‏إظهار الرسائل ذات التسميات تطبيق الشريعة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تطبيق الشريعة. إظهار كافة الرسائل

18/10/2010

الجهاز القضائي وخدمة المواطن


رأى أستاذنا الدكتور محمد الهرفي أن تطوير الجهاز القضائي يحتاج لما هو أكثر من إدخال التعاملات الالكترونية «عكاظ 16 أكتوبر». يشكل التعامل الالكتروني جزءا حيويا من عملية التطوير. لكن يبدو أن معظمنا يفكر فيه كوسيلة لتوفير الوقت والجهد البشري. في بلدان العالم الأخرى يهتمون بالتعامل الالكتروني لاختصار التدخل الشخصي، وتوحيد نسق المعاملات، بحيث يحصل جميع المتعاملين على فرص متساوية ويتحملون أعباء متماثلة. هذه النقطة بالذات تقوم على فلسفة مختلفة عن تلك التي تتعلق بالسرعة وتوفير المال، ويمكن تلخيصها في نقطتين:

1- سيادة القانون.
2- الانتقال من مفهوم السلطة الرسمية إلى مفهوم الخدمة العامة.

نظريا يعمل جميع موظفي الدولة وفقا للوائح قانونية صدرت حسب الأصول، وهم ــ نظريا أيضا ــ يملكون سلطة محددة في نطاق عملهم، غير قابلة للتمديد إلى خارجه. لكن من الناحية الواقعية فإن كثيرا من الموظفين يعملون طبقا لتقديراتهم الخاصة أو طبقا لتوجيهات شفهية أو تحريرية تصلهم من رؤسائهم. ولعل جميع الذين راجعوا دوائر حكومية قد سمعوا أو قرؤوا عبارة «طلبنا التوجيه» أو «ننتظر التوجيه» أو «ما هو التوجيه» وأمثالها.

 والمقصود بالتوجيه هو الرأي الشخصي للمسؤول الأعلى مرتبة. إذا أخذنا بمبدأ «سيادة القانون» فإن الموظف الأدنى مرتبة مثل الأعلى مرتبة مكلف بتطبيق نص القانون أو فحواه، وليس له حق الاجتهاد أو التفسير أو التمييز بين معاملة وأخرى. ليس عليه أكثر من مطالبة المراجع بإثبات التوافق بين مطالبه وبين مادة قانونية معينة، كي ينهي المعاملة دون رجوع إلى رئيسه.

ويقال الأمر نفسه في القضايا التي ترتبط بأكثر من جهة رسمية. لو أخذنا نموذجا من أعمال المحاكم مثل إثبات الملك «في الأراضي التي ليس لها سجلات سابقة على سبيل المثال» سوف نجد أن المحكمة تضع اشتراطات على المراجعين هي جميعا خارج نطاق سلطاتها، مثل تعطيل المعاملة بانتظار موافقة البلدية ووزارة الزراعة والمالية وأحيانا الدفاع، ويضاف إليها شركة أرامكو في المنطقة الشرقية.

 إرسال المعاملات إلى هذه الجهات وانتظار جوابها يتطلب في حده الأدنى أربعة أشهر وقد يأخذ عاما أو أكثر إذا لم يكن لديها اعتراض. أما إذا كان لدى أي منها اعتراض، فعلى المراجع أن يطارد وراء معاملته سنتين أو ثلاثا أو أكثر. وأعرف معاملات تعطلت لدى البلدية أكثر من خمسة أعوام.

الأصل في الموضوع أن ترسل المحكمة خبرا إلى أي جهة تريد، فمن يريد الاعتراض فعليه أن يقوم بذلك بالطريقة الأصولية، أي تقديم الأدلة على صحة اعتراضه. لكن ما يحصل الآن هو أن دعاوى تلك الجهات تعامل كما لو أنها أحكام قطعية. بعبارة أخرى تعمل المحكمة كمحام لبقية الدوائر الحكومية، والأصل أنها محام للمواطن «وهو الطرف الضعيف في القصة كلها». وحتى لو قلنا بأن دور المحكمة هو إعطاء كل ذي حق حقه، فإن اشتراط موافقة الجهات الحكومية يعني ضمنا منحها أفضلية على المواطن..

