاضر يمثل المهاجرون 25% من الشعب الألماني.

لكن الهجرة الواسعة ليست بلا تبعات. فقد أطلقت شعورا بالقلق من فقدان الهوية او تحولها. الواقع ان الحكومات الأوروبية تحاول علاج هذا المشكل ، بالتركيز على قيمة التنوع الثقافي باعتباره جزء حيويا من الهوية الوطنية. ولتأكيد هذا الاتجاه تشجع المهاجرين على المشاركة في الحياة السياسية ، وقد تولى بعضهم فعليا مناصب وزارية وعضوية البرلمان. لكن كثيرا من السكان ، لاسيما المحافظين التقليديين ، يتساءلون بقلق: هل سيتحول المهاجرون من محكومين الى حكام او مشاركين في حكم بلدنا؟.

ربما يجيب بعضهم ، لاسيما من السياسيين التقدميين: وماذا في ذلك ، طالما ان المهاجر يعمل مثل المواطن الأصلي ، ويؤدي واجباته الضريبية ، ويشعر ان هذا وطنه ، تماما مثل بقية المواطنين ، فهل نشعر بالقلق لمجرد اختلاف لونه او دينه او طريقة عيشه؟.

على السطح ، تبدو هذه أسئلة بسيطة ويبدو جوابها بديهيا. لكنها تخفي – في واقع الامر – تعقيدا شديدا ، ويختلط فيه المنطق بالعاطفة وانعكاسات التجربة التاريخية ، على نحو يستحيل ان تعالجه الأجوبة البسيطة.

الشرق الأوسط الخميس - 08 جمادي الأول 1447 هـ - 30 أكتوبر 2025 م

https://aawsat.com/node/5203041

16/10/2025

رحلت الحافلة ، فماذا ستفعل؟.

روى شاب مصري موقفا شهده يوم سافر من مكة للرياض في 2023. وخلاصتها انه ذهب للصلاة عندما توقفت الحافلة عند محطة بنزين ، فلما عاد اكتشف انها رحلت ، فاحتار في امره لان حقيبته وأوراقه في الحافلة ، وهو لا يعرف الطريق ولا كيف يتصرف ، فلقيه سائق شاحنة ، سأله عما به ، ثم اخبره ان يهاتف "ادارة امن الطرق". وخلال دقائق وصلت سيارة شرطة ، اخذته الى الحافلة التي اوقفتها الشرطة عند نقطة التفتيش. يقول الرجل في نشرة على "فيس بوك" انه مذهول ، لأن الناس والشرطة كانوا راغبين في مساعدته بكل مودة ، ومن دون ان يعرفوه او يوصي به أحد.

لو سألت أي شخص عن رأيه في هذا الموقف ، لامتدح كافة الأشخاص الذين شاركوا فيه ، وامتدح المجتمع الذي يعزز اخلاقيات الدعم والتكافل هذه. نعلم ان الناس يميلون بقوة للتعاضد حيثما امكنهم ، ويعتبرون هذا من الفضائل والمكارم. وهذا واضح أيضا في عشرات التعليقات على النشرة ، التي أكد أصحابها انهم يعرفون مواقف مماثلة.

هذا لا ينفي طبعا ، ان بعض الناس الذين يحبون سلوكا كهذا ، لن يفعلوه لو كانوا في نفس الموقف ، او لعلهم سيطلبون مقابلا ماليا للمساعدة. وأذكر قصة سمعتها من صاحبها ، وخلاصتها انه يملك سيارة كبيرة يستعملها لسحب السيارات المتعطلة. وقد اعتاد أن يذهب عصر الخميس والجمعة (يوم كان الخميس عطلة) الى منطقة صحراوية يمارس فيها الشباب هواية السباق على الرمال ، التي يسميها اهل بلدنا (التطعيس). يقول الرجل ان عدد السيارات التي تنقلب او تحتاج للمساعدة لايقل عن سبع في كل يوم ، وانه يحدد أجرته عن المساعدة تبعا لماركة السيارة وقيمتها. فالسيارة الغالية يفرض عليها 2000 ريال والرخيصة 500 ريال ، وهكذا. وقال انه يجني معظم دخله من هذا العمل. وفي وسط الكلام ، قال انه كثيرا ما ترك أشخاصا مع سياراتهم ولم يساعدهم ، لانهم لم يدفعوا المبلغ المطلوب. سألته: الم تشعر بتأنيب الضمير حين تترك شابا وراءك وسط الصحراء ، مع سيارة محطمة؟. فاجابني انه لم يندم ابدا ، لأنه في الأساس ذهب للعمل وكسب المال وليس للمساعدة.

