27/05/2020

ركاب الدرجة السياحية


معظم الناس يختارون الدرجة السياحية في الطائرات ، لانهم لايملكون المال الكافي لشراء تذاكر الدرجة الاولى ، او لعلهم غير مقتنعين بدفع الكلفة الاضافية. ربما يقول احدنا: لماذا ادفع نصف راتبي كي اسافر في الدرجة الاولى؟. ولعله محق. فالعاقل لا ينفق اسبوعين من عمره يعمل ثماني ساعات يوميا ، فاذا استلم اجرتها ، انفقها على كرسي مريح لمدة ساعتين او ثلاث.
لكن المسألة ليست هكذا. المثال المذكور عن ركاب الطائرة قد يكون مضللا. دعنا نبدأ من قصة "الميدوقراطية" التي شرحها زميلنا د. مامون فندي ، في هذه الصحيفة يوم الاثنين الماضي. فهو يطرح سؤالا جديا ، قد يكون في الحقيقة الجواب المعاصر عن سؤال: "لماذا تاخر المسلمون وتقدم غيرهم" الذي طرحه المرحوم شكيب ارسلان قبل مئة عام.
خلاصة ما توصل اليه الزميل مأمون هو اننا رضينا – او ربما جرى اقناعنا – بان الدرجة الثانية هي الموقع الممكن لنا في هذا العالم ، او لعلها المكان الذي نستحقه.
ماذا يعني هذا الكلام؟
خذ هذه الامثلة: نسمع احيانا دعوات لتطوير تعليمنا ، فنرد عليها قائلين: صحيح ، ولكننا افضل من البلد الفلاني في جودة المناهج. وقد نسمع من يطالبنا باعطاء اولوية للبحث العلمي ، فنرد عليه: موافقون ، ولكن لدينا اولويات اخرى مثل تطوير التعليم. او نتحدث عن توطين  التقنية والتحول نحو الاقتصاد الصناعي ، فيردون عليك بان الدول الكبرى الممسكة بازمة المال والتكنولوجيا في العالم ، لن تسمح لدولة اسلامية بان تنافسها او تستغني عنها. او ربما يقولون مثلما قال احد تجار الغفلة السابقين: ان لكل شعب قدر ومعرفة ، وقدرنا هو التجارة ومعرفتنا فيها ، بخلاف المجتمعات الكثيرة السكان كاليابان الذين تشيع عندهم الحرف والهندسة والصناعة  ، وربما يستشهد برأي عبد الرحمن ابن خلدون ، الذي مال الى هذا الراي ، وقال ايضا ان العرب ليسوا اهل حرف ولا صناعة ، وانهم ماسادوا بلدا الا واسرع اليها الخراب.
تبريرات الخيبة هذه شائعة في مجتمعاتنا. وسوف تجد من ينظر لها ويتوسع في الحديث حولها ، حتى يقنع السامعين بان مكاننا الطبيعي هو الدرجة الثانية ، اي موقع المنفعل والمتأثر ، لا الفاعل ولا المتفاعل ولا المؤثر ، ولو استعرنا تعبير المرحوم مالك بن نبي ، فهو موقع الزبون والمستهلك ، وليس موقع التلميذ الساعي لتعلم الصنعة كي يستغني عن شرائها مرة بعد مرة.
هذه التبريرات لها اصل واحد ، هو الشعور بقصور الذات والخوف على الذات. وهو نقيض الميل للمغامرة. ونعلم ان تجارب التقدم في التاريخ الانساني انطلقت كلها من مغامرات فردية ، تلقفها المجتمع لاحقا. حين تدرس تجارب التعليم في الغرب ، فسوف تجد جانبا هاما منها مكرسا لتشجيع نوعين من المغامرة: المغامرة الذهنية (اي الذهاب وراء الخيال والحلم الى اقصى مداه) والمغامرة المادية (اي خوض التجارب التي تضع الانسان امام تحديات جدية وعوالم مجهولة). 
اما في المجتمعات العربية فان محور التعليم هو اقناع الطالب بان يكون "شابا مهذبا". والمقصود بالتهذيب طاعة الاكبر منه سنا والسير على ذات التقاليد التي ورثها الآباء عن آبائهم ، في اللغة والاخلاقيات والمعارف والمعايير وانماط المعيشة والعمل.
لو اردنا علاجا حاسمة للشخصية المنكمشة ، المقتنعة بمقاعد الدرجة الثانية ، فان الحل يبدأ في المدرسة ، اي من الجيل الجديد الذي لازال على مقاعد الدراسة. بدل التلقين وتكرار المكررات ، علينا ان نطلق خيال هؤلاء الشبان. علينا ان نلقي بهم في قلب التحدي ، ان ندعهم يخوضون المغامرة في شتى تجلياتها. سيفشل بعضهم بالتاكيد ، لكن الاغلب سيعود بروحية متوثبة طموحة وقادرة على مواجهة تحدي المستقبل ، اي التطلع الى مقاعد الدرجة الاولى ، مهما كانت مكلفة.
الشرق الاوسط الأربعاء - 4 شوال 1441 هـ - 27 مايو 2020 مـ رقم العدد [15156]

13/05/2020

"الفرج بعد الشدة"


||ما تحدثه الاوبئة من فتك بالبشر، ومن فوضى واضطراب في نظام العالم، تولد شعورا قويا بالحاجة للتغيير، اي ابتكار بدائل عن نظم عجزت عن احتواء تحدي الوباء او غيره ||

بعض القراء اطلع بالتأكيد على كتاب "الفرج بعد الشدة" للقاضي المحسن بن علي التنوخي الأنطاكي (939-994م). الذي أراد تعزيز الأمل والتفاؤل ، من خلال تهوين مصائب الدنيا ، وبيان ما يحصل من يسر وسعة بعد الشدائد. وللكتاب شعبية واسعة بين الخطباء والمتحدثين ، لكثرة ما فيه من قصص طريفة. وقد أصاب التنوخي ما قصده ، فتاريخ البشرية يشهد ان كل شدة لابد ان تفضي الى فرج.
بعد هذا التمهيد اقول: ان حديث اليوم لايجاوز هذا الاطار. لكني لا أقصد تهوين الأمور وان بدت في السياق على هذا النحو. وموضوعنا كما هو واضح ، عن حال العالم بعد انقشاع جائحة كورونا.
من ضروب المبالغة الادعاء ، بان أحدا يعرف تماما كيف سيكون العالم بعد سنة او اقل أو اكثر. بديهي ان الخبراء في كل مجال ، سيواصلون التأمل في البيانات المتوفرة ، وسوف يضعون توقعات لما قد يحدث. لكن أحدا منهم لن يغامر بالقول ان تلك التوقعات علم قطعي.
لعل قارئا يسأل مستنكرا: طالما ان الامر لايتعدى توقعات غير حاسمة ، وقد لايعتمد عليها في اتخاذ قرارات أو تحريك موارد ، فما الداعي للاحتفاء بها ، ولماذا نصرف الجهود والاموال على التحليل ووضع الاحتمالات؟.
في الجواب على هذا التساؤل ، يكمن سر المعرفة والتقدم. فلو راجعت ابرز التحولات التي مر بها العالم على صعيد الاقتصاد والصحة والعلوم ، لوجدت ان معظمها جاء بعد كوارث مخيفة. كمثال على هذا فان النصف الاول من القرن العشرين ، شهد ظهور النماذج الاولية والمعادلات الأساسية ، لمعظم الاجهزة التي نستعملها اليوم ، وكذلك الادوية التي نتعالج بها ، والقواعد العلمية التي نعتمدها في شتى ابعاد حياتنا. في العموم فان ما أنجزه العالم في هذه الحقبة ، تجاوزت ما حققه خلال القرون الاربعة السابقة جميعا.
لكنا نعلم ايضا ان هذه الحقبة نفسها ، أي النصف الاول من القرن العشرين ، هي الفترة التي شهدت اضخم الكوارث ، التي سجلها تاريخ البشرية في القرون الخمسة الأخيرة. ومن بينها مثلا الاوبئة التي ذهب ضحيتها ما يزيد عن 150 مليونا ، والحروب الكونية التي قتل فيها نحو 60 مليونا ، اضافة الى موجات الكساد التي ضربت اقتصاديات العالم شرقا وغربا ، ولاسيما كساد العشرينات الذي أدى الى هجرات واسعة ، وموت عشرات الآلاف جوعا.
ثمة محركات عديدة تقف وراء البحث العلمي والاختراع. لعل اقواها شعور الانسان بحاجته الماسة للسيطرة على اقداره ، اي التحرر من اسر الطبيعة وتجاوز قيودها ، وادارة حياته وفق ما يريد ، لا وفق ما هو مضطر اليه بسبب قلة حيلته او قصور امكانياته.
ما تحدثه الاوبئة من فتك بالبشر ، وما تؤدي اليه من فوضى واضطراب في نظام العالم ، تولد شعورا قويا بالحاجة الى التغيير والتطوير ، اي ابتكار بدائل عن نظم سائدة ، كشف الوباء عن ضعف استجابتها لحاجات البشر، او صنع تجهيزات ظهرت حاجتنا اليها ، او طرق عمل ومناهج كانت مستبعدة في الماضي وظهر انها ممكنة ، بل ربما ظهر انها اكثر فائدة مما ظنناه.
هذي ببساطة هي الحلقة التي تربط بين الشدة التي يعبر عنها الوباء ، وبين الفرج الذي يلوح وراء جدران الزمن والغيب ، ويدعو الانسان للبحث والمحاولة كي يشق حجابه ويقبض عليه. دعنا نؤمل خيرا ، فوراء العسر يسر وفرج وربما عوض عن كل ما فات.
الشرق الاوسط الأربعاء - 20 شهر رمضان 1441 هـ - 13 مايو 2020 مـ رقم العدد [15142]

مقالات ذات صلة


06/05/2020

مسارات للتفكير في تحولات العالم بعد الوباء




معظم الخبراء في مختلف التخصصات ، واثقون من ان العالم مقبل على تحولات عميقة وواسعة بعدما يتلاشى وباء كورونا وتزول آثاره. السؤال عن صورة العالم في الاعوام القادمة ، بات الشغل الشاغل للعلماء والمحللين في العالم كله. وتنشر الصحافة الدولية ،  كل يوم تقريبا ، تصورات أولية حول مسارات التحول المنتظر. مما يكشف عن حيوية النقاش الجاري في هذا السياق. 

سوف اقترح اليوم اربعة مسارات للتفكير في التحولات المتوقعة:
المسار الاول: يتناول طبيعة التحولات ، التي قد تكون تراكمية تدريجية ، او تكون باراديمية/نسقية.  في النوع الاول يقوم المجتمع بتجديد وتطوير بنياته القائمة. ومن هنا فان الجديد محكوم بمنطق البنيات القائمة فعلا. اما النوع الثاني فهو عبارة عن عملية احلال ، تتضمن الغاء البنيات القديمة ، واقامة بنيات جديدة ، متباينة غالبا مع نظيرتها القديمة.
المسار الثاني: يتناول انعكاسات التحول. فحين يبدأ ، سواء كان نسقيا او تراكميا ، فان أولى علاماته تظهر على العناصر الضعيفة ، العاجزة عن مقاومة رياح التغيير. وهذه قد تطال السوق والثقافة والقيم المعيارية والعائلة والقوى الاجتماعية ومراكز النفوذ.
ومع انهيار هذه ، ينطلق "الدومينو" أي سلسلة الانهيارات المتوالية. نستطيع القول ان هذا المسار  قد بدأ فعلا. شركة الطيران البريطانية "فلاي بي" اعلنت افلاسها. ولحقتها فيرجين استراليا للطيران. وثمة خوف على مصير مماثل ينتظر شقيقتها فيرجين اتلانتيك. وفي بريطانيا اعلنت بريمارك ، شركة الملابس الاقتصادية ، اغلاق 189 من متاجرها من دون توقيت محدد للعودة. وهناك ما يشبه الاجماع بين منظمات التجارة واتحادات العمل الدولية ، على ان خسائر قطاع العمل ستزيد عن 100 مليون وظيفة. أما التقديرات المتشائمة فتحذر من أن 195 مليون عامل سيخسرون وظائفهم على امتداد العالم ، هذه السنة. تخيل عدد الشركات التي كانت توظف هذا الجيش الهائل من العمال ، وكم منها سيغلق أبوابه الى الأبد.
المسار الثالث: يركز على محرك التغيير. منذ بداية العقد الحالي ، بات واضحا ان البيانات والمعلومات تشكل مضمون التحول القادم ، وهي جوهر النسق الحياتي والاقتصادي في عالم ما بعد كورونا. ومن هنا فان التحول سيكون أوسع وأعمق في القطاعات التي تتعامل مباشرة مع البيانات/المعلومات والتقنيات الخاصة بها. هذا يعني في المقام الاول قطاعات التعليم والاتصالات والصحة والادارة. لكن تأثيره لا يتوقف عند هذا الحد ، فهو سيطال ايضا حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا ومنظومات القيم التي نستند اليها في فهمنا للعالم وحكمنا عليه. وسيكون لنا في هذا المسار حديث لاحق اكثر تفصيلا.
المسار الرابع: ان التحولات الكبرى في تاريخ البشر لم تقف عند تفكيك البنيات القديمة ،  بل أقامت بنيات بديلة.دعنا نضرب مثلا بدخول الروبوت الى المصانع والمستودعات ، حيث قيل يومها انه سيقضي على الوظائف. وهذا ما حصل فعلا. لكن على الوجه الثاني ، فان هذا  التطور ولد وظائف جديدة اكثر من تلك التي الغاها ، واكثر تنوعا واعلى عائدا.  هذا الشيء حدث ايضا حين دخول الانترنت وقبلها الكهرباء وقبلها البخار.
لقد جرت سيرة الثورات الصناعية الكبرى على تدمير العديد من القطاعات والغاء الوظائف المرتبطة بها. لكنها في الوقت ذاته فتحت الباب امام قطاعات جديدة ووظائف جديدة اكثر وأفضل. وهذا من ابرز اسرار التقدم.
هذه اذن مسارات اربعة ، اقترح ان تكون اطارا للتفكير في التحولات القادمة ، لا سيما  في بلادنا ومحيطها الاقليمي. وآمل ان تكون مفيدة في توجيه الاذهان واثارتها.
الشرق الاوسط الأربعاء - 13 شهر رمضان 1441 هـ - 06 مايو 2020 مـ رقم العدد [15135]
مقالات ذات صلة


29/04/2020

في الاعجاز والاختبار والعذاب الالهي


||هذا الكون يتحرك في نظام ثابت ، هو "سنة الله". وهو مفهوم للبشر، ولذلك يستعملونه ويسخرون أدواته لتحسين معيشتهم||

لو لم يكن هذا الشيخ مشهورا ومسموع الكلمة ، لما انتشر حديثه عبر العالم ، وما شاهده عشرات الألوف. ولولا ان الكلام الذي قاله يحاكي قناعات عميقة في نفوس مستمعيه ، لما قوبل بالاستحسان والتأييد. خلاصة كلام الشيخ ان وباء كورونا اختبار رباني للبشر جميعا ، غرضه اظهار قدرة الباري سبحانه وتذكير البشر الآثمين بجبروته كي يتعظوا. 

قال الشيخ أيضا انه مندهش غاية الدهشة ، لأن مخلوقا في غاية الضعف والتفاهة ، صغيرا لا يرى بالعين المجردة ، عطل حياة العالم من اقصاه الى أدناه: أوقف السيارات والقطارات والطائرات ، وعطل المصانع والشركات والجامعات والحكومات ، وضرب الجيوش والاجهزة الأمنية من داخلها ، بل لم ينج منه حتى رؤساء الدول وعائلاتهم.
لا حاجة لذكر اسم القائل ، فقد تكرر على السن العديد من الدعاة المحترمين ، الذين ظنوا ان كلاما كهذا ، سوف يذكر  مستمعيهم بما يتوجب عليهم من طاعة الله والتوجه اليه ، وقد يردعهم عن المعاصي ان كانوا من أهل العصيان.
والحق ان طريقة الوعظ هذه خطأ في ذاتها. فهي لا تقنع الا من كان مقتنعا سلفا ، اي من لا يحتاج للموعظة. كونها خطأ تظهر في وجهين: الاول ان جبروت الله وقدرته ، لا تتجلى في أمور يستطيع البشر التنبؤ بها ودفعها ، او اتقاءها وتقليل آثارها ، وهذا لاينطبق على كورونا ولا الاوبئة المماثلة. اما الوجه الثاني فهو ان الأصل في دعوة الناس الى الله ، هو البشرى وإثارة الأمل بالنجاح الدنيوي وليس التنفير.
الوجه الأول يوضحه القرآن في آيات عديدة كقوله سبحانه "لاعاصم اليوم من أمر الله-هود 43" ، بينما نعلم ان العواصم من الاوبئة كثيرة ، وابسطها التباعد الاجتماعي. اما الاوبئة التي ضربت العالم فيما مضى ، فقد طور العلماء امصالا تقي منها ، فما عادت قابلة للتكرار على نطاقات واسعة ، مثل الملاريا والكوليرا والسل والطاعون والتراخوما والايبولا والسارس وأمثالها. وحتى كورونا المستجد الذي ادهش فضيلة الشيخ ، فان العلماء واثقون بامكانية التوصل الى مصل له بحلول نهاية العام الجاري. ثم ان ظهور الفايروس كان مفاجئا ، أما طبيعته فليست مجهولة تماما. كما ان انتقاله للبلدان الأخرى لم يكن مفاجئا ، ولا التحكم فيه والتقليل من آثاره مستحيلا.
بعبارة اخرى فان المسار الذي رأيناه وتابعناه بشكل يومي ، لم يوح أبدا بعجز البشر عن كبح هذا الوباء ،  ولم يقل احد ان العالم اقترب من نهايته ، او ان عواقب الكارثة ستكون بلا حدود. ومن هنا فان هذا الوباء لم يكن بالصورة التي نتخيلها عن جبروت الله وقوته ، التي لا ترد ولا تقف عند حد.
القول بان الله يعاقب البشر من خلال التدخل المباشر في النظام الكوني ، لا يخلو من مضمون خرافي. هذا الكون يدور ويتحرك وفق نظام ثابت ، أسماه القرآن "سنة الله" و "آيات الله" و "فطرة الله". ولو تأملت في هذا النظام لوجدته كله ، قواعده وتفصيلاته ، تسير وفق منطق دقيق ، منطق يفهمه البشر ويستوعبون تفصيلاته ، ولذلك يستعملونه ويسخرون أدواته لتحسين معيشتهم ، وهذا بالتحديد مراد الخالق سبحانه.
ادعو المشايخ الكرام والدعاة الافاضل الى القراءة العقلانية والانسانية للدين ، القراءة التي تنظر للعالم باعتباره مختبرا للعقل والفكر والرحمة ، لا ساحة للعذاب وانتقام القوي من عباده الضعفاء.
الشرق الاوسط الأربعاء - 6 شهر رمضان 1441 هـ - 29 أبريل 2020 مـ رقم العدد [15128]


مقالات ذات علاقة

24/04/2020

السيف لـ عكاظ: أدباء وعلماء الأمس منفصلون عن هذا الزمان


الجمعة 24 أبريل 2020 أروى المهنا (الرياض) arwa_almohanna@

من أكثر المفكرين والباحثين السعوديين إثارة للجدل، شخصية لاتقبل القوالب الجاهزة، ولا الأقواس التي تشكل عائقاً أمام ‏يقظة الفكر المتحفز لتفسير وإعادة فهم الكثير من المنهجيات وزعزعة الكثير من القناعات. يؤمن الدكتور الباحث والمفكر ‏توفيق السيف بأن أجمل ما في الحرية احترام الاختلاف، إذ إن لاختلافه بصمة واضحة ترسخ ضرورة الخروج عن السائد في ‏الخطاب الديني تحديداً، وتسهم في تخفيف موجة التعصب والأفكار الرجعية من خلال قراءات معاصرة ترتكز على إعمال العقل ‏والنقد‎.

السيف الذي أوضح في حواره مع «عكاظ» أن أدباء وعلماء الأمس منفصلون عن هذا الزمان، قال إن المجتمع في زمن ‏سابق كان أسيرا لأسئلة زائفة، لكننا الآن أصبحنا أكثر قدرة، على الشعور بذاتنا الوطنية الواحدة، أي كوننا سعوديين أولا. ‏وكشف أنه يعمل هذه الأيام على إكمال البحث المتعلق بموضوع «المساواة» وهو الموضوع الذي يعمل عليه منذ عامين.

·        لنبدأ من جائحة كورونا، كيف تقضي أوقاتك في فترة الحظر، وهل هناك مشروع جديد تعمل عليه؟

أولا أشكركِ أختي العزيزة أروى على هذه الفرصة الغالية، للحديث إلى قراء «عكاظ» الغراء، التي كانت إحدى أبرز محطاتي ‏الكتابية في العقد الماضي، ولي فيها أصدقاء وأحباب.
في ما يخص إدارة الوقت، ما زلت أستيقظ كما اعتدت عند الفجر وأبدأ العمل نحو السابعة والنصف بأعمال الشركة التي يمكن ‏القيام بها عن بعد، ثم القراءة‎.
أقرأ يوميا العديد من المقالات حول الانعكاسات المتوقعة لوباء كورونا على العالم في مختلف الجوانب. ثم أصرف ما بين أربع ‏إلى ست ساعات في البحث المتعلق بموضوع «المساواة»، وهو الموضوع الذي أعمل عليه منذ عامين، واحتمال أن أفرغ ‏من قسمه الأول خلال ثلاثة أشهر. وهكذا أبقي نفسي مشغولا إلى ما بعد المغرب بقليل.
أحيانا أشعر بالسأم لاحتباسي في البيت ثمانية أسابيع حتى الآن. أحاول مقاومة السأم بالعمل في الحديقة والتنظيف وإصلاح ‏الأشياء. لكن - بشكل عام - لا أشعر بالفراغ وليس لدي وقت فارغ. أفترض أن هذا سيتغير خلال رمضان، على الأرجح ‏وستتحول أشياء النهار إلى الليل وسيزيد وقت النوم.

·        في أحد مقالاتك دعوت الجميع للتفاؤل المطلق رغم هول ما يمر به العالم من تداعيات أزمة كورونا؟

أميل إلى التفاؤل بشكل عام، وإذا سيطرت علي حالة من التشاؤم، فإنني أتجنب الكتابة والحديث أو مقابلة الناس، كي لا أنقل ‏لهم عدوى التشاؤم. العالم مليء بالأشياء السيئة التي تولد الضيق في النفوس، فلماذا نزيدها سوءا.
وفي ما يخص وباء كورونا، فإنني أشعر أننا سنكون أقل قدرة على مقاومته إذا سيطر علينا التوتر. بل إن التوتر قد يدمر ‏الأشياء البسيطة والجميلة في الحياة. التشاؤم يولد التوتر النفسي أو يزيده، ونحن لا نحتاجه. طالما كان البشر قادرين على ‏الحياة رغم الوباء، فإن علينا أن نتعامل معه بشجاعة. التفاؤل يجعلنا أكثر قدرة على التفكير المنطقي واستثمار الإمكانات ‏المتاحة في الحياة، رغم هذه السحابة السوداء التي تنذر بالفناء.

·        كيف تقرأ محاولات بعض الجامعات السعودية في إيجاد لقاح لفايروس كورونا؟ وهل من الممكن حقاً أن نتعايش مع الوباء؟

منذ ظهور الفايروس في الصين، كنت أنتظر إعلانا يشير إلى جهد علمي في جامعاتنا، بل كنت أتمنى أن يتولى أحد الأقسام ‏الجامعية إدارة الحملة الوطنية لمكافحة كورونا.
سمعت مرتين عن أعمال بحثية تستهدف التوصل إلى لقاح للفايروس، أولها كان على لسان أحد الباحثين، والثاني على لسان ‏مدير جامعة الملك عبد العزيز. ثم سمعت خبرا في صحيفة عن «خطة» لتصنيع جهاز مساعدة للتنفس، لكن الخبر صيغ ‏بطريقة لا تسمح باعتباره جديا. لهذا السبب وذاك لا أرى في أي من هذه الإعلانات مؤشرات من النوع الذي نتطلع إليه، ولعل ‏قلة متابعتي هي السبب.
أما عن التعايش مع الوباء، فإنني أبسطه على النحو التالي: في الوقت الحاضر يعمل ما بين 20 - 25 % من السوق ‏والمجتمع، ويقع الباقي تحت الحظر. اقتراحي هو أن نعيد تعريف الفاعلية والحظر بحيث يتمكن نحو 50 - 60 % من الاقتصاد ‏والمجتمع من العمل، مع الإلزام المشدد بوسائل الوقاية. أعتقد أن هذا ممكن وأن العالم ككل يتجه إليه. التعايش لا يعني ‏التغافل عن حقيقة الوباء بل الحيلولة دون أن ندمر أسلوب معيشتنا خوفا منه.

·        بعيداً عن كورونا، هل ترى من الجيد أو الصحي أن نستمر بمناقشة خطاب الصحوة وأثره علينا كمجتمع سعودي أو أن نتجاوز ‏المرحلة؟

لن نستطيع التوقف عن مناقشة خطاب الصحوة، لأنها باتت جزءا من تاريخنا الثقافي والاجتماعي وتصورنا للدين، وهي ‏العناصر التي يدور حولها جانب كبير من الجدل بين الناس، أو هي - على الأقل - تشكل خلفية لهذا الجدل.
الصحوة ظاهرة اجتماعية تخضع للتحليل العلمي، مثل غيرها من الظواهر. أعلم أن ارتباط الوصف الديني بالصحوة قد يثير ‏التباسا وحرجا، ولهذا فإن الضرورة تقتضي التأكيد على الجانب العلمي في الموضوع، أي كونها ظاهرة اجتماعية وجزءا من ‏التجربة الثقافية للمجتمع، وهي تخضع للنقاش من هذه الزاوية، وليس من زاوية كونها حالة دينية.
من ناحية أخرى، فإن حداثة العهد - نسبيا - بالظاهرة، تعيق إلى حد ما الحكم المحايد على أشخاصها وحوادثها. أظن أن أي ‏مناقشة لها، لن تنجو من الخلط بين التفسير والتقييم، لذا فإن من الواجب اتخاذ أقصى ما يمكن من احتياطات لتجنب الانشغال ‏بالأشخاص والحوادث، لأن هذا سيقلل من قيمة البحث العلمي ويملؤه بالانفعالات، ما لم نركز على المناقشة العلمية، فإن ‏كتابتنا ستكون مجرد شتائم منمقة أو تكرار لكلام قيل مئات المرات، وسيضطر أبناؤنا وغيرهم لقراءة تاريخ بلادنا الذي يكتبه ‏الأجانب، بدل أن يقرأوا كتابتنا.

·        ساهمت لفترة طويلة في نشر ضرورة وعينا بتجديد الخطاب الديني بما يناسب العصر، هل وصل صوتك؟

في بلدنا ظاهرة عجيبة، مجتمعنا تقليدي يميل إلى نمط ديني أحادي، إلا أنه في الوقت نفسه يتعامل بلين نسبي مع الدعوات ‏الناقدة للتقاليد والداعية للتعدد الديني. لقد كنت أكتب حول هذا الأمر في الصحافة المحلية منذ 28 عاما بالتمام والكمال وبشكل ‏منتظم، وأسمع أحيانا أصواتا تتبرم بهذه الكتابات، بتعبيرات لينة حينا وخشنة في معظم الأحيان. لكن للإنصاف فإن هذا لم ‏يتجاوز الإنكار اللفظي، وهذا - في رأيي - من دلالات اللين في التعامل مع المختلف، وهو من الأمور المحمودة والفريدة في ‏بلادنا. هل وصل صوتي أم لا؟ لا أدري. لكني أظن أننا اليوم أكثر قدرة على التجدد واستيعاب الأفكار المعقدة والمختلفة.

·        هل لدينا كمجتمع سعودي هوية ثقافية واضحة، وهل نحن مدركون لمعنى الهوية حقاً؟

لا شك أننا أصبحنا الآن أكثر قدرة على الشعور بذاتنا الوطنية الواحدة، أي كوننا سعوديين أو لا. في زمن سابق كنا أسرى ‏لأسئلة زائفة مثل سؤال: هل أنا مسلم أولا، أم عربي أولا، أم سعودي أولا.
كنا ندفع دفعا لخيارات سخيفة - لكنها حاسمة ‏أحيانا - بين متعارضات موهومة، وكنا نتعرض لعقاب روحي إذا اخترنا ما تمليه علينا عقولنا. الحمد لله أننا تحررنا من كل ‏هذه التفاهات الآن، وبتنا قادرين على أن نتعرف على أنفسنا في إطارها الطبيعي، أي بيئتها الجغرافية والاجتماعية ‏والسياسية. بتنا نفهم حقيقة أن الهوية ليست دائرة واحدة، بل هي مجموعة دوائر متداخلة، وأن الإنسان الفرد يحمل في الوقت ‏نفسه هويات متعددة، ترتبط بانتمائه الاجتماعي والديني والثقافي وحرفته وطبقته الاجتماعية ولغته وانتمائه السياسي ‏وتأملاته المستقبلية وموقفه من قضايا الكون. لكن هذه كلها تعبر عن نفسها بصورة ثقافية - روحية، تحت المظلة المادية - ‏الثقافية التي اسمها الهوية الوطنية.
أعلم بطبيعة الحال أن هناك أناساً عاجزين عن استيعاب مفهوم الهويات المتعددة، وهم يرونها دليلا على ما يسمونه تلونا أو ‏مؤشرا على عدم الصفاء. هناك أيضا من يحاول اختصار هذا التنوع إلى اثنين أو ثلاثة «القبيلة أو المذهب أو الدين أو ‏القومية+الوطن» ويعتبر البقية ألوانا متباينة أو إضافات مشروطة. الحقيقة أن الهوية الوطنية هي الثابت الوحيد، وهي تتجلى ‏في الانتماء القانوني فقط، أما البقية، أي كون الإنسان مولودا على أرض المملكة، أو انتماؤه للإسلام أو لقبيلة بعينها أو ‏للعروبة، فهذه كلها ألوان مكملة، ولا تشكل شرطا ولا قيدا على الهوية الوطنية.

·        كيف تصف علاقة المثقف السعودي بالمجتمع؟ وهل المثقف خلال الخمسين عاما الماضية قدم مشروعا حقيقيا للمجتمع ‏السعودي؟

لا أريد المبالغة في تصوير دور المثقف السعودي، لكني لا أريد أيضا التقليل من قيمته. السبب في ذلك أنني لا أرى ثقافة اليوم ‏متواصلة مع ثقافة الماضي. لقد مرت المملكة بفترة انتقالية عميقة التأثير جدا، حين عبرت من اقتصاد الكفاف إلى اقتصاد ‏النفط. وكانت - في تقديري - فاصلا سميكا بين الجيل الحاضر وجيل ما قبل خطة التنمية الأولى. الفاصل يعني أن النتاج السابق ‏لم يعد عاملا مؤثرا في تشكيل صورة الثقافة الحاضرة، وبالتالي فإننا لا نستطيع ادعاء التراكم الحضاري الذي تتسم به ‏المجتمعات التاريخية، أو لنقل إن التراكم الثقافي الذي لدينا لم يكن طبيعيا ولا متكاملا، بل هو متكلف ومفكك.
الثقافة السعودية اليوم منقطعة عن ثقافة الأمس، ولهذا فإن الباقين من أدباء وعلماء الأمس الذين ما زالوا يكتبون ‏وينشرون، يبدون منفصلين عن هذا الزمان، فكأنهم يلقون المعلقات السبع بين هواة الشعر النبطي، حيث الكل مستمتع بما ‏عنده، لكنه غير متواصل ولا متفاعل مع الآخر.
من هنا فإن عمر الثقافة السعودية الحاضرة قصير نوعا ما، وهو ينتمي إلى إطار خارجي أكثر مما ينتمي إلى بستان داخلي. ‏وللمناسبة فإن هذا لا يخص لونا من ألوان الثقافة دون الآخر.
ومع مرور الوقت ستنغرس هذه النبتات في الأرض، وستذهب أعمق وأعمق حتى تمتص الروح الكلية للبلد وتتبلور في كل ‏ألوانه. هذا بالطبع يحتاج إلى حرية واسعة للتعبير مضمونة بالقانون، كما يحتاج إلى الاحتفاء بالتعدد والتنوع في كل تجلياته.

·        ما هو الفاصل ما بين المعالم الثقافية والمعالم الدينية؟

مدخل الجواب إلى هذا السؤال، رهن بقناعة ميتافيزيقية مسبقة، موضوعها المساحة التي يغطيها الدين في حياة الناس. ‏القائلون إن الدين شامل، يقولون تبعا إنه لا توجد مساحة حياتية خارج الإطار الديني. والقائلون إن الدين كامل وليس شاملا ‏‏«وأنا من القائلين بهذا» يقولون تبعا إن معظم حياة البشر تقع خارج الدين، وهي تتوسع باستمرار، بينما تبقى الدائرة الدينية ‏ثابتة أو متناقصة.
بديهي أن كل ما يقع خارج الدائرة الدينية، يتأثر بعمل العقل البشري والعلم الذي ينتجه هذا العقل. وهو قد يكون ثقافة - ‏بالمعنى الفني - أو عملا عقليا بكل تعبيراته ومعانيه.
ليس هناك دليل حاسم على أن الدين شامل أو العكس. ليس عند هؤلاء ولا عند أولئك. ولذا فالمسألة تتعلق باعتقاد الإنسان ‏واختياره الخاص.
أحاديث مماثلة
توفيق السيف مع د. الهتلان في حديث الخليج حول الربيع العربي ومآلاته

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...