27/03/2019

من الكويت الى نيوزيلندا: "هذولا عيالي..."


حازت جاسيندرا أرديرن رئيسة وزراء نيوزيلندا ، على تقدير زعماء العالم ، نظير ادارتها الحكيمة للأزمة التي أثارتها مذبحة كرايست شيرش ، منتصف مارس الجاري. لقد قيل الكثير في الثناء على هذه الزعيمة الشابة ، وثمة دعوة متصاعدة لترشيحها لجائزة نوبل للسلام.
السيدة ارديرن تستحق الجائزة. ليس فقط لقدرتها الفائقة في ايقاد التعاطف الانساني بين مواطنيها. بل ايضا لانها قدمت تجربة عملية تبرهن على نظرية سياسية ، قلما حظيت باهتمام السياسيين. زبدة النظرية هي ان احياء روح الجماعة ، هو السبيل الاكثر فعالية لصيانة الوحدة الوطنية من تاثير العنف الطائفي والاثني. "احياء روح الجماعة" يتعارض مع الاستعمال واسع النطاق للوسائل الامنية ، كما جرى في الولايات المتحدة بعد الهجوم على نيويورك في 2001 ، وفرنسا بعد الهجوم على صحيفة شارلي ابدو  في يناير 2015.
برهنت التجارب على ان حوادث العنف الاثني (او التي تشير لتازمات اثنية) تولد حالة ارتياب في كل اطراف المجتمع. في مثال نيوزيلندا ، تفترض النظرية ان الارتياب سيتولد بين الاكثرية البيضاء التي ينتمي اليها القاتل (افتراضيا على الاقل). محرك هذا الارتياب هو ترقب رد الفعل الذي يحتمل ان يقدم عليه جيرانهم المسلمون. ان حالة ارتياب كهذه ستشكل ارضية خصبة لتوسع التيار العنصري المعادي للمهاجرين ، كما حدث في اوربا خلال العقود الثلاثة الاخيرة.
من المتوقع بطبيعة الحال ان ينمو اتجاه مماثل ، في وسط الجماعة التي تعرضت للهجوم ، خاصة وان في المسلمين من يحاول تسويق فكرة ان العلاقة بينهم وبين غيرهم ، لا يمكن ان تكون سوى مفاصلة وصراع.
حالة الارتياب المتبادل تؤدي تدريجيا ، الى تزايد نقاط التفارق بين اطراف المجتمع الوطني. وهذا يؤدي الى افشال محاولات الحكومة ، لتوحيد المجتمع واستئصال جذور العنف فيه. في الحقيقة فان هذا هو الذي حدث فعلا ، في معظم الدول التي شهدت صراعات اثنية خلال السنوات الأخيرة. وقد ادى الارتياب الى عزلة مكتومة بين الدولة والمجتمعات المحلية ، سيما في المناطق التي تحوي نقاطا ساخنة ، الامر الذي جعل استعمال الوسائل الامنية – العنيفة غالبا – امرا لا مفر منه.
قدمت الكويت نموذجا للمعالجة جديرا بالدراسة ، بعد الهجوم على جامع الامام الصادق في يونيو 2015. يذكر الكويتيون ان اميرهم الشيخ صباح الاحمد ، حضر في موقع الهجوم بعد اقل من ساعة على حدوثه. وحين اصر المسؤولون الامنيون على خروجه من الموقع ، قال كلمته الشهيرة "هذولا عيالي" اي هؤلاء ابنائي ، في وصف ضحايا الهجوم الارهابي. وهي كلمة تحولت الى امثولة في الثقافة السياسية الكويتية. واحتمل انها أثرت بعمق على تصور المواطنين لعلاقتهم بالعائلة الحاكمة.
في تجربة نيوزيلندا ، اهتمت رئيسة الحكومة بالحيلولة دون بروز حالة ارتياب متبادل بين الاقلية والاكثرية. ولعل ابرز تجسيدات هذا التوجه ، هو تشجيع الاكثرية على احتضان الاقلية وتطمينها. وكان في هذا التحرك علاجا لقلق الاكثرية ذاتها ، التي على الارجح لم تكن قد تعرفت على جيرانها المهاجرين قبل هذه الحادثة. لكن من جهة ثانية ، فان تحرك الاكثرية قد اشعر الاقلية بالامتنان ، وبان الحكومة "حكومتهم" وليست "حكومة الاكثرية" ، اي انها تجسيد لدولة المواطن.
زبدة القول انه بات لدينا تجربة اخرى ، تثبت ان دواء العنف ذي الجذور الاثنية ، هو الاحتواء المزدوج وليس القمع النشط لمصادر التوتر. مبادرة جاسيندرا أرديرن منتصف مارس الجاري برهنت على صحة هذه النظرية.
الشرق الاوسط الأربعاء - 20 رجب 1440 هـ - 27 مارس 2019 مـ رقم العدد [14729]
https://aawsat.com/node/1651991