افترض ان بعض القراء سيتفهم هذا العذر ، وسيرفضه آخرون ، نظرا للوضع الخاص لطرفي العلاقة ، السائق وطالب العون. سيقول أولئك ان الذين يتسابقون يلهون ويستمتعون بالمخاطرة ، فلماذا نفترض انهم يستحقون العون ، ولا سيما من شخص يعيش على هذا النوع من العمل ، هذا اشبه بصياد سمك ، ندعوه للتبرع بانتاجه لمن يحتاج الاكل ، فاذا فعل ، فمن سيطعم أطفاله؟.

اما الذين يرفضون موقفه ، فسوف ينظرون الى عواقب تركه لاولئك الشبان بمفردهم في الصحراء ، حيث يواجهون مخاطر ، غير مؤكدة لكنها واردة. وهم يفترضون ان على الانسان ان يقدم تنازلات أحيانا ، حتى لو كانت على حساب حاجاته وما هو ضروري له.

أميل الى رؤية المفكر المعاصر "ايزايا برلين" الذي رأى ان الفعل الأخلاقي في موقف كهذا ، ليس واحدا ولا ثابتا. ذلك ان العقلاء يبنون مواقفهم على مزيج من القيم ، مادية ومعنوية ، تتغير مواقعها وتأثير كل منها بحسب تفصيلات المسألة المطروحة فعلا. في المثال الذي امامنا ، يتاثر الموقف بالوقت (ليلا او نهارا) ووجود اشخاص اخرين ، ومدى حاجة الطرف الأول للمال والثاني للعون ، وتوفر البدائل ، ونوعية المخاطبات التي جرت بين الاثنين ، بل حتى طبيعة الأرض والطقس والبعد عن المدينة. تدخل هذه العوامل كلها في تكوين الموقف الأخلاقي الذي يتخذه العقلاء عندما يواجهون حالة كالتي ذكرناها.

ليس من الأخلاقي ان ترهن علاقتك بالناس ، بمقدار ما يدفعون لك. فلعلهم لا يذكرونك يوم يستغنون عنك ، فهل تريد حياة كهذه؟. كما لا يمكن – في واقع الحياة – ان تتحول الحياة كلها الى تطوع وتطوع مقابل ، فهذا يخالف طبيعة الانسان وفطرته.

الشرق الأوسط الخميس - 23 ربيع الثاني 1447 هـ - 16 أكتوبر 2025 م

https://aawsat.com/node/5197804 

09/10/2025

من اقتصاد السوق الى مجتمع السوق

 

في سبتمبر الماضي نشر د. فهد الخضيري ملاحظة للطبيب المصري د. يحي النجار ، يقول فيها انه شهد سيدة فقيرة بحذاء بلاستك تدخل عيادته ، فيصرف خمس دقائق على فحصها ، فتدفع له ما يكسبه زوجها من عمله في أسبوع عمل كامل. ثم يستدرك ان هذا عمل تستحي منه الإنسانية. ولهذا قرر جعل فحص الفقير والطفل اليتيم مجانيا. وقد حصدت الرسالة تفاعلا استثنائيا ، من جانب رواد منصة التواصل الاجتماعي "اكس".

قبل هذا ، في 26 فبراير الماضي ، عثر عامل صيانة ، بمحض الصدفة ، على جثة الممثل الشهير جين هاكمان ، الذي توفي بعد أسبوع تقريبا من وفاة زوجته في الغرفة المجاورة. يرجح ان الزوجة توفيت في 11 فبراير وتوفي هاكمان ، الممثل الحائز على جائزة الاوسكار مرتين ، في 17 فبراير. الجيران الذين تحدثوا للصحفيين ، قالوا ان الزوجين كانا منعزلين ، نادرا ما يزورهما أحد ، رغم ان هاكمان لديه ثلاث بنات من زواج سابق ، وبالطبع ، الكثير من زملاء وأصدقاء العمل. لكن أيا من هؤلاء ومن الجيران ، لم يفتقد الزوجين ولم يسأل عنهما طيلة أسبوعين على الأقل.

