01/10/2007

دين البشر

 

أود ان يشاركني القراء الاعزاء في الاستفادة من هذا الكتاب القيم الذي صدر حديثا للاستاذ الشيخ حميد المبارك القاضي بمحكمة الاستئناف في البحرين وعنوانه «مقالات في فهم الدين». يطرح الكاتب العديد من القضايا المثيرة للجدل ويُعالجها بأسلوب هادئ متين ويُدلل على آرائه تارة بنصوص من القرآن والسنة وتارة أخرى بأدلة عقلية كما يستشهد بآراء لعلماء اجلاء قدامى ومعاصرين.

الشيخ حميد المبارك

يشير عنوان الكتاب الى الإشكالية الرئيسية التي تمثل محور مقالات الكتاب، الا وهي التمييز بين الدين في صيغته الاولى كنص مجرد، وبين الدين بعدما تتناوله الافهام المختلفة والتطبيقات المتباينة للبشر في مختلف الاماكن والازمنة. من الموارد المتفق عليها ان معظم ما يُطبقه الناس ليس النص المجرد، بل هو تفسير ذلك النص، التفسير الذي قدمه أهل العلم والخبراء في الشريعة من فقهاء ومجتهدين في حاضر الزمان او قديمه.

من المعروف ايضا في علم الاجتماع المعاصر ان تفكير الانسان في الأشياء يتأثر بالضرورة بالافق الثقافي والاجتماعي الذي يعيش ضمنه. ولا يختلف الناس في هذا الامر، فعقل الفقيه والمثقف مثل عقل الانسان العادي يتأثر بالبيئة التي هو فيها، بما فيها من افكار وشبكات مصالح ومصادر ضغط وانماط حياة وهموم وتطلعات، وتشترك هذه جميعا في تشكيل انطباعه الاولي عن الموضوعات التي يُفكر فيها، كما تؤثر في تحليله للعلاقة بين الموضوع وبين التكييف النظري (الشرعي او القانوني او العقلي) الذي يسعى للتوصل اليه. ولهذا السبب قيل بأن الاحكام تتغير مع تغير الأزمنة والأمكنة، لأن ظرف الموضوع يُشكل جزءاً من قوامه ومفهومه، كما يُحدد موقعه من منظومة المصالح والمفاسد العرفية التي تختلف بين مجتمع وآخر وبين زمن وآخر.

بذل الكاتب جهدا مشكورا في بيان العوامل المؤدية الى التمايز بين المفاهيم الاصلية المجردة، وبين المفاهيم السائدة عند الناس واهل الشريعة. واشار الى عامل جدير بالتأمل، الا وهو تركيز الفقهاء على استنباط الاحكام واهمالهم دراسة موضوع الحكم. الموضوع الجوهري لجميع التعليمات الدينية هو الانسان. غرض الرسالات جميعا هو الارتقاء بالانسان في حياته المادية الدنيوية. صحيح ان جميع الاديان تركز على تذكير الانسان بالآخرة ووجوب الاعداد والاستعداد لما بعد الموت، لكن الغرض الأساس من هذا التذكير هو تحفيز المؤمن لتقويم حياته وتحسينها والارتقاء بها.

وبالمناسبة فإن هذه النقطة هي واحدة من وجوه التمايز الرئيسية بين الاسلام والمسيحية الكاثوليكية - في نسختها القديمة على الاقل، اي قبل الكالفينية-، فالكاثوليكية تنظر الى الآخرة كنقيض للدنيا وتعتبر الأعلى حظا في الآخرة هو الاقل حظا في الدنيا، بخلاف الاسلام الذي ينظر الى النجاح الدنيوي كمقدمة للفوز الاخروي. ويدعو المسلمين الى التزام الايمان مع السعي نحو التقدم المادي والعلمي والاستقواء والعزة الدنيوية ويعتبر النجاح في الربط بين الجانبين معيارا للصلاح والايمان.

