يتفق الحركيون الاسلاميون على ان
الموقف الغربي من طموحاتهم السياسية يتسم اجمالا بمضمون عدائي ، مع انهم يتفاوتون
في تحليل اسباب هذا العداء والطريقة المثلى لعلاجه ، على انه يمكن ملاحظة التباين
بين المواقف العملية والمواقف النظرية بدرجة قد تثير الارتباك ، بالنسبة لايران
مثلا فانها تسعى ـ لاسيما منذ نهاية الحرب مع العراق ـ الى تطوير علاقاتها مع
الغرب ، بشرط احترام خياراتها الخاصة ، وهي لهذا السبب تميز بين الدول التي تستهدف
الاضرار بالسيادة الايرانية ـ ويشار بهذا الى الولايات المتحدة عادة ـ وتلك
المستعدة لعلاقات متكافئة ، مثل اوربا الغربية واليابان ، وكان التوتر الاخير في
العلاقت الايرانية الالمانية مناسبة للزعيم الايراني خامنئي للتاكيد على الفارق
بين الموقف من واشنطن والموقف من اوربا
الغربية . ومع التعثر في علاقاتها السياسية ، فانها نجحت في تطوير علاقاتها
الاقتصادية بصورة ملفتة .
ان اهمية الموقف الايراني تكمن في حقيقة ان
ايران كانت تمثل منذ نهاية السبعينات ، راس الحربة في الصراع بين الاسلام السياسي
والسياسات الغربية ، حيث حملتها العواصم الغربية الجانب الاكبر من المسؤولية ، عن
تحول الحركات الاسلامية الى العنف، وتوجيه
هذا العنف ضد المصالح والسياسات الغربية بصورة خاصة .
ويبدو اجمالا ان موضوع العلاقة مع
الغرب ليس محسوما وسط الحركة الاسلامية، ويتاثر تحليله بخطوط تاثير مختلفة من
بينها المفاهيم الدينية المجردة في الجواز او عدمه ، حيث تدخل على الخط الافهام
المختلفة للنص الديني ، كما يتاثر بالضرورات العملية ، وهي الاخرى مختلفة بحسب
الوضع القائم في كل ساحة من ساحات الصراع ، ان كثيرا من الحركيين الذين يتخذون
موقف العداء للغرب ـ اقله على المستوى النظري ـ يعيشون في الغرب ويحتمون بالنظام
القائم فيه ، وقد كان هذا الامر مثيرا للجدل ، لاسيما في الحدود الفاصلة بين
الضرورات العملية والاحكام الشرعية المجردة .
تصاعدت نبرة العداء للغرب بين
الاسلاميين منذ اوائل الثمانينات ، حيث اصبح الموقف الغربي من العالم الاسلامي
وقضاياه موضوعا للتعبئة واكتساب الشرعية عند الجمهور ، ومن جانبه فان الغرب ولاسيما الولايات
المتحدة التي فوجئت بتطورات الثورة الايرانية اصبحت شديدة القلق من نوايا
الاسلاميين ، واتخذت سياسة لا يمكن وصفها بالحصافة في مواجهة توسع نفوذهم ، لذلك
ينظر اليوم الى المواقف التي تصدر عن مفكرين او سياسيين غربيين في الدعوة الى
تفاهم اسلامي - غربي ، كما فعل ولي عهد بريطانيا ، باعتبارها استثناءت بارزة .
نستطيع تلمس اتجاهين في تحليل الحركة
الاسلامية للموقف الغربي من مشاركتها في العمل السياسي
:
الاتجاه الاول : لا يرى الغرب الا معاديا
للمشروع الاسلامي ، سواء كان اصحاب هذا المشروع خارج
السلطة او
كانوا شركاء فيها ، ويميل هؤلاء الى الاخذ بالنظرية المعروفة بنظرية المؤامرة ،
التي تراجعت قليلا في السنوات القليلة الماضية ،
لتستعيد بعض
زخمها المفقود من جديد ، مع اجتياح القوات العراقية لاراضي الكويت في اغسطس 1990 .
