عرض المشاركات المصنفة بحسب مدى الصلة بالموضوع لطلب البحث امارتيا سن. تصنيف بحسب التاريخ عرض كل المشاركات
عرض المشاركات المصنفة بحسب مدى الصلة بالموضوع لطلب البحث امارتيا سن. تصنيف بحسب التاريخ عرض كل المشاركات

16/10/2019

من اراء الفيلسوف ديفيد ميلر

استعرت معظم الافكار الواردة هنا من البروفيسور ديفيد ميلر ، وهو مفكر بارز ، ساهم بدور مؤثر في تطوير مباحث الفلسفة السياسية ، ولا سيما تلك التي تشكل جسرا بين النقاشات الفلسفية البحتة والسياسية البحتة ، والتي تقدم تصورات قريبة نسبية من الواقع القائم وفرص التطبيق.
ومن المباحث التي اسهم فيها ميلر بدور كبير ، أشير الى موضوعين على وجه الخصوص: أولهما: المواطنة والهوية الوطنية ، في اطار دولة متعددة الثقافات. اما الثاني فهو "المساواة الاجتماعية" التي يعتبرها مبدأ متمايزا عن العدالة من جهة ، وعن المساواة في المعنى المشهور بين الفلاسفة المعاصرين ، أي التوزيع المتكافيء للخيرات المادية. ويقول ميلر ان الذي ميز منهجه ، هو ادخاله تطبيقات علم الاجتماع كعنصر في النقاش الفلسفي. وأرى ان هذا يتجلى خصوصا في اتخاذه لسلوكيات الناس ومواقفهم الفعلية ، كمفسر او محدد لبعض الاراء ، وكذلك اعتباره توجهات الرأي العام ، عامل ترجيح بين الخيارات التي لا تدعمها أدلة حاسمة. والحق ان عددا قليلا جدا من العلماء ، في مختلف المجالات، يتقبلون هذه الفكرة ، اعني اعتبار الراي العام عنصرا في البحث العلمي. وقد اشار هو نفسه الى ان هذه الطريقة لا تناسب الجميع ، بل تناسب اولئك المؤمنين "بقابلية العرف العام لاصدار حكم عقلائي".
تشير هذه النقطة الى موقف مثير للجدل في الفلسفة السياسية المعاصرة ، ناتج عن التضارب بين اتجاهين:
ينطلق الاتجاه الاول من القيم المؤسسة للحداثة ، فيعتبر العرف العام ، اي رأي غالبية الناس ، عقلانيا. وأن ما يتبناه هذا العرف من قواعد عمل او قيم يعد اساسا معقولا وسليما للقوانين. وعلى ضوء هذه الفكرة يقوم نواب الشعب في الدول التي لديها برلمانات باصدار القوانين ، اي تحديد ما هو صحيح وما هو خطأ ، يثاب على فعله ويعاقب على تركه او فعل عكسه.
اما الاتجاه الثاني وهو موقف الغالبية الساحقة من المحافظين في المجتمعات الصناعية ، وكافة الناس – الا قليلا – في المجتمعات التقليدية ، فيرى ان الصحيح والخطأ قيم موضوعية ، قائمة بذاتها ، وبغض النظر عن موقف الناس . ويقول اصحاب هذا الرأي: لو ان كافة الناس اتفقوا على ان موقفا ما صحيح ، ثم ظهر بدليل علمي مستقل انه خطأ ، فان راي الناس لا يغير حقيقته. كما ان هذا الفريق يطالب ببقاء العلم والبحث العلمي ، منزها عن التاثير السياسي والاجتماعي ، وأي طرف او جهة أهلية او رسمية ، تحاول او ربما تحاول ، توجيه مسار البحث العلمي في  غير الطريق الذي يقوده البحث ذاته.
يعتقد ميلر ان العدالة موقف ذهني كلي ، وان المساواة هي التي تقدم الشكل المادي الذي يتجسد في إطاره مبدأ العدالة المجرد.
بيان ذلك: لو سألنا انفسنا ، او سألنا اي شخص في اي مكان في العالم ، عن المعنى الذي يقفز الى ذهنه ، حين تذكر قيمة العدالة. ان الجواب الذي اعلم انه قفز للتو في ذهن القاريء هو "معاملة جميع الناس على نحو واحد". القاضي العادل هو الذي يساوي بين الخصمين ، والحاكم العادل هو الذي يحكم وفق قانون واحد ، ينطبق على الجميع بنفس الطريقة. هناك معان اخرى للعدالة ، لكن المساواة هي التي تتبادر غالبا في اذهان الناس. ويقول اللغويون ان التبادر علامة الحقيقة.
الشرق الاوسط الأربعاء - 17 صفر 1441 هـ - 16 أكتوبر 2019 مـ رقم العدد [14932] https://aawsat.com/node/1947806/

