‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاسلام السياسي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاسلام السياسي. إظهار كافة الرسائل

01/07/2012

الصعود السياسي للاسلاميين وعودة الدولة الشمولية



صعود الاسلاميين الى سدة الحكم في تونس والمغرب ومصر اثار اسئلة كثيرة ، بعضها مكرر وبعضها جديد. اسئلة تعبر عن قلق يساور السائلين ، واخرى تعبر عن تطلع الى مستقبل مختلف.

احد هذه الاسئلة يفترض مقدمة مضمرة فحواها ان ذلك التطور يشير الى بعث جديد للايديولوجيا بعد عقد تقريبا من تراجعها عن ساحة السياسة.
الفرضية المضمرة قبل هذا السؤال هي ان نهاية الحرب الباردة مع تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991 قد اثمر عن تهميش الايديولوجيا وتاثيرها في المجال السياسي. المعنى المادي المقصود هنا هو الماركسية التي كانت ايديولوجيا رسمية لدول المعسكر الشرقي وحلفائه منذ الحرب العالمية الثانية. اما المعنى الرمزي فهو الايديولوجيا بما هي رؤية للعالم مسبقة الصنع ، تنطوي على مسلمات ومقدمات ومعايير للصحيح والفاسد وادوات قياس واختبار. بهذا المعنى فان الايديولوجيا لا تخضع لمعايير البحث العلمي المعروفة في علاقتها مع الموضوعات والتطبيقات  ، بل تطبق معاييرها الخاصة ، التي قد تنسجم مع المعطيات العلمية او لا تنسجم.
كانت حنا ارندت بين ابرز المفكرين الذين حذروا من هيمنة الايديولوجيا على السياسة. وركزت خصوصا على مخاطر الشمولية. حين يحكم البلاد حزب ايديولوجي او مجموعة تتبنى ايديولوجيا خاصة ، فانها ستحول مؤسسة الدولة الى اداة لفرض هذه الايديولوجيا على المجتمع ، والزام الجميع بتبني الخطاب الرسمي ، سواء اتفقوا معه او خالفوه. بهذا المعنى فان وظيفة الدولة قد تحولت من تمثيل المجتمع وادارة مصالحه الى ما يشبه منظمة سرية غرضها الرئيس هو اخضاع المجتمع للنخبة القائدة. الاتحاد السوفيتي السابق والمانيا النازية هما ابرز الامثلة التي ينطبق عليها هذا الوصف.
الاحزاب الدينية في العالم الاسلامي تتبنى ايديولوجيا شمولية ، يلخصها شعار الاخوان المسلمين "الاسلام هو الحل" وتسندها رؤية اسطورية كثيرة التداول فحواها ان تعاليم الدين الحنيف شاملة لكل نواحي الحياة ، من ادناها الى اعلاها.
نفهم طبعا ان كل حزب او جماعة دينية لديها قراءة خاصة للنص الديني والتشريع ، لا تتوافق غالبا مع قراءة الاخرين ، مجتمعات او جماعات. فاذا اعتبر الحزب الديني الحاكم قراءته ايديولوجيا رسمية ، فانه سيفرضها على الاخرين جميعا ، الراضين والرافضين. بمعنى انها سيقيم نظاما شموليا يقصي جميع الاراء والخطابات الاخرى ، ويلغي التنوع الضروري لاغناء الحياة العامة والتقدم.
