16/05/2010

أين تضع المرحوم محمد عابد الجابري


||رأى الجابري ان المجتمع العربي ورث نظاما أحادي البنية ،   تندمج فيه ثلاث مكونات: القبيلة والدين والغنيمة||
  محمد عابد الجابري الذي رحل عنا قبل بضعة ايام (1936-2010) لم يكن وحيدا في ميدانه. خلال العقدين الأخيرين تعرفنا على عشرات من الدراسات الجادة التي اهتمت بقراءة التجربة التاريخية للمجتمعات المسلمة وتفكيكها باستعمال أدوات نقدية معاصرة ومنفصلة إلى حد ما عن مكونات تلك التجربة. لكن بين العديد من الباحثين امتازت دراسات الجابري بعناصر خاصة جعلته مؤثرا بشكل استثنائي في الثقافة العربية الراهنة. هذا يتضح على الأقل من الإقبال الكبير للمثقفين على كتبه التي طبع بعضها سبع مرات وبعضها الآخر خمس مرات ولا تزال بين الأكثر رواجا في سوق الكتاب.
د. محمد عابد الجابري
 لعل أبرز ميزات الجابري هي قدرته الفائقة على الجمع بين التزام شخصي بالخطوط الكبرى للثقافة العربية - الإسلامية مع انفتاح كامل على المعارف والمناهج التي تطورت خارج هذا الإطار. في كتابه «العقل السياسي العربي» لا يشعر الجابري بالحاجة إلى تبرير استخدامه لمناهج النقد والتفكيك الغربية، ماركسية أو ليبرالية، لفهم المنظومة الايديولوجية - السياسية التي شكلت التجربة التاريخية الإسلامية.
لكنه في نهاية المطاف يوضح دون لبس أن مشروعه العلمي يستهدف بعث تفكير إسلامي جديد، عقل يفخر بهويته التاريخية دون أن ينبهر بجمالياتها أو يتغاضى عن إشكالاتها، أي عقل إنساني يفهم ذاته ويفهم الطريق الذي تشكلت عبرها هذه الذات. خلافا للرؤية الماركسية التي تميز بين البنية التحتية للنظام الاجتماعي (مصادر الإنتاج) والبنية الفوقية (القيم والأفكار)، فإن الجابري يرى أن المجتمع العربي قد ورث نظاما أحادي البنية ، تندمج فيه ثلاث مكونات هي القبيلة والدين والغنيمة. تشكل القبيلة مصدرا لنموذج التنظيم السياسي، والدين مصدرا للمثاليات، والغنيمة محورا للاقتصاد السياسي. رغم أن هذه المكونات متفاعلة بشدة، يؤثر كل منها في الآخر، إلا أنها بقيت مستقلة عن بعضها، وساهم كل منها في تشكيل جانب من هوية الإنسان العربي القديم والمعاصر على السواء.
هذا الوضع ليس مثاليا عند الجابري. لكن من المهم أن نفهمه ونسعى للتحكم في تأثيراته. وهو يحاول من خلال تفسيره للماضي لفت النظر إلى المصادر التي تشكلت على ضوئها نقاط الاشتباك والجدل الكبرى التي نشهدها في وضعنا الاجتماعي المعاصر وفي ثقافتنا. وحسب تعبيره فإن «تحليل الحاضر يعطينا مفاتيح الماضي».
الهدف الأسمى للجابري هو إعادة صوغ الثقافة والهوية على نحو يسهل الانتقال إلى الديمقراطية التي يقر بأنه منحاز إليها دون تردد. أين نضع الجابري بين المفكرين والنخبة الثقافية العربية؟ البعض رآه علمانيا. والدليل عليه أحاديثه المتكررة واستدلالاته الموسعة على عدم وجود شكل محدد للسلطة السياسية في الإسلام، وأن الطرق التي اتبعها المسلمون السابقون هي إنشاءات عرفية تأثرت بعمق بالعوامل الثلاثة المذكورة أعلاه. وبالتالي فإنها لا تصلح كمرجعية تتمتع بقيمة الإلزام. البعض يراه ليبراليا، فهو داعية للحريات الفردية والعامة وحقوق الإنسان، وهو ناقد عنيف لما يصفه بمبررات الفردية والاستبداد، حتى لو استند إلى مبررات دينية أو قومية. آخرون رأوا فيه مفكرا تقليديا منغمسا في المقولات التراثية وعاجزا عن التمرد على مسلماتها. ومتخذا من عنصري القومية العربية والدين الإسلامي محورا لجميع مثالياته ومسلماته. أما أنا فأجده أقرب إلى التيار المحافظ حسب التصنيف الأوروبي (وليس العربي أو الشرقي). فالتزامه بالعروبة وبالمكون الديني للهوية يضعه بين المحافظين، لكن تحرره من المقولات الموروثة والقائمة على مبررات ايديولوجية يضعه بين المفكرين العقلانيين الأقرب إلى الليبرالية في المنهج. مثل هذا التصنيف قد يصعب تمييزه بسبب الصورة الانطباعية السائدة حول المحافظين الغارقين في التراث والعاجزين عن الخروج من حدود الوعظ إلى رحاب التفكير الحر..
الاتجاه الذي يجمع بين الالتزام والعقلانية هو أكثر الاتجاهات جاذبية في العالم الإسلامي اليوم، لكنه لازال غامضا عند الكثير من الناس. حزب العدالة والتنمية التركي وحزب امنو الماليزي هما أبرز التعبيرات السياسية عن هذا الاتجاه ، كما يعبر عنه مفكرون بارزون مثل عبد الكريم سروش ومحمد أركون ومحمد خاتمي.. يتطلع الجابري ــ مثل بقية الناشطين في هذا الاتجاه ــ إلى تجديد الحياة الدينية وانتهاج علاقة تفاعل مع تجارب الحضارة الإنسانية، من أجل إعادة تأسيس ثقافة عامة عقلانية ومتحررة من قيود الماضي.
غاب الجابري جسدا، لكن فكره سيبقى علامة بارزة في تاريخ المعرفة العربية والإسلامية في هذا العصر.
عكاظ  2 / جمادى الآخرة / 1431 هـ الاحد 16 مايو 2010
مقالات ذات علاقة