20/03/2019

منطق الأمس ومنطق اليوم

الجدل المتصاعد هذه الأيام حول مصادر العلم الشرعي ، لا يرجع للتعارض بين ما حوته تلك المصادر وبين المعلوم من الدين او العقل بشكل مطلق. محرك الجدل في اعتقادي هو التعارض بين تلك المحتويات وبين ما يتوقعه الجيل الجديد من المسلمين. كانت تلك المحتويات موجودة طيلة القرون العشرة الماضية على أقل التقادير. لكنها لم تواجه نقدا ومعارضة كالذي نراه اليوم. اي ان أهل الأزمان السابقة لم يجدوها متعارضة مع العقلانية السائدة في ازمانهم.
وللمناسبة فان كافة المذاهب الاسلامية تشهد جدلا ، محوره التناسب بين مسلمات العلم الديني وبين معقولات الزمان. وأذكر للمناسبة النزاع الشديد الذي أثاره عبد الكريم سروش ، حين طرح نظريته القائلة بالتمييز بين الجوهري والعرضي في الدين. وفقا لهذه الرؤية ، فان الجوهري هو ما لا يقوم الدين الا به ، ولا يكتمل الا بوجوده. اما العرضي ، فهو ما ينشأ حول الدين من ثقافة وعلوم وترتيبات اجتماعية او سياسية وتقاليد واعراف ، وأمثال ذلك مما  لا تستقيم الحياة الا به. لكنه يختلف باختلاف الازمنة والاماكن.
ويعتقد سروش ان ما يندرج تحت عنوان العرضي ، خاضع لنفس المعايير التي تحكم المعارف العادية ، مثل كونها غير مقدسة ، وكونها مؤقتة وقابلة للنقد والنقض ، وانها غير واجبة الطاعة الا بوجود عامل ثانوي.
ولايقتصر هذا المفهوم على الاحكام الفقهية. فهو يرى ان بعض ما ورد فيه نص ، طبيعته مؤقتة. وهو مما يسميه الاصوليون بالقضايا الخارجية لا الحقيقية ، فيجري عليه ما يجري على العرضيات الاخرى.
بالعودة الى ما بدأنا به، فالذي يظهر لي ان العامل المحرك للجدل الحالي ، هو خيبة أمل الجيل الجديد من المسلمين إزاء ما يسمعونه من رجال الدين. ينتمي غالبية الدعاة الى أزمان ثقافية سابقة. ولذا تخلو احاديثهم من اي شيء ينتسب الى العصر الحالي ، بينما تمتليء بقصص وشواهد ونصوص لرجال ماتوا منذ مئات السنين. وحين يتحدثون فانهم يخاطبون أهل هذا الزمان بما كان معقولا في الماضي السحيق. سمعت اليوم تسجيلا منتشرا لداعية بارز ، خلاصته ان ولده دخل في غيبوبة آيس معها الاطباء من حياته او كادوا ، فناوله أخوه تربة من ارض مقدسة ، فاستعاد وعيه على نحو أدهش الأطباء.
وكنت قد سمعت مثل هذه القصة عشرات المرات في السنين الماضية ، وبعضها منسوب لرهبان مسيحيين وبوذيين ، بنفس التفاصيل تقريبا. ولا استطيع تكذيبها ، لكني أعلم ان تقديم الاسلام في اطار كهذا ، يذكر بعصور السحر والاساطير التي نرى تمثيلاتها في الأفلام ، وليس الى هذا العصر. يؤمن بهذه القصص من تهفو أرواحهم الى تلك العصور. اما من ينتمي لثقافة هذا الزمان ، فسوف يعاملها كقصة تروى للتسلية لا اكثر.
التفارق الذي اشرت اليه لايتعلق بأسلوب الخطاب ، بل بإهمال الفكرة الدينية لمقولات العقلانية المعاصرة وأدواتها ، مثل العقل النقدي والقياس المادي والتجربة.
يقول المدافعون عن التراث الديني: ان كل ما ورد عن النبي ملزم لنا ، ولو تعارض مع العلم والمنطق. وأعلم انهم مضطرون لتكرار هذا القول ، لأنه أساس المنطق الشرعي القديم. لكن.. ماذا لو فكرنا بطريقة مختلفة ، لو حررنا عقولنا من هذا المنطق ، وبحثنا في الاحتمالات البديلة ، الا نستطيع التوصل الى منطق جديد يحفظ جوهر الشريعة ويستوعب مقولات العصر وعقلانيته في آن واحد. هل يحتمل اسلامنا منطقا جديدا ام هو أسير لمنطق الماضي؟.
الأربعاء - 13 رجب 1440 هـ - 20 مارس 2019 مـ رقم العدد [14722]
https://aawsat.com/node/1641631