هذا تلخيص لسؤال الايديولوجيا وخلفيته ومغزاه. ويتضح ان هذا المعنى لو طبق فعلا ، فان صعود الاسلاميين الى السياسة هو مجرد تمهيد للكارثة.
السؤال اذن ليس عن مشروعية القلق الكامن وراء السؤال. فهو بالتاكيد مشروع ولا غبار عليه. السؤال عن مصداقية القلق ، اي احتماليته: هل هو احتمال ضعيف ام قوي ام مرجح؟
لا اريد عرض اجابات ، فكل جواب هو احتمال مبني على قراءات سياسية ، يختلف الناس في تقييم عناصرها بحسب ميولهم وما يتوفر لديهم من معلومات. لكني سأذهب الى اصل المسألة وهي النظر الى الايديولوجيا بهذا المنظار المخيف.
اعتقادي الشخصي ان الايديولوجيا ضرورة للحياة والحكم ، مثلما العلم والاخلاق ضرورة. الايديولوجيا هي الوسيلة التي نبني بها علاقتنا مع العالم المحيط بنا، ونعطي للأشياء معاني، ونربطها مع بعضها حتى تتحول من عناصر منفردة هائمة في الفضاء إلى أجزاء في مركب، هو رؤيتنا للعالم. وما لم يكن لدينا منظومة مفاهيم ومسلمات أولية فلن نحب شيئا ولن نقيم علاقة مع شيء مما يحيط بنا، لا إنسانا ولا فكرة ولا شجرة ولا ساعة. كل مجموعة حاكمة ، ماركسية كانت او اسلامية او قومية او ليبرالية ، تتبنى ايديولوجيا من نوع ما ، ايديولوجيا بمعنى منظومة قيم ومسلمات مسبقة تعتبرها صحيحة دائما او غالبا ، وترجع اليها في الحكم على الاشياء وتقدير قيمتها. الانسان الذي لا ايديولوجيا له هو التكنوقراطي او البيروقراطي الذي يتبع فقط وفقط التعليمات الموجهة اليه من فوق. انه اذن لا يتخذ قرارا ولا يحدد قيمة لشيء ، بل يطبق على موضوعات عمله مسطرة صممها اخرون.
لا يحتاج الإنسان إلى انكار الايديولوجيا، بل يحتاج إلى:
أ-الوعي بأنه يحمل ايديولوجيا تؤثر على أرائه وأحكامه. ونتيجة لذلك فان آراءه ليست معيارية او موضوعية في كل الأحوال
ب- الوعي بان الايديولوجيا - حتى لو اعتقد بصحتها – تلعب أحيانا دور حجاب الحقيقة، أي أنها تظهر الأشياء للعين والعقل بخلاف ما هي عليه في الواقع الخارجي
ج- الوعي بالفارق بين وظيفتي الايديولوجيا والعلم. وظيفة العلم هي وصف الأشياء وتفسير أحوالها، أما وظيفة الايديولوجيا فهي الحكم على تلك الأشياء والأحوال وتحديد قيمتها، أي إيجاد علاقة بينها وبين الشخص.
د- بالنسبة للسياسيين خصوصا في الحكومات الجديدة، فانهم يحتاجون للوعي بانهم موظفون عند الشعب ، وليسوا حملة رسالة. وظيفتهم هي ادارة المصالح العامة والتعارضات وتمثيل المجتمع. ومن هذه الزاوية فان القيم والمفاهيم التي يطبقونها يجب ان تكون مرضية ومقبولة من قبل رب عملهم ، اي المجتمع . دورهم هو خدمة رب العمل وليس التحكم في حياته او الزامه بما لا يريد.


1 يوليو 2012

مقالات ذات علاقة

05/06/2012

التحدي الذي يواجه الاخوان المسلمين

سواء فاز المرشح الاخواني او مرشح العسكر في الانتخابات الرئاسية المصرية الوشيكة ، فالمؤكد ان الاخوان سيشكلون الحكومة القادمة ، نظرا لهيمنتهم على البرلمان. هذا يضعنا امام تجربة فريدة. سيكون على الاسلاميين القادمين الى السلطة مواجهة اشكالات عديدة ، نشير هنا الى اثنين منها: الطائفية والسياحة.
منذ عهد الرئيس الاسبق انور السادات ، شكا الاقباط المصريون من سياسة تمييز رسمي معلنة حينا ومكتومة في اغلب الاحيان ، جعلتهم – بحسب منطق الامور – مواطنين من الدرجة الثانية. كانت السلطة - يومئذ - علمانية فلم يكن بالوسع اتهامها بالتحيز الديني.
اما اليوم فان على حكومة خرجت من صناديق الانتخاب ان تقدم نموذجا مختلفا. نموذج يتعامل مع المسلم والمسيحي باعتبارهم مواطنين لا اتباع ديانات. لم استغرب الميل الجارف عند الاقباط للتصويت ضد مرشح الاخوان. فالتراث الذي ينتمي اليه ، والثقافة السائدة في بيئته الاجتماعية ، تنظر لكل مختلف باعتباره ادنى شأنا. ولهذا لا يلام "المختلف" اذا شعر بالقلق على مستقبله ، حتى لو كان ماضيه سيئا وبغيضا.
تقول بعض التقارير ان المرشح الاخواني وعد بتعيين قبطي نائبا للرئيس. وهذه خطوة ستكون مؤثرة بالتاكيد في تطمين هذه الشريحة. لكنها خطوة واحدة فحسب. يتوجب على حزب العدالة والتنمية ومرشحه ان يقدم وعدا قطعيا باصلاح القانون على نحو يحول دون التمييز بين المصريين ، والغاء جميع اللوائح والتعليمات التي تجيزه او تسهل ممارسته.
التحدي الثاني الذي يتوجب على الاخوان مواجهته هو الاقتصاد. سيكون على رجال الحكومة الجديدة ممارسة ضغط شديد على انفسهم حين يضعون السياسات الخاصة بحماية وتشجيع السياحة مثلا. يساهم هذا القطاع بنحو 12% من الناتج القومي الاجمالي  ، و نحو 20% من الدخل الخارجي للبلاد ، وهي توفر نحو 4 ملايين وظيفة.
لم يكن قطاع السياحة محبوبا عند الاسلاميين . وقد نظروا اليه دائما كبؤرة للفساد . لكنهم مضطرون اليوم الى التعامل معه كمورد اقتصادي يستحيل الاستهانة به ، اذ يستحيل عمليا التعويض عنه في المدى القصير والمتوسط.
افترض ان الحكام الجدد مؤمنون بالواقعية السياسية . فهم بالتاكيد يعرفون ان العمل في السلطة لا يشابه الحديث في المساجد وحلقات التربية الحركية. لكن هذه لن تكون مهمة سهلة. فلديهم جمهور سبق اقناعه بان "الحكم الاسلامي" سياتي بالمن والسلوى ، وسيكون "نظيفا" من كل مكروه. ويظن كثير من هذا الجمهور ان مهمة كهذه لا بد ان تتحقق في اسابيع اذا امتلكت صولجان الحكم.
خلاصة القول ان الاسلاميين المصريين ، ومن يتاثر بهم خارج الحدود ، يبنون قصورا من الامال. لكنهم سيواجهون تحديات صعبة ، وقد تكون قاتلة. لهذا فمن الخير لهم ان يضعوا في اعتبارهم اسوأ السيناريوهات ، وان يتحاشوا الانفراد بالقرار ، كي لا يتحملوا وحدهم ثمن الاخفاقات ، وبعضها متحقق دون شك ، في هذه الظروف التي تتسم بانعدام اليقين.



الاقتصادية 5 يونيو 2012

11/07/2006

نقد التجربة الدينية

علم الدين لا يعصم صاحبه عن شهوات النفس . العلم بالدين ليس هو الدين عينه ، وحامل العلم الديني ليس بالضرورة عارفا بكل شيء في الدين

كل حرفة هي مصلحة لصاحبها . اصحاب الحرفة الواحدة يتنافسون فيما بينهم ، لكنهم يتحدون في مقابل الغير . التجار الذين يتنافسون فيما بينهم يتحولون الى جبهة واحدة حين يهاجمهم اهل السياسة او الكتاب ، والكتاب يتحولون الى جبهة واحدة حين يهاجمهم رجال الدين . وفي مؤتمر السكان الذي عقدته الامم المتحدة في بكين قبل بضع سنوات شكل ممثلو الهيئات الدينية الاسلامية والفاتيكان ما يشبه اللوبي المشترك لمقاومة الاتجاهات العلمانية الساعية لاقناع المؤتمرين بتبني مقررات تقود الى اضعاف مكانة العائلة كجوهر للعلاقة الاجتماعية .


