12/02/2020

تحكيم القانون وليس التعويل على الاخلاق

وفقا لرأي د. ابراهيم البعيز فان التوجيه الاخلاقي – رغم ضرورته – ليس علاجا كافيا للانحرافات السلوكية والمشكلات التي تلازم الحياة المدينية. وكان البعيز ، وهو استاذ جامعي مهتم بقضايا التربية والاعلام ، يتحدث امام منتدى التنمية  المنعقد في الكويت (7 فبراير 2020) ، حول الدور المحوري للقانون كضابط للحياة المدينية التي تزداد عمقا وتعقيدا.
اننا نسمع من الارشادت والمواعظ الشيء الكثير ، وبشكل شبه يومي. واذا كنت سعوديا تجاوز الثلاثين من العمر ، فالمؤكد انك حصلت على نحو 2000 ساعة من التعليم الديني. وهذا قدر يكفي لجعلك متخصصا في علم الدين. لكني أجد – ولعلكم مثلي - ان التخصص العلمي شيء والتعامل الاخلاقي شيء آخر. يود الناس بطبيعة الحال المطابقة بين المعرفة الدينية والاخلاق الرفيعة. لكن هذا مجرد افتراض. 
إن معايير السلوك (في جانبها التطبيقي خصوصا) مستمدة من العرف. وغرضها تسويغ التعاملات الاجتماعية. ولذا فهي تصعد او تهبط ، تبعا لتحولات الحياة الاجتماعية: ما يستنكر  بالامس ربما يقبل اليوم ، وما يرحب به اليوم قد يستنكر غدا ، وهكذا. ارتباط الاخلاقيات بالعرف قد يصل الى حد التعارض مع تعاليم الدين ، التي يجري التاكيد عليها كل يوم. من ذلك مثلا إحسان التعامل مع الاجير والفقير والضعيف. ومنه افشاء السلام وايثار الاخر  والاحسان ، ومنه الرحمة والعطف ، ومنه المبادرة باقرار الحقوق المالية والمعنوية لاصحابها ، وعدم السكوت عنها ، فضلا عن انكارها او الحط من قدرها. 
فهذه أمثلة عن اخلاقيات معروفة تحث عليها جميع الاديان ، ويتفق على حسنها كافة الناس ، لكنها مع ذلك ضعيفة التأثير في الحياة الاجتماعية. ولذا نرى ان المشكلات الناتجة عن اساءة التعامل ، لا يختلف عددها وحجمها بين بلد مسلم متدين وبلد غير مسلم او غير متدين. ونعلم على سبيل المثال ان السجناء في نزاعات مالية يعدون بالالاف ، وان قضايا العضل واساءة المعاملة للنساء والعمال والشرائح الضعيفة في المجتمع ،  تعد بعشرات الآلاف وليس المئات او الآلاف في كل عام.
هذا أمثلة نراها كل يوم ، وهي تخبرنا عن ضعف الصلة بين الارشاد والوعظ من جهة ، والتعاملات الواقعية بين الناس في حياتهم اليومية ، من جهة اخرى.
تتسم الحياة في المدينة بالسرعة والتعقيد وكثرة المستجدات. ان التغير هو السمة الرئيسية للحياة المدينية. ولهذا فهي تزداد تعقيدا وعسرا ، بقدر ما تدخل عليها من عناصر جديدة ، وأبعاد غير مألوفة في كل يوم. وهذا بدوره يؤكد الحاجة الى القانون الذي يشكل حدا نهائيا لحركة البشر والمال والاشياء ، كي لا يسقط الضعفاء في الزحام فتسحقهم الاقدام.
كان ارسطو  يعتقد ان الناس يطيعون القانون خوفا من العقاب ، لا حبا في الفضيلة. هذا تصور مبني على رؤية متشائمة للطبيعة البشرية ، كانت سائدة في الأزمنة القديمة. اني أعارض هذه الرؤية ، لأسباب قد اعرضها في وقت آخر. لكني اعترف بان بدائل القانون ، ومنها الوعظ ، ليست فعالة في هذه الاوقات. ولو كانت فعالة ومفيدة لكان اهل الأديان احسن حالا ، على الاقل في مجال التعاطي مع بعضهم البعض.  
ومن هنا ، فاني سوف اقبل – ولو على مضض - الرؤية الداعية لتحكيم القانون في كافة اجزاء الحياة المشتركة بين الناس ، بحيث يتوفر لدينا ضابط فعال لكل ما امكن من التبادلات داخل المجتمع. وسوف يكون علينا ابقاء الامر على هذا الحال ، حتى نعتاد على الاقرار بالحقوق الضرورية المتبادلة فيما بيننا ، عندئذ سيكون للوعظ محل.
الشرق الاوسط الأربعاء - 17 جمادى الآخرة 1441 هـ - 12 فبراير 2020 مـ رقم العدد [15051]
مقالات ذات علاقة 