مقالات ذات صلة
فكرة المساواة: برنارد وليامز
المساواة والعدالة : ديفيد ميلر
من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

18/01/2023

الثقافة المعوقة للنهضة


" نجم الثاقب خان" اسم معروف في حقل اقتصاديات الدول النامية. وهو ينتمي لتيار صغير من الباحثين الذين اختاروا منهجا مغايرا لنظرية التنمية الكلاسيكية ، السائدة في الاكاديميا وقطاع الاعمال. يركز هذا التيار على فهم العوامل التي أعاقت التنمية في العالم الثالث ، رغم توفر العوامل المصنفة كمقدمات ضرورية للنجاح. بين الأسماء الأخرى ضمن هذا التيار ، نعرف مثلا امارتيا سن ، الفيلسوف والاقتصادي الهندي الذي حاز جائزة نوبل ، والمفكر البيروفي هيرناندو دي سوتو ، الذي بات واحدا من أكثر الكتاب الاقتصاديين تأثيرا في السنوات الأخيرة.

يشترك العلماء الثلاثة في دعوى محورية ، خلاصتها ان الموارد المادية التي تركز عليها نظرية التنمية الكلاسيكية ، متوفرة في كل بلد تقريبا. لكن المتغير المهم هو تعريف هذه الموارد ، ثم موضعتها في المكان الصحيح ، إضافة - بالطبع – الى العلاقة الصحيحة بينها وبين البشر ، الذين يشكلون أداة التنمية وهدفها. وهم يرون ان هذا المتغير متصل بالثقافة العامة السائدة في المجتمع ، ما اذا كانت ثقافة محفزة للنهضة او معيقا.

هيرناندو دي سوتو

في كتابه الشهير "سر راس المال: لماذا تنتصر الراسمالية في الغرب وتفشل في كل مكان آخر" شرح دي سوتو ابرز الأسباب التي تفسر اخفاق النموذج الراسمالي في البلدان النامية. ولايضاح الأرضية المادية لرؤيته ، قدم مراجعة لحالة الملكية الفردية في خمس دول ، بينها الفلبين ومصر وبيرو ، كي يبرهن على استنتاجه المحوري ، وهو ان معظم السكان في هذه البلدان وامثالها ، لديهم حيازات عقارية ، لكنهم لا يملكونها بشكل قانوني ، ولهذا فان استثمارها على المدى البعيد غير آمن ، كما انهم – في غالب الأحيان – لا يستطيعون توريثها. وبالتالي فان ابناءهم لا يعملون معهم ولا يسعون لتطوير هذه الملكية. اما السبب فيعود في رايه الى الثقافة البائسة التي لا تثق في الفرد ولا تسهل عليه امتلاك ما يقوم باحيائه. وجد دي سوتو ، ان الدولة - في البلدان التي درسها - تنظر لنفسها كمالك خاص ، لا كموزع للثروة العامة ومشرف على احياء الميت منها. ومن هنا فان الحيازات الفردية غير المثبتة قانونيا ، لا تمسي أساسا لاستثمار طويل الأمد ، كما ان البنوك لا تقبلها ضمانا للتمويل الضروري للاستثمار ، انها – وفق تعبير دي سوتو – راسمال ميت. راس المال الميت لا يساهم في نهضة اقتصادية. واذا توفرت أموال سائلة فسوف تذهب لقنوات الربح السريع وليس للزراعة او الصناعة او الحرف اليدوية.