13/05/2010

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن


الوطن في رايي شراكة مادية اعتيادية قابلة للتجريد والتقييد بحسب ارادة الشركاء. وهي قابلة للتاسيس على ارضية القيم الدينية ونتائج الدراسات الفقهية.

التعريف الذي قدمه الزميل محمد المحمود لفكرة الوطن (الرياض 6 مايو 2010) ينطوي على عناصر مثيرة للاهتمام ، لكنه يستدعي جدلا في مؤدياته. الوطن لا يمثل – حسب عبارته – اكثر من " فعالية شركاء متعاقدين ، شركاء يُمارسون تنفيذ عقودهم الضمنية والصريحة على مساحة من الجغرافيا التي يمتلكها المجموع ، المجموع كوجود (ما بعد فردي) ، ولا يملكها أي أحد ، أي ليست ملكية أفراد من حيث هي : وطن".
محمد المحمود
بدأ المحمود بالتاكيد على مفهوم الشراكة ضمن مساحة مادية (اي بما يتضمن شراكة في الماديات المتوفرة في هذه المساحة)، لكنه انتهى بنفي المشترك المادي. في نهاية المطاف لا احد – باعتباره الفردي – يملك شيئا ، طبقا لما يؤدي اليه راي الزميل. نوقشت هذه الفكرة كثيرا في بحوث الفلسفة السياسية ، وذهب اليها بالخصوص قلة من التيارات الفكرية والسياسية المحافظة التي تنفي هوية الفرد وتشكك في استقلاله ، وتنظر الى الرابطة الجمعية ، وما ينطوي تحتها من مصالح وموارد ، كموجود مستقل عن المشتركين فيها اي افراد المجتمع. بينما ذهب الليبراليون الى التاكيد على ان العقد الاجتماعي لا ينفي الحقوق او الهويات الفردية او الفرعية السابقة ولا يغير من طبيعة العلاقة بين المتعاقدين وموضوع العقد ، بل يقيم اعتبارا معنويا جديدا هو الشراكة في تلك الحقوق ضمن الرابطة الاجتماعية التي تتولد في اطارها مصالح مشتركة وارادة مشتركة (او عامة حسب تعبير روسو).
هل لهذا الكلام اي اهمية ؟
اذا اتفقنا مع الزميل المحمود وقلنا بان الشراكة الوطنية مفهوم  مجرد لا يتضمن العلائق المادية السابقة على التجريد ، اوقلنا انه كل واحد او وصف نوعي ، يشترك المجموع – ما بعد الفردي حسب تعبيره - في ملكيته اشتراكا اعتباريا ، لا اشتراكا ماديا ، عندئذ فان ملكية الجميع لذلك العنصر المادي الواحد لا تتجلى في الواقع الا حين يجتمع كافة المالكين دون استثناء . فاذا اراد كلهم او بعضهم المطالبة بالحقوق التي تترتب على الملك (ونعلم ان الملك اقوى مصادر الحق) فان هذه الحقوق المدعاة لا تثبت الا اذا اتفقوا جميعا ومن دون خلاف.