الاتجاه الثاني : يرى ان الموقف الغربي من
الحركة الاسلامية ، معلل بقلقه من تراجع نفوذه في العالم الاسلامي ، اذا ما تفاقمت القوة الاسلامية ، وهذا لا
يتعلق بالحركة الاسلامية بصورة خاصة الا حين تكون في موضع المقارنة مع منافسيها
المحليين ، والا ففي حالة الباكستان فان الولايات المتحدة عملت بجد لمنعها من
تطوير سلاحها النووي ، على الرغم من ان السلطة لم تكن في يد الاسلاميين .
ويفلسف اصحاب هذا الاتجاه حالة العداء
التي تطبع العلاقة بين الاسلام والغرب ، بالانقطاع الثقافي بين الطرفين والانعدام
شبه الكلي للحوار ، في عالم تتأثر مصالح كل دولة فيه باي تغيير في دولة اخرى
، بدرجة تتناسب واهمية مصالحها فيها او حواليها ، اخذا بعين الاعتبار ان الغرب يحتفظ
بمصالح مهمة ، في معظم بلدان العالم الاسلامية لا سيما الرئيسية منها .
الخلفية
الدينية
وفي الماضي كان معظم المحللين في
التيار الإسلامي ، وكثير من غير الاسلاميين ايضا ،
يعتقد ان لدى
الغرب مخططا تاريخيا ، يستهدف دحر الاسلام وابعاده عن الحياة
العامة ،
كتمهيد ضروري للسيطرة على العالم الاسلامي ، وشهد عقد السبعينات صدور عشرات من
الكتب التي تؤكد على هذا التحليل ، وتعرض
ادلته ، وثمة
كثير من التحليلات يعرضها اسلاميون لوقائع معاصرة او من التاريخ القريب ، تحاول
اثبات ان معظم ما يجري في العالم الاسلامي ، هو حلقات متصلة في مؤامرة يقودها الغرب
ضد الإسلام والأمة الاسلامية ، لكن نظرية المؤامرة تراجعت بصورة ملحوظة في السنوات
الاخيرة مع تصاعد قوة الحركة الاسلامية .
معظم انصار نظرية المؤامرة يرجعون
الخلل القائم ، في العلاقة بين الاسلام المعاصر
والغرب ، الى
اسباب دينية بعيدة الجذور في التاريخ ، فهم يرون الغرب ممثلا لدور جديد
، من ادوار المسيحية او اليهودية ، ويستدلون بالاية المباركة التي تقرر استحالة
قيام العلاقة معها على اساس الاعتراف المتقابل
(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) وفي هذا السياق يفسرون
العلاقة التاريخية بين الحروب الصليبية والاستعمار ، الذي
اعاد انتاج نفسه بصور اخرى من خلال نظام العلاقات الدولية ، الذي ساد بعد نهاية
الحرب الكونية الثانية ولايزال قائما بامتداداته حتى اليوم
.
وحسب اعتقادهم فان الغرب الذي يبني
مواقفه على قاعدة الصراع بين المسيحية والاسلام ، كان واعيا لما يقوم به ، حينما
ركز صراعه الايديولوجي ضد الاسلام ، على محور فصل
الدين عن
الدولة ، وتاليا الفصل بين الاسلام والحياة الاجتماعية ، وفي هذا السياق ، فانه
لن يتهاون مطلقا في ترك الاسلام يعود الى الحياة ، ولاسيما الى الحكم ، بعد ان نجح في
عزله وتحويله الى الهامش ، يقول الاستاذ أحمد بن يوسف في ندوة عن اوضاع الحركة
الاسلامية بعد ازمة الخليج (ان التفسير
المقنع لما
يردده الساسة الاميركيون حول الالتزام الاخلاقي والادبي بدعم اسرائيل ، انما هو
تاكيد على ان ديانة هذه البلاد هي في جذورها ديانة توراتية ، وضعت شروحها في قوالب
عبرانية ... وقد ادى تاثير الكنيسة المسيحية الاصولية في الثقافة العامة
للامريكيين ، الى تصوير الصراع العربي ـ الاسرائيلي في الخيال الامريكي وثقافته ،
على انه امتداد للصراع التوراتي بين داود وجوليات ، وقد شكلت التوراة نتيجة لذلك
مصدرا للايمان في التقاليد الامريكية ، وقوة
مهمة في طموحه الوطني) .
