28/08/2025

تعريف مختلف للوعي/ تحييد صنم القبيلة

بعد الحديث عن الثقافة في الأسبوع الماضي ، حان وقت الكلام عن "الوعي". واحسب ان كثيرا من الناس يفترضون – من حيث المبدأ – ان كل مثقف واع ، لأنهم يربطون الوعي بالمعرفة. فالواعي في الفهم الدارج ، هو الشخص الذي لديه قدر معتبر من المعارف ، في حقل من حقول العلم كالادب والطب والفلسفة والهندسة وغيرها.

لكني أحتمل ان صلة الوعي بالثقافة صلة عرضية ، وليس احدهما سببا للآخر او مقدمة لازمة. فقد تجد رجالا واعين ونساء واعيات ، مع ان حظهم في الثقافة قليل جدا ، وتجد أشخاصا على قدر عظيم من العلم في مجال بعينه ، لكنهم بسطاء جدا حين يتعلق الامر بالتعامل مع التحديات الحياتية ، خارج نطاق اختصاصهم. وأذكر قصة قبل زمن طويل نسبيا ، توضح هذا المعنى ، وخلاصتها اني التقيت طبيبا بارزا في بلدنا ، فأخبرني انه لازال مندهشا من نجاح (الرئيس العراقي السابق) صدام حسين في اقناع رئيس الجمهورية احمد حسن البكر ، بالتنازل له عن منصبه. فسألته ضاحكا: وهل اقتنع البكر في نهاية المطاف؟. فأجابني بلهجة جادة: وهل سمعت برئيس تنازل عن منصبه من دون قناعة تامة؟. هذا رجل من أهل العلم – بالمعايير السائدة – لكنه بسيط الى حد توهم ان الرئيسين تناقشا في جلسة ، فاقتنع الأول بالتنازل عن منصبه للثاني. هكذا بكل بساطة. واضح ان شخصا يتخيل الامر على هذا النحو لا يمكن اعتباره واعيا بمجاري الأمور في عالمه.

بعد هذا الاستطراد ، أود اقتراح تعريف مختلف للوعي ، وأريد التركيز خصوصا على علاقته بالثقافة ، وفق المفهوم الذي شرحته في مقال الأسبوع الماضي ، وقلت انه سائد في أوروبا ، ويتضح من المقال انني أميل اليه كتعريف لما اعتبره ثقافة. وأبدأ بتذكير القراء الأعزاء بالأصنام الأربعة ، التي قال الفيلسوف الإنكليزي فرانسيس بيكون أنها ابرز  المؤثرات السلبية على عمل العقل. هذه الأربعة هي صنم القبيلة ، صنم الكهف ، صنم المسرح ، وصنم السوق. واستخدم اليوم الأول منها ، أي صنم القبيلة.

خلاصة ما قاله بيكون في هذا السياق ان البشر جميعا ، يميلون للحكم على الظواهر والاشياء او الأشخاص ، بناء على ملاحظات بسيطة ، ثم يعممون هذا الحكم على كل ظاهرة او شيء او شخص يشترك مع الأول في صفاته. من الأمثلة التي تذكر هنا موجة رسائل الاحتيال المالي التي أرسلت من نيجريا في تسعينات القرن الماضي ، والتي أدت الى اعتبار المعاملات المالية مع الشركات والافراد النيجريين ، كلها مشبوهة حتى يثبت العكس. ان عدد الرسائل تلك يبلغ عشرات الآلاف ، لكنها شوهت سمعة النيجريين جميعا وهم فوق 230 مليون نسمة. السبب في ذلك هو ميل الناس الى تعميم ملاحظاتهم ، فاكتشاف بضعة ايميلات احتيالية ، جعل الاحتيال وصمة على ذلك البلد كله. مع علمنا بأن ملايين النيجريين لا يفعلون ذلك ، وهم لا يقلون شرفا وأمانة عن سائر خلق الله.

اظن ان كافة القراء يتفقون معي في ان التقييمات والاحكام لا ينبغي ان تبنى على ملاحظات او انطباعات محدودة. ثم ان الحكم لا يصح تعميمه على كل موضوع لمجرد انه يتشابه ظاهريا مع الموضوع الذي لاحظناه أولا.

لكن كيف لنا ان نعرف ان كنا قد وقعنا فعلا في فخ التعميم ام لا.

 العلاج هو ما يسمى في علم النفس بالاستبطان ، أي التأمل في محتويات العقل والذاكرة. مفتاح التأمل هو اتهام الذات بالانحياز ، ومطالبتها بانصاف الآخرين. هذا سيكشف لك المعلومات المنحازة التي اختزنها عقلك ، فباتت منظارا يحدد رؤيتك وسلوكك باتجاه غير منصف.