من البديهي ان هذا الشرط مستحيل ، وبالتالي فان المشروط غير قابل للتحقق. ويترتب عليه سقوط كل حق للمجتمع في الموارد والمصالح العامة التي افترضنا شراكة اعضائه فيها. بعبارة اخرى فان نهاية تلك الدعوى هو سقوط مفهوم الشراكة في التطبيق رغم ثبوته على المستوى النظري
هذه الفكرة ، اي تجريد الشراكة من مضمونها المادي بعد قيامها في اطار العقد الاجتماعي ، كانت من اركان نظرية العقد الاجتماعي في الصيغة التي اقترحها جان جاك روسو. لكن معظم المفكرين اللاحقين طرحوها جانبا لاستحالتها ، اي كونها غير واقعية ، رغم امكانية اثباتها فلسفيا.
البديل الذي نقترحه هو تعريف الوطن كشراكة مادية اعتيادية قابلة للتجريد والتقييد بحسب ارادة الشركاء. وقد ناقشت الفكرة بشيء من التفصيل في اطار نظرية "شراكة التراب" التي عرضتها في كتابات سابقة. واوضحت انها قابلة للتاسيس على ارضية القيم الدينية ونتائج الدراسات الفقهية. في هذا الاطار ينبغي التمييز بين مفهوم "الملك المشترك" الذي تترتب عليه حقوق معلومة لافراد المشتركين ، وبين "الارادة العامة" التي هي بمقتضى الطبع مفهوم مجرد.
الفارق بين المشترك والعام يتمثل في قابلية الاول للتخصيص . ولهذا يصح حيازة بعض الافراد لبعض الاجزاء ، وهو امر معروف وسائد. بخلاف المفهوم المجرد للارادة العامة ، التي يكمن جوهرها في عمومها وتجريدها ، فاذا قيدت او جزئت فقدت مفهومها وسقطت.

الشراكة التي نقترحها تطابق مفهوم "الملك الشائع " المتداول في البحوث القانونية والفقهية. والفارق بينها وبين المفهوم السابق يكمن في سريان الحقوق المترتبة على الملك لكل فرد من المالكين او لمجموعهم ، مجتمعين او متفرقين ، سواء اختص احدهم ببعض المشاع او تركه ضمن الملكية المشتركة. واهم تلك الحقوق هو المطالبة باحترام رايهم عند تصرف بعضهم في الملك المشترك. وعلى هذا الاساس اقرت معظم دساتير العالم مبدأ التصويت كوسيلة لتعبير الافراد عن رايهم في الشؤون العامة والمشتركة.
الايام البحرينية العدد7703 | الخميس 13 مايو 2010 الموافق 28 جمادى الأولى1431هـ
https://www.alayam.com/Article/Article/19967/Index.html

مقالات ذات صلة


"شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

26/04/2010

كي تستمر المنتديات الأهلية رافدا للحياة الثقافية

تمثل المنتديات الثقافية الأهلية رافدا هاما للنشاط الثقافي في المملكة، ولعل أبرز ما يميزها هو :

 أ) كونها أهلية تطوعية.

 ب) انتظامها طوال العام، أسبوعية أو شهرية.

 ج) اعتمادها على الجدل والحوار الشفهي الحر كبديل عن المحاضرات التوجيهية.

ثمة أجهزة رسمية كثيرة تعمل في المجال الثقافي، بدءا من وزارة الثقافة والإعلام المشرفة على هذا القطاع مرورا بالهيئات الدعوية وانتهاء بوزارتي التربية، والتعليم العالي، فضلا عن العديد من المؤسسات الأخرى. لكن تبقى للنشاطات الأهلية ميزة التنوع في الطروحات والآراء وكونها نافذة لتوجهات لا تتسع لها قنوات الثقافة الرسمية.

 المرحوم عبد المقصود خوجة مؤسس منتدى الاثنينية بجدة

حسنا فعل وزير الإعلام بتكريمه المنتديات الثقافية في المملكة. وقد وفق في اختياره لثلاثة نماذج مضيئة، هي منتدى الدكتور راشد المبارك، الذي عرف بتنوعه وثرائه العلمي، ومنتدى الثلاثاء، الأشهر في المنطقة الشرقية والأكثر تعبيرا عن تنوعها وغناها الثقافي، ومنتدى الشيخ عبد المقصود خوجه الذي أضاف إلى الجدل الثقافي بدعا كثيرة طيبة مثل تكريم أهل الفكر وطباعة كتبهم وشكل لسنوات طويلة وجها مشرقا لبلدنا في داخلها وفي الخارج.

أعرف في محافظة القطيف وحدها خمسة عشر منتدى ثقافيا، ويوجد مثلها أو أقل أو أكثر في معظم محافظات المملكة، تشكل بمجموعها روافد غنية للحراك الثقافي وإنتاج الأفكار أو نقد الأفكار . لكن أغلبها غير منتظم. وهذا وإن كانت له مبررات قابلة للتفهم، إلا أنه في نهاية المطاف يقلل من أهمية الغاية، أي إغناء الحياة الثقافية في المجتمع. لن يكون لدينا حياة ثقافية نشطة ما لم تتحول الثقافة إلى عمل مستمر، منتظم، ومتزايد.

ثمة آلاف من الناس يرغبون في تطوير معارفهم، وثمة عشرات يشعرون بأن لديهم شيئا يستحق أن يقال، ونشعر جميعا بأن هناك العديد من الأفكار الجديدة التي تستحق أن تطرح للنقاش. هذه الحاجات لا تجد فرصتها إلا بوجود إطارات نشطة، فعالة، ومنتظمة، يرجع إليها كل صاحب فكرة وكل باحث عن فكرة.

في أواخر القرن التاسع عشر نشر الفيلسوف الإنكليزي جون ستيوارت ميل رسالة عنوانها «حول الحرية»، أصبحت فيما بعد مرجعا في الفلسفة السياسية. في هذه الرسالة الهامة ركز ستيوارت ميل على ما وصفه بـ «السوق الحر للأفكار»، وكان يعني ضرورة إلغاء القيود التي تعيق تدفق المعلومات أو تقيد حرية التعبير. رغم المعارضة الشديدة التي واجهت تلك الرسالة في وقتها، إلا أننا نعرف اليوم أن الرجل كان يرى المستقبل، فقد أكد على أن المجتمع الذي يطلق حرية الرأي والتعبير ويلغي القيود المفروضة على العقول، سوف يتقدم علميا واقتصاديا وسوف يزدهر ويكون أمة قوية وغالبة. وبالعكس فإن المجتمعات التي تقيد التعبير وتحدد نوع المعلومات المسموحة والممنوعة، سوف تبتلى بالهزال الفكري وسوف تبقى ضعيفة متخلفة، تعتمد على الأولى وتتبعها في كل شأن من شؤون حياتها.

بعد أكثر من قرن على آراء ستيوارت ميل، نشهد اليوم ما تحقق فعليا. فالذين اتبعوا نصيحته أصبحوا سادة العالم في كل فن، والذين سخروا منها أو جبنوا من عواقب تطبيقها أصبحوا أتباعا للفريق الأول، وشتان بين التابع والمتبوع في القيمة والمكانة.

إذا أردنا أن نتحول من مستهلكين لأفكار الآخرين وعلومهم إلى منتجين أو مشاركين في إنتاج العلم، فإن أول الطريق هو الإقرار بحرية التعبير والجدل لأنفسنا ولغيرنا. الإقرار بحرية التعبير هو الطريق إلى تحرير الفكر والعقل. لا يمكن للعقل أن يتحرر وينطلق ما لم يجد أمامه قنوات للتعبير عما ينتجه من أفكار.