جين هاكمان

سيدة على صلة بالزوجين ، قالت فيما يشبه رثاء الذات ، ان حياة الناس تحولت الى ركض وراء المال. حتى العلاقة مع الاهل والأصدقاء باتت تقاس بالعائد او الفاقد المالي ، وكذا الخدمات البسيطة التي اعتاد الناس تقديمها لبعضهم ، تأكيدا للمحبة او الشفقة. فاذا بلغ الشخص خريف العمر ولم يعد مفيدا تجاريا ، فسوف تنتهي حياته الاجتماعية ، وسوف ينتقل الى هامش الحياة ، مثل سيارة قديمة تنقل بعد سنين من الاستعمال ، الى ساحة التشليح او حاشية الطريق.

الذي يجمع بين قصة الطبيب النجار وقصة الممثل هاكمان وامثالها ، هو ان الوقت الاجتماعي بات سلعة. أناس كثيرون باتوا يأبون إنفاق وقتهم في أشياء ضرورية جدا لأشخاص آخرين. يمكن ان يكون هؤلاء الاخرون أبا او اخا او صديقا او مريضا فقيرا او طفلا ، او أي شخص وضعته الحياة في طريقنا ، فهل نحن مستعدون لابطاء حركتنا ، او حتى التوقف من أجل ان نتعرف عليه او نساعده او نعطيه أملا؟.

يعتقد البروفسور مايكل ساندل ، وهو فيلسوف أخلاقي معاصر ، ان المشكل ليس البخل او قلة الأدب او قلة الاكتراث ، بل الانزلاق الذي لا نلاحظه بدقة ، من شعار "اقتصاد السوق" الى واقع "مجتمع السوق".

خلال الخمسين عاما الماضية ، بات اقتصاد السوق قرينا للازدهار والرفاهية. بل ان الفيلسوف المعاصر روبرت نوزيك ، اعتبره سبيلا وحيدا لاقامة العدالة في توزيع الثروة والفرص. وبشكل عام ، ورغم كل عثرات هذا النموذج ، فان التجربة العملية تؤكد فرضية انه الآلية الأكثر كفاءة لتنظيم الإنتاج والتوزيع ، والعون الأكبر لتحويل الأفكار الى محرك للابتكار والثروة.

معظم الناس يدعمون هذه الفكرة. لكن بعضهم أشار دائما الى مجال لا يمكن لاقتصاد السوق ان يعالجه بشكل جيد. خذ مثلا ظاهرة المشردين الذين تعج بهم المدن الكبرى في القارتين الامريكية والأوروبية ، الذين يعيشون في الخرائب او ربما على الرصيف ، لأنهم لا يملكون سكنا ولا المال اللازم لاستئجار مسكن. وخذ أيضا رفض المستشفيات الخاصة علاج حالات طارئة لان المريض ليس مسجلا في نظام التامين الصحي ، حتى ان بعض الناس توفوا في انتظار الموافقات وتأمين الأموال..

يتحول المجتمع الى سوق ، وتمسي الحياة الاجتماعية امتدادا للسوق ، اذا بات كل شيء يشترى بالمال ، بما فيه الصداقة والمحبة والتعاطف والوقت الاجتماعي والكرامة والفرح والحزن والألم والسعادة. قد يبدو هذا الكلام مبالغا نوعا ما. ولحسن الحظ فلازال المجتمع العربي بعيدا عن هذه الحالة. لكن انظر لما تنشره الصحافة ومنصات التواصل الاجتماعي ، من امثلة شبيهة لما ذكرته في السطور السابقة ، ثم سائل نفسك عن مصدر هذه الحالات واسبابها.. سترى الجواب واضحا تماما.

الشرق الاوسط - الخميس - 17 ربيع الثاني 1447 هـ - 9 أكتوبر 2025 م   https://aawsat.com/node/5195279

 

02/10/2025

العقل في المرحلة الأوروبية

العقل المعاصر نتاج لعصر النهضة الأوروبية. لكنه لم ينحصر في أوروبا ، بل بات أقرب الى نموذج كوني ، يمثل حقيقة الانسان في هذه المرحلة من تاريخ البشرية. أعلم ان غير الأوروبيين لا يرتاحون لهذه النسبة. فهي تقلل - ضمنيا - من قيمة اسهامهم  في انتاج الفكر الإنساني والتجربة التاريخية للبشر بشكل عام. وقد يظن بعض المسلمين ان الفارق الديني هو المحرك لكلا الموقفين ، الاستهانة الغربية والرد عليها. لكني وجدت مفكرين من خارج هذين السياقين يعبرون ، صراحة او ضمنيا ، عن موقف مشابه. من يقرأ اعمال امارتيا سن ، الفيلسوف والاقتصادي الهندي الحائز على جائزة نوبل ، سيلاحظ ان الثقافة الهندية حاضرة بكثافة في كل كتاباته تقريبا ، رغم انتمائه للتقليد العلمي الأوروبي.

أمارتيا سن

أردت البدء بهذا التمهيد تنبيها للقاريء الى حدود التعميم الذي سيظهر في ثنايا المقال. والحق اني انظر لتطور مفهوم العقل وانتسابه للحضارات المتعاقبة ، من زاوية لاتتصل ابدا بتقييم تلك الحضارات والمراحل. اعتقد ان تاريخ البشر تجربة واحدة ممتدة ، تتنوع وتتصاعد باستمرار ، وتتشكل في إطارات مختلفة ، لغوية او جغرافية او دينية ، بحسب مايتوفر من عوامل بعث أو خطوط انكسار. من هنا فان الأديان والحضارات والحروب والتجارب العلمية ، تشكل كلها طبقات في بناء واحد. لا شك عندي ان جانبا مهما من نضج الثقافة الإسلامية القديمة وعمقها ، ثمرة لاتصال المسلمين بالثقافات السابقة ، كاليونانية والصينية والهندية والفارسية والافريقية وغيرها. وبالمثل فان الثقافة الاوربية المعاصرة امتداد لتلك الثقافات ومنها الإسلامية. نعلم أيضا ان قابلية الثقافة للتطور ، رهن بقدرتها على التفاعل مع الثقافات المختلفة وإعادة انتاج مفاهيمها ضمن نسيجها المحلي. ولهذا السبب خصوصا ، ذكرت في كتابة سابقة ان ضعف النشر العلمي باللغة العربية ، يرجع في جانب منه ، الى ما أظنه تعقيدا مبالغا فيه للشكل اللغوي والقواعد النحوية والبلاغية ، بحيث باتت فرصة الكتابة العلمية بالعربية ، قصرا على من يجيد قواعدها النحوية والبيانية اجادة تامة.

بالعودة الى صلب الموضوع ، فان العقل المعاصر  يمتاز بسمات أساسية يشكل مجموعها خطا فاصلا عن عصور العقل السابقة. أذكر هنا ثلاثا من تلك السمات:

1-     الفصل بين المعرفة والقيمة. اذ لم يعد التفكير في القضايا ، متقيدا بقيمتها المستمدة من موقعها الاجتماعي او التاريخي او الديني. ربما يتقيد الباحث بقيمه الخاصة في مرحلة مابعد الاستنتاج ، لكنه في مرحلة الملاحظة والبحث وصناعة الفكرة ، ينبغي ان يتحرر من كل قيد. تتعاضد هذه المقولة مع قاعدة ان حرية التفكير والاعتقاد والتعبير ، جزء أساسي في مفهوم كرامة الانسان وقيمته كموجود عاقل.

2-     العقل نفسه ينظر اليه الآن ككون مستقل عن الأرضية الثقافية التي ولد فيها (او بالأحرى ينبغي ان يكون هكذا). لكن نتاج العقل لا يعد مطلقا ولا مستقلا. بات متفقا عليه ان العقل يتشكل بتأثير تجربة الانسان الحياتية ، التي تعكس الى حد كبير شروط بيئته وما يتجاذب فيها من تيارات. من هنا فان نتاج العقل لم يعد تعبيرا عن الحقيقة ، بل هو معرفة مؤقتة او رأي شخصي ، قد يتحول الى توافق عام اذا عبر القنوات الخاصة بتعميم الأفكار ، كمؤسسات الصناعة والبحث العلمي والهيئات التشريعية.

3-     التمييز بين استقلال العقل في الأصل ، وتبعيته الواقعية لشروط البيئة الاجتماعية ، تظهر أهميته في التمييز الضروري بين دورين يقوم بهما ، دور يسمى "العقل العملي" ووظيفته فيه هي ربط الانسان بما حوله وتيسير حياته ، أي ادراجه في شبكة الأعراف السائدة ، ودور يسمى "العقل النظري" ووظيفته نقد اعراف وتقاليد البيئة والثقافة ، ومحاولة تحرير الانسان من قيودها بإنتاج بدائل لها ، تتحول بالتدريج الى تقاليد في دورة اعلى ، وهكذا. العقل اذن تابع في مرحلة ومتمرد في مرحلة تالية.

 هذا ما اتسع له المقام. ولعلنا نعود للموضوع في قادم الأيام.