تطوير مرفق القضاء وغيره من الأجهزة الحكومية لا يتوقف على تسريع عملها من خلال التعاملات الإلكترونية، بل يتطلب تغييرا جوهريا في فلسفة العمل باتجاهين، أولهما: اختصار التدخلات الشخصية وما يسمى بالتوجيهات وتطبيق نصوص القانون دون تفسيراته. وثانيهما: أن يعمل القضاء وسائر الدوائر باعتبارها أجهزة لخدمة المواطن. فخدمة المواطن يعني أن تقف في صفه دائما، وأن تجعل هدفك إيصاله إلى حقه، فإذا اعترض الآخرون فليسلكوا نفس السبيل، أي المطالبة بما يرونه حقا لهم بالطرق القانونية، لا أن تعتبر ادعاءاتهم وآراءهم حقا ثابتا.

صحيفة عكاظ    18 / 10 / 2010م

07/05/2008

رأي الفقيه .....متى يصبح حكم الله

الفقهاء يفتون بآراء مختلفة في المسألة الواحدة، مثل دعوى الاختلاط بين الرجال والنساء في أماكن العمل، المثارة حاليا. ولا بد أن القراء اطلعوا على آراء من يجيز الاختلاط ومن يحرمه ومن يضع شروطا للتجويز. فهذا مثال حي على الاختلاف في مسألة واحدة في ظرف واحد. بديهي أن حكم الله في المسألة واحد ولا يمكن أن يكون متعددا. لكن لا يستطيع أحد، فقيها كان أو غيره، أن يدعي دون تحفظ أن رأيه هو حكم الله بلا زيادة ولا نقصان. لأنه لو ادعى ذلك فكأنه قال إن علمه هو علم الله أو مساو لعلم الله. وهذا مستحيل ولا يقول به أحد.

صورة ذات صلة
تنبه الفقهاء إلى هذه الإشكالية منذ القدم، فميزوا بين نوعين من العلم هما: العلم بالواقع والعلم بالظاهر. وحصروا العلم الواقعي في الله سبحانه. أما علم البشر فهو جميعه علم بالظاهر ، وهو قد يطابق الواقع وقد يجانبه. والفقه هو واحد من هذه العلوم، لذلك عرفه بعضهم بالظن الغالب.
والحق ان جميع العلوم هي ظنون غالبة، او احتمالات، بعضها يستند الى أدلة أقوى، وبعضها يجمع بين الدليل العلمي والإمكان العملي. وطور الأصوليون مجموعة أدوات منهجية لحصر تلك الإشكالية وتحديد ما يصح وما لا يصح الاعتماد عليه من الأدلة. بديهي أن جميع الأدلة مؤقتة، بمعنى أنها مرتبطة بحيثياتها الظاهرة للفقيه في وقت البحث. وقد تظهر له أو لغيره أدلة أخرى في وقت مختلف أو ظرف مختلف فيعدل عن الرأي الأول إلى غيره، وهذا من الأمور الجارية والمتعارفة بين جميع دارسي الشريعة. هذا من جهة.
لكن من الجهة الثانية، فإن الناس بحاجة إلى العلم حتى لو كان ناقصا. ويقضي العقل الطبيعي بالعودة إلى صاحب العلم المتخصص، مثلما نعود الى المهندس حين نبني بيتنا وإلى الطبيب حين نحتاج للعلاج. الفقيه في هذا المقام مصدر للعلم. وحين يعطيك العالم علمه فأنت تأخذ به، حتى لو علمت باحتمال تغير رأيه بعد زمن. لأن الناس لو انتظروا كمال العلم لما وصلوا الى شيء أبدا، فالعلم بطبعه ناقص وهو يتكامل بالتدريج، لكنه يبقى الى الأبد ناقصا، وهذا هو السر في كفاح الإنسان من أجله.
في مثال الطب، يخبرنا الطبيب بأن بعض علاجات اليوم ستلغى في المستقبل لوجود أخرى تحت التطوير والبحث. لكننا مع ذلك نأخذ بالأولى لأننا نحتاجها اليوم، مع علمنا بنقصانها. من هنا قال الأصوليون بأن الأخذ برأي الفقيه وتطبيقه مبرئ لذمة المكلف لأنه يسد حاجة قائمة ولو كان ناقصا. ولا يجب على المكلف دراسة جميع الأراء ولا تقييم أدلتها. واعتبروا ذلك من أنواع التيسير الذي يأمر به الشرع.
المكلف اذن، يأخذ برأي الفقيه لأنه علم، تقوم الحجة بوجوده، وتبرأ الذمة بتطبيقه. فاذا أخذ المكلف بذلك الرأي، تغيرت صفته من نظرية علمية الى حكم ديني. بعبارة أخرى فإن التزام المكلف برأي الفقيه يسبغ على هذا الرأي قيمة دينية، فيصبح (حكم الله) بالنسبة لذلك المكلف على وجه الخصوص. مع أنه يبقى رأيا علميا عاديا بالنسبة لبقية المكلفين الذين لم يقبلوه أو لم يلتزموا به.
ومثل ذلك رأي القاضي الذي يتحول إلى حكم واجب التنفيذ على أطراف القضية التي نظرها، دون بقية الناس. فهو بالنسبة لأولئك قانون ملزم وهو بالنسبة للآخرين مجرد رأي علمي. ومن هنا نفهم أن القيمة الدينية لرأي الفقيه ليست منبعثة من داخله، بل من مصدر خارجي هو تبعية المكلف له، أي قرار هذا المكلف بالرجوع الى ذلك الفقيه. وكذلك الأمر بالنسبة لحكم القاضي الذي يستمد قيمته من القانون العام للبلد الذي فرض على المتخاصمين الالتزام بحكم القاضي الذي نظر دعواهم.
خلاصة الكلام اذن:
1ـ ان رأي الفقيه هو في الأصل نظرية علمية محترمة لكنه ليس حكم الله ولا ينطوي على الزام.
2ـ بالنسبة للمكلفين الذين يطمئنون الى رأي فقيه معين، فان أخذهم برأيه، يضفي عليه قيمة الحكم الديني، حتى لو بقي رأيا عاديا بالنسبة لغير هؤلاء.

