12/01/1999

في الشوق إلى الرضى



يقترب شهر رمضان المبارك من نهايته ، ويزداد شوق المؤمنين للتقرب من خالقهم ، ويزداد خوفهم من أن ينقضي هذا الشهر دون أن يحظوا بالمغفرة والرضوان ، فتراهم يبالغون في الاستغفار والتوسل إلى الرب الرحيم ، كي ينظر اليهم بعين عطفه فيجعلهم في عباده المرحومين ، أتوسل إلى الله بجميل صفاته وعظيم أسمائه ، أن لا تغرب عنا شمس هذا اليوم أو يطلع صبح الغد ولله في أعناقنا تبعة يعذبنا بها أو يؤاخذنا عليها .

رمضان شهر التقرب إلى الله ، شهر الخضوع والتواضع ، وهو الفرصة التي أتاحها الخالق الرحيم لنا ، كي نستثمرها في تطهير أنفسنا من درن الدنيا وعيوبها ، حتى نستقبل قادم أيامنا بيض الثياب ، بيض النفوس .
ولأنه فرصة استثنائية ، فقد يكون من المناسب أن نتأمل قليلا وراء حجب النفس التي طالما زينت لصاحبها عيوبه ، فأقبل عليها مستسيغا أو كارها ثم اعتاد عليها ، فلم يعد يراها عيبا ، إلا إذا أعاد النظر في أعماق نفسه باحثا ومقلبا ، محاكما افكاره وسلوكياته ، وناقدا أهواءه ورغباته .

من بين ما يستحق  النظر العميق ، موقف الانسان تجاه أخيه الانسان ، ففي الأثر الشريف (كلكم لآدم وآدم من تراب) وفيه أيضا (الناس اثنان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) وأجد تكرارا ان هذا الأمر لا يعامل من جانب الناس بالجدية المطلوبة ، فظلم الغير ، أو التعدي على كرامتهم ، أو إذلالهم والاستعلاء عليهم ، هي ممارسات شائعة بين المسلمين ، ولا سيما إذا تعلق الأمر بالضعفاء من خلق الله وما أكثر الضعفاء .

ونجد أمثلة على هذا في البيوت والاسواق وحتى في الصحافة ، ولعل كل قاريء قد رأى أمثلة على ما يتعرض له الأطفال من ظلم آبائهم أو معلميهم ، وكثير منا رأى أو سمع ما يتعرض له النساء من ظلم رجالهن أو آبائهن ، وكل منا شهد أو مارس الظلم أو الاستعلاء على الأجانب ، ولا سيما أهل الفقر والحاجة منهم ، وهي كلها ممارسات يتجلى فيها الظلم بغير الحق ، مع ان لكل ظالم أو متعد ، مبررا يسوقه أمام تجاوزاته وجرأته على من هم دونه ، مبررات يقدمها لارضاء نفسه التي ربما تلومه ، أو لاقناع الغير بسلامة موقفه .

والحق ان معظم الحالات التي تنطوي على تعد أو تجاوز لحقوق أولئك الضعفاء ، ليس لها مبرر سوى عجز الانسان عن ضبط عواطفه ، وكبح نزعات الاستقواء والاستعلاء التي تموج بها نفسه ، هذا العجز هو عيب في حد ذاته ، لكن الاسوأ من هذا العيب هو تطبيعه ،  أي اعتباره سلوكا اعتياديا لا يثير الاستغراب من جانب الآخرين ، بل وتحويله في بعض الأحيان إلى مظهر للحزم ودليل على قوة الشخصية ، يستحق صاحبه التشجيع والتعظيم عندما يمارسه .

 وكنت ـ في إحدى المناسبات قد عبت على أناس وصفوا صاحبا لهم بأنه ذئب ، في معاملته لمكفوليه ، و(كن ذئبا والا أكلتك الذئاب ) كما تمثلوا ، فجادلني بعضهم لاحقا ، بأني لا أعرف الدنيا ، والحق اني أعرف ان تنازل الانسان عن صفات الانسانية وقبوله الاتصاف بصفات الحيوان (كالذئب مثلا) هو من أعظم الرزايا ، وقد رأيت تكرارا من يمتدح زيدا من الناس بأنه جبار ، مع ان صفة التجبر ليست مما يحمد في الانسان ، وسمعت من يصف عبيدا بأنه أسد ، وأعلم انه لم يكن كذلك في الحرب ، بل في معاملة مرؤوسيه أو عياله .

 ورأيت رجالا يسكبون كرامتهم على أعتاب موظف يتلذذ برؤية أمثاله من عباد الله وهم يتوسلون إليه كي ينجز لهم معاملاتهم ، فكلما ازدادوا إظهارا للخضوع والضعف ، ازداد إذلالا لهم وتوبيخا ، فاذا ادركت أحدهم الكرامة فأبى ان يتوسل ، القيت أوراقه في مكان لا يصل اليه إلا بعد شهور من البحث والركض من دائرة إلى أخرى ، وما أظن سليم النفس يفعل مثل هذا ، فالتكبر على الغير مرض ، والتلذذ بتوسلات الناس مرض ، أعاذنا الله والقارئين من الابتلاء به أو الابتلاء بمن هو فيه .
رمضان فرصة ثمينة للابحار في أعماق النفس ، بحثا عن مثل هذه الأمراض ، وقد فتح الله أبواب العلاج ، وفتح معها أبواب المحبة والرضى ، فمن بادر وصل ، وحري بنا ان نغتنم هذه الفرصة لنقوم عن مائدة الرحمن ، وقد بلغنا المراد بتصفية الروح وتطهير النفس ، لكي يكون عيدنا ، يوم فرح ، ليس بلبس الجديد ، بل بالأمن من وعيد القوي  الشديد .
عكاظ 12 يناير 1999

22/12/1998

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي



الاجتماع الأخير لمجمع الفقه الإسلامي الذي عقد في البحرين ، شهد دعوة شبه عامة ، إلى توسيع نطاق الاجتهاد ومعالجة العقد النظرية ، التي توقف عندها قطار التجديد في الفقه الإسلامي المعاصر .

تطبيق الشريعة الاسلامية هو المبرر الرئيس والأهم لتجديد الفقه ، فلكي تتحول القواعد العامة والنصوص الاجمالية ، إلى أنطمة تفصيلية تستجيب للتحديات والحاجات ، الناتجة عن تغير ظروف الحياة ، فلابد من وجود فقه نشط ومتحرك ، يتفاعل مع عصره ومع المجتمع الذي يريد تطبيقه ، ان مصادر الشريعة محدودة من حيث الحجم ، لكن إذا نظرنا اليها كقواعد ونواظم ، فانها توفر فرصا لا متناهية لاجتهاد نشط ومتواصل مع العصر .

بديهي ان أي علم يتأثر من حيث ضيقه أو سعته ، ومن حيث جموده أو حركته ، بالبيئة الاجتماعية التي يشتغل ضمن إطاراتها ، بكل ما فيها وما يسودها من تيارات فكرية واجتماعية وتطلعات ، ذلك ان حركة العلم ومن ضمنه علم الفقه ، هي وجه من وجوه الحياة الاجتماعية ملتصق بالبيئة وظروفها ، فلا يمكن ان يتطور في معزل عن الزاماتها ، كما لا يمكن ان يتخلف دون حركتها ، ولهذا السبب فان النهوض الذي تبدو تباشيره في افق العالم الاسلامي ، لا بد ان ينعكس ايجابيا على النشاط العلمي ، والفقهي منه خاصة ، في صورة نهوض يتناول تجديد مفاهيمه ووسائل عمله ، وعلاقته بالحياة من حوله .
يشتغل علم الفقه في مربع ذي أربعة زوايا هي :

1-الاصول  أي المصادر الاولية التي يؤخذ منها الحكم الشرعي في موضوع معين .
2-الموضوعات وهي موارد تطبيق الاحكام الشرعية .
3- الاحكام وهي الموقف أو العلاج الشرعي لموضوع معين .
4-الاستنباط وهو عملية البحث الهادفة لاستخراج الحكم الشرعي من المصادر الاولية ، تمهيدا لتطبيقه على المورد المطلوب.

ان دعوة التجديد لا تتناول الاصول لا سيما الكتاب والسنة ، فهي أدلة يحميها اتفاق ، وجزم بقدرتها على توفير حاجات المجتمع المستجدة من الاحكام ، اذا ما وجدت ادوات استنباط ذات كفاءة ، وثمة نقاش في تفصيلات تتعلق بالأدلة العقلية ، لكنه نقاش فرعي ، ومتى تم اصلاح الاستنباط لم يعد لهذا النقاش مكان .

أما الموضوعات فليست محل جدل في موضوع التجديد ، لأنها ليست ضمن دائرة التصرف من جانب أهل الفقه ، فهي توجد نتيجة لتطورات خارج نطاق عمل الفقهاء ، وانما تقوم العلاقة بينها وبين الفقه ، بعد ان توجد وتصبح موضع حاجة للناس .
وعليه فان التجديد المقصود يتركز بالدرجة الاساسية في الاستنباط ، اي عملية البحث عن الادلة ، وفي التكييف الفقهي للموضوعات ، أي تحديد النطاق الذي يندرج الموضوع المعين ضمن دائرته .

ويقوم الاستنباط الصحيح على أربعة أركان :
الاول : المعرفة الدقيقة للموضوع المطروح ، ثم تكييفه ضمن دائرة محددة .
الثاني : المعرفة التفصيلية لمصادر الشريعة .
الثالث : استيعاب مقاصد الشريعة ،  أي روح التشريع .
الرابع : اتقان استعمال الأدوات المنهجية للاستنباط .

وإذا توفرت هذه الاركان الاربعة في طالب العلم ، فقد استكمل عدته العلمية للاجتهاد ، ويبقى عليه حينئذ ان يستكمل ما هو مطلوب من المتقين ، من الفضائل النفسية والروحية ، ان كمال تلك الاركان الاربعة أو نقصها ، يرجع إلى عوامل عديدة ، من بينها نظام التدريس للعلوم المتصلة بالفقه واعداد الفقهاء ، كما يتصل باعادة التقييم التي ندعو اليها للعلوم الحديثة ، باعتبارها ذات مدخلية كبرى في تحديد موضوعات الفقه ، كما يؤثر حاصل خبرتها على نتائج الاستنباط ، فيما لو اخذت بعين الاعتبار .

ويعتبر طالب العلم مجتهدا  أي مالكا لناصية الاستنباط ، اذا ما اثبت من خلال التجربة ان اجتهاداته صحيحة في مسائل ، يراها استاذه أو من يتابع اعماله من الفقهاء ذوي الخبرة ، كافية للتدليل على تمتعه بملكة الاستنباط ، وفيما بعد فان الفقيه يواصل عملية الاجتهاد حتى يكون له رأي في كل مسألة .

لكن بعد هذه المرحلة ، لا توجد حدود لنطاق عمل الفقيه ، فهو ـ في أغلب الحالات ـ لا يركز على مجال معين ، حتى يصبح صاحب اختصاص فيه ، كما لا يقبل ـ حسب العرف الجاري ـ رأي أصحاب الاختصاص في الموضوعات التي هي مجال اختصاصهم ، ماداموا لا ينتمون إلى سلك طلبة العلم الشرعي ، بل ان التقليد السائد في مدارس العلم الشرعي ، يذهب إلى اعتبار المجتهد في الفقه ، قادرا على استنباط الاحكام في كل موضوع ، في أي جانب من جوانب الحياة ، دون تقدير لحدود الاختصاص العلمي في مجالات الحياة المتنوعة .

ومع الاخذ بعين الاعتبار ان الفقه الاسلامي يعالج مختلف جوانب الحياة ، وان العلم التفصيلي بكل جانب ، يتطلب جهدا علميا كبيرا ، قد لا يتسع له العمر الطبيعي للانسان ، فقد نحتاج إلى الاقرار بالحاجة إلى التخصص ، أي ان يتخصص كل فقيه في جانب من جوانب الحياة ، فيتقن العلوم المتصلة بموضوعاته ، حتى يتأهل للفتوى فيها على وجه الخصوص ، ويترك غيرها من الموضوعات لغيره ممن هو مختص بها .
عكاظ 22-12-1998
مقالات ذات علاقة


الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...