 الشرق الاوسط الخميس - 10 ربيع الثاني 1447 هـ - 2 أكتوبر 2025 م   https://aawsat.com/node/5192734

مقالات ذات صلة

اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح
اصلاح العقل الجمعي
اناني وناقص .. لكنه خلق الله
تعريف مختلف للوعي/ تحييد صنم القبيلة
الثقافة كصنعة حكومية
الرزية العظمى
العقل الاخباري
عقل الصبيان
العقل المساير والعقل المتمرد
العقل المؤقت
ما رايك في ماء زمزم؟
من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي
من تقليد الى تقليد ، عقل معماري وعقل هدام
هل العقل كاف لانتاج القيم والاحكام؟
هل جربت صنم الكهف؟
اليد الخفية التي تدير العالم

25/09/2025

العقل الناقص .. العقل المخيف

 بعض القراء الأعزاء افترض ان ما ورد في مقال الأسبوع الماضي ، يدحض حجة الذين انكروا دور العقل في صناعة القيم ، سواء كانت دينية او غير دينية. وقد ذكرت هناك ان العقل هو الذي مهد للإنسان طريق الايمان ، حين اكتشف التوحيد وانطلق منه لفهم الكون والطبيعة. فكيف اتكلنا على العقل في اعظم القيم واعلاها ، وانكرنا دوره في الفرعيات وتفاصيل الحياة؟.

مايكل ساندل

ان التأكيد على محورية العقل وأهمية دوره ، لا يعني ان منكري هذا الدور جهلة او متنطعين. فهم كغيرهم من أهل العلم ، يتبعون منهجا محددا في الوصول للحقائق ، وعلى أرضية هذا المنهج أقاموا حججا قد لا ترضي مخالفيهم ، لكنها ليست بلا أساس. أقول هذا طمعا في اقناع أصدقائي بالانصاف ، حين يجادلون فكرة او يتخذون موقفا. مجادلة الأفكار ليست حربا مع المخالف. ومثلما أعطيت نفسك حقا في تبني فكرة او موقف دون استئذان مخالفيك ، فجدير بك – ان كنت محبا للعدل – ان تقر لهم بنفس الحق ، بلا نقص ولا تطفيف.

الذين أنكروا دور العقل في صناعة القيم الأخلاقية والدينية ، لديهم نوعان من الحجج ، بينهما تداخل واضح. النوع الأول خلاصته ان تلك القيم وظيفتها توجيه الانسان نحو الكمال. فينبغي ان تصدر عن كامل. ونعلم أن  العقل البشري ليس كاملا ولايدعي الكمال. فكيف يكون هذا الناقص صانعا للقيم وميزانا لقياس جودة الصناعة في آن واحد. هذا اشبه بجعل المدعي قاضيا ، او نظيرا لحبيب المتنبي الذي قال فيه "فيك الخصام وانت الخصم والحكم". هذه الرؤية شائعة بين الاتجاهات الدينية ، التي تنادي بجعل تعاليم الوحي مصدرا وحيدا او مرجعا أعلى للقيم الدينية والأخلاقية. لكنهم يتساهلون في منح العقل دورا كاملا خارج هذا الاطار.

اما النوع الثاني من الحجج ، فخلاصته ان عمل العقل يتسم – عموما – بأنه تجريبي ، يتعلم الصحيح بعد ارتكاب الخطأ. الحياة عموما تجربة متصلة ، تتألف من عشرات التجارب الصغيرة تشكل حياة الانسان اليومية. أخطاء التجارب قابلة للاحتمال ، طالما بقيت في إطار الحياة الفردية ، او حتى حياة عدد قليل من الناس. لكن هل يصح تحويل حياة البشرية كلها ، أو حياة بلد بكامله ، الى موضوع لتجربة ذهنية أو مادية ، يجريها شخص واحد او بضعة اشخاص؟.

كنت قد نقلت في نوفمبر الماضي القصة التي ذكرها برنارد ويليامز ، الفيلسوف المعاصر ، عن "جيم" الرحالة الذي وضعته أقداره امام خيار مرير: ان يقتل شخصا واحدا بلا ذنب ، كي ينجو 19 من رفاقه ، او يمتنع فيموت الجميع. أورد ويليامز القصة في سياق نقده للفلسفة النفعية التي تعتبر الفعل صحيحا (أو عادلا) اذا حقق منفعة اعظم لعدد اكبر من الناس ، ولو تضرر جراءه عدد قليل او كان الضرر بسيطا. مثل هذه القصة يتكرر كثيرا في الحياة العامة. وتحدث عن نظائر لها مايكل والزر في مقالته الشهيرة "الفعل السياسي: مشكلة الايدي القذرة" وقد عرضنا لبعض ما ذكره في مقال سابق. كما تحدث عن الموضوع نفسه مايكل ساندل في سلسلة محاضرات بعنوان "ما الذي يصح فعله". والحق ان مواجهة هذا الخيار ليس بالأمر الهين ، لكنه يمثل تجسيدا لنوع من التجارب الحياتية التي يواجهها الناس يوميا في اطار حياتهم الخاصة ، ويواجهها السياسيون والعلماء حين يخوضون تجارب يتأثر بها ملايين من الناس.