عكاظ  7 مايو 2008
 https://www.okaz.com.sa/article/182937



مقالات ذات علاقة



27/02/2008

الشيخ القرني في باريس


|| الايمان بفردانية الفرد وحريته وتساويه مع غيره في القيمة والعقل ، هو الذي مكن عقل الانسان الغربي من التفكير الحر والتخيل والتأمل وتحدي المجهولات ، فحوله الى مبدع ||

 

قبيل منتصف القرن العشرين ، قيل للامام يحيى حميد الدين امام اليمن السابق ، ان فلانا وفلانا من ضباط جيشه يميلون للشيوعية ويدعون اليها، فطلب ارسالهم الى موسكو في دورات تدريبية. وفرح الضباط الشباب بهذه النعمة غير المتوقعة. وضحك الامام في سره لما عرف انه سيأتي في قادم الايام.

وانتهت القصة بسفر الشباب مدفوعين بالامال العريضة والفرح، ثم عودتهم محملين بخيبة الامل مما رأوه على ارض الواقع.

قصة الشيخ عايض القرني في باريس تحمل نفس الروح، وان جاءت على عكس ما حصل لضباط الامام يحيى.

الشيخ عايض القرني

في احاديثه السابقة تحدث الشيخ عن حياة تشبه حياة البهائم يعيشها انسان الغرب، مقارنة بالحياة الفاضلة التي يعيشها قومنا في ديار الاسلام.

وفي مقالته الاخيرة عن رحلته الى باريس تحدث بعكس ذلك تماما: حياة فاضلة يعيشها انسان الغرب مقابل حياة تشبه حياة البهائم يعيشها العرب. والحق ان كلام الشيخ اليوم مثل كلامه بالامس، ثمرة انفعال باللحظة، بعيدا كل البعد عما ينبغي لصاحب الفكر من التأمل في الاشياء والسعي للكشف عما وراء قشرتها الخارجية.

ويظهر ذلك جليا في استنتاجه بان "المجتمع عندنا يحتاج إلى تطبيق صارم وصادق للشريعة لنخرج من القسوة والجفاء الذي ظهر على وجوهنا وتعاملنا". ولو اعاد قراءة مقاله قبل نشره، فلربما اعاد النظر في هذا الاستنتاج.

فالذين امتدح اخلاقهم في باريس لم يصبحوا بالجمال الذي وصفه بعد تطبيقهم للشريعة، بل لأن "الحضارة ترقق الطباع" كما قال اولاً.

والحضارة التي رآها هناك ليست الشوارع الواسعة ولا البنايات الضخمة ولا السيارات الفخمة، ولا الفترينات الانيقة، فعندنا من هذه خير وزيادة. اول الحضارة هي تنوع الافكار والثقافات وحرية النقد والفصل الحازم بين المعرفة والسلطة الاجتماعية.