الاستبطان ودفع العقل لتنظيف نفسه ، أي تنظيف ثقافتك ، هو – في رأيي – اول تجسيدات الوعي ، ولاسيما الوعي بالذات الذي يقودك لاحقا الى رؤية جديدة للعالم ، أي الى الوعي بالمحيط.

الخميس - 05 ربيع الأول 1447 هـ - 28 أغسطس 2025 م       https://aawsat.com/node/5179969

مقالات ذات صلة

"اخبرني من اثق به..."

اساطير قديمة

أصنام الحياة

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

حول الثقافة السياسية

الصنم الخامس

طرائف التاريخ وأساطيره

كهف الجماعة

ما رايك في ماء زمزم؟

ماذا يقول العربي.. ماذا يقول الأوروبي؟

من يهذب الاخلاق في المجتمع السياسي

مهابهاراتا.. أعظم ملحمة في تاريخ الانسان

 

21/08/2025

ماذا يقول العربي.. ماذا يقول الأوروبي؟

الثقافة ، المعرفة ، والوعي ، عناوين لموضوعات مختلفة عن بعضها ، لكنها متداخلة ، تداخلا أدى لخلط معانيها ، ومن ثم إعاقة النقاش السليم في كل منها. اتحدث هذا اليوم عن الأولى (الثقافة) مقارنا بين مفهومها العربي ونظيره الأوروبي ، طمعا في إيضاح واحد من أسباب تفارق الافهام بين المتحدثين.

حين تقرأ في الاعمال المترجمة لباحثين أوروبيين ، تجدهم يتحدثون عن ثقافة المجتمعات التقليدية ، وثقافة البدو والارياف..الخ. وحين تأتي الى أحاديث العرب المعاصرين ، تجدهم يطلقون وصف "المثقف" على نخبة المجتمع المتعلمة ، بل ربما قصروها أحيانا على المشتغلين بالثقافة ، أو الذين تتصل مهنتهم بالإنتاج الثقافي ، من كتاب وأدباء وأمثالهم.

وتتساءل: هل ترى ان الجماعة الأمية ، أي التي لا تكتب ولا تقرأ ، لديها ثقافة؟. فيجيبك الباحث الأوروبي: نعم ، ويجيبك القاريء العربي: لا.

وفقا لمفهوم الثقافة المتعارف في الغرب ، فان كل انسان يحمل ثقافة المجتمع الذي ينتمي اليه ، ويتلقاها منذ لحظة اتصاله بالمحيط الاجتماعي. الثقافة عنوان لمحتوى واسع النطاق ، يشمل التقاليد التي ورثها المجتمع ، او طورها من خلال احتكاكه بضرورات الحياة.  كما يشمل الاخلاقيات والأعراف والفولكلور والأدب والحكايات الشعبية وانماط المعيشة والتعامل ، ومنظومات القيم الخاصة والمعتقدات وتطبيقاتها ، وكل ما يشير الى شخصية المجتمع وطريقة حياته. ولا يهم بعد ذلك ان يكون هذا المجتمع متعلما (بمعنى انه تلقى التعليم وفق النظم الحديثة) او يكون أميا (بمعنى ان غالبية اعضائه لا يقرأون او يكتبون).

هذا يوضح ان مفهوم "ثقافة" عندنا ، مختلف عن نظيره الأوروبي. ومن هنا فان الحديث عن الثقافة من زاوية علم الاجتماع ، يستدعي بالضرورة المفهوم الأوروبي ، لأن علم الاجتماع الذي نتداوله ، نشأ وتطور هناك.

قلت ان وصف الثقافة والمثقف يشير  ، وفق المعنى الشائع في التداول العربي ، الى النخبة وأصحاب المهن الثقافية. وهو بعيد جدا عن المفهوم الغربي السابق الذكر.