وبناء على هذا التحليل ، فإن الغرب لن
يسمح للحركة الاسلامية ، بالوصول الى السلطة عن اي طريق ، الا اذا استطاعت هي
فرض نفسها كامر واقع ، اي ان مشاركة الحركة الاسلامية في السياسة لا يتوقف على
التفاهم مع الغرب ، أو ان هذا التفاهم سيكون عديم الفائدة ، فهو في كل الاحوال لن
يؤدي الى تغيير في موقفه التاريخي .
ان التجارب التي خاضتها الحركة في
محاولتها للوصول الى الحكم ، او المشاركة فيه عبر القنوات الديمقراطية ، او عبر
الاساليب الاخرى ، تدل ـ حسب اصحاب هذا الراي ـ على ان الغرب لن يدخر جهدا في
اعاقة هذا التطور حيثما استطاع ، فمشروع الولايات المتحدة
الامريكية كما
يرى رئيس حركة الجهاد الاسلامي (يضع على راس مهامه في المرحلة الراهنة ضرب
الحركة الاسلامية في المنطقـة وتصفيـة قضيتها المركزية) وعلى هـذا ، يضيف د. رمضان عبد الله ، فان
(الخيار المفروض على الحركة الاسلامية هو خيـار
الصدام والمواجهـة ، بحيث اصبح التحدي الذي
يواجهها الان
هو ان تكــون او لا تكون) .
وبناء على هذا الرأي ، فان التفكير في
امكانية ان يعود الغرب لاقامة نظام جديد للعلاقة مع الاسلام ، اساسه التفاهم
ونبذ العداوة ، هو تفكير تنقصه الرؤية التاريخية .
علاقة
اساسها المصلحة
اما التحليل الثاني فيرى ان المصالح
الراهنة ، وليس الموقف التاريخي ، هي الاساس في صناعة السياسة الخارجية للغرب ،
وهي تنطلق من ثوابت تمثل حاجات الحضارة الغربية ، من بينها على سبيل المثال ،
محورية الدور الامريكي والاوربي في نظام العلاقات الدولية ، باعتباره الثابت
الاساس لاستمرار قوة الغرب ورفاهية شعوبه ، ولهذا
فان السياسة الدولية للمعسكر الغربي ، هي نظام عالمي للسيطرة ، يتعامل مع
بقاع العالم الاخرى من زاوية كونها ميدانا لمصالحه الاقتصادية ، ان النفوذ السياسي
مكرس هنا لخدمة هذه المصالح التي تكفل له التفوق والإزدهار وبالتالي العظمة ،
وعليه فان علاقته بالاسلام تتحدد من ذات الزاوية ، فحيثما كان الاسلام متساهلا ،
لينا في مواجهته لنفوذ الغرب ، فان علاقة الغرب
معه ستكون طبيعية وربما ودية ، وحيثما كان
الاسلام عائقا
لهذا النفوذ ، او مهددا لتلك المصالح فسيكون الغرب شرسا في مقاومته ، ومحاربا
له على كل صعيد .