وثانيها هو المبالغة في قيمة الانسان الفرد، واعتباره كفؤا مستقلا متمايزا بعقله.. وثالثها هو الحماية القانونية للحريم الشخصي للفرد، اي المجال الذي يتمتع فيه بحرياته الخاصة التي هي جوهر وجوده كانسان، مثل حرية التفكير والتعبير، وحرية التملك والتنقل والعمل. هذا الحريم هو المجال الذي يسمح للفرد بتحقيق ذاته والاستمتاع بوجوده ككائن أعلى من بقية ما في الكون. وهو حريم ينبغي حمايته ضد اي تدخل او خرق لأي مبرر ديني أو أخلاقي أو سياسي أو سواه.

الايمان بفردانية الفرد وحريته وتساويه مع غيره في القيمة والعقل، هو الذي مكن عقل الانسان الغربي من التفكير الحر والتخيل والتأمل وتحدي المجهولات، فحوله الى مبدع. كما ان الضمان القانوني لحريمه الشخصي وحريته المطلقة ضمن هذا الحريم، هو الذي مكن انسان الغرب من تحقيق ذاته والاعتزاز بكفاءته، واغناه عن الاعتزاز بالقبيلة والجماعة والجنسية والبطولات المتوهمة، فاصبح من بعدها انسانا مكتملا بقطع النظر عن أصله.

الفرد الذي يؤمن بكماله الذاتي وكونه كفؤاً، يعرف ان هذه الاوصاف ثابتة له اذا اثبتها لغيره، فتساويه مع الغير مشروط بتساوي اولئك معه، وحقوقه الفردية جميعا مشروطة بتمتع جميع الناس غيره بنفس الشريحة من الحقوق.

 لا يجادل أحد حول فائدة تطبيق الشريعة، لكننا جميعا نجادل في تفاصيل التطبيق وكيفيته وشروطه والقائمين عليه، والحق ان بلادنا وكثيرا من بلاد المسلمين لم تتخل عن تطبيق الشريعة في اي وقت، لكنها مع ذلك لم تصل الى ما وصل اليه اهل باريس وغير باريس ممن رآهم الشيخ القرني وممن لم يرهم.

تبدأ الحضارة بالانسان، وتتواصل مع الفكر، وتتعمق مع العلم، فتصل أخيرا الى الانسان اللين المتسامح الحريص على اداء الواجب، الذي يشعر بقيمته وقيمة الاخرين المساوية له، قيمته كانسان وقيمتهم كاعضاء في المجتمع الانساني، قبل ان يكونوا مسلمين او عربا او حملة جنسية محددة او ابناء قبيلة او مذهب محدد.

فيما مضى ذهب الشيخ القرني الى امريكا وبريطانيا داعيا، متحدثا من فوق، ناظرا الى من دونه كمساكين يفتقرون لما يملكه، وذهب اليوم الى باريس محتاجا فنظر اليهم كأناس يملكون ما يفتقر اليه، فوجد فيهم ما لم يجده في زياراته السابقة.

تمنيت لو ان الشيخ وربما بقية المشايخ ذهبوا الى بلاد العالم سياحا لا دعاة، والتقوا بأهل تلك البلاد لا بمن هم على شاكلتهم، عندها سيرون في العالم غير ما عرفوه وسيكشفون حقائق ما خطرت على بالهم، ولعلهم من ثم يجدون ان ما يقوله معارضوهم هنا ليس ثمرة انبهار بحضارة الغالب، ولا هو توهم او خيال، ولا هو تنفيس عن عقد نقص، بل هو معرفة جديدة توصل اليها هؤلاء وتأخر عنها أولئك .

  صحيفة عكاظ 27 فبراير 2008  https://www.okaz.com.sa/article/166529

مقالات ذات علاقة


01/07/2000

الحرية وحق الاختلاف في منظور الاسلاميين: عرض كتاب "الاسلام في ساحة السياسة"


عرض : ابراهيم محمد (كاتب تونسي) 
مجلة الكلمة
العدد (28) ـ السنة السابعة، صيف 2000م ـ 1421
الكتاب: الإسلام في ساحة السياسة.. متطلبات العرض والتطبيق.
الكاتب: توفيق السيف
الناشر: دار الجديد ـ بيروت
الصفحات: 126 من القطع الوسط
سنة النشر: ط1، 2000م.

«الحرية حلية الإنسان وزينة المدنية، فيها تنمى القوى وتنطلق المواهب، وبصوبها تنبت فضائل الصدق والشجاعة والنصيحة بصراحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتلاقح الأفكار وتورق أفنان العلوم» (1) .