وفي العادة فان احدا لا يقول انه يصارع الاخر لان هذا يهدد مصالحه الخاصة (مصالح الشخص او مصالح الجماعة التي هو جزء منها) ، بل يصور المسألة كصراع بين حق وباطل ، بين شخص او جهة باغية مفترية وبين مصلحة عامة للجميع ، بين نزعة فردية وبين راي ثابت ومتفق عليه عند جميع العقلاء . هذه طبيعة العلاقات بين الناس والصراعات بينهم ، وهكذا تسير الحياة. قد يبدو هذا الامر بغيضا ، لكنه سنة ثابتة في الحياة.
كثير من المشايخ يصرح بضيقه مما يجد من تزايد النقد للثقافة الدينية ورجال الدين في هذه الايام. ولعل هذا الضيق مبرر ، ولعل نقد الناقدين مبرر ايضا. علم الدين لا يعصم صاحبه عن شهوات النفس ، ولا يعصمها عن التاثر بالغير ، مثله في ذلك مثل علم الطب واللغة والجيولوجيا والفلسفة وغيرها . فما الذي يجعل قول رجل الدين حقا او اقرب للحق ويجعل قول الطبيب او الفيلسوف او اللغوي باطلا او اقرب للباطل ؟ . من ناحية اخرى فان علم الدين مثل  العلوم الاخرى التجريبية والطبيعية والرياضية ، ليس بطاقة هوية او جواز سفر ، تحمله فيتغير وضعك القانوني والمادي ، بل هو تجربة بشرية عقلية متواصلة تتدرج وتختلف من وقت الى اخر ، وتتفاعل باستمرار مع المحيط الخارجي ، ومع مصادر المعلومات الجديدة ، ومع اوضاع حاملها الروحية والاجتماعية والمعيشية ، اي مع نطاق علاقاته ومعارفه ومصالحه الفعلية .

ومن هنا قالوا بان الاجتهاد لازم لبقاء الدين ، وليس الاجتهاد في حقيقة الامر سوى اعادة فهم الموضوع ضمن شروطه الموضوعية الجديدة ، واعادة فهم النص او القاعدة الدينية في اطار التغيير الذي تعرض له موضوعها .  من هذا مثلا ان حقوق الانسان كانت امرا بغيضا عند رجال الدين في الماضي لكن الكثير منهم يتبنونها الان ، بل ويجادل كثير منهم بانها من صلب الاسلام او ان الاسلام قد سبق اليها . خذ مثلا وصف قدامى الفقهاء لعامة الناس بانهم غوغاء و"عوام اضل من الانعام" ، وخذ مثلا قبولهم باستعباد اخوتهم البشر واستملاكهم .

 ومنه ايضا رفضهم لخروج النساء من البيوت "حتى لا يرى ظلها" ، وتحريمهم للعمل في دوائر الدولة ، واسقاطهم شهادة من لا يغطي رأسه ، وتحريم بعضهم دراسة الفلسفة والفيزياء والجغرافيا واللغات الاجنبية . لقد تخلوا الان عن هذه الاراء وعشرات غيرها ، لا لانهم عثروا على نص جديد في القرآن او السنة كان مفقودا قبل ذلك ، بل لأن معارفهم ومعلوماتهم قد زادت (ربما اطلعوا على معلومات كانوا يجهلونها مثلا) ، ولان اوضاعهم الاجتماعية والمعيشية وشبكة علاقاتهم اختلفت (ربما كانوا يعيشون في قرى منعزلة واصبحوا يعيشون في المدينة مثلا) ، اي لان تجربتهم العقلية والروحية قد تغيرت وتطورت . ترى اي الفريقين كان على صواب : الفقيه الذي اعتبر حقوق الانسان رجسا من عمل الشيطان ام غير الفقيه الذي انتقد هذا الراي في وقته ؟ ، الطبيب الذي عالج مرضاه بالموسيقى واثبت فائدتها لهم  ام الفقيه الذي حرم هذا العلاج ؟ ، السياسي او المفكر الذي انتقد الرق واستعباد البشر ام الفقيه الذي وضع احكامه وقوانينه واعتبره عملا شرعيا وصلاحا للدين والمسلمين ؟. الفقيه الذي حرم الجغرافيا ام المعلم الذي درسها ودرسها لطلابه ؟.

النقاش في هذه المسائل وغيرها ليس حديثا عن الحق والباطل ، والاراء التي تقال في هذا الصدد ليست كشفا عن الحقيقة او جهلا بها . بل من الاولى ان نقول ان العلم بالدين ليس هو الدين عينه ، وحامل العلم الديني ليس بالضرورة عارفا بكل شيء في الدين ، كما ان اعظم الفقهاء لا يستطيع الجزم بان ما يقوله من فتوى او راي هو عين مراد الخالق . اراء الناس ، سواء كانوا عامة او علماء دين او كتاب او مفكرين او اطباء او مهندسين او غيرهم ، هي تعبير عن تجربة عقلية او روحية خاصة بكل منهم ، وهي تجربة تتدخل في تشكيلها عوامل كثيرة بعضها معرفي وبعضها مادي وبعضها سيكولوجي ، وهي قد تصيب الحقيقة في جانب وتنحرف عنها في جانب . لكن هذه هي طبيعة الحياة ، وهذه طبيعة البشر . هكذا وجد البشر وهكذا عاشوا وتقدموا . ليس من الممكن ابدا (وليس من الصحيح بطبيعة الحال) ان نلزم الناس جميعا بلبس ثوب واحد ، سواء كان هذا الثوب نمط حياة او اجتهادا في الدين او رايا في العلم ، او حتى زيا وطنيا كما يقولون .

الايام 11 يوليو 2006
مقالات  ذات علاقة
-------------------



04/07/2006

الاسلام الجديد

بعد ربع قرن من انطلاقه ، تحول النهوض الديني الى ظاهرة اجتماعية واسعة النطاق ، ولم يعد مقتصرا على عدد من القادة البارزين او المجموعات المنظمة. من هذه الزاوية فان الاسلام السياسي يخضع لذات القواعد السلوكية التي تخضع لها بقية الظواهر الاجتماعية ، واشير هنا خصوصا الى عنصر التعددية والتنوع الثقافي في داخل الظاهرة ، اضافة الى عنصر التحول او ما يمكن وصفه بالمزامنة ، اي تغير الافكار والسلوكيات والتوجهات بتاثير التجاذب بين الفكرة (او الجماعة) والبيئة التي تنشط فيها . لو رسمنا مصفوفة لعدد نموذجي من الجماعات الاسلامية النشطة اليوم وقارنا دعواتها او سلوكها السياسي بنظيره قبل عشرين عاما فسوف نكتشف دون كبير جهد ان تحولا يمكن وصفه بالانقلابي قد حدث خلال هذه الفترة .

Related image
جمال البنا
 ولو نظرنا الى التحرك الاسلامي من زاوية اوسع من حدود الجماعات المنظمة ، فسوف نجد ان هذا التحول لم يعد قاصرا على السلوك السياسي بل تمدد ايضا الى المتبنيات والاراء والمعتقدات . قبل ثلاثة عقود مثلا كان معظم الاسلاميين يرفض تفويض البرلمان سلطة التشريع لان التشريع حق خاص لله والرسول ، واذا اقتضى الامر تفسيرا او اجتهادا فهو من حق علماء الشريعة دون غيرهم. لكن جميع الاسلاميين المعاصرين يشاركون او يدعمون من يشارك في الانتخابات البرلمانية التي تقود في النهاية الى الاشتراك فيما كان يعتبر حتى وقت قريب عملا محرما وتحديا لحاكمية الله وحقه.

هناك بطبيعة الحال اقلية لا تزال ترفض المشاركة وتعتبرها كفرا من عمل الشيطان او خديعة للمؤمنين ، وهي ترى ان النموذج الوحيد للحكم المشروع هو نموذج "الامارة الاسلامية" الذي اقامته حركة طالبان في افغانستان ، لكن هذه الاقلية لا ثقل لها في المسار العام ، وهي على اي حال مثال على التنوع الفعلي داخل الظاهرة الاسلامية.