نحن لا نحتاج إلى التوجيه والإرشاد والوعظ بقدر حاجتنا إلى النقاشات الحرة ومضاربة الأقوال والآراء. إحياء الثقافة لا ينتظر المواعظ والتوجيهات بل ينتظر الجدل الحر حتى لو بدا عسيرا في أول الأمر. لهذا السبب فإني آمل أن تحافظ المنتديات الأهلية على هذه الميزة الغالية وأن تتوسع فيها. فبها وبالاعتماد عليها تزدهر الثقافة ومن دونها تتحول إلى كلام مكرور، يقال بأشكال شتى وفي صيغ منمقة، مثل سجين يدور طوال يومه في زنزانة صغيرة، يقطع عشرات الأميال لكنه يبقى ملتصقا في النقطة التي انطلق منها.

https://www.okaz.com.sa/article/328863
مقالات ذات صلة

20/04/2010

حقوق الانسان : قراءة معاصرة لتراث قديم



؛؛ في كل عصر يطور البشر مفهومات جديدة تتفاعل في الوقت نفسه مع تراثهم ومع ثقافتهم الراهنة، لكن الصيغة التي يطورونها لتلك المفاهيم هي الصورة التي تعبرعن زمنهم وواقعهم؛؛




تعرف المجتمع العربي على مباديء حقوق الانسان منذ زمن طويل نسبيا. لكنها مع ذلك لا تزال موضوع جدل عريض بين الباحثين في المجال الاسلامي و السياسة العربية. ويدور معظم الجدل حول موقف الدين من تلك المباديء وما اذا كان ممكنا الرجوع الى التراث الاسلامي لاعادة انتاج المفاهيم المعاصرة على ارضيته او في اطاره. لا شك ان تراثنا القديم يتضمن بعض الاساسات المناسبة لبناء منظومة قيم ومباديء تضمن حقوق الانسان. لكن من المبالغة اعتبار تلك الاساسات منظومة كاملة او قابلة لحل اشكاليات الموضوع في صورته المعاصرة.
لاحظ المفكر المغربي عبد الله العروي ان قدامى الاسلاميين قد ناقشوا مسألة الحرية التي تمثل المبدأ الاول في منظومة حقوق الانسان من زاويتين : اولاهما ضمن اطار الجدل المعروف حول الجبر والاختيار، أي استقلال الفرد بارادته، وبالتالي فعله، او كون ارادة الفرد وفعله امتدادا مباشرا لارادة الخالق. 
اما الزاوية الثانية فدار النقاش فيها حول الدوافع الداخلية للفعل الفردي، ومدى قدرة الانسان على التحكم في نزعاته الانفعالية، وهو ما يعرف في الفلسفة بالعلاقة بين النفس العليا والنفس الدنيا. واهتم بالزاوية الاولى المتكلمون بينما اهتم بالثاني المتصوفون والفلاسفة ولا سيما في اطار نظرية الكمال الذاتي التي تحدث عنها ابن عربي وغيره.
في كلا الزاويتين عولج موضوع الحرية كشأن فردي. موضوع النقاش ضمن الزاوية الاولى، اي حصة الفرد من المسؤولية عن فعله، مثل موضوع الزاوية الثانية، اي قدرته على بلوغ الكمال من خلال قهر شهواته والتزام القيم العليا في افعاله، كلاهما يشير الى حرية الفرد في ذاته وضمن عالمه الخاص المنفصل عن الجماعة. اما موضوع الحرية وحقوق الانسان الذي يتحدث عنه العالم اليوم فهو يدور حول التزاحم بين ارادة الفرد وارادة الجماعة. يقصد بالحرية في المفهوم المعاصر "المساحة التي يتمتع الفرد فيها بحق التصرف من دون تدخل الاخرين، بل ومن دون الحاجة الى استئذانهم". حقوق الانسان تعني ان المجتمع والقانون يقر لكل فرد بتلك المساحة باعتبارها حقا يضمنه القانون ويمنع سلبه او خرقه او استنقاصه او العدوان عليه. 

