كافة الاحزاب التي قررت المشاركة في الانتخابات العراقية ، مثل تلك التي
قاطعتها ، تدعي ان لديها برنامجا لاعادة بناء النظام السياسي العراقي الجديد، الا
انه يستحيل تقريبا اختبار مصداقية اي من هذه البرامج . كما ان اغلبية الناخبين
المفترضين لن يكونوا قادرين على المقارنة بين الطروحات المختلفة والتصويت على
اساسها . ولهذا فان تلك البرامج هي اقرب الى الشعارات او الآمال منها الى خطط
العمل . في ظني ان الاغلبية الحاسمة من الناخبين سوف تصوت لقائمة معينة بناء على
المعرفة الشخصية لواحد او عدد من المرشحين في تلك القائمة ، او بناء على
الانطباعات الشخصية عن تلك الاسماء ومن يدعمهم .
في
ظل التركيز على الاشخاص او الاسماء ، فانه لا يضير المرشحين ان يعرضوا شعارات
متشابهة ، الامر الذي يثير سؤالا مشروعا : اذا كانوا متفقين على كل هذه الامور فما
الذي يتنافسون عليه اذن؟.
اختصار
السياسة في الاشخاص هي مشكلة مزمنة في العالم العربي ، وهي ترجع اساسا الى طبيعة
العلائق الاجتماعية في المجتمعات التقليدية ، حيث ترتبط الثفة بالتعارف الشخصي او
الكاريزما الحقيقية او المصطنعة للافراد الذين يسعون للسلطة سواء على المستوى
الاجتماعي او السياسي. الناس في المجتمعات التقليدية لا يهتمون كثيرا بالتحقق من
صدقية ما يعد به الشخص ، ولا يحاسبونه فيما بعد على النجاح او الفشل في تحقيق
وعوده . ولهذا فانه يسهل دائما تقديم اعظم الوعود حتى لو كانت مستحيلة موضوعيا او
عمليا.
تعاني
الحركة الدينية من هذه المشكلة بدرجة اكبر من غيرها لاسباب كثيرة ، ابرزها ان فكرة
الثقة بالشخص تتحول تدريجيا الى نوع من التسليم لذلك الشخص. نجد ان مقلدي العلماء
واتباع القادة الدينيين ينظرون الى الفقيه
او القائد كتجسيد للحق . وفي هذه الحالة فان مقولاته وارائه العلمية تكتسي نوعا من
العصمة ولا تقارن باي راي آخر . واذا انتقدها احد فان هذا النقد يفسر فورا على انه
اعلان للعداوة او ضلال عن الحق اوانحراف عن الطريق ، الزعيم هو حذام
العصر"اذا قالت حذام فصدقوها فان القول ما قالت حذام" .
الحركة
الدينية تحتاج بدرجة اكبر من غيرها الى معالجة هذه المشكلة لانها لا تستند الى
تجربة في العمل السياسي واضحة المعالم وقادرة على اقناع الاخرين . بعض تجارب
الحركات الاسلامية المعاصرة في السلطة مخيبة للامال ، والاخرى مستثناة من جانب
الاسلاميين العرب ، لاسباب طائفية او لارتباطها بجدل التقليد/الحداثة . في ظني ان
عجز النخبة السياسية العربية – وبينها الاسلامية – عن ابتكار برامج للتحديث منسجمة
مع شبكة العلاقات الثقافية الخاصة للمجتمع العربية ، ومتناغمة في الوقت ذاته مع
متطلبات المدنية المعاصرة ، هو احد الدواعي المهمة لتركيزها على الاشخاص . كما ان
غياب النقاش الحر حول برامج العمل يجعل الجميع مضطرا الى التعويل على الاشخاص .
التركيز
على الشخص هو مشكلة للمجتمع والدولة معا ، وهو احد الاسباب التي تحول التنمية
الاجتماعية والسياسية من مسار متواصل ومتصاعد الى مراحل متقطعة . ذلك ان التعويل
على الشخص بدل المشروع او البرنامج يجعل وجوده على راس المجتمع قدرا لا مفر منه .
نحن نعرف ان لكل شخص طاقة معينة ، فكرية او عملية ، ترتبط فائدتها وفاعليتها
بمرحلة زمنية خاصة. فاذا تجاوز المجتمع تلك المرحلة ، فان زمام الامور ينبغي ان يتحول
الى رجال اخرين اوضح انتماءا للمرحلة الجديدة واقدر على فهم متطلباتها "لكل
زمان دولة ورجال" .
حينما يجري التركيز على الشخص ، ايا كان السبب ، فان ذلك
الحراك التنموي الطبيعي سوف يتوقف ، وينكمش معه الحراك الاجتماعي او يتحول الى نوع
من التصادم بين القيم والاعراف الموروثة من جهة ومتطلبات التحديث المتواصل من جهة
اخرى . في هذه المرحلة فان عدم التغيير سيؤدي بالضرورة الى استهلاك متعاظم للقيم
الروحية والاخلاقية لصالح الشخص وتحويلها من آليات نظم للحركة الاجتماعية تحظى
بالاجماع الى مبررات لقهر الاجيال الجديدة بواسطة الحرس الاجتماعي القديم.
منتصف
ديسمبر 2004