يظهر أثر هذا المشكل حين تعالج – من زاوية علمية – الموضوعات الاجتماعية المتصلة بالثقافة ، كما فعلت في مقال الأسبوع الماضي ، حين تحدثت عن الثقافة السياسية. فالواضح ان بعض القراء فهموا الثقافة في معنى نوعية المعرفة الجديدة المتاحة للمجتمع ، ولذا نسبوا المشكلة الى التأثير الأيديولوجي ، وقرر آخرون ان المشكلة في التعليم. والحق ان كلا العاملين مؤثر الى حد معين. لكن جوهر المشكل في مكان آخر ، هو التاريخ الثقافي (بالمفهوم الغربي للثقافة) أي انعكاسات التجربة التاريخية على ذهنية المجتمع وذاكرته. ومثال ذلك المجتمعات التي تتعرض للقمع الشديد ، فهي تميل للارتياب في المستقبل ، ولذا لا تخوض مغامرات مكلفة ، وهذا يبرز خاصة في قلة الميل للاستثمار الاقتصادي في المشروعات طويلة الأمد. ويتحدث علماء الاجتماع أيضا عن فروق سلوكية بين المجتمعات الزراعية وتلك الصناعية او التجارية ، بل وحتى بين مجتمعات الريف والمدن.

بهذا المعنى فان "الثقافة" عنوان لمحتويات الذهن والذاكرة ، التي توجه السلوك العفوي للفرد والجماعة ، كما تؤثر بقوة على رؤيته لعالمه والناس والاشياء من حوله ، فضلا عن طريقة تعامله مع المستجدات والحوادث. لا يحتاج المرء الى الكتاب او المدرسة كي يحمل هذا النوع من الثقافة ، بل يحتاج الى التواصل مع المجتمع الذي ينتمي إليه ، وسوف يأخذ نسخة من الذاكرة الاجتماعية خلال تعامله اليومي. وعندما يتقدم في العمر ، سيجد ان ذهنه بات نسخة من العقل الجمعي ، ولهذا فهو يحمل هوية الجماعة ويمسي عضوا فيها.

نحن نمتص ذاكرة آبائنا ومجتمعنا بشكل تدريجي وعفوي ، لا نشعر به وهو يحدث. لكن بعد مرور سنوات ، سوف نتيقن ان تاريخنا الشخصي هو تاريخ الجماعة ، وسنرى ان لهجتنا ومفرداتنا وفهمنا للعالم ، هو ذات الفهم السائد في الجماعة. هذه – ببساطة – طريقة انتقال الثقافة ، وهذا هو معناها ، أي الذهن والذاكرة التي تشير – غالبا – للماضي.

الخميس - 27 صفَر 1447 هـ - 21 أغسطس 2025 م       https://aawsat.com/node/5177411

مقالات ذات صلة

 استمعوا لصوت التغيير

 الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

انهيار الاجماع القديم

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

الثقافة المعوقة للنهضة

الثقافة كصنعة حكومية

حول جاهزية المجتمع للمشاركة السياسية

رأس المال الاجتماعي

سلوك النكاية

صناعة الكآبة

عقل الاولين وعقل الاخرين

عقل العرب ، عقل العجم

العقل المؤقت

عقل في السجن

فتش عن الماسونية!

فكرة التقدم باختصار

في جذور الاختلاف

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

القيم الثابتة وتصنيع القيم

كفوا السنتكم.. اصلحكم الله

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

مجتمعات متحولة

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

هكذا خرج العقل من حياتنا 

الهندسة الثقافية: تمهيد موجز

الهوية المتأزمة

هيروهيتو ام عصا موسى؟

14/08/2025

حول الثقافة السياسية

 "الثقافة السياسية" فرع من علم السياسة ، جديد نسبيا. وهو ينطلق من سؤال: كيف ينظر الجمهور الى السلطة السياسية ، وكيف يفكرون فيها ويتعاملون معها. وبسبب حداثته فهو ما يزال غير محدد الأطراف ، اذ يتداخل مع علم الاجتماع في نواح ، ومع علم النفس في نواح أخرى. ولنفس السبب ، فان الباحثين الذين يشار اليهم كمتخصصين في هذا الحقل بالمعنى الدقيق ، قلة نادرة. وقد وجدت بعض الكتابات التي تخلط بينه وبين الوعي السياسي ، او بينه وبين المعرفة السياسية في معناها العام ، الأمر الذي يجعله مشوشا وقليل الجاذبية.

ما الذي يجعل هذا الحقل مثيرا للاهتمام؟.

يرجع اهتمامي بهذا الموضوع الى زمن بعيد ، حين بدأت التفكير في الأسباب التي جعلت مجتمعات بعينها ، أكثر تقبلا للآراء الجديدة ، وأكثر لينا في التعامل مع أصحابها ، حتى لو ذهبوا بعيدا جدا في اختلافهم مع التيار العام. كانت بداية تعليمي في مدارس دينية ، فترسخ في ذهني ان العالم قسمة بين المؤمنين بالاديان والمعارضين لهم. خيل لي يومئذ ان كل خلاف على أمور الدنيا ، مرجعه اختلاف العقيدة. لكن سرعان ما اتضح لي ان الخلاف في العقيدة ، واحد من العوامل ، وليس أقواها ولا أكثرها تأثيرا. رأيت أشخاصا مؤمنين بالماركسية وهم – في الوقت عينه - أصدقاء لرجال دين ، وطالما سمعتهم يخوضون نقاشات ساخنة ، دون ان يفترقوا او تذهب المودة فيما بينهم.

