حوادث العقد المنصرم اثمرت
عن تغيير عميق في المجتمعات العربية ، شاهده الابرز هو تحول هذه المجتمعات الى
فاعل سياسي نشط نسبيا ، بعد نصف قرن تقريبا من الخمول.
يقول الاجتماعيون ان
الثقافة السياسية السائدة ، تحولت من ثقافة انفعالية الى ثقافة تفاعلية ، حسب التقسيم
الثلاثي الذي اقترحه غابريل الموند وسيدني فيربا في كتابهما المرجعي "الثقافةالمدينية".
تعرف الثقافة السياسية
كحالة ذهنية ، تتشكل على ضوئها رؤية المجتمعات لنفسها وللدولة. في الحالة
الانفعالية يشعر المجتمع بتأثير الدولة عليه ، لكنه لا يقابلها بأي نوع من ردود
الفعل ، لا يساعدها ولا يعارضها ، فهو مجرد عامل منفعل. وهي سمة غالبة في
المجتمعات الريفية.
اما في الحالة
التفاعلية فالمجتمع مدرك لتأثير الدولة عليه ، ومدرك أيضا لقدرته على التاثير فيها
قليلا أو كثيرا. ولذا فهو يميل الى علاقة تفاعلية ، تنطوي على تعاون حينا ومعارضة حينا
آخر. وهذه هي الحالة التي تتجلي فيها قابلية المجتمع للمشاركة السياسية.
الباحثون الذين
اختاروا "الثقافة السياسية" كمدخل للبحث في امكانية التحول الى الديمقراطية
، اهتموا بالمؤشرات الكمية والكيفية للتفاعل الاجتماعي مع قرارات الدولة وسياساتها
، باعتبارها دليلا على مدى قابلية المجتمع للتحول.
ما يهمنا في هذه
المقالة هو ملاحظة السمات الرئيسية للمرحلة الانتقالية ، اي الظرف الذي تظهر فيه
علامات واضحة تؤكد تخلي المجتمع عن حالة الانفعال والخمول السياسي ، وقيامه
بالتعبير عن ذاته ومطالبه ، سواء وجه خطابه للدولة او للقوى الفاعلة في المجتمع.
اهم سمات المرحلة
الانتقالية هو غياب الاجماع ، بسبب انحسار الاعراف والتقاليد التي كانت تلعب قبلئذ
دور ضابط الحركة الاجتماعية ، وتمثل أرضية القيم ونظام العلاقة بين افراد المجتمع.
لعل ابرز الامثلة على التحول المزعوم هو التمرد العلني على القيم والضوابط ومراكز
النفوذ الاجتماعي القديمة ، وظهور شخصيات مرجعية ومراكز تأثير غير تقليدية ، أي
تراجع أهمية بعض الادوار الاجتماعية السابقة لصالح أدوار وأفكار جديدة. المثال
البارز هنا هو استيلاء نجوم مواقع التواصل الاجتماعي ومنتجي الفنون التلفزيونية
والدرامية على دور المثقف التقليدي ورجل الدين في توجيه الرأي العام.
مجموع القيم والتقاليد
والاعراف ونظم العلاقات والثقافة الموروثة ، كانت تشكل ما نسميه بالاجماع القديم. وهو
الذي انتج ما وصفناه بالمجتمع المنفعل ، الذي يقبل بما يعرض عليه دون مناقشة. نعلم
ان هذا الاجماع قد تراجع بالفعل وضعفت فاعليته.
ما ينشر هذه الأيام في
الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي من شكاوى حول التسيب الاداري ، وما ينشر حول
النزاعات التافهة التي تتحول الى صراعات عنيفة ، ومثله المجادلات الساخنة – والتي
لا تخلو من تجريح شخصي - بين رموز التيارات الثقافية والسياسية ، او بينهم وبين
افراد من عامة الناس ، تشير كلها الى تفكك عناصر الاجماع القديم ، بما فيه من قيم
وتقاليد واعراف.
اني ارى تحولا متسارعا
للسلوك الجمعي من حالة الانفعال والتلقي الى حالة الفعل.
لكن هذا الفعل لا يزال
قصرا على النقد والاحتجاج. ولم ينتقل بعد
الى مرحلة المشاركة في بناء قيم واعراف جديدة ، تؤسس لاجماع جديد. بعبارة اخرى ،
فقد تحولنا من حالة سكونية الى حالة تمرد ، ينبغي ان نستبدلها بحالة جديدة مختلفة
، سمتها الابرز التفاعل والمشاركة وفق منظومة قيم جديدة. عندها سوف نتخلص من ظرف
التنازع الراهن ، المنطقي واللامنطقي ، حول المهمات والتوافه ، لننشغل بالمهم
والمتفق على أساسه.
الشرق
الاوسط 22 يونيو 2016 http://aawsat.com/node/671531