17/12/2008

سجناء التاريخ

 بعض الناس مسكون بتاريخه الماضي الى حد العجز عن رؤية اي شيء في حاضره الا اذا كان مشابها – ولو في المظهر – للماضي او محاكيا له . وبعض الناس مسكون بتاريخ غيره ، ولا سيما اولئك الذين صنفهم كاعداء ، حتى ليتخيل ايديهم وراء كل حادث او مبادرة او فعل . التاريخ بالنسبة لهؤلاء واولئك ليس حلقة في حركة الحياة او وعاء لتجربة البشر ، بل هو مرجع نهائي او ربما وحيد للتفكير والتحليل والمقارنة ، انه – بكلمة اخرى – وعاء القيم والمعايير ، ومقياس الحق والباطل والصلاح والفساد .
صورة ذات صلة
اذا تحدثت مع واحد من هؤلاء الناس عن الصراع العربي الاسرائيلي فسيقصفك بالعشرات من الحوادث التاريخية التي يعتبرها مماثلة او مؤشرا على خط ما في ذلك الصراع . واذا تحدثت معه عن سوق الاسهم فلن يعدم قصة من هنا او هناك للتدليل على خطة ما تحاك من وراء الستار . واذا ذكرت الصحافة فلديه من اقوال رجالات الغرب والشرق ما يملأ ساعات من الحوار . بعبارة اخرى فالمسكون بالتاريخ لا يرى في الحاضر غير تكرار لما حدث في الماضي . فكل شيء عنده معروف في بواعثه ومساراته ونتائجه . اما تغير الرجال والزمان والمكان والاسباب المباشرة فكلها تفاصيل لا تغير من حقيقة الامر شيئا . التاريخ كما يقول هؤلاء يعيد نفسه.
لا يمكن لانسان ان ينقلع كليا ونهائيا من تاثير تجربته التاريخية ، تجربته كفرد او كعضو في تكوين اجتماعي . تجربة الانسان التاريخية ، ولا سيما الجمعية منها تسهم بالحصة الاكبر في تشكيل هويته التي يتمايز بها عن غيره . لكن شتان بين الانتماء الى التجربة او التاثر بها  وبين الدخول الاختياري في سجن التاريخ . التاريخ لا يعيد نفسه ، وحوادث التاريخ لا تتكرر ، انها ليست دائرة مغلقة كما  تصور ابن خلدون ، بل هي مسار تصاعدي قد يتباطأ احيانا وقد يتوقف احيانا اخرى وقد ينتكس ثالثة ، لكنه في المحصلة العامة يواصل الارتقاء يوما بعد يوم . هذه ليست نظرية تحتاج الى ادلة ، بل هي من الحقائق البديهية التي يستطيع الطفل ادراكها وكشف امثلتها وتطبيقاتها فضلا عن العارف والمثقف .
المسكونون بالتاريخ منقطعون بالضرورة عن حاضرهم .  جماليات العالم الراهن التي تتجسد في البشر والاشياء والتكنولوجيا والثقافة .. الخ هي مجرد اوهام او صور مصطنعة . الجمال الحقيقي وصل الى غايته في حقبة ما من حقب التاريخ ، ولم يات الزمان بعدها بجديد يثير الاهتمام . البشر الطيبون وجدوا في حقبة ثم ماتوا ولم يات من بعدهم سوى غثاء السيل ، والتكنولوجيا التي يفخر بها انسان اليوم ليست اكثر من لعبة في يد طفل يظن نفسه انسانا كاملا.
المجتمعات الناهضة مثل نظيرتها المتخلفة تتاثر بتاريخها وهي ترجع اليه وتنظر فيه بل وتعجب به. انما تختلف هذه عن تلك في وعيها بمعنى الحقيقة التاريخية ومدى تاثير التجربة التاريخية على تفكيرها في اسئلة اليوم وقضاياه. من يعي تاثير التاريخ على ثقافته وتفكيره ، يستطيع التخلص من قيوده او الموازنة  بين ضرورات الثقافة وضرورات العصر. ومن يجهل ذلك يعيش بجسده في الحاضر وعقله سجين في تاريخ مضى ومات اهله.

المجتمعات الناهضة قليلة الاهتمام بالماضي واحداثه ، لانها منشغلة باستثمار الحاضر وامكاناته ، وهي اكثر واقعية واعتدالا في التعامل مع الغير ، لان محورية الحاضر تكرس قيمة العناصر التي يشملها ، بما فيها الشراكة مع الاخرين .فهي اذن تقدر ذاتها كما تقدر الاخرين ، لانها تقدر قيمة انجازات الانسان كما تقدر قيمة الزمن . اول النهضة تقدير قيمة الحاضر والنظر الى العالم وما فيه من بشر واشياء من خلال واقعهم القائم لا باعتبارهم كائنات تاريخية او امتدادا قسريا لما جرى في غابر الزمان.