29/01/2020

هذه خرافة وليست عقاب الله

اكتب هذه السطور بعدما قرأت لمن يقدمون انفسهم كمدافعين عن الاسلام ، كتابات فحواها ان "وباء كورونا" الذي ضرب الصين ، عقاب من الله لحكومتها التي عزلت وحاصرت مليون مسلم من شعب الايغور. اني لا اتحدث عن افراد مجهولين ، بل عن عشرات من المشايخ والناشطين المؤثرين ، الذين يجزمون ان ذلك البلاء عقاب رباني ، ولا علاقة له بالنظام الطبيعي.
يذكرني هذا بجدل حاد جدا شهدته بلادنا نهاية 2004 ، حين قال عدة خطباء ان زلزال تسونامي الذي أصاب اندونيسيا غداة عيد الميلاد ، كان عقابا ربانيا للفاسدين الذين كانوا يرقصون ويسكرون على الشواطيء. ونعلم ان هذا غير معقول ، فقد أودت الكارثة بنحو 230 ألفا غالبيتهم من الفقراء المشغولين في اعمالهم ، والاطفال وامهاتهم الذين كانوا في بيوتهم في الارياف البعيدة عن الشاطيء.
بالعودة للوباء الصيني  ، فان السؤال الذي يواجه العقلاء هو: كيف يعاقب الله اناسا عاديين بالمرض والموت ، لا لذنب سوى انتمائهم لبلد ، قامت حكومته بافعال سيئة. هل هذا من العدل؟. الا يناقض هذا قول الله سبحانه "ولا تزر وازرة وزر اخرى"؟
دعنا نضرب مثالا يوضح النهايات المنطقة لهذا النوع من التفكير الخرافي: في القرن 19 قتل الجيش الفرنسي الاف المسلمين في شمال افريقيا. وفقا للرؤية السابقة ، فان الشعب الفرنسي يستحق ان يسلط الله عليه كارثة تفني مئات الالاف منه. دعنا نفترض ان رجلا قرر تنفيذ هذه الرؤية فعمل على ابادة الفرنسيين باي طريقة ، قنبلة ذرية مثلا. عمله هذا يعتبر وفق الرؤية ذاتها قياما بالعدل واستجابة لما اراد الله. وهذا المثال بعينه قابل للتطبيق على الشعب الاسباني والبرتغالي والايطالي والبريطاني والالماني والروسي والصيني والهندي ، وكل شعب آخر نكلت حكومته بالمسلمين في الحاضر او الماضي!.
اظن ان هذا  المثال قد اوضح  بدقة ، كيف يمكن لفكرة ساذجة تنقل النصوص دون تبصر ، ان تنتج مولودا مثل "داعش" التي أرادت ان تكون "سيف الله" على العصاة من عباده.
هذا المنطق الخرافي يضعنا امام مفارقة عسيرة ، في تفسير قيمة العدل ولا سيما العدل الالهي. دعنا نأخذ مثال اعصار"بولا" الذي ضرب سواحل باكستان الشرقية (بنغلادش حاليا) في 1970 فقتل نصف مليون وشرد ملايين ، جميعهم من المسلمين الفقراء ، وتسبب في فتن مهولة ، انتهت بتفكك باكستان وقيام دولة بنغلادش ، بعد حرب طاحنة قتل فيها 40 الف من المسلمين وحدهم. فمن هو المذنب الذي أراد الله عقابه هنا ، وأين تحقق مفهوم العدل في تلك الكارثة؟.
واختتم بذكر أسوأ كارثة سجلها التاريخ البشري ، وهي وباء الانفلونزا الاسبانية الذي ضرب العالم كله شرقا وغربا ، بين عامي 1918 و1919 وتوفي بسببه 100 مليون شخص ، بينهم 16 مليونا في الهند و650 الفا في الولايات المتحدة الامريكية ، فضلا عن عشرات الالاف في المدن الساحلية الواقعة على خطوط الملاحة بين آسيا واوربا ، وما يتصل بها من أرياف. وتسبب الوباء في تعطيل معظم خطوط الملاحة ، في وقت كانت السفن وسيلة وحيدة للتواصل بين قارات العالم. فمن الذي استحق العقاب هنا ، وما هو سبب العقاب؟.
يجب ان نقول دون اي تردد ، ان تطبيق مقولة العقاب الالهي على مثل هذه الحوادث ، تفسير خرافي لا يقبله عاقل. وهو ضد العلم وضد العدل ، ولا يصح نسبته الى الرب الرحيم جلا وعلا.
الشرق الاوسط الأربعاء - 3 جمادى الآخرة 1441 هـ - 29 يناير 2020 مـ رقم العدد [15037]
https://aawsat.com/node/2103971

مقالات ذات علاقة


لماذا يرفضون دور العقل؟

  ليس هناك – على حد علمي – من ينكر دور العقل بصورة مطلقة. لو فعل أحد ذلك فلربما عده العقلاء مجنونا أو ساذجا. لكننا نعرف أناسا كثيرين ينكرون ...