والاسلام في هذا الحال ، لا يختلف عن
اي منهج ايديولوجي او سياسي آخر ، فالغرب مستعد
للتضحية باقرب
حلفائه اليه ، اذا بدر منه ما يشي بامكانية تحوله الى عقبة في
طريق نفوذه ، وهم يضربون على ذلك امثلة من نوع اعلان الحرب على بناما في ديسمبر
1989 واعتقال حاكمها الجنرال نورييغا ، الذي كان حتى وقت قريب فتى واشنطن المدلل ،
قبل ان يتمرد على على سياساتها ، وفي الخمسينات عملت واشنطن ولندن سويا لاسقاط
رئيس الوزراء الايراني محمد مصدق بعد ان قرر تاميم مصالح البترول الغربية ، مع ان
مصدق لم يكن اسلاميا ـ بحسب التصنيف المتعارف ـ بل كان قوميا ليبرالي الاتجاه ،
وقد وصل الى الحكم بطريقة ديمقراطية تماما ، وضمن الاطار السياسي والقانوني القائم
في البلاد .
ولم يكن الاسلاميون استثناء من سياسة
الدوران حول المصالح هذه ، فقد حاولت الولايات المتحدة دون جدوى اقناع (حماس)
الفلسطينية بالمشاركة في عملية السلام ، وقبلها دعمت المقاومة الافغانية بالمال
والسلاح ، عندما كان الغرب بحاجة الى اضعاف النفوذ الشيوعي في افغانستان ، ثم
اوقفت دعمها المالي والعسكري ، عندما زال خطر التوسع السوفييتي ، وفي كلا الحالتين فان الثورة
الافغانية ، كانت ثورة اسلامية تقودها حركات دينية .
وكما دعم الغرب حركة اسلامية ثورية ،
فهو في حالة اخرى دعم ولا يزال الانظمة التي
تتبنى نمطا من الاسلام محافظا ، مثل حكومات مجلس التعاون الخليجي ، رغم انها لا
تتبنى الاتجاه العلماني المفتوح في الحياة السياسية والاجتماعية ، المفضل لدى
الغرب ، كما هو حال دول اسلامية اخرى
حليفة ، مثل تركيا .
وهذا يظهر ـ حسب راي هذا الفريق ـ ان
السياسات النقيضة للمصالح الاقتصادية الغربية ، وللنفوذ الذي يحتاجه الغرب لضمان
قوته الاقتصادية ، هو الذي يصنع الموقف الغربي من الاسلام . ان ظهور الاسلاميين
في كل مكان ، بمظهر من يعد العدة للانتقام من الغرب وتصفية مصالحه ، هو الذي يجعل
الغرب قلقا من تنامي الحركة الاسلامية الجديدة ، ووصولها الى مراكز القرار ، وهذه
المعادلة تمثل رد فعل راهن ، على فعل راهن ايضا
، وليست تعبيرا عن تاريخ مضى او استيحاء لتجربته .
ربما كان الموقف الغربي مستلهما من
ثجربة تاريخية ، وربما كان تعبيرا عن قلق عن المصالح ، في كلا الحالتين فان جوهر
المسالة يكمن في القدرة على احداث تغيير مناسب في توازن القوى ، فصناعة الحقائق
الميدانية هو الوسيلة الوحيدة لتعديل السياسات ، او على الاقل ايجاد الارضية
المناسبة للتفاهم ، ولهذا حديث اخر نعود اليه الاسبوع القادم .
الراي العام - الاول من ديسمبر 1996
مقالات ذات علاقة
مقالات ذات علاقة
- الحركة الاسلامية ، الغرب والسياسة -1
- الحر كة الا سلامية ، الغرب والسياسة -2
- الحركة الاسلامية ، الغرب والسياسة - 3
- الحركة الاسلامية ، الجمهور والسياسة
- الديمقراطية والاسلام السياسي
- الحركة الاسلامية: الصعــود السـر يـع و الا سئلة الكبرى
- مباديء اهل السياسة ومصالحهم
- الحل الاسلامي بديع .. لكن ما هو هذا الحل ؟
- نقد المشروع طريق الى المعاصرة
- مشروع للتطبيق لا تعويذة للبركـة
- نفوسنا المنقسمة بين عصرين
- تلميذ يتعلم وزبون يشتري
- العولمة فرصة ام فخ ؟
- مباديء اهل السياسة ومصالحهم