ثم لفت نظري ان مجتمعات مختلفة ، تعتنق الدين والمذهب نفسه ، لكنها تتعامل مع السياسة بطرق متباينة: هذه تتفاعل معها وتسعى لخلق نقاط اتصال مع رجال السياسة ، وتلك تميل الى اعتزالها وترتاب في من يطرق أبوابها او يعمل في دوائرها.

في مطلع القرن العشرين ، ساد اعتقاد بين دارسي نظرية التنمية ، فحواه ان كل مجتمع سيتقبل الحداثة فور ان يتعرض لتأثيرها. وتراوحت مبررات هذا الاعتقاد ، بين القول بعقلانية الانسان وانه يتقبل كل ما يراه نافعا لحياته ، وبين القول بأن المعتقدات التقليدية ليست قوية بما يكفي لاعاقة تقدم الحداثة. لكن التجربة  الفعلية في بلدان عديدة ، من اليابان الى الصين وايران ومصر وتركيا والبرازيل وجنوب أوروبا وصولا الى البرازيل ، أظهرت ان كلا من هذه المجتمعات ، لديه فهم متمايز لفكرة التقدم والتعامل مع الدولة والسياسة ، فهم يؤثر على موقفه من مشروع الحداثة وتطبيقاته.

تبعا لتلك التجارب ، توصل الباحثون الى ما يشبه الاجماع على ان التفكير السياسي لكل مجتمع ، نتاج لتجربته التاريخية ، وان طريقة التعبير عنه ، صنيعة لواقعه الراهن ، فقد يميل للانفتاح ، فيسمح بتعدد الآراء ، او يميل للانغلاق والأحادية.

اني أتأمل كل يوم تقريبا في ردود فعل الجمهور العربي على الحوادث والاخبار ، طمعا في التوصل الى فهم معياري للأرضية الثقافية ، التي تنبعث منها الأفعال والمواقف وردود الفعل عليها ، وتفاعلها مع التحولات الجارية في المحيط ، أي مدى تاثرها بتلك التحولات وتاثيرها فيها. ما يهمني في المقام الأول هو أفعال الناس وردود فعلهم ، وليس أفعال الدولة. وغايتي من هذا هي الإجابة على السؤال المحوري في حقل الثقافة السياسية ، أي مدى قابلية المجتمع العربي للمشاركة في الحياة السياسية.

ذكرت في مقالة سابقة انني اميل الى التقسيم الثلاثي للثقافة السياسية ، بين انعزالية ومنفعلة ومشاركة. والواضح اننا الآن في المرحلة الفاصلة بين الانفعال والمشاركة. في مرحلة الانفعال ، يشعر الجمهور بالتأثير الحاسم للسياسة على حياته ، لكنه لا يرى نفسه قادرا على التأثير فيها ، فيتلقى تاثيرها من دون رد فعل تقريبا. بينما في المرحلة الأخيرة ، يعزز المجتمع وعيه بمستوى من الايمان (والمعرفة أحيانا) بان له دورا يؤديه في الحياة السياسية ، وانه يمكن ان يكون مؤثرا ، قليلا ا و كثيرا.

الخميس - 20 صفَر 1447 هـ - 14 أغسطس 2025 م

https://aawsat.com//5175035

مقالات ذات صلة

07/08/2025

غزو الكويت : مراجعة متأخرة

 نعرف كثيرا من العرب وغيرهم ، فرحوا بالغزو العراقي للكويت في 1990. اعتقد ان هؤلاء اقلية صغيرة جدا. صحيح اننا سمعنا – لحظة الحدث – أصواتا كثيرة ، بعضها مؤثر ، صفقت لذلك القرار الكارثي. وقد عبر كل فريق في وقته عن موقفه من دون تحفظ. لكن لو اردنا الحكم على أولئك في هذا اليوم ، فعلينا ان نلحظ أثر الزمان في تكوين المواقف وتعديلها.