ترى ما الذي ينبغي للرحالة ان يختار. اعلم ان كثيرا من الناس سيختار قتل فرد واحد كي ينجو البقية. لكن هل هذا هو الفعل الصحيح؟. مثل هذه التجارب العسيرة التي تتداخل فيها مبررات عقلية وعاطفية وإرادات متباينة ، هي التي تدعو الاخباريين الى اعفاء العقل من هذه المهمة وايكالها الى قوة أعلى يقبل الناس جميعا بخياراتها. هذه القوة هي الخالق سبحانه او قانون الطبيعة ، او أي قوة أخرى لديها مسطرة واحدة لا ترجح أحدا على احد حين تختار.

الشرق الأوسط - الخميس - 03 ربيع الثاني 1447 هـ - 25 سبتمبر 2025 م  https://aawsat.com/node/5190079

مقالات ذات علاقة

"اخبرني من اثق به..."

ثنائية الاتباع والابتداع
حين تكره الدنيا: طريق البشر من الخرافة الى العلم

طرائف التاريخ وأساطيره
عقل الاولين وعقل الاخرين
عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي
عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات
الفكــرة وزمن الفكـرة

العقل الاخباري

الفعل السياسي: مشكلة الأيدي القذرة

كهف الجماعة
مهابهاراتا.. أعظم ملحمة في تاريخ الانسان
هل العقل كاف لانتاج القيم والاحكام؟
هل جربت صنم الكهف؟

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

18/09/2025

العقل الاخباري

 منذ قديم الزمان وحتى اليوم ، عرف المجتمع البشري أشخاصا ، يرون الكون فوضى: أجزاء تتحرك في كل اتجاه ، من دون ترابط بين حركة وأخرى أو تفاعل بين جزء وآخر ، أو سبب أو علة تفسر هذه الحركة او تلك. في الماضي السحيق ظن بعض البشر ان آلهة تغضب او ترضى أو تتصارع ، فينعكس ذلك في حركة النظام الكوني. إله البحر يغضب فيحرك الأمواج العاتية كي تغرق السفن ، أو يرضى فيأتي السمك قريبا من الشواطيء. ويتفاهم إله المطر مع إله الريح فيأتي المطر خفيفا لطيفا ليسقى الأرض العطشى ، فاذا تخاصما تحول المطر سيولا جارفة تهلك البشر والشجر.  

ساهمت الأديان التوحيدية ، ثم الفلسفة ، في اقناع البشر بأن الكون نظام واحد ، متكامل ومعقول ، الامر الذي سمح بالتفكير فيه وفهم العلاقة بين أجزائه. هذه الفكرة حررت العقل البشري من خوف الطبيعة ، وسمحت له بالتطلع لاستثمارها وتسخيرها لتحسين مصادر عيشه. تطور العلوم كان ثمرة لتعمق العقل في فهم الطبيعة ونفوذه الى أعماق قوانينها ، واستيعابه لكيفية انتظامها وتفاعلها مع بعضها.

حين انشق حجاب الغيب وانكشفت أسرار الكون ، برز العقل كقائد لحياة البشر ، فاستبشر به معظمهم. لكن بعضهم شعر بالحيرة إزاء ما سيأتي لاحقا ، وشعر آخرون بالرعب من ان يستثمر فريق منهم القوة الهائلة التي وفرتها عقولهم ، للتحكم في الضعفاء أو حتى استعبادهم. صعود العقل لم يكن مريحا لكثير من الناس.

حوالي القرن الرابع عشر الميلادي ، شهد العالم القديم كله تقريبا ، من غرب اوربا الى الهند ، تراجعا في حركة العلم (ومن ضمنه علم الدين) وصعودا مفرطا في أهمية القوة العسكرية. ونعرف أن هذا النوع من التطورات يؤدي لانحسار الأمان النفسي (الطمأنينة) عند عامة الناس ، فيجري التعويض عنه بنمط ثقافي يلعب دور السلوى والمواساة.