لايكاد يختلف إثنان على امتداد وطننا العربي والإسلامي على تزايد أهمية «الحرية» في حياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية. ويذهب العديد إلى أن غيابها يعد السبب الرئيسي في تخلفنا وانحطاطنا. وأن خروجنا من هذه الحالة لايتأتى إلا إذا نسجنا من خيوطها (الحرية) نهجاً يوجه مآلات فعلنا الفردي والجماعي.

وقد تكثفت الدعوات للمطالبة بها، بعد تيقظ الوعي العربي والإسلامي على خطورة ما نسجته «الدولة الحديثة» في حياتنا من مظاهر الاستلاب والاستبداد. فإذا كان مشروع النهضة في بواكيره حدّد لنفسه أهدافاً يتجاوز بها حالة الانحطاط بالتخلص معاً من مظاهر الاستعمار المباشر ورواسب التخلّف في نسيجنا الاجتماعي المنسوب إلى مراحل سابقة من تاريخنا. فالمقاربات الراهنة استفاقت على أن مشاريع «التحديث» التي قامت بعد مرحلة الاستعمار المباشر، لم تحقق المنشود. بل في أحد مظاهرها «استنسخت» مراحل غابرة من تاريخنا وتاريخ المستعمِر.


وأصبحت مقولة الحرية من القواسم المشتركة الجامعة لكل الأطراف من ليبرالية وقومية وماركسية وإسلامية. وتوجه كل طرف للتنظير والإدعاء بكون «الحرية» هي مقوم أساسي من مقومات مشروعه، بل هي الفاعل الجوهري في بنيته النظرية ولاتفترق في هذا الإدعاء السلطة عن المعارضة. ولكن يبقى الإشكال العملي قائماً. فالممارسة اليومية هي المحك لصدقية الشعارت والدعوات. وقد حاول البعض التغلّب على هذه الإحراجات بتوظيف التاريخ في الدفاع عن صورته في الماضي ولكن دون أن يكون قادراً على سحب ذلك على الحاضر والمستقبل. الأمر الذي يستدعي مواجهة حقيقية وجرأة في الطرح. ونحسب أن مقاربة الأستاذ توفيق السيف (2) تتحرك في هذا الفضاء، إذ هي تهدف إلى تناول إشكالية الحرية من منظور الإسلاميين بعيداً عن تعظيم التاريخ أو تهوينه، ودون أن تكون مجنّحة في التنظير، إذ الهدف هو الكشف عن إمكانية التنزيل العملي للمشروع الإسلامي من خلال التأكيد على مطلب الحرية في واقعنا المعيش. محاولاً استكشاف مواطن الضعف والخلل في «منظور الإسلاميين» بعقلية المشارك والمنخرط في المشروع لا المنافح أو المشكك، الأمر الذي يعطي للمقاربة مصداقية نقدية تفتقد إليها كثير من كتابات الإسلاميين اليوم.
والمقاربة في اعتقادنا هي صورة جديدة لطموح الإسلاميين في المساهمة في تجديد الفكر السياسي العربي والإسلامي. وهو ما سنحاول تبيانه في قراءتنا السريعة لجديد الأستاذ توفيق السيف. مستجيبين لدعوة المؤلف الذي يدعونا لقراءة نصه «بعين الناقد لابعين المتلقي السريع الاستجابة، ليكون الحوار قائماً بين الكاتب والقارئ ولو عن بعد».
1ـ في العنوان والمنهجية:
يذكر الأستاذ توفيق السيف أن العنوان الذي اختاره في البدء لمصنفه هذا هو «نقد المشروع الإسلامي»، وتخلّى عنه بناء على نصيحة من زملائه، لأنه عنوان ملتبس، ربما يؤدي إلى سوء فهم أو بالأحرى سوء «استقبال». ولسنا هنا في وارد مصادرة حق المؤلف في تحديد العنوان الذي يراه ملائماً للكتاب وفق ما حدده من أهداف عند نشره. ولكن هناك ملاحظة جديرة بالذكر هو إن تغيير العنوان إما لاعتبارات تقنية أو جمالية أو علمية أو مادية أو نفسية لاشك أنه يشير إلى عقلية المصنّف وتأثير ذلك في الأفكار المُراد بثها في الكتاب. «فالحذر» الذي قاد الأستاذ توفيق السيف إلى تغيير عنوان كتابه لامسناه أيضاً في متن الكتاب. إذ اتسم في كثير من مسائله «بالتعميم» و«الحذر» وعدم الجرأة في التطرق لإشكاليات هي بأمس الحاجة إلى الطرح خاصة من الإسلاميين أنفسهم. ونحسب أن المتتبع بدقة للكتاب يشعر بوجل الكاتب الذي لايفصح عن نفسه إلا عند ذكر مسألة اختيار العنوان.
ولكن رغم ذلك نحسب أن هذا «الحذر» و«الوجل» ليسا بذميمة للكاتب إذا كان هدفه هو شيوع فكرة النقد في مجتمع لانقدي. فالتدرج ومراعاة المقام والحال ضرورة لابد منها لمن يروم بناء مشيداً. ونحسب أن العنوان الجديد اقرب إلى حقيقة ما يتضمنه الكتاب.
أما فيما يتعلق بالمنهجية المعتمدة فهي استقرائية، إذ عمد المؤلف إلى استقراء النصوص الدينية وتجربة الإمام علي في موضوعة حرية الرأي. ولانشك في قدرة هذه المنهجية في الوصول إلى تحديد الكلّي في الرؤية الإسلامية للمسألة المطروحة. وذلك من خلال المرور بجمع واستقراء الجزئيات التي ندعي بأن لها علاقة بالمسألة. والتي جمعت كما ذكرنا من بعض النصوص الدينية ومن أقوال الإمام علي. ولكن ما تجدر الإشارة إليه ان همّ الكاتب في هذه المقاربة ليس التنظير للحرية وتقديم مقاربة متكاملة. وهو ما لايدعيه. ولكن همّه تفكيك العقلية القائمة على مهمة التنظير للمشروع الإسلامي، وتبيان مظاهر الخلل فيها والتي تمثل عوائق ابستمولوجية في أسلوب عرض الإسلام والتي يمكن إجمالها في:

1ـ الخلط المنهجي في لاوعي الإسلاميين بين النص الديني ومشاريع قراءته.
2ـ الإصرار على الشعار العام وترك التفصيل.
3ـ قيمة العيب وتحكمها في العقلية الإسلامية.
4ـ قلق الفتنة وتأثيرها في الحراك السياسي الداخلي والخارجي.

وبقدر ما ركز الأستاذ توفيق السيف على إبراز العوائق الابستمولوجية بقدر ما غيّب الحديث عن المعوقات السوسيولوجية التي لاينكر أحدٌ أهميتها ودورها فيما تشهده الساحة الإسلامية من مظاهر الخلل.
«فالعقلية التعميمية» التي تسيطر على الذهنية الإسلامية من الأكيد أن لها أسباب تاريخية ـ سوسيولوجية تتجاوز مشاريع القراءات المختلفة للنص والتاريخ وهو ما سنحاول الاتيان عليه في إبانه.

2ـ الإسلام وحق الاختلاف:
بنى المؤلف رؤيته لحق الاختلاف في الإسلام على مجموعة أدلة مباشرة وغير مباشرة في محاولة لفك الارتباط بين معنى «التعدد» ومعنى «الخلاف في الدين وشق عصا المسلمين». وذلك بغية إلغاء هذا الفهم الملتبس في ذهن المسلم والذي يرجعه الكاتب إلى «حرمان المسلمين لقرون طويلة من ممارسة الحرية والجمود في فهم النص القرآني والتفسيرات الخاطئة، المقصودة أحياناً والعفوية أحياناً أخرى». وللحقيقة أن الفكرة المستهدَفَة (فتح الدال وفتح الفاء) هي فكرة خطيرة وهي سائدة بين الإسلاميين والتي مفادها كما يقول د. صالح كركر «أن كل تجديد وتغيير للمألوف يمثل تهديداً لسلامة الدين، ودساً من الأعداء ضده، وذلك على أساس قاعدة خاطئة مفادها أن كل مخالف لنا هو خصمنا، ومن هو كذلك فهو عدو لنا وعدو للإسلام، فاسق عنه!» (3) . ويرجع د. كركر سبب سيادة هذه الأفكار والتعميم في الفهم والعرض إلى «أن الحركة الإسلامية لم تسلك مسلكاً يكوّن لدى أفراد مجتمعاتها «العقلية المجهرية» ويزيح الستار على ملكات العقول الإبداعية، وبقيت بسبب التقليد متأخرة عن دورة الزمن تجتر خطاب التراث التعميمي، فبقي خطابها تعميمياً غير قادر على تقديم البديل العملي والمميز» (4) .