موضوع التشريعات الدينية اذن هو تحرير الانسان والارتقاء بحياته وتوجيهه الى اكتشاف حقائق الكون الكبرى، حتى يقترب من الحقيقة المطلقة. لكن المشهود ان المسلمين، ربما بسبب تخلفهم المادي والعلمي، قد انشغلوا عن دنياهم بالكلام عن دينهم، خلافا لما يظن كثير من الناس من ان المسلمين قد انشغلوا بدنياهم عن الدين. يرى الكاتب ان الفقهاء قد اهملوا التفكير في الانسان، وركزوا بدل ذلك على التفكير في الاحكام. ولهذا فإن معظم الدعاة يجيدون الحديث في الحدود والقيود والضوابط التي «يجب» على الانسان التقيد بها، لكنهم لا يتحدثون، وربما لا يجيدون الحديث عن الانسان نفسه، عن حقوقه وعن حقيقته وعما يحتاج وعما يريد.

 ولهذا السبب ايضا فإن اللغة السائدة بين المؤمنين مُشبعة بالالفاظ التي تشير الى الوجوب والمنع والالزام بشتى اشكاله، لكنها تفتقر الى الالفاظ التي تشير الى الاغراض الدنيوية للدين الحنيف. لا نسمع الدعاة يتحدثون عن حقوق الانسان، وعن ظلم الانسان الفرد، ولا يدعون الناس الى البحث العلمي في الانفس والآفاق والطبيعة، او الهجرة في طلب العلوم المختلفة، ولا يدعون الناس الى تطوير اساليب عيشهم وعملهم، كما لا يسعون الى تطوير نظريات مناسبة في الاستفادة مما يموج في مجتمعات العالم الاخرى من علوم وتقنيات وكشوف واختراعات وتيارات في الفن والفلسفة والادب وغيرها.

 بعبارة اخرى فإن المجتمع الديني قد نسي الدنيا او اغفلها، وانشغل بالكلام في الدين، حتى تضخمت صوره ومعانيه وتطبيقاته وتحول بعضها الى قيد على حركة الانسان بدل ان يكون وسيلة لتحرير الانسان من قيوده الفكرية واغلاله المادية.

تحدث الكاتب عن ضرورة العودة الى مقاصد الشريعة واغنائها بالبحث وايصالها الى المؤمن الفرد باعتباره هو المعني بالدين وهو المخاطب بالنص الديني.

 وهو يؤكد على ان الافراد، ايا كان مستوى معرفتهم الدينية يشتركون في صياغة العرف الديني والفهم الديني، ولهذا فمن الواجب ان يستوعبوا مقاصد التشريع واغراضه الكلية حتى يكون اسهامهم تعزيزا للروح الدينية السامية بدل ان يتحول الى استغراق في الخلط بين التقاليد الاجتماعية والتعاليم الدينية، مآله الزام الفقيه بتكييف آرائه مع ضرورات التقليد الاجتماعي مهما كان متخلفا او غريبا عن روح الدين ومقاصده.