يؤدي بروز هذا النمط الثقافي (نمط السلوى والمواساة) الى شيوع الوظائف التي تخدمه ، وأبرزها تأليف وتلاوة القصص الشعبي (السوالف حسب التعبير الدارج في الخليج) وممارسة السحر وادعاء قدرات خارقة. ويجري تسويق هذا النمط بتضمينه مواعظ وتوجيهات او اقاصيص منتقاة من حوادث التاريخ. ان العامل الأكثر تأثيرا في شيوع ثقافة السلوى وازدهار عمل القصاصين ، هو اخفاق المجتمعات في حل مشكلاتها ، من الفقر الى القهر او الشعور بانسداد الآفاق.

هذه هي الأرضية التي ينبت فيها العقل الاخباري. منطلق العقل الاخباري هو التسليم بمعيارية النص المروي ، وكونه تلخيصا صادقا للنموذج الأمثل. انه عقل ينشد الكمال. لكن ليس من خلال اجتهاده الخاص ، ولا مكابدة الاكتشاف والتعمق في فهم العالم ، بل من خلال مطابقة السلوك الحياتي الحاضر ، بالنموذج الذي جرى تبجيله ، لسبب ديني او دنيوي. جوهر الخطاب هنا يعبر عنه القول المنسوب الى الامام مالك "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها". وللمناسبة ، فهذا المسلك ليس حكرا على المسلمين ، فكل الأمم فيها تيار واسع يذهب هذا المذهب. ولدى كل منهم مبررات جديرة بالتأمل.

يتسلح العقل الاخباري بمكتبة ضخمة ، مليئة بتراث الأقدمين من نصوص معيارية وآراء وأحكام وتجارب حياتية. هذه المكتبة تحولت الى حياة كاملة عند بعض الناس ، يتحدث بها وعنها ، ويجادل دونها ، ويعيد قراءتها وشرحها ، وتحقيق شروحات السابقين عليها. وثمة جدال ينهض فترة ويتراخى فترة أخرى ، محوره سؤال متكرر بنفس الشكل والجوهر ، فحواه: هل ثمة شيء وراء هذه المكتبة ، نبحث فيه عما يصلح حياتنا ، ام ان معرفة الدين ومراداته وأسراره ، كلها مخزونة في رفوفها؟.

العقل الاخباري شديد الفخر بمكتبته ، فكلما ناقش أحد مسألة من مسائل الدنيا ، استل الاخباري رواية من هنا او هناك ، فشهرها امام المتحدث لايقافه عن كل قول مختلف عما ورد في الرواية. اليس "كل الصيد في جوف الفرا"  كما قال العربي القديم؟.

الشرق الأوسط الخميس - 26 ربيع الأول 1447 هـ - 18 سبتمبر 2025 م

https://aawsat.com/node/5187446

مقالات ذات علاقة

"اخبرني من اثق به..."
الاستدلال العقلي كاساس للفتوى
أصنام الحياة
الاموات الذين يعيشون في بيوتنا
ثنائية الاتباع والابتداع
حين تكره الدنيا: طريق البشر من الخرافة الى العلم
دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم
الـدين والمعـرفة الدينـية
رأي الفقيه ليس حكم الله
طرائف التاريخ وأساطيره
عقل الاولين وعقل الاخرين
عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي
عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات
الفكــرة وزمن الفكـرة
في رثاء د. طه جابر العلواني
كهف الجماعة
مهابهاراتا.. أعظم ملحمة في تاريخ الانسان
هل العقل كاف لانتاج القيم والاحكام؟
هل جربت صنم الكهف؟
هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه



11/09/2025

هل العقل كاف لانتاج القيم والاحكام؟

 النقاش الدائر حول "اصنام العقل" الأربعة ، الذي عرضنا طرفا منه في الأسبوعين الماضيين ، محركه سؤال محوري ، شغل بال المفكرين قرونا متطاولة. فحوى السؤال: هل يمكن الاعتماد التام على العقل في انتاج القيم الأخلاقية؟.

سقراط

افترض ان غالبية الناس ، سيضحكون ساخرين. ولعل بعضهم يقول: ان لم نثق بالعقل ، فما الذي نثق فيه ، وهل توجد وسيلة أخرى لانتاج المعرفة والمعنى ، غير العقل؟.

الحقيقة ان أناسا آخرين قد أجابوا فعلا ، قائلين انه يوجد مصدر آخر اعلى من العقل ، أو ان العقل بحاجة الى ميزان يرجع اليه ، كي يتحقق من صحة احكامه.