يقول نجم الثاقب خان ، في سياق استعراضه لكتاب دي سوتو ان المال ليس قليل الأهمية ، ولا يمكن للثقافة ان تكون بديلا مطلقا عنه ، هذا وجه للقصة. اما الوجه الآخر ، فهو ان المال ليس حلا مطلقا ونهائيا لمشكلة التخلف والفقر. ثمة حاجة للربط بين الموارد المادية وبين الانسان الذي يستعملها. وهذا الرابط ثقافي. المجتمعات التي تنظر للافراد كقوة انتاج رئيسية وموثوقة ، ستميل الى تسهيل تملك الأراضي ، باعتبارها مصدرا لصناعة الثروة.  المجتمعات الفاشلة هي تلك التي تسودها ثقافة تشجع التواكل ، أو تسمح بتضخم الذات وترفض التعلم من الاخر المختلف.

ثم يستنتج بان من خطل الرأي ان نسعى لتكرار التجارب الفاشلة ، التي اختبرتها مجتمعات أخرى قبلنا ، او اغفال الدروس الواضحة لتلك التجارب. وأولها توهم أن مقاومة التغيير سوف تنجح ، او انها ستعود علينا بأي فائدة. كما لن نستفيد أبدا من تلبس دور الضحية ، والانشغال بالبحث عن مؤامرات الأقوياء ، إضافة الى توهم العثور على دواء بسيط يشفي كل الامراض. الصحيح هو ان نبدأ بما عندنا ، وان نتجنب تكرار التجارب الفاشلة ، ثم ان الرهان المطلق ينبغي ان يكون على بناء الانسان المنتج المتفائل ، الانسان الواثق من المستقبل.

الأربعاء - 25 جمادى الآخرة 1444 هـ - 18 يناير 2023 مـ رقم العدد [16122]

https://aawsat.com/home/article/4104026/

  مقالات ذات علاقة

 "عجلة التنمية" المتعثرة 

ارامكو واخواتها : الشفافية الضرورية في قطاع الاعمال

التنمية على الطريقة الصينية : حريات اجتماعية من دون سياسة

حول برنامج التحول الوطني

خطباء وعلماء وحدادون

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

ظرف الرفاهية واختصار الكلفة السياسية للاصلاح

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

 العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العلاقة الاشكالية بين السوق والسياسة