ونعود إلى الأدلة التي اعتمدها الكاتب في تأكيده على مشروعية الاختلاف في الإسلام. وقد بدأ حديثه بالأدلة غير المباشرة أي غير النصية والتي هي:
1ـ التفريق بين الدين والمعارف الدينية.
2ـ اعتبار التخطئة في الاجتهاد.
3ـ أدلة الشورى.
4ـ فردية التكليف والاختيار.
5ـ أدلة الاجتهاد، وكما يرى الكاتب أن «الاجتهاد ليس في حقيقته سوى استخدام المجتهد لحقه في مخالفة رأي الغير».
أما الأدلة المباشرة أي النقلية والمستمدة مباشرة من القرآن الكريم فقد اقتصر المؤلف على إبراز النصوص الدالة على المعاني المقصودة من خلال التمثيل بثلاثة سياقات للآيات القرآنية:
1ـ تشنيع القرآن على الذين رفضوا الدعوة الربانية تقليداً لآبائهم.
2ـ تجهيز الخالق تعالى للإنسان بالوسائل التي تمكنه من حرية الاختيار.
3ـ منع إكراه الغير على ما لايريد.
ونقدر بأن المؤلف أفلح في إبراز شرعية الاختلاف عقلياً ونقلياً. ولكن كان مروره سريعاً، خاصة وأن الاستدلال النصي يستدعي استدلالاً نصياً معارضاً له، الأمر الذي يدعو إلى تقديم مقاربة نقدية للمنهجية النصوصية (5) التي يعتمدها الطرف السلفي، وللمنهجية الإسقاطية التي يتبناها بعض «التحديثيين»، والأمر يدعو إلى إبراز منهجية بديلة، وهو ما يتوجه إليه المؤلف ولكن من الواضح أن عقبات حالت دون تحقيق ذلك.

3ـ الخلل في أسلوب عرض الإسلام:
كنا أشرنا سابقاً أن الكاتب حاول إبراز مجموعة العوائق الابستمولوجية في هذا العرض والتي يتطلب تجاوزها. وهي مطالب أساسية في عمليتي العرض والتطبيق للمشروع الإسلامي في ساحة العمل السياسي العام. فوحدانية الصورة بين النص وقراءته تمثل أولى العوائق. وقد أكد العديد على خطورة هذه المسألة، ونحسب أن الوعي الإسلامي اليوم بدأ يتجه وبشكل واضح وملموس إلى الإقرار بتعدد القراءات. وإن كانت عقلية نشر الضوابط هي المهيمنة في هذا المجال. ولكن في اعتقادنا هي صورة أولية لتجاوز حالة التردد والخوف على الذات من الآخر.
أما الإصرار على الشعار العام وترك التفصيل فيعود إلى التباس في الوعي بين التفصيل في تقديم المشروع الإسلامي والابتداع في الإسلام. فالبقاء في مرحلة الشعار يحقق الوحدة والكفيل بعدم السقوط في البدعة!

فالمرحلة الأولى تحافظ على طهارة وقداسة الإسلام وبالتالي على قوة الخطاب الإسلامي في مواجهة بقية الخطابات العلمانية. بينما المرحلة الثانية تجعلهم في نفس المرتبة وهو ما يفقدهم الكثير في صراعهم. وإن كان د. صالح كركر يرجع ذلك إلى غياب «العقلية المجهرية» وجمود الذهنية الجماعية ولكن لاشك أن الاعتبارات البسيكولوجية والسوسيولوجية لها دور لاينكر. ولايمكن تقديم تفسير موضوعي لهذه المسألة دون اعتمادها مع بقية الاعتبارات. ونحسب أن الاعتبارات النفسية والاجتماعية والتاريخية لم تغب كلياً عن التحليل إذ حديث الكاتب عن «قيمة العيب» و«قلق الفتنة» يصب في جوهر المسألة. ففهم آلية النقد وماهيته عند الإسلاميين خطوة ضرورة للكشف عن العقلية التي تقف خلفه والأمر يستدعي هنا تناول العديد من المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بعملية النقد بالتحليل والتفكيك والتي تعج بها الثقافة الشعبية والتي للأسف الشديد لاتزال تأسر الوعي الإسلامي والعربي عموماً. وبما أننا نؤكد على المجال السياسي أكثر من غيره فتجدر الإشارة إلى ضرورة إعادة قراءة مدونات السياسة الشرعية والآداب السلطانية، لأن باكتشاف بعض مفاعيلها في العقل العربي والإسلامي اليوم يمكن تجاوز الكثير من السلبيات التي تعج بها حياتنا. وللحقيقة يعد كتاب د. كمال عبد اللطيف الأخير من أفضل ما نُشر في هذا المجال. وكما لاحظ د. عبد اللطيف أنه في «أغلب الدول العربية الإسلامية لاتزال علاقة الحاكمين بالمحكومين تتم بتوسط لغة الآداب السلطانية» (6) ، خاصة وأن الكتابة السياسية في نظام الآداب السلطانية: «كتابة تنتصر لتدابير واختيارات السلطة السائدة، وتحذر العامة من مغبة نقد السلطة أو الخروج عليها. كما تنشر أخلاق الطاعة والصبر، بحجة المحافظة على النظام، والتغلب على أزمنة الفتن التي تزهق فيها الأرواح، وتُمتحن فيها الرسالة التي تحملها الأمة وترعاها السلطة» (7) .
وهذه الكتابة هي المَعين الأساسي للفكر السياسي الإسلامي المعاصر. لذلك فإعادة قراءة الآداب السلطانية مهمة آنية لاغنى للمتتبع للفكر الإسلامي المعاصر من إنجازها، ودون ذلك لايستطيع فهم الكثير مما يروج في هذه الساحة.
تبقى مسألة أخيرة لابد من الاتيان عليها والتي حظيت في تقديرنا بالتحليل القيم من طرف الأستاذ توفيق السيف، وهي مسألة التكفير والتي يعتبرها في صورتها الحديثة «هي انعكاس لضيق إطارات التعبير عن الذات، أو اليأس من تحقيق الأهداف بالطرق السلمية، أو القلق من العجز عن الجدل المفتوح»، ولكن لابأس هنا من إضافة بعض الأسباب الدافعة لظهور هذه الموجة والتي أجملها د. رضوان السيد في (8) :

1ـ القلق الشديد على الهوية ورموزها من الحداثة العصرية اللادينية.
2ـ سرعة تحول أولئك الإسلاميين إلى الحزبية والسرعة النسبية لتبلور الإسلام السياسي.
3ـ الصراع على المرجعية.

بينما يرى د. صالح كركر بأن كثيراً من الخلل القائم في تصورات الإسلاميين يعود إلى عاملين أساسيين:
1ـ التنظيم الذي هو للتنفيذ لا للتفكير والبحث والتنظير.
2ـ الصفة السياسية والحزبية.
وفي هذه الأخيرة يقول كركر: «والحزبية على أساس الصفة الإسلامية قسّمت أفراد نفس المجتمع المسلم بين إسلامي وغير إسلامي، ولا يخفى ما لهذه الإزدواجية من سلبيات شديدة الخطورة. فقد قسمت المجتمع إلى فريقين وعمقت الهوة وجذرت القطيعة بينهما في وقت تجد فيه مجتمعانا نفسها فيýأشد الحاجة إلى رص الصفوف ولمّ الشتات وتوحيد الأرضية الفكرية التي تقوم عليها. وقد ساهمت هذه الحزبية في مزيد عزل غير الإسلاميين عن الإسلام وفي مزيد تشنّج النخبة المثقفة العلمانية ضد الإسلام وفي مزيد البعد عنه ومعاداته» (9) .

وتبقى الأسئلة التي تثيرها مقاربة الأستاذ توفيق السيف مفتوحة وتبقى الحاجة إلى إعادة قراءته ومعاودتها ضرورة ملحة.

* كاتب من تونس.

الهوامش:
1)ـ ابن عاشور، محمد الطاهر، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، تونس، الشركة التونسية للتوزيع. د. ت. ص170.
2)ـ السيف، توفيق، الإسلام في ساحة السياسة.. متطلبات العرض والتطبيق، بيروت، دار الجديد، ط1، 2000، ص126.
3)ـ كركر، صالح، الحركة الإسلامية وإشكاليات النهضة، فرنسا، 1998، ص19.
4)ـ المصدر نفسه، ص16.
5)ـ في هذه المسألة انظر، صافي، لؤي، إعمال العقل، دمشق، دار الفكر، ط1، 1998، خاصة الفصل الثالث من الباب الثاني.
6)ـ عبد اللطيف، كمال، في تشريح أصول الاستبداد، بيروت، دار الطليعة، ط1، 1999م، ص270.
7)ـ المصدر نفسه، ص266ـ267.
8)ـ السيد، رضوان، قراءة النص وتوظيفاته السياسية والثقافية (1)، في «السفير» يوم 7/10/99، ص19.
9)ـ كركر، صالح، مصدر سابق، ص22.

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...