من الواضح ان الشك في كفاية العقل ، راجع لوجود عوامل تؤثر عليه ، فتجعله منحازا في أحكامه او متعثرا في فهمه للموضوعات. إن "أصنام العقل" المذكورة ، مثال على تلك العوامل التي تأخذ العقل بعيدا عن الصواب. وقد أسلفنا القول بان بعضها كامن في نفس الانسان ، وبعضها في محيطه الثقافي/الاجتماعي ، وهي تتعاضد في توجيه العقل نحو مسار محدد ، منحاز غالبا ، وبالتالي فلن نتيقن من سلامة ما يتوصل اليه.

نعرف من الفلسفة القديمة رؤية سقراط وتلاميذه ، التي أقامت منظومات الاحكام والقيم على أرضية القانون الطبيعي. وخلاصة هذه الفكرة ان العالم نظام متقن ، تتحرك اجزاؤه في مسارات دقيقة ، كي تحقق غايات وأغراضا ذات أهمية لحياة البشر. هذه الغايات هي التي تضفي على النظام قيمته وهي التي تخبرنا عن حقيقته.

انطلاقا من هذه الرؤية ، قالوا ان أفضل نظام اجتماعي ، هو الذي يستلهم مسارات النظام الكوني وأغراضه. بعبارة أخرى فاننا نحكم بصحة المعارف التي ينتجها العقل ، إذا تلاءمت مع نظام الطبيعة ، الذي نعرف سلفا انه صحيح وكامل.

بنفس المقياس ، فقد افترض هذا التيار الفلسفي ان القيم الأخلاقية الكبرى ، موجودة في نظام الطبيعة ، من قبل ان يتوصل اليها الانسان. لان الاخلاق في أبسط صورها ، هي الملاءمة بين ما يريد الانسان فعله ، وبين ما ينبغي له فعله ، أي بين الصورة الواقعية والصورة النموذجية للفعل. هذه الصورة النموذجية هي التماثل التام مع متطلبات النظام الطبيعي. من هنا قالوا بأن العقل لا ينتج القيم الكبرى والاخلاقيات ، بل يستمدها من النظام الطبيعي.

انتقلت هذه الرؤية الى المجتمع المسلم ، حين انفتح على علوم الأمم الأخرى. وقد أثرت بقدر ما. لكن المفكرين المسلمين طوروا نموذجا بديلا ، حين أضافوا الوحي كمصدر للمعرفة والاخلاقيات ، وقللوا بقدر ما من دور النظام الطبيعي. ثم انقسم الفكر الإسلامي الى اتجاهين: اتجاه "اخباري" شدد على محورية الوحي ونصوصه الصريحة ، واتجاه اعلى من شأن العقل ، وربما قدمه على نصوص الوحي. وابرز رموز هذا الاتجاه هم "المعتزلة" الذين قالوا ان العقل دليل كامل ، ولولاه ما عرفنا الله ولا وجوب طاعته ، ولا عرفنا ضرورة الرسل  وصدق الرسالات. ان الله خلق العقل وجعله رأس كل الموجودات في العالم ، وأرجع اليه قيمة الانسان. فالانسان العاقل هو المخاطب بأوامر الله وتعاليمه ، وهو خليفته في أرضه. كما قالوا بان الخلق والرزق والعقائد واحكام الشرع ، ترجع في منطلقاتها وبنيتها ومبرراتها ، الى قواعد علمية او منطقية يقبلها العقلاء. ولذا فالعقل مصدر منفرد للتشريع. ولتبرير هذا الرأي الخطير ، توسعوا في التأسيس المنطقي لقاعدة "التحسين والتقبيح العقليين". وخلاصتها ان كل فعل بشري ينطوي في ذاته على قبح او حسن ، قابل للادراك بواسطة العقل. فاذا تعرف  العقل على حسن الفعل أو قبحه ، بات قادرا على الحكم بالمكافأة او العقاب. وهذا هو جوهر فكرة الامر والنهي الإلهي.

هذا ما اتسع له المقام اليوم ، وآمل ان نعرض رؤية الاخباريين ، والمرحلة الأوروبية في قادم الأيام بعون الله.

الشرق الأوسط الخميس - 19 ربيع الأول 1447 هـ - 11 سبتمبر 2025 م

https://aawsat.com/node/5185007

مقالات ذات صلة

 

ماذا يفعل السياسيون؟

" السياسة بوصفها حرفة " رسالة صغيرة الحجم ، وهي في الأصل محاضرة مطولة القاها عالم الاجتماع المعروف ماكس فيبر ، امام اتحاد الطلبة ...