12/09/2007

حتى لا تكون الادارة الحكومية عش دبابير



                                                                                                       ~ينبغي جعل عمل الدوائر الحكومية علنياً ومكشوفاً وتمكين الصحافة والناس من نقد موظفيها }
لا اعرف الذي اطلق على المديرين وكبار الموظفين اسم “المسؤول” ، فهذا اللقب لم يُنقل من تراث العرب القديم . ولعله وضع كترجمة لمسمى الرئيس او المتصدي (officer, principal, director) الذي وصلنا مع انتقال نظم الادارة الاوروبية الى العالم العربي . على اي حال فان اختيار ذلك المسمى ينم عن ذكاء صاحبه ورغبته في نقل جوهر المفهوم الاوروبي الحديث في الادارة الحكومية ، اي كون الوظيفة تكليفا تترتب عليه محاسبة ومساءلة وليست مجرد سلطة للامر والنهي والتصرف.
في سياق نقل التجربة الاوروبية ، تميل معظم الدول العربية اليوم الى اطلاق مسمى “الخدمة المدنية” على منظومة الادارة الحكومية. وقد اقتصر هذا الوصف على العنوان العام ولم يسرِ الى افراد الادارة كما هو الحال في الدول الصناعية . نعرف ان الموظف الحكومي هناك يوصف رسميا بالخادم المدني civil servant ، لكن يبدو ان لهذا المسمى وقعاً ثقيلاً في ثقافتنا ، ولهذا اعرضنا عن استعماله في وصف الموظفين الحكوميين . وعلى اي حال فان اختيار المسميات يعكس رغبة في تحقيق معنى ومضمون الاسم . وفقا لهذا فانه ينبغي ان يعمل موظفو الدوائر الحكومية ، في جميع مراتبهم ، كخدام للشعب ، لا كمتسلطين عليه.
يُعتبر مفهوم “الخدمة العامة” ومفهوم “المسؤولية والمحاسبة” من ابرز ما يميز نظم الادارة الحديثة عن نظيرتها التقليدية.  حين نقول ان فلانا مسؤول ، فهذا يعني – في الاصل النظري على الاقل – انه معرض للمساءلة على اعماله ، اي ان سلطته غير مطلقة . صاحب السلطة المطلقة الوحيد هو رب العالمين الذي “لا يسأل عما يفعل” اما باقي الناس فهم جميعا معرضون للمساءلة والحساب. الموظف الحكومي يقبض راتبه مقابل خدمة الناس وليس مقابل التسلط عليهم ، لأن اموال الحكومة هي في الاصل وفي النهاية اموال عامة ، اي مملوكة لمجموع الشعب . الموظف بهذا المعنى اجير عند المواطنين ، وليس من المعقول ان يستأجر المواطنون من يهينهم او يعطل مصالحهم او يؤذيهم بمثل “تعال بكرة” ، و “شوف لك احد” و “تعرف الطريق” وامثالها
مثل كثير من المفاهيم والانظمة الجيدة التي تطبق بالمقلوب حين تنتقل الى مجتمعات متخلفة ، فان مسمى “المسؤول” اصبح عندنا علامة على صاحب السلطة ، اي الشخص الذي بيده الامر والنهي والقرار ، والذي يستطيع ان يفعل ما يشاء من دون ان يتعرض للمساءلة والمحاسبة . هذه الخلطة المقلوبة هي نتاج للثقافة التقليدية التي يمكن ان نصفها بالسلطوية ، والتي تخلط بين عنصري الادارة المدنية والسلطة السياسية ، وتنظر الى الاولى كامتداد للثانية
هذه الثقافة ليست حكرا على بلدنا او بلدان العالم الثالث ، فهي موجودة في كل بلاد العالم . لكن المجتمعات المتقدمة اكتشفت سوءاتها مبكرا وحاولت توفير علاجات . من ابرز هذه العلاجات هو اختصار مجال التصرف الشخصي للموظفين ، كبارا كانوا او صغارا ، وذلك بالتوسع في وضع القوانين واللوائح لكل كبيرة وصغيرة ، وجعل هذه القوانين – وليس رأي المدير - معيارا وحكما فاصلا بين الدائرة الحكومية وبين الجمهور.
ومن بين العلاجات الفعالة ايضا ، العلنية او الشفافية ، اي جعل عمل الدوائر الحكومية علنيا ومكشوفا للجميع ، وتمكين الصحافة وعامة الناس من مناقشة كل دائرة وتقييم ونقد موظفيها بأشخاصهم ووظائفهم ، بل نقد القوانين واللوائح التي تنظم عملهم. ومن بين العلاجات المؤثرة هو التغيير المنتظم لاصحاب المناصب ، كي لا يتحول المنصب الى عش للدبابير. على ان أبرز علاج هو توزيع السلطة وتوزيع مصادرها في المجتمع ، وبين أبرز آليات هذا التوزيع هو تعزيز منظمات المجتمع المدني ، تخصيص الخدمات العامة ، وتعزيزر اللامركزية الادارية.
تطوير الخدمة العامة يحتاج اذن الى تغيير في فلسفة الادارة الحكومية وفي البيئة الثقافية الحاضنة لها . وهذا يحتاج الى جهد واسع النطاق تشارك فيه اجهزة الاعلام والتعليم والهيئات التشريعية فضلا عن النخبة الاجتماعية ، وهو يحتاج خصوصا الى مُدونّة لحقوق المواطن يكون لها صفة قانونية عليا ويجري تداولها وشرحها حتى تتحول الى عنصر ثابت في ذهنية كل المواطنين.

عكاظ  12 سبتمبر2007  العدد : 2278

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...