13/03/2019

التجديد المستحيل


لاحظت ان دعاة الاصلاح في الفكر الاسلامي المعاصر ، اعرضوا بغالبيتهم عن الحديث المنسوب للرسول (ص) "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". بخلاف رواد المنهج التقليدي الذين احتفوا به ، مع ان غالبيتهم تتخذ ، من حيث المبدأ على الاقل ، موقفا متشككا ازاء دعوات التجديد المعاصرة.
والحق ان معالجة التقليديين لفكرة التجديد ، بعيدة جدا عن جوهرها. فقد صرفوا النقاش ، من التجديد كقضية قائمة بذاتها ، الى هوامشها البعيدة ، مثل تحديد من يصدق عليه وصف المجدد. كما اهتموا بنوعية علمه ، فاستبعدوا حملة العلوم كلها عدا الفقه والحديث. واهتم بعضهم بتوضيح ان انطباق وصف المجدد على شخص بعينه ، مشروط بان يتوفاه الله عند نهاية قرن وبداية قرن جديد. فلو توفي في منتصف القرن – مثلا - خرج من قائمة المجددين.
ومن المتوقع بطبيعة الحال ان يصرف كل اهل مذهب وصف المجدد ، الى علماء مذهبهم دون سواه ، كما فعل جلال الدين السيوطي في ارجوزته الشهيرة "تحفة المهتدين بأخبار المجددين". وهو الأمر الذي عارضه الحافظ ابن كثير والمناوي في "فيض القدير".
كما تضمنت نقاشات قدامى الاسلاميين خلافا ، حول صحة ان يكون لكل قرن مجدد واحد او اكثر من واحد. ونعلم ان هذه النقاشات جميعا ، بعيدة كل البعد عن جوهر الفكرة التي يعالجها الحديث ، أعني بها فكرة ان التجديد مبدأ لازم ، حتى لو تعلق الأمر بنظام فكري او ايديولوجي ينطوي على مضمون مقدس مثل دين الله.
والذي أرى انه يستحيل التوصل الى فهم دقيق لمبدأ التجديد ، في إطار المنهج التقليدي ، فضلا عن القيام بهذه المهمة. أما سبب هذا الزعم الجازم فيرجع الى جوهر هذا المنهج ، وأخص بالذكر صفتين اساسيتين فيه: أولاهما انصراف مفهوم العلم الى التراكم الأفقي ، بدل التطور والتحول. اما الثانية فهي الملازمة المتكلفة بين الفكرة وشخص قائلها ، الأمر الذي يجعل نقد الافكار موازيا عندهم للتشنيع على الأشخاص ، وما يمثلون من قيمة تاريخية. واحتمل ان هذا تعبير عن ميل قوي لتثبيت المنظور المذهبي للقضايا العلمية ، او ربما تحويل المذهب الى بنية ايديولوجية قائمة بذاتها.
افترض ان الصفة الثانية واضحة بما يغني عن مزيد البيان. لكن في خصوص الصفة الأولى ، فان الفرضية الأساس في تطور العلم ، هي ان الجديد يعتمد على سابقه او يستفيد منه ، يعارضه او يزيد عليه ، ثم يتجاوزه. اي ان اللاحق يقدم تفسيرا اقرب للحقيقة من السابق ، ولهذا يحتل مكانه.
لكن المشهود عندنا ، ان المنهج التقليدي في علم الدين ، يسير باتجاه معاكس تماما. فاللاحق يكتسب قيمته من موافقته للسابق ، وليس تجاوزه ، فضلا عن نقده ومعارضته. بل ان معارضة التفسيرات والرؤى الموروثة ، تعامل عند رواد هذا المنهج كدليل على الجهل ، او حتى سوء النية في بعض الأحيان. وهذا ما وصم به عديد من المفكرين الذين طرحوا تفسيرات وتصورات جديدة خلال الخمسين عاما الماضية.
سوف أعود للمسألة في قادم الأيام. لكن زبدة ما ينبغي بيانه هنا ، هو ان جوهر التجديد كمبدأ علمي وعملي ، هو نقل المعيارية والمرجعية من القديم الى الجديد. فاذا بقي القديم ثابتا في مكانه ، واذا طولب الجديد  بان يتبع خطى القديم ، فان الأمل في التجديد ليس سوى سراب.
الأربعاء - 6 رجب 1440 هـ - 13 مارس 2019 مـ رقم العدد [14715]
https://aawsat.com/node/1631026

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...