العولمة فرصة ام فخ ؟

قرش الخليج الابيض

كي نتحول الى دولة صناعية

كي نتخلص من البطالة

متى تملك بيتك؟

المجتمع السري

معالجة الفقر على الطريقة الصينية

من دولة الغلبة الىمجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

نحو نماذج محلية للتنمية

النموذج الصيني في التنمية

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟

09/10/2019

حجاب الغفلة ، ليس حجاب الجهل


افترض ان معظم القراء يعرفون فكرة "حجاب الغفلة" التي تحدث عنها جون رولز ، في نظريته حول العدالة الاجتماعية.
سمعت هذه العبارة للمرة الاولى من خطيب ، كان ينكر على صاحبها دعوة الناس الى الغفلة ، بدل الوعي. وبقي هذا التصور عالقا في ذهني سنوات ، حتى شاركت في درس عن العدالة الاجتماعية ، فسمعت الاستاذ يتوسع في شرح فكرة "حجاب الغفلة veil of ignorance". ولأن الذهن يحتله السابق اليه ، كما يقول استاذنا ابراهيم البليهي ، فقد انكرت نفسي امتداح الاستاذ للفكرة وصاحبها. كنت لا أزال مأخوذا برأي الخطيب طيب الذكر . وبقيت لمدة طويلة - نسبيا - عاجزا عن ادراك حقيقتها ، بسبب التضارب الشديد بين ما سمعته اولا وما سمعته تاليا.
بعد كثير من القراءات والمناقشات ، اكتشفت ان كلام الخطيب الاول شكل حاجزا حقيقيا ، منعني من فهم الفكرة ، مع انها ركن مهم من اركان نظرية رولز ، التي باتت اليوم مرجعا اعلى للسياسات الدولية الهادفة الى تحقيق العدالة الاجتماعية ، سيما مع الاضافات التي قدمها زميله الفيلسوف المعروف امارتيا سن.
   اكتشفت ايضا ان الاستماع للخطباء والمتحدثين ، لا يأتي الا بالقليل جدا من المعرفة. من أراد العلم فسبيله القراءة ثم التأمل ثم النقاش.
عودة الى فكرة "حجاب الغفلة" فقد جاءت في سياق التذكير بما سبق ان اسماه الفلاسفة بالحالة الطبيعية ، وأميل الى تسميتها بالفطرية ، اي حالة الانسان قبل ان يتبرمج ويتأدلج وتتغير طبيعته ، بتأثير التربية وثقافة المحيط وما في البيئة من حدود وقيود وصراعات.
فحوى هذه الفكرة انه لو اجتمع عدد من الناس كي يقتسموا ملكا مشتركا لهم ، فكل منهم سيحاول - على الارجح - ان يحظى بحصة الاسد ، ويترك للاخرين حصة العصفور. لكن لو ان هؤلاء تناسوا أو غفلوا للحظات ، عن انتماءاتهم وتعصباتهم ومصالحهم ، وفي تلك الاثناء اجروا القسمة ، فانهم - على الارجح - سوف يتبعون مبدأ المساواة في اقتسام الملك.  
وتتصل الفكرة بمبدأ عميق الجذور ، هو أصالة الخيرفي نفس الانسان. أي ان الانسان مفطور على الخير والانصاف. اما الميل للاستئثار والتعصب وقهر الاخرين ، فهو نتاج لتاثير البيئة الاجتماعية والتربية. ان حجاب الغفلة ، هو لحظة نسيان لواقع الحال ، واسترجاع لحقيقة الانسان الاولى ، قبل ان يتلوث باوساخ العالم وقيوده وألوانه الخادعة.
أكتب هذه السطور للتأكيد على ان المساواة أصل أولي في العلاقة بين البشر ، وهي تجسيد لفطرتنا وطبيعتنا ، قبل ان تعلق بانفسنا عوارض الحياة. نحن بحاجة الى استذكار ان كلا منا يساوي الآخر ، في قيمته وقدره وكرامته وحقوقه. ليس فينا من هو دون سائر الناس قيمة أو قدرا. ان هذا حق لكل منا ولكل انسان غيرنا. اقرارك لنفسك بأي حق ، يؤدي تلقائيا الى اقرار للاخرين بنفس الحق وبنفس القدر ، حتى لو غفلت عنه او تجاهلته.
المساواة ، مثل سائر حقوق الانسان ، نوعان: اولهما طبيعي سابق للقانون وحاكم عليه. لأنه جزء مما تتحقق به انسانية الانسان. اما النوع الثاني فهو المدني الذي يقيمه القانون والمجتمع السياسي الذي تعيش في ظله. نعلم ان الثاني اقوى ، لانه مدعوم بقوة المجتمع والدولة. لكن الأول ارفع شأنا ، لأنه ثابت ومرتبط بالانسان كانسان ، اي انه سابق للجماعة والدين والقانون ، واعلى منها من حيث الترتيب.
الشرق الاوسط الأربعاء - 10 صفر 1441 هـ - 09 أكتوبر 2019 مـ رقم العدد [14925]

مقالات ذات صلة 

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟

المساواة والعدالة

مفهوم العدالة الاجتماعية



17/08/2022

الزكاة ام العدالة الاجتماعية؟

 

اريد في هذه السطور تبسيط فكرة العلاقة بين العقل والنقل ، واعني بها تحديدا وظيفة العقل كمصدر للتشريع ، مواز للكتاب والسنة. والحق انها فكرة ثقيلة ، لكنها ليست معقدة ، كما قد يظن. على أي حال ، لو تأملنا السيناريو الواقعي لدور العقل في التشريع ، لوجدنا انه ينصرف الى معنيين في الغالب: الأول هو العلم في مختلف حقوله ، الطبيعية والتجريبية والنظرية ، والثاني هو ما نسميه عرف العقلاء او بناء العقلاء (مع ملاحظة الفرق بينهما). وسوف اركز في السطور التالية على الأول،  أي العلم.

فهم الزكاة في اطار السعي لاقرار العدالة الاجتماعية يتطلب تغيير مفهومها  الفقهي جذريا

 نستذكر هنا ان علاقة العلم بالدين قد أسالت انهارا من الحبر. وأجمع الإسلاميون قاطبة ، على تعظيم الإسلام للعلم ، كما دأبوا على تمجيد المساهمات الجليلة لعلماء العصور الإسلامية القديمة في مختلف الحقول. واحسب ان هذا بات من المسلمات التي لا تحتاج الى مزيد كلام.