في المقابل فهناك من ذهب الى مدى ابعد في التعبير عن ذلك النوع من التحولات. واشير مثلا الى المعالجات القيمة التي قدمها الفيلسوف الايراني عبد الكريم سروش حولالحكومة الدينية الديمقراطية ، وحول عدد من القضايا المثيرة للجدل مثل دور الشعب في توليد الشرعية السياسية للحكومة ، والفارق بين تطبيق الشريعة واقامة العدل بين الناس ، والطبيعة التاريخية للمعرفة الدينية . ومن بين القضايا التي تثير الاهتمام في اعمال سروش ، اشير خصوصا الى معالجته للتصورات القائمة على الفلسفة المثالية ، والتي تنتشر بين الدعاة الاسلاميين عن وعي احيانا وعن غفلة في معظم الاحيان. فهو يرى ان التصورات المثالية عن الدين او المجتمع الديني يمكن ان تشكل ارضية نظرية او مبررا روحيا للدعوات الشمولية التي هي بالضرورة دكتاتورية ولا انسانية. 

قرأت في هذه الايام احاديث للدكتور حسن الترابي ، وهو فقيه ومفكر معروف سبق ان قدم معالجات قيمة في اصول الفقه كما ان له الكثير من الاراء المثيرة للجدل من بينها مثلا تشديده على دور العرف الاجتماعي في تحديد موضوع الحكم الشرعي وكيفية تطبيقه.  وهو يميل الى الاعتقاد بان ما هو ملزم في الحكم الشرعي هو غرضه وجوهره وليس تعبيراته ، وعلى هذا الاساس فهو ينفي مثلا ان يكون لحجاب المراة شكل محدد في كل زمان ومكان ، بل يرى تركه لتحديد العرف ، ومن هنا فان من الممكن ان نرى اشكالا عديدة للحجاب بحسب التحديد العرفي لمعنى "الستر" الذي قد يختلف من مجتمع الى اخر او من زمن الى اخر.

في سياق مقارب دعا الاستاذ جمال البنا ، الى تجديد في الفقه الاسلامي لا ينتهي عند حدود الاحكام وموضوعاتها ، بل يتناول ايضا اصول التشريع والفلسفة التي يقوم عليها فهم الدين واستنباط احكامه ، والبنا هو  الاخر مفكر اسلامي معروف بارائه المثيرة للجدل ، ومن بينها دعوته الاخيرة الى تمكين النساء من امامة الجماعة والتخلي عن الاحكام التي تعتبر المناصب السيادية والقضاء ولايات دينية او محصورة في الرجال.

هذه امثلة قليلة عن نقاشات واسعة وعميقة يشارك فيها عدد كبير من المفكرين واهل الراي والسياسة في التيار الاسلامي ، وهي تساهم فعليا في الانتقال بالاسلام السياسي من الدائرة التقليدية التي انطلق منها الى دائرة اكثر قربا من هموم الانسان المعاصر وتطلعاته.  والغرض من هذا العرض هو دعوة الناشطين الاسلاميين وسواهم من الفاعلين في الحقل السياسي الى المشاركة الواعية في هذا التحول ودعم النقاشات الدائرة ضمنه . وكما سلف القول فان الاسلام السياسي لم يعد محصورا في قائد بارز او حزب سياسي ، بل هو ظاهرة عامة تنطوي على تنوع كبير في الافكار ، وهو تنوع يتزايد باستمرار . لا ينبغي الشعور بالقلق من هذا التنوع ، ولا النظر اليه كتغريد خارج السرب ، فليس من المعلوم ابدا ان المتمسكين بتقاليد الماضي وما ساد فيه من افكار هم اكثر هدى او شرعية او مصداقية من دعاة التخلي عن تلك التقاليد او اصحاب الافكار الجديدة.

