28/11/2024

تعقيب على استاذنا البليهي


هذا تعقيب على مقالة قصيرة لأستاذنا إبراهيم البليهي ، نشرها ضمن مجموعة فيها محبوه وقراؤه ، وتعالج ما اعتبره السر العميق لنهضة اليابان خلال عهد الامبراطور ميجي ، الذي تولى الحكم في 1852 حتى وفاته في 1912. والبليهي واحد من القلة الذين تثير كتاباتهم عواصف الجدل الذهني ، بين القناعات المستقرة والشكوك التي تولدها المعرفة الجديدة ، شكوك تؤكد حقيقة ان عقل الانسان يأبى التقاعد والسكون.

قبل عهد الميجي ، كان المجتمع الياباني أسيرا لمنظومة من التقاليد المتخشبة ، التي لا تقيد العقول فحسب ، بل تحرم أي تطلع خارج اطار الثقافة الموروثة والأعراف السائدة وطرائق الحياة التي قدسها الأجداد.

اندريه لالاند

ليس سهلا ان تتصور المعنى الدقيق لما اسميناه "تحريم التطلع". لكني سأضرب مثالا يوضح الفكرة: تخيل انك قررت الزواج من خارج قبيلتك ، فاذا بأبيك يحذرك: سوف انتحر لو فعلت ذلك!. او تخيل ان رئيس القرية غير طريقته في اللبس ، فاذا بكبار القرية يعلنون انهم سيهجرونها غاضبين. او يقتني أحد الناس آلة للمطبخ ، فيجتمع جيرانه للبحث عن سبيل لطرد الأرواح الشريرة التي جلبتها تلك الآلة.

بطبيعة الحال ، لم تحدث هذه الحالات كل يوم. لكني أردت إيضاح المعنى النهائي لمقاومة التغيير ، من خلال حالات شديدة التطرف ، حالات ربما وردت في قصص الرواة فحسب ، لكنها تشير أيضا الى جوهر الفكرة ، أي تصلب التقاليد والأعراف ، والرفض الشديد لأي فكرة جديدة أو عرف مختلف.

-         حسنا. ما الذي يدعونا لهذا الحديث؟

يثير مقال البليهي سؤالين متعارضين ، اظن ان كثيرا منا قد تأمل فيهما:

-         السؤال الأول: التقاليد المشار اليها ، لم تولد دفعة واحدة ، بل اتسعت وترسخت على مدى زمني طويل ، ربما يبلغ قرونا. فكيف تقبلها الناس جيلا بعد جيل ، ولم يتخلوا عنها رغم انها تجعل حياتهم ضيقة عسيرة؟.

كثير من المفكرين سيجيبون عن هذا السؤال بالعبارة التي اشتهرت على لسان البليهي: "العقل يحتله الأسبق اليه". بمعنى ان الانسان يجد نفسه ، لحظة ولادته ، وسط بيئة ثقافية – اجتماعية أحادية الاتجاه ، تعرض نفسها في صورة الحق الوحيد ، فتنبني ذاكرة الانسان وهويته ، ويتحدد تفكيره ، في ذات الاتجاه المعتاد في مجتمعه. وبهذا سيكون جزءا من العقل الجمعي وامتدادا له. قد ينزعج الانسان من نمط المعيشة السائد. لكنه – في الوقت ذاته – يراه حقا وحيدا ، او لازما أخلاقيا ، او ضرورة للعيش مع الجماعة. فهذه الأفكار تلعب دور السور الذي يحمي قلعة التقاليد من المساءلة والتحدي.

-         السؤال الثاني: اذا كان الجواب المذكور صحيحا ، أي كانت الثقافة الموروثة حاكمة على ذاكرة الانسان وتفكيره ، فلا يرى الا ما تعرضه هذه الثقافة ، فكيف – إذن – امكن للناس ان يتحرروا من هذه الثقافة ، على النحو الذي جربته اليابان في عصر الامبراطور ميجي ، كما ذكرنا آنفا؟.

سوف نستعير الجواب من الفيلسوف الفرنسي اندريه لالاند (1876-1963) الذي اقترح مستويين لعمل العقل ، أولهما "العقل المنشأ" بضم الميم ، أي الذي تكون وبني تحت تأثير العوامل السائدة في المجتمع المحيط ، من لغة وثقافة ونظام حياة. وثانيهما "العقل المنشيء" أي الذي يصنع الأفكار وينتجها ، مستفيدا من العوامل السابقة ، او مستقلا عنها ، بل ومتمردا عليها. وهذا العقل هو الذي كسر قلعة التقاليد وتجاوزها.

لم يكن لالاند أول من قال بهذا. لكنه قدم رؤية متينة ، وعالج الإشكالات المحيطة بالفكرة. ولذا جرت العادة على نسبتها اليه. ان قابلية العقل لتجاوز قناعاته المسبقة والتمرد عليها ، وقدرته على إعادة بناء الأفكار من دون أساس سابق ، بل خلق أفكار جديدة ، لم يسبقه اليها أحد ، هي ما يميز الانسان عن الآلات الذكية. وهي التي تجعل كل قديم في معرض التحول والاندثار. على ان تفصيل القول في هذا يحتاج لمقالة أخرى قريبا ان شاء الله.

الشرق الأوسط الخميس - 27 جمادي الأول 1446 هـ - 28 نوفمبر 2024

https://aawsat.com/node/5086127

مقالات ذات صلة:

الانشغال بالعلم والانشغال بالجن

لماذا يرفضون دور العقل؟

اليد الخفية التي تدير العالم

اصلاح العقل الجمعي

مشكلة الثقافة الدولتية

الثقافة كصنعة حكومية

العقل المساير والعقل المتمرد

 

21/11/2024

حق الفرد وحق المجتمع: مشكل أخلاقي

اعلم ان بعض القراء الاعزاء يطمع في جواب للسؤال المحير الذي أثارته مقالة الاسبوع الماضي. أما أنا فلازلت آمل ان يتحمس الاصدقاء للتأمل في جوهر السؤال واحتمالاته.

احدى المسائل الهامة التي أثارتها القصة الواردة في هذا المقال ، هي القيمة النسبية لحقوق الفرد مقارنة بالجماعة. بيان ذلك: افترض انك وجهت السؤال التالي لجمع من الناس: إذا تعارضت حقوق شخص واحد مع حقوق 100 شخص.. فأي الطرفين أولى بالرعاية؟.

أتوقع ان معظم الناس سيميل لترجيح مطالب الجماعة على حقوق الفرد. هذا أمر متعارف في كافة الثقافات ، لكنه سائد بدرجة اكبر في المجتمعات التقليدية ، التي تميل لاعلاء الرابطة الاجتماعية ، ولو ادى الى خرق حقوق الافراد.

كان ايمانويل كانط ، الذي يعتبر أبرز آباء الفلسفة المعاصرة ، قد طالب كثيرا باحترام كرامة الانسان الفرد ، وعدم اتخاذه أداة او وسيلة. الانسان - وفقا لهذه الرؤية - غاية في ذاته. وكل ما يفعله هو أو غيره ، ينبغي ان يستهدف اسعاد هذا الكائن العاقل ورفعته. يمكن للفرد أن يعمل على إسعاد غيره ، في الوقت الذي يعمل لسعادته الخاصة أيضا. لكن لا يصح استغلاله أو التضحية به في سبيل اسعاد الغير.

حسنا ما هو الميزان الذي يعيننا على التمييز بين الافعال التي لا تتعدى التفاعل العادي مع الناس ، وتلك التي تنطوي على علاقة استغلال؟.

يجيب كانط بأن ملاحظة انعكاس الفعل – ولو بصورة افتراضية - على الذات ، هو الذي يكشف لنا عن حقيقته. فان اردت التحقق من سلامة فعل ما ، فافترض انك تريد جعله قانونا لكل الناس ، ومنهم أنت. وهو هنا يشير الى الجانب الآخر ، اي كيف يكون الوضع لو انتقلت انت من جانب الفاعل الى جانب المتأثر بفعل الغير. دعنا نفترض مثلا ، انك تعطي رأيا في استحقاق شريحة من الناس لقروض بنكية او منحة حكومية أو وظيفة ما ، أو ربما كنت قاضيا يصدر حكما في واقعة. تخيل لو أن حكمك هذا أو رأيك ذاك سيتحول الى قانون لكل الناس ، وان غيرك سيستخدمه مستقبلا ضدك ، اي حين تطلب قرضا او منحة او وظيفة او حين تقف امام محكمة. لو فكرت في هذا الاحتمال بجدية ، فهل ستتريث قبل اتخاذ القرار ام لا ، هل ستفضل اتخاذ الجانب اللين ام ستختار الجانب الخشن؟.

تذكرت الآن حادثة واقعية رواها ضابط عراقي سابق ، وخلاصتها انه طلب من مدير الامن العام تزويد عنابر السجناء بمراوح هواء للتخفيف من شدة الحر ، أو السماح بتدبيرها من متبرعين. فغضب المدير وهدده بالعزل لو سمعه مرة اخرى يجامل من اسماهم بالمجرمين. ومرت الايام ، فاذا بالمدير سجينا في تلك العنابر ، وكان طلبه اليومي ، هو السماح له بتركيب مروحة هواء. يقول الضابط انه ذكر المدير السابق – السجين حاليا بطلبه القديم ، فاعتذر ايما اعتذار ، لكن فرصة الاحسان فاتته ووقع أسيرا لقراره. هذا معنى ان تفكر في رأيك او قرارك ، كما لو انه سيمسي قانونا لكل الناس.

 يذكرنا هذا بوصية الامام علي بن ابي طالب لولده الحسن: "يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لها، ... واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك". ورسالة هذا النص تطابق تماما فكرة كانط "قانون لكل الناس".

خلاصة ما يقال إذن ، ان الميل العام لترجيح مصالح وحقوق الجماعة على مصالح الفرد وحقوقه ، قد ينطلق من مبررات معقولة ، في حالات كثيرة. لكنه ينطوي على مشكلة اخلاقية واضحة. فالمسألة هنا لا تتعلق بعدد المستفيدين ، بل بالفعل نفسه: اذا قبلنا بفعل خطأ ، لأنه يخدم أكثرية الناس ، فقد وضعنا تشريعا يجعل الخطأ مقبولا وقابلا للتطبيق. واذا كان ضحيته اليوم شخص واحد ، فقد يكون ضحيته غدا آلاف الناس. المسألة اذن تتعلق بالفعل نفسه وليس بعدد الذين يقع عليهم.

الشرق الأوسط الخميس - 20 جمادي الأول 1446 هـ - 21 نوفمبر 2024

https://aawsat.com/node/5083812

14/11/2024

الفعل السياسي: مشكلة الأيدي القذرة

في مجادلته للفلسفة النفعية ، روى برنارد ويليامز ، الفيلسوف الانكليزي ، قصة رجل اسمه "جيم" ، حط رحاله فجأة في قرية صغيرة في الجنوب الأمريكي. في الساحة الرئيسية للقرية ، كان ثمة كتيبة من الجنود تستعد لاعدام 20 هنديا ، اتهموا بالتمرد على الحكومة الفيدرالية. توجه جيم لتحية قائد الكتيبة ، الذي رحب به كأجنبي شريف ، وعرض عليه ان ينقذ حياة 19 من الهنود الأسرى ، شرط ان يقتل أحدهم بنفسه. أكد الضابط انه سيعدم الجميع لو رفض جيم العرض.

طبقا للمفهوم المبسط للفعل الخير في الفلسفة النفعية ، يتوجب على "جيم" ان يقتل أي شخص فيهم ، كي يحافظ على حياة التسعة عشر الباقين. لأن قيمة الفعل في هذا التيار الفلسفي ، رهن بحجم المنافع التي ينجزها لاكبر عدد من الناس ، حتى لو تضرر احدهم او عدد قليل منهم.

مايكل والزر

أورد ويليامز هذا المثال ، كي يوضح النهايات المنطقية للتبرير النفعي. وهو تبرير يتبناه كثير من الناس ، من دون تأمل او قراءة نقدية في معانيه ومآلاته. تتجلى المعضلة التي تواجه جيم ، في شعوره العميق بالمسؤولية عن موت 20 شخصا ، فيما لو تمسك باخلاقياته الاساسية ، ورفض الانخراط في هذه اللعبة القبيحة. لكنه – في المقابل – يسأل نفسه: هل من الصواب ان يقتل شخصا لايعرفه او ربما لايستحق القتل؟.

هذا سؤال قد يطرح بمفرده ، أو كجزء من الحدث. وقد يوجه لشخص الفاعل ، أو يوجه للأسرى العشرين.

-         حسنا ، ما هو موقفك عزيزي القاريء ، لو كنت في موقع "جيم"؟.

 تأمل في موقف الطرف المتضرر ، باعتباره إنسانا مثلك ، واسأل نفسك: ماذا لو كنت أنا في هذا الجانب ، وكان على شخص آخر ان يتخذ القرار: هل يتوجب علي القبول بالموت كي يحيا بقية الاشخاص؟.

دعنا نأخذ مثالا أكثر قسوة: افترض انك دخلت المستشفى ، فوجدت 10 أشخاص في غرف العمليات ينتظرون متبرعين بأعضائهم كي يعيشوا ، والا فسوف يموتون. انت سليم الجسد ، ولديك هذه الاعضاء جميعا: هل سترضى بأن توضع على طاولة العمليات ، كي يؤخذ قلبك وكبدك وعينك ورئتك وبقية اجزاء جسمك ، لتزرع في اجسام المرضى الآخرين؟.

هذا السؤال يحمل نفس مبررات السؤال الأول: اذا كان بقاء العشرة أشخاص اولى من بقاء شخص واحد ، فانه يتوجب على طاقم المستشفى ان يأخذوك فورا الى غرفة العمليات ، كما يجب عليك ان تقبلها بطيب خاطر. اما لو اعتبرت هذا الفعل غير اخلاقي ، فعليك ان تتحمل وفاة العشرة أشخاص ، دون أن تشعر بالذنب.

هذه المعضلة عالجها مايكل والزر ، الفيلسوف الامريكي الذي نشر في (1973) مقالا عنوانه "الفعل السياسي: مشكلة الأيدي القذرة". وتبنى موقفا مقاربا للموقف النفعي ، لكنه قدم تصويرا مختلفا.

أثارت مقالة والزر جدلا كثيرا ، وتحولت الى نص مرجعي في اخلاقيات الفعل السياسي ، لأنها عالجت تجارب فعلية يمارسها السياسيون كل يوم. ويقول والزر انه أراد العثور على خط معقول بين من يريدون التمسك بمعايير اخلاقية صارمة ، صحيحة ، لكنها غير مفيدة في ميدان العمل ، مقابل أولئك الذين لا يتورعون عن تبني افعال مفزعة ، يبررونها بما يترتب عليها من انجازات ضرورية وكبيرة.

هذه الرؤية تطرح سؤالا ضروريا:

-         هل من الاخلاقي استعمال وسائل سيئة لتحقيق غايات عظيمة ، وهل من الاخلاقي ان نقتصر على الوسائل الحسنة مع علمنا بانها لا توصلنا لأي نتيجة ، او ربما تكلفنا خسائر باهضة؟.

 نفهم طبعا ان الغاية لا تبرر الوسيلة. لكن ماذا لو كانت الوسيلة القبيحة طريقا ضروريا لمنع الكارثة؟.

ما يميز رؤية والزر عن المقاربة النفعية ، هو اعتباره فعل السياسي خطأ ، وان كان الاقدام عليه ضروريا لتفادي الكارثة. بينما ينظر النفعيون الