31/05/2010

اتجاهات في تحليل التطرف


قدم زميلنا الدكتور محمد الحربي ملاحظة ذكية عن مسارات التطرف الديني ، التي يشهدها مجتمعنا بين حين وآخر (عكاظ 28/5). وهو يجد أن أكثر الناس تطرفا في الماضي، لازالوا متطرفين، لكن اتجاههم تغير. انشغلوا سابقا في إثبات جاهلية المجتمع وحقهم في السيطرة على مساراته، وينشغلون اليوم في مهاجمة رفاقهم السابقين الذين اختاروا طريق الاعتدال. في الماضي كانوا يتهمون المعتدلين بالفصل بين الدين ومضمونه السياسي، وهم اليوم يتهمون المعتدلين بتبني أجندات سياسية.
جوهر الفكرة التي عبر عنها الزميل الحربي هي أن التطرف موقف شخصي أو لنقل طبيعة شخصية. ثمة من يميل إلى التشدد في كلامه وسلوكه ومواقفه مهما كانت الفكرة التي يتبناها. يميل بعض المحللين إلى هذا الرأي. ويميل غيرهم إلى الاعتقاد بأن كلا من التطرف أو اللين هو نتاج لتصور ذهني عن الدين، يتسم بالغلو أو الاعتدال أو السلبية. ولعل الذين تبنوا هذا التحليل أو سابقه لديهم ما يكفي من الأدلة عليهما.

لكن التطرف كظاهرة اجتماعية ليس مقصورا على هذه البلاد أو هذا الدين. جميع أشكال وتمظهرات التطرف التي شهدتها بلادنا في الماضي والحاضر، لها نظائر في بلاد أخرى. من الأمريكتين إلى غرب أوروبا والشرق الأوسط حتى وسط آسيا وشرقيها، هناك أمثلة على تطرف في الأفكار وفي السياسة يصاحبه عنف مسلح ودماء. يبدأ العنف إيديولوجيا ثم سياسيا وينقلب في حالات عديدة إلى جريمة منظمة ترتدي عباءة الإيديولوجيا.
هذا يشير إلى أن التطرف ظاهرة اجتماعية وليس ظاهرة دينية. وعلينا عندئذ أن نبحث عن أسبابه ووسائل علاجه في المجتمع وليس في الدين. كان دانييل ليرنر قد تحدث في كتابه الكلاسيكي «موت المجتمع التقليدي» عن تأثير الجغرافيا في تشديد الميل إلى التطرف أو الاعتدال. وتبنى هذا الاتجاه في وقت لاحق د. عبد الله النفيسي في تفسيره لتمايز الاتجاهات الإسلامية بين التشدد واللين.

 وأظن أن اتجاه التحليل هذا مألوف لقراء التراث ولا سيما ابن خلدون. لكن ثمة تبسيطا غير مقبول في الربط بين الظرف الجغرافي والميول النفسية والثقافية، خاصة إذا اعتبرنا ذلك العامل نوعا من الجبر. ما يميز تحليل ليرنر هو تركيزه على الاقتصاد كوسيط لنقل تأثيرات الجغرفيا إلى الثقافة. بعبارة أخرى فإن الظرف الجغرافي يحدد نمط الإنتاج والمعيشة في بلد، وهذا بدوره يسهم في تشكيل الاتجاهات الثقافية والنفسية للسكان. التأكيد على دور نمط المعيشة والإنتاج وبشكل عام النظام الاقتصادي في تحديد مسارات الثقافة العامة ولا سيما النظام القيمي والسلوكي للسكان هو تحليل متعارف وقد أخذ به جميع الباحثين في علم الاجتماع تقريبا.

اقترح ديفيد ايستون ، وهو منظر بارز في علم السياسة، طريقة لدراسة تأثير السياسة على المجتمع، أسماها موديل المدخلات المخرجات. وهي معتمدة أيضا في علم الاقتصاد، وتهتم بتحليل الآثار الناتجة عن الاستراتيجيات والسياسات الحكومية، من خلال عزل المدخلات (أو العوامل) الرئيسية عن الفرعية وتشخيص العلاقة بين عوامل محددة رئيسية أو فرعية وبين النواتج (المخرجات) المقابلة لها.

 وأظن أن مثل هذا الموديل يمكن أن يساعدنا في تشخيص الأسباب التي أدت إلى بروز ظاهرة التطرف في المجتمع المحلي. إذا قلنا مثلا بأن الدين، أو نوعا محددا من الخطاب الديني، يؤدي إلى تأجيج العنف، فسوف نحتاج إلى تحديد معنى كون هذا العامل مؤثرا، أي: ماهي الشروط التي تجعله مؤثرا أو غير مؤثر، هل هي شروط تخصه أم تخص المتلقي. ومتى يكون مؤثرا أو غير مؤثر، أي ما هي العوامل الإضافية التي تعتبر شرطا أو مقدمة لجعله مؤثرا. وماهي العوامل الغائبة (أي نقاط الفراغ) التي تجعل من هذا العامل بديلا عن عوامل أخرى..

طبقا للتحليل الذي توصلت إليه، فإن الخطاب الديني لعب دورا إضافيا أو مساعدا ، ولم يكن أبدا العامل المحوري في بروز الظاهرة التي نسميها بالتطرف. ولهذا فإن التركيز على هذا الخطاب في المعالجة ، قد لا يفيدنا في اجتثاث التطرف ، وإن ساعدنا على تخفيفه أو تغيير اتجاهاته، أو ربما تأجيل مخرجاته المثيرة.

22/05/2010

الخجل السياسي وتطبيقاته

||اعتدنا مشاهدة الاحتفالات الدعائية عند الاعلان عن مشروع جديد ، فلماذا يسكتون اذا تعثر؟ ||
لا تتوقف الصحافة عن الكلام في قضايا الاصلاح وموضوعاته ، ولا يمر يوم واحد دون ان تقرأ في صحيفة شيئا يتعلق به مباشرة او مداورة. موضوع الاصلاح ليس اذن مسألة جديدة او مجهولة او غامضة. لكننا مع ذلك نتحدث عنها كما لو انها بنت اليوم. فما هو السبب ياترى؟
بديهي ان بعض موضوعات الاصلاح تتطلب زمنا طويلا حتى تنضج وتظهر اثارها. لكن ثمة شريحة كبيرة من الاصلاحات المطلوبة لا تحتاج لاكثر من ارادة قوية وقرار. على ان الموضوع الاكثر اثارة للاهتمام هو مشروعات الاصلاح التي تقررت فعلا ووضعت قيد التنفيد لكنها تعثرت او تباطأت.
واظن اننا نعاني نوعا من الخجل السياسي ، يتلخص في اعراض بعض المسؤولين عن مكاشفة الراي العام ، اذا تعثر مشروع او تأخر او تم التخلي عنه. نعرف  عددا من الاستراتيجيات التي سبق تبنيها وعلقت عليها امال كبيرة ، لكنها طرحت او اجلت او استبدلت لاسباب اقتصادية او سياسية او غيرها. لكن الادارة او الوزارة التي تبنت المشروع ، لم تعلن صراحة انها تخلت عنه او اجلته. فهي تكتفي في العادة بالصمت . ويطلع عليه الناس من خلال الصحافة الاجنبية او تسريبات الانترنت او سوالف المجالس وامثالها.
كمثل على هذا: قبل ثلاثة عقود من الزمن ، تبنت الحكومة استراتيجية الامن الغذائي التي تتركز على تشجيع الزراعة المحلية ودعمها ماليا وقانونيا. ونعلم ان هذا الاستراتيجية قد طرحت الان ، واستبدلت بمشروعات مثل الاستثمار في الزراعة في الخارج الخ. لكن وزارة الزراعة لم تعرض على الراي العام هذا القرار وتبريراته. كل ما عرفناه وصل الينا من تسريبات او كلام ضمني او تقارير اجنبية ، او من تحليل بنود الانفاق في الميزانية العامة للدولة. 
 على المستوى المحلي نرى مشروعات صغيرة او كبيرة تعلن الجهات الحكومية انها ستوضع قيد التشغيل خلال عام او عامين. لكن بعد عام او عامين لا ترى سوى اللوحة التي بهتت الوانها ، او ربما سور التنك الذي يحيط بالموقع. هناك طبعا اسباب للتعطيل ، قد تكون جدية ، لكن الاعلان عن التاجيل  او التاثر ليس عيبا. نحن نقرأ في الصحيفة ان الوزارة الفلانية تنفذ المشروع الفلاني بقيمة كذا مليون ، وحين نذهب الى الموقع لانرى غير سافي التراب ، فليس هناك تنفيذ ولا من ينفذون. هذه المشروعات الصغيرة مصابة بنفس علة الاستراتيجيات الكبيرة التي يعلن عن انطلاقها لكن يسكت عن تعثرها او الغائها.
لو تحدث المسؤول صراحة عن قرار التعطيل وقدم اسبابه ، او اصدرت الوزارة بيانا رسميا بذلك ، فسوف يحصل على تقدير اكثرية الناس ، لان الجمهور يحترم المسؤول الصريح. اما اذا سكت الجميع ، فسوف يعلم الناس بعد حين من سوالف المجالس او تسريبات الانترنت ، او من عدم رؤية نتاج المشروعات التي جرى الكلام عنها . وسوف يظنون ان ما قيل سابقا ليس سوى تمنيات او مسكنات. والاسوأ من ذلك ما يترتب عليه من تراجع ثقة الناس في وعود الرسميين او في المشروعات المقترحة.
دعوت سابقا الى الاعلان عن مشروعات كل وزارة ، واقصد بذلك صدور بيان رسمي من قبلها يحدد ما سوف تنفذه من اعمال خلال السنة المالية. ومع ان احدا لم يستجب لهذا الاقتراح ، الا اني اضيف اليه اليوم الحاجة الى اقامة مكتب صحفي في كل وزارة يقدم ايجازا شهريا عن نشاطات الوزارة ، ويتولى التواصل المنتظم مع وسائل الاعلام. هذا سوف يعزز الشفافية في الادارة ، وسوف يكشف للمسؤولين عن هموم الجمهور ومطالباته ، كما سيكشف للجمهور الاعمال الجارية وتلك المتعثرة ، الامر الذي يعزز الثقة في العمل الاداري ويقيم فرصة للتفاعل والتعاون بين الادارة والجمهور.
 

مقالات ذات علاقة


22  مايو 2010

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...