الايام 4 يوليو 2006

مقالات  ذات علاقة
-------------------


20/09/2005

جبر العامة


مع الصعود المعاصر للاسلام السياسي ، ظهر الى السطح ما يمكن وصفه بنخبة سياسية جديدة ، تتشكل في الاساس من رجال دين او مثقفين حركيين نجحوا في صناعة نفوذ اجتماعي يتجاوز نفوذ المجموعات المرجعية التقليدية مثل المؤسسة الدينية الرسمية او السياسيين او وجهاء المجتمع التقليديين .  ان اكثر الزعماء تاثيرا في معظم المجتمعات المسلمة هم اليوم رجال تتراوح اعمارهم بين الثلاثين والخامسة والاربعين.
ويتحمل القادة الجدد مسؤوليات اوسع من تلك التي تحملها اسلافهم ، فهم يتعاملون مع مجموعات نشطة من شباب متعلمين يتطلعون الى ادوار في المجتمع تحقق ذواتهم . لكن هذا ليس هو المجال الوحيد المليء بالتحديات والمطالب ، فالشعارات الدينية التي يرفعها اولئك القادة ، تضفي عليهم ايضا صورة الزعيم الديني الذي يتوقع منه اتباعه تفسيرا دينيا لجوانب حياتهم المختلفة .

والحقيقة ان ظهور هذه الطبقة من الزعماء الدينيين قد عالج الى حد ما مشكلة الضعف المزمن للمجتمع ، ولا سيما عجزه عن المشاركة في تطوير الحياة السياسية والمشاركة في الشأن العام . لكنه من جهة اخرى اضعف الى حد كبير دور النخبة المثقفة ، التي يفترض ان تلعب دور المرجع في النقاشات المتعلقة بتطور المجتمع . انحسار دور النخبة المثقفة ساعد دون شك في منح الزعيم السياسي مكانة حاسمة في القضايا التي يدور حولها الجدل في المجتمع . لكنه من جهة اخرى تركه فريسة للراي العام ، او ما نطلق عليه "جبر العامة" .

"جبر العامة" هو في الاساس مفهوم نخبوي بغيض ، وربما كان مرجعه هو ضيق النخبة بالراي العام او ربما عجزها عن استقطاب تعاطف الجمهور مع تطلعاتها وارائها ، التي تبدو في اول الامر غريبة او متعارضة مع ميول الراي العام . لكن من جهة اخرى ، فان الخضوع لجبر العامة هو بالضرورة عقبة في طريق التطور الاجتماعي . فعامة الناس اميل – عادة – الى الاستمرار في انماط التفكير واساليب الحياة التي تعارفت عليها ، وهي اميل الى الاعراض عن اي فكرة جديدة او منهج مبتكر. بطبيعة الحال فان الكثير من الزعماء يفضلون مسايرة التوجه العام كي يحافظوا على مكانتهم ، والقليل منهم فقط يغامر باتخاذ مواقف او تبني اراء لا ترضي التيار العام من الجمهور . ولهذا السبب ربما فاننا نجد قادة ذوي خلفيات اصلاحية يتحولون – بعد حصولهم على مكانة مؤثرة – الى اشخاص محافظين يمالئون المجتمع ويسايرونه ولو على حساب القيم التي انطلقوا منها في البداية .
اين هي المشكلة في هذا ؟
ان نقدنا لهذه الظاهرة يقوم على فرضية فحواها ان نجاح التيار الاسلامي الجديد في تعبئة الجمهور ، قد ساهم بصورة مباشرة او غير مباشرة في فرض المشاركة الشعبية في الحياة العامة . اي انه بكلمة اخرى ساهم في التخلص من تقليد مزمن يقوم على اعتبار الشأن العام – والسياسي منه خاصة – نطاق عمل خاص بفئة صغيرة من النخبة العليا . وفي اعتقادنا ان دخول عامة الناس على خط العمل السياسي هو تمهيد ضروري لاعادة صياغة النظام الاجتماعي على نحو متفارق مع النمط الذي ساد العالم الاسلامي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، والذي سادت خلاله علاقة السيد - التابع ، وادت الى تهميش الاغلبية الساحقة من الجمهور ، بمن فيهم المتعلمين واهل الراي . ضمن هذا المفهوم فانه يمكن تصنيف الحركة الاسلامية المعاصرة كواحدة من قوى الحداثة . ان استعادة الانسان السيطرة على مصيره ، واستعادة المجتمع لزمام امره ، ومشاركته الفاعلة في صناعة نظامه السياسي ومستقبله ، هي بعض ابرز الاسس النظرية التي قامت عليها فكرة الحداثة .

وهنا تكمن اشكالية العلاقة بين الحركة الاسلامية وجمهورها . فهي من ناحية قوة تحديث يرتبط قدرها بنضج المشاركة الشعبية ، وهذا بدوره مشروط بتغيير الثقافة السائدة وما يقوم على ارضيتها من قيم ومنظومة علاقات . لكن من ناحية اخرى فان حاجة الحركة – ولا سيما قياداتها السياسية – الى تامين دعم شعبي ثابت ، يفرض عليها مسايرة ميول الجمهور . وكما سلفت الاشارة فان الجمهور في الاعم الاغلب ميال الى مقاومة التغيير . وبالتالي فان مسايرته تعني بالضرورة اتخاذ مواقف محافظة او معارضة للتحديث والتغيير . ومما يزيد الامر سوءا ان معظم القادة الحركيين يواجهون تحديا يوميا من جانب رجال دين او مثقفين تقليديين يرفضون التدين الحركي ويرونه ابتداعا . وفي العادة فان هؤلاء يستغلون اي تطور في مواقف الفريق الاول للتشنيع عليه واتهامه بضعف الدين او قلة الفهم او المساومة على المباديء الراسخة .
من المؤسف ان اخلاقيات العمل السياسي في المجتمعات العربية ضعيفة الى حد كبير وفي هذا الجانب ، لا يختلف الاسلاميون عن غيرهم ، فمعظم النشطين في المجتمع ، سياسيين وغيرهم ، لا يتورعون ابدا عن الحاق الاذى بخصومهم متى ما استطاعوا ، والسنتهم هي اقل حدود الاستطاعة . ولهذا فان الحركيين يواجهون مشكلة عسيرة حين يضطروا الى الاختيار بين قيم الاصلاح التي آمنوا بها في البداية ، ومتطلبات السياسة التي اكتشفوها بعد ان انضموا الى نادي النخبة .

لا يسعنا بطبيعة الحال ان نطالب زعيما بالتفريط في مكاسبه السياسية ، كما لا يسعنا – في الوقت نفسه – السكوت عن سلوك يؤدي في نهاية المطاف الى اعادة المجتمع الى حظيرة التقاليد بعد ان اوشك على التخلص من اغلالها . ويبدو ان الحل الوحيد لهذه المشكلة هو دعم نوع من تقسيم العمل بين الزعماء السياسيين والمثقفين الاصلاحيين ، الناقدين والمطالبين بالتغيير. مثل هذا التقسيم ينبغي ان يكون بديهيا ، اذ ان مهمات السياسي لا تسمح له بمعالجة الامور التي تحتاج الى سعة من العلم او متابعة لتطورات الفكر . مثلما ان المثقف الناقد ، عاجز عن تعبئة الجمهور الذي يحتاج الى رجال قادرين على اعادة انتاج الافكار في صورة رموز قريبة من ذوات الناس وقلوبهم . نقول ان تقسيم العمل ينبغي ان يكون بديهيا ، لكن التوصل الى بعض البديهيات يحتاج الى شجاعة . واظن ان بعض الزعماء ربما يشعر بالقلق من المثقفين الناقدين ، لان بعض نقدهم قد يتوجه اليه ، ولان تصاعد دورهم قد يفهم باعتباره منافسا لدور الزعيم . لكن على اي حال ، فان من المهم لنا ان نستوعب حقيقة ان احدا لا يستطيع جمع المجد من اطرافه ، وان بعض المجد في مجتمع متحرك ومتطور ، خير من كامله في مجتمع خامل يحاكي اجتماع اهل القبور.

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...