لكن الذي يحتاج الى مراجعة ، هو السؤال التالي: هل نفهم تعظيم الإسلام للعلم ، باعتباره احتفاء بشيء خارج حدوده ، مثلما نحتفي بضيف غريب ، ومثلما نحتفل بفوز فريقنا في دوري كرة القدم ، ام انه بمثابة إقرار بالدور الحيوي للعلم في حياة الدين وأتباعه ، مثلما نقر بدور المهندس في تخطيط بيتنا ومدينتا ، ومثلما نثق بدور الطبيب في علاج اجسامنا. دعنا فقط نتخيل الفرق بين مهندس توكل اليه تخطيط بيتك ، فتلتزم بتطبيق الخريطة التي رسمها لك ، وبين مهندس نستمع اليه ثم نحتفي به ونفخر بوجوده بيننا ، لكننا لا نعتمد عليه في أي عمل. هذا هو على وجه التحديد ، الفرق بين حالة الدين الذي يعظم العلم ، ثم يعتمد عليه في تحديد مسارات عمله وتنظيم حياة اتباعه ، وحالة الدين الذي يحتفي بالعلم ثم يرسله الى المكتبة أو المتحف  ، كي يستريح هناك حتى موعد الاحتفال التالي.

اعتقد ان أكثر الناس لن يقبلوا بالاقتصار على الدور الاحتفالي للعلم. لكني لست واثقا ان عدم قبولهم ، يعني تقبل دور المهندس او دور الطبيب الذي اشرت اليه آنفا. دعني اضرب مثالا ، يوضح معنى دور المهندس او الطبيب بالنسبة للدين: نعلم ان الغرض الأبرز لتشريع الزكاة مثلا ، هو دعم الفقراء والمساكين. في أيامنا هذه ، طور علماء الاقتصاد طريقة للقضاء على المسكنة ، من خلال كسر تسلسل الفقر عبر الأجيال ، وكسر العوائق الاجتماعية التي تعيق الحراك الطبقي ، وتمكين الفقراء من الوصول الى الموارد والفرص المتاحة في المجال العام. هذا هو جوهر نظرية العدالة الاجتماعية ، في النسخة المساواتية التي طورها امارتيا سن ، وتم تحويلها الى سياسات تفصيلية ، ذات اهداف محددة كميا وكيفيا ، في اطار برنامج التنمية البشرية الذي تبنته "الأمم المتحدة". وتظهر التقارير السنوية ان هذا البرنامج كان له أثر عظيم في تحسين مستوى المعيشة ، في المناطق الريفية الأشد حرمانا.

حسنا.. هذا يظهر ان لدينا بديل عن الزكاة ، يحقق غاياتها بصورة أوسع واعمق ، وهو بديل يستند الى دراسات اقتصادية واجتماعية ، وترتبط به أدوات قياس ومعالجة ميدانية. فهل نأخذ به ، ام نواصل التغني بفضل الزكاة ورمزيتها للتكافل الاجتماعي ، ام نطور مفهوم الزكاة بحيث يستوعب البديل العصري ، ولو أدى الى الغاء الاحكام القديمة المعروفة عند الفقهاء؟.

أعلم ان كثيرا من القراء سيتوقفون في هذه النقطة. وربما ذهب بعضهم باحثا عن مخرج رابع. لكني أردت الإشارة الى المعاني النهائية لما نفكر فيه ، لأن لكل خيار ثمن ، وأن قيمة الأشياء رهن بما تحدثه من تغيير في الحياة الواقعية. هذا يوضح في الحقيقة واحدا من أسباب القلق الذي يثيره نقاش العلاقة بين العقل/العلم وبين النقل ، وكان الغرض منه هو إيضاح ان جدل العقل والنقل ينصرف غالبا الى معنى علاقة العلم بالنقل وعلاقته بالدين عموما.

الشرق الأوسط الأربعاء - 19 محرم 1444 هـ - 17 أغسطس 2022 مـ رقم العدد [15968]

https://aawsat.com/node/3820711

03/07/2019

هكذا انتهى زمن الفضائل



ورد في بعض المصادر ان علي بن ابي طالب أمر القائم على بيت المال ، بتسجيل نصراني على قوائم العطاء ، بعدما عجز عن العمل وبات في حاجة للعون. فسئل في ذلك فقال "استعملتموه فلما عجز اسلمتموه؟". ونقل ايضا ان عمر بن عبد العزيز أمر بنثر الحبوب على رؤوس الجبال ، كي لا تموت الطير من الجوع ، بسبب الشتاء القارس وقلة الارزاق. ولم أعثر على مصدر قديم لهذه القصة ، لكنها منتشرة من دون اسناد.

ثمة في التراث قصص كثيرة مثل هاتين. وهي تنقل في سياق التذكير بفضائل أصحابها ، او في سياق الاشادة بفضائل الاسلام واخلاقياته بشكل عام. ولا شك ان في الاسلام وأحكامه مثل هذا وفوقه. كما ان أشخاصا مثل علي وعمر ، ممن يشار اليهم بالبنان حين يجري الحديث عن مكارم الاخلاق.

دعنا نقارن مضمون هذه القصص بنظائرها في المجتمعات المعاصرة. نعرف ان جميع الدول تقريبا لديها نظام للضمان الاجتماعي للافراد ، في حال العجز او التعطل او المرض. وهي انظمة يستفيد منها كافة الناس ، دون حاجة لاستئذان المدير او الوزير او الخليفة ، او حتى علمه بالحالة.
كما ان لدى المجتمعات المعاصرة انظمة لحماية عناصر النظام البيئي كلها ، من حيوان ونبات وطير ومسطحات مائية وغيرها. وترصد الدولة ميزانيات سنوية وتقيم ادارات متخصصة لتنفيذ هذه المهمة ، ومن ضمنها التحقق من توفر الماء والغذاء في المسارات التي تسلكها الطيور المهاجرة.  اما في الدول الصناعية فهناك جماعات أهلية ضخمة مثل منظمات السلام الاخضر=Green Peace ، التي تقوم بحملات واسعة جدا ، لاجبار الحكومات والشركات على احترام التنوع البيئي ، والمحافظة على الحيوانات والطيور ، حتى في قلب المحيطات والغابات والصحارى.
مرادي من العرض السابق ليس التهوين من قيمة القصص المذكورة ، بل إيضاح بعض وجوه التحول في ثقافة البشر ، وتوقعاتهم وعلاقتهم مع حكامهم. تخيل لو ان الضمان الاجتماعي او صيانة النظام البيئي بقي مشروطا بموافقة رئيس الدولة شخصيا ، فكيف سيكون رد فعل الناس؟ هل سيعتبرونه من فضائل الاسلام وفضائل الحاكم ، ام يعتبرونه اجراء سخيفا ومضيعة للوقت؟.
الذي تغير هو .. أ) ان الناس ما عادوا يعتبرون تلك الاعمال فضائل للدين أو الحكومة ، بل واجبات على المجتمع ككل. ب) لم يعد مقبولا ايكال القضايا العامة الى الارادات الشخصية للرئيس ، بل بات مطلوبا ان تدار في إطار قانوني-مؤسسي ، بحيث تجري كل يوم ، ضمن منظور طويل المدى.
يعتقد ديفيد ميلر ، عالم السياسة البريطاني المعاصر ، ان هذا الاختلاف يشير الى تحول في معنى الاخلاق والفضيلة بذاتها. اي ان كثيرا مما كان بالامس فضيلة يمتدح القائم بها ، تحول اليوم الى واجب يلام الحاكم لو اغفله او قصر فيه. وهو يضرب مثالا بآداب النخبة في اوائل القرن التاسع عشر ، كما صورتها الروائية الشهيرة جين اوستن. قدمت اوستن صورة جميلة للنبلاء الذين تواضعوا قليلا ، وتعاملوا باحسان مع فلاحيهم وخدمهم ، وهو خلاف المتوقع في ذلك الزمان. لكنا نعلم ان تواضع الوجيه وحسن تعامله مع خدمه والعاملين عنده ، لم يعد – في  هذا الزمان - فضلا منه يستوجب الاشادة ، بل واجبا يلام او ربما يعاقب لو تركه.
ينعكس هذا التحول على العلاقات داخل المجتمع ككل. وعلى القانون والتشريع ، فضلا عن الاعراف والتقاليد. وهو حديث نعود اليه في وقت لاحق. 
الشرق الاوسط الأربعاء - 29 شوال 1440 هـ - 03 يوليو 2019 مـ رقم العدد [14827]
https://aawsat.com/node/1794951

مقالات ذات صلة
فكرة المساواة: برنارد وليامز
المساواة والعدالة : ديفيد ميلر
من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي


الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...