عكاظ 17 نوفمبر 2008

15/12/2008

حقوق الانسان في المدرسة


كان اعضاء الجمعية الوطنية لحقوق الانسان اكثر المتفائلين يوم عين رئيس الجمعية د. عبد الله العبيد وزيرا للتربية في فبراير 2005 . منذ بدايات هذه الجمعية اكتشف الاعضاء انهم يواجهون مشكلة حقيقية في عملهم تتلخص في غياب مفاهيم حقوق الانسان عن الثقافة المحلية ، الامر الذي جعل خطابهم غريبا او مستغربا. فكروا في معالجة هذا النقص عبر النشاط الاعلامي والتثقيفي المباشر . لكنهم ادركوا منذ البداية ان تنسيج هذه المفاهيم في الثقافة العامة ينبغي ان يبدأ في المراحل العمرية المبكرة ، اي مرحلة التعليم قبل الجامعي التي تتشكل خلالها شخصية المواطن وذهنيته . ولهذا تفاءلوا بتعيين رئيسهم وزيرا للتربية.
د. عبد الله العبيد
اليوم وبعد مضي اربع سنوات ، يتساءل المهتمون بحقوق الانسان عن ما تحقق في هذا السبيل . في نهاية العام الماضي اصدرت الوزارة وثيقة حقوق المعلم ، وتبعها في بداية العام "وثيقة حقوق الطالب ومسؤولياته" . ونفترض ان وثيقة الحقوق هذه موجهة للطلاب والمعلمين وادارات المدارس معا . لكني اظن ان هذه الوثيقة لا تزال تدور في مكاتب البيروقراطيين او انها قد نامت فعلا في ادارجهم . كولي امر لاربعة طلاب يدرسون في مراحل مختلفة لم اتلق اي اشعار من مدارسهم يفيد بتلقيها لهذه الوثيقة وما اذا كانت قد وضعت بالفعل برنامج عمل لتطبيقها . كما انها لم تبلغ الطلاب بوجود مثل هذه الوثيقة او حقوقهم المقررة فيها. بعض المدارس الخاصة بادرت بوضع وثيقتها الخاصة بحقوق الطالب قبل ذلك التاريخ ، ويجدر القول ان الذي اطلعت عليه منها لا يصل – من حيث المفاهيم ومن حيث الاجراءات العملية - الى المستوى اللائق بهذا العصر والتحديات والحاجات القائمة فيه. لكنها على الاقل مبادرة تستحق التقدير. اما المدارس العامة وكثير من المدارس الخاصة فالواضح انها لا تزال غائبة عن هذا الامر تماما.

يجدر بالوزارة ان تبادر الى تحديد برنامج عمل لتحويل تلك الوثيقة من ورقة يتداولها البيروقراطيون الى واقع حي يعرفه ويطبقه المعنيون به ، اي الطلاب . نحن بحاجة الى تكريس وقت مناسب للحديث عن هذه الوثيقة لكافة الطلاب ، ولا سيما للحديث عن حقوقهم على مدرسيهم وابائهم ومدارسهم ووطنهم . لقد اعتدنا الحديث عن "واجبات" الطالب وابدعنا في اختراع الكلام والبلاغة في بيانها ، لكن الحديث عن "الحقوق" يحتاج الى طريقة مختلفة وروحية مختلفة.

تلك مهمة تعالج اشكالا محددا هو العلاقة بين الطالب والمدرسة . لكن تنسيج مفاهيم حقوق الانسان في الثقافة العامة يحتاج الى طريقة اخرى ومنهج  مختلف. هذه العملية لا تبدأ بالكلام عن اهمية حقوق الانسان بل بتمهيد الارضية الفلسفية والاخلاقية التي تقوم عليها . مثلما ندرس في الابتدائية جدول الضرب باعتباره ارضية لفهم الرياضيات ، فاننا بحاجة للبحث عن شيء مماثل في ثقافة حقوق الانسان ، شيء يسهل فهمه واستيعابه ويمثل في الوقت نفسه اساسا مكينا لبناء هذه الثقافة فوقه.

اقترح التركيز على "قيمة التسامح" كموضوع محوري يجري التركيز عليه في المرحلة الحالية . يمثل "التسامح" ارضية اخلاقية وفلسفية لشريحة واسعة من مباديء حقوق الانسان ، وهو قيمة كونية ، تتفق عليها جميع الاديان بما فيها الدين الاسلامي ، فضلا عن وثائق حقوق الانسان الدولية والاقليمية. وبالنسبة لبلادنا فانها تمثل حلا لمشكلة يشعر بها الجميع ، الا وهي المشكلة التي يطلق عليها احيانا التشدد او الغلو او التطرف الخ.

 تنسيج قيمة التسامح في الثقافة العامة لا يبدأ بالحديث عن اهميته بل بمعالجة السبب الذي غيبه عن الثقافة ، واعني به التجاهل او الاغفال . ونذكر جميعا المثل العربي "المرء عدو ما جهل" . يبدأ التسامح بالتعرف على الاخرين المختلفين ، وكلما تعرف الانسان على احد اصبح اكثر قدرة على تفهم خصوصياته وتقبلها او اللين في التعامل معها . وبالعكس من ذلك فان الجهل بالغير يولد خوفا منه او ريبة فيه .

يمكن لقيمة التسامح ان تكون مضمونا منتشرا في الكثير من المناهج الدراسية من التاريخ الى الجغرافيا الى التربية الوطنية الى الثقافة الاسلامية . ولهذا حديث اخر نعود اليه في الاسبوع الاتي.
عكاظ 15 ديسمبر 2008

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...