ايا كان راينا في المفهوم التراثي للحرية وحقوق الانسان، فلسنا بحاجة الى مناقشته الان. لان جميع المسلمين المعاصرين، التقليديين منهم والحداثيين، يرون في ضمان حرية الانسان وحقوقه الاساسية مسلمات شرعية وعقلية، فوق كونها ضرورة لانتظام الحياة الاجتماعية وارتقاء المجتمع.
لكن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقول المثل الانجليزي. فوراء التسليم بالحرية وحقوق الانسان، ثمة مجادلات عريضة حول معنى تلك الحقوق وحدودها، ومرجعيتها، وما يترتب عليها من واجبات وما يلزم ارفاقها بها من ضوابط.. الخ. في هذه المجادلات تعود الحاجة الى قراءة التراث المتعلق بالموضوع. فالذين يجادلون الفكرة يبحثون عن مرجعية لها او هم يستندون الى مرجعية يتصورنها اطارا مناسبا لفهم الفكرة والتعبير عنها. من هنا فقد اقترح بعض المفكرين التمييز بين ما سبق درسه في التراث الاسلامي وما لم يطرح فيه. 
في الحالة الاولى اقترحوا تطوير الافكار او البناء عليها، واقترحوا للثانية الرجوع الى القواعد العامة في التشريع او تحكيم العقل رجوعا الى اصل البراءة او الاباحة او عدم التكليف.
في كلا الحالين فاننا بحاجة الى الاهتمام بالفوارق بين ذهنيتنا وذهنية من ننقل عنهم، اي بين عصرنا وعصرهم. ذلك ان كل مسالة هي نتاج الظرف الخاص الذي ولدت فيه، وكل جواب هو ثمرة الثقافة والهموم السائدة في بيئة السائل والمجيب، ونعرف ان هذه تختلف بين عصر واخر ومكان واخر، فكيف اذا كنا نتحدث عن فارق زمني يبلغ عدة قرون.
كثير من المفاهيم التي نتحدث عنها اليوم هي نتاج لتطور الثقافة الانسانية، وكثير منها لم يكن مطروحا لا بلفظه ولا بمضمونه، وبعضها له مضمون بلفظ اخر او ان فكرته مبثوثة في سياقات اخرى. لا يمكن لنا ان نستخرج من التراث نظرية تطابق ما نتحدث عنه اليوم. وليس هذا مطلوبا ولا سليما. في كل عصر يطور البشر مفهومات جديدة تتفاعل في الوقت نفسه مع تراثهم ومع ثقافتهم الراهنة، لكن الصيغة التي يطورونها لتلك المفاهيم هي الصورة التي تعبرعن زمنهم وواقعهم. استعمال المسميات التي تشي باصول تاريخية ليس امرا ضارا ، فهو يسهم في جعل المفهوم الجديد مالوفا وقابلا للفهم من جانب المتلقين. لكن على اي حال علينا ان نوضح الفارق بين النقل عن التاريخ وبين استخدام صوره او رموزه.


مقالات ذات علاقة


تحولات التيار الديني – 4 الخروج من عباءة الاموات

حين تسمع باسم "السلفية" فان اول الصور التي ترد الى ذهنك هي صورة الماضي . صحيح ان السلفيين ينسبون هذا الوصف الى التزامهم بمرجعية السلف ، اي اهل القرون الثلاثة الاولى بعد البعثة المحمدية ، الا ان الانطباع السائد يفهمه كاشارة الى انكار الجديد والمعاصر. على اي حال فان الاسم يبقى مجرد عنوان ، وقد يتغير مضمونه بين حين وآخر او بين مكان وآخر. ما هو مهم في هذا الصدد هو قابلية التيار الديني السلفي للتحرر من ثقافة الماضي وتقاليده ، والانتماء الى العصر الحاضر بما فيه من سبل عيش وهموم وانشغالات ومعارف ونظم انتاج وقيم وعلاقات.

الشيخ عبد الرحمن البراك

الانشغال بالماضي لن يضمن الصفاء العقيدي او الثقافي كما يتصور البعض . انه مجرد ارتباط افتراضي يشبه الهندسة العكسية. اي النظر الى الحاضر ثم تجريده من بعض ما يعتقد الانسان انه جديد ومبتدع . هذا يؤدي الى انفصال شعوري عن الواقع دون ارتباط واقعي بالماضي. ومثل هذه الحالة تثير الكثير من المشكلات الثقافية والنفسية وقد تؤدي الى احد اشكال الاغتراب ، ولا سيما انكار الذات بوصفها جزء من واقع قائم ، او انكار الواقع باعتباره وعاء للذات.