في لحظة الحدث ، ينفعل الناس بتموجات القوة التي يطلقها الفعل القوي ، فيقتربون من الفاعل ، حتى لو كانوا ، في سابق الامر ، متشككين في افعاله. لكنهم بعدما تنتهي الموجة الأولى من ارتدادات الفعل ، يبدأون في تلمس عواقبه السلبية ، فيعيدون النظر في موقفهم الأول. وهذه حالة نفسية معروفة في كل المجتمعات ، التاييد الهائل للزعيم في الساعات الأولى من الحدث ، يتحول بالتدريج الى ترقب ، ثم الى فتور ، ثم الى رفض صامت او علني لسياساته.

حين نحلل مواقف الناس ، جمهورا او نخبة ، فلا ينبغي ان نحكم على موقف اللحظة الأولى ، لأنها غالبا ما تكون رد فعل على تموج القوة ، وهي وان كانت تحسب على صاحب الموقف سلبيا او إيجابيا ، الا انها لا تدل على قناعاته الراسخة والطويلة الأمد ، أي تلك التي تشكل هويته وشخصيته. ومن هنا فقد يكون من غير المنصف ، ان نحكم على الناس اليوم ، بناء على مواقفهم لحظة الغزو الكارثي. بل حتى لو كنا قد حكمنا عليهم لحظتها ، فعلينا في هذا اليوم ان ننظر الى حالهم وموقفهم الآن.

الحقيقة ان هذا ظاهر حتى في العراق ، حيث كان معروفا ان القرارات الكبرى تتخذ ضمن دائرة ضيقة ، لا تتعدى خمسة أفراد او ستة. وفيما يخص غزو الكويت ، فقد علمنا لاحقا ان معظم قادة الدولة والجيش سمعوا عنه من أجهزة الاعلام ، قبل ان يحصلوا على المعلومات الرسمية. وعلمنا أيضا ان كثيرا منهم جردوا من مناصبهم او هربوا من البلاد ، لأنهم ترددوا في تأييد القرار او عارضوه او حاولوا التحذير من عواقب الاستمرار فيه.

مع ان غالبية الذين أيدوا القرار الكارثي ، تراجعوا بعدما أدركوا عواقبه ، لكن ليس مستبعدا بقاء عدة ضئيلة من الافراد يواصلون تعاطفهم ، كراهية في الكويت وليس حبا في صدام حسين او اقتناعا بأفعاله. لا ينبغي ان يتخذ موقف هؤلاء ذريعة لوصم مواطنيهم او بلدانهم جميعا بالتعاطف مع الغزاة. الأمثلة التي تقابل هذا هو تعاطف اللحظة الأولى مع تنظيم القاعدة حين هاجم الولايات المتحدة ، لكن جميع من تعاطف ، أدرك لاحقا العواقب الكارثية لذلك الهجوم. لا أحد اليوم يحاسب الكويت او الخليج على تعاطف قلة من مواطنيها مع القاعدة او داعش ، فكل عاقل يدرك ان الأمور مرهونة بأوقاتها وظرفها الثقافي والنفسي.

يتضح إذن ان الغرض من هذه المرافعة ، هو دعوة اخوتي الكويتيين خاصة والخليجيين عامة ، الى التحرر من الانحباس العاطفي في حدث الغزو. اعلم انه حادث جلل ، وكارثة لازالت مفاعيلها في الكويت وحولها ، جلية واضحة. وأقدر أيضا ان مثل هذه الحوادث تخلف شروخا عميقة في انفس الناس وثقافتهم ، وعلى منظومات القيم والانشغالات الذهنية. افهم ان أثرها في الكويت لازال عميقا الى اليوم. لكن – من جهة أخرى – لا بد للناس ان يتحرروا من سجن التاريخ. لا يمكن للإنسان ان يبنى مستقبلا ، ان لم يتعمق فيه اليقين بان فعله سيجعل المستقبل أزهى وأفضل. هذا اليقين يصعب جدا بناؤه في ظل ما يمكن وصفه بمأتم متواصل ، واستذكار لمشاهد تخلد الكراهية والتنافر والخوف من العالم. يجب ان نكرس ايماننا باننا قد تجاوزنا ذلك التاريخ ، وان لدينا القدرة على صناعة حاضر لا ينتمي اليه ولا يتأثر بأوجاعه.

الخميس - 13 صفَر 1447 هـ - 7 أغسطس 2025 م https://aawsat.com/node/5172701  /‏

تعريف مختلف للوعي/ تحييد صنم القبيلة

بعد الحديث عن الثقافة في الأسبوع الماضي ، حان وقت الكلام عن "الوعي". واحسب ان كثيرا من الناس يفترضون – من حيث المبدأ – ان كل مثقف...