بعض شيوخ السلفية يرفضون بالجملة مقولة المعاصرة ، وهم يرونها قرينا للتراجع او الانهزام في مواجهة المد اللاديني. وفي اخر بياناته ندد الشيخ عبد الرحمن البراك بمن وصفهم بالعصرانيين ، اي رجال الدين والناشطين الدينيين الذين يدعون الى التجديد . وشهدت السنوات الماضية نشر العديد من الكتب والمقالات التي تندد بهذا الاتجاه ، حتى اصبح وصف "العصراني" مرادفامخففا للعلماني او الليبرالي .

لكن يبدو ان هذا هو اتجاه الاقلية. وثمة في مقابلها شريحة تتسع بالتدريج ، تسعى الى الانفتاح على العصر ومكتسباته ومواجهة اشكالاته بطريقة او باخرى. بعض السلفيين الجدد يفهم المعاصرة باعتبارها موضوع "علاقات عامة" او وسيلة لتصحيح صورة التيار السلفي ، ومفهومها ينصرف عنده الى "تحسين طرق العرض والتعامل" ، وليس الى تجديد الافكار والمتبنيات والمناهج. تحسين العلاقات العامة هو امر طيب ، لكنه لا يؤدي الى تطوير التيار الديني ، ولا يجعله اكثر قدرة على البقاء والتجدد.

اذا اراد التيار الديني تجديد نفسه فانه يحتاج اولا الى مراجعة تصوراته عن ذاته وعن العالم المحيط ، كي يبنى علاقة سليمة معه. لا زال نشطاء هذا التيار ينظرون الى انفسهم كحراس للحقيقة الدينية ضد الاخرين الجاهلين بها او المتامرين عليها . يتجسد هذا التصور عادة في التركيز المبالغ فيه على الجانب العقيدي من الدين ، والتذكير الدائم بالحدود الفاصلة بين النسخة السلفية من العقيدة وعقيدة المسلمين الاخرين. من المفهوم ان هذا التركيز غرضه حمائي في الاساس ، لكنه قاد السلفيين – بوعي منهم او غفلة - الى منزلق التكفير الذي اصبح مثل ماركة مسجلة للادبيات السلفية ، فكل فتوى او مقال او كتاب او اعلان موقف ، يتضمن وصما لجهة ما بالكفر او تحذيرا من الكفر او كلاما عن الكفر.

 لا يمكن اختصار الاسلام في العقيدة ، ولا يمكن اختصار المسلمين في الجماعة السلفية ، كما لا يمكن لاحد كائنا من كان ادعاء وحدانية الحقيقة ولا تقزيمها وحصرها في طريق احادي الاتجاه. ونعرف من تاريخ البشرية المعاصر ان الكنيسة الكاثوليكية قد خسرت مكانتها ونفوذها وخسرت ملايين المؤمنين بدينها بسبب انتهاجها لهذا الطريق . البديل السليم هو تبني مبدأ "التسامح" . التسامح ليس السلوك اللين او التواضع او اللطف في الكلام ، بل هو بالتحديد : "اعتبار حقي في تبني مذهبي الخاص مساويا لحق غيري في تبني مذهبه الخاص" ، اي الاقرار للناس بالحق في الايمان بما تمليه عليهم عقولهم وضمائرهم. قد نرى ما عندنا خيرا مما عند غيرنا ، لكن لا يصح ان نصم المختلف عنا بالردة والخروج عن الملة، لانه تمهيد للقطيعة وربما الحرب ، كما حصل في  العراق وغير العراق.

اذا فهم السلفيون انفسهم كفريق من المسلمين ، لهم – مثل غيرهم – حق اختيار عقائدهم ومناهج حياتهم ، فانهم  سيرون عصرهم ومن يعيش فيه بعيون مختلفة ، وسوف يكتشفون عند الاخرين الكثير مما يستحق التامل والتفكير ، وعندئذ سوف يتحولون من حراس لتراث الماضين الى شركاء في بناء المجتمع المسلم في هذا العصر المختلف.  



نشر في الايام  العدد 7680 | الثلاثاء 20 أبريل 2010 الموافق 5 جمادى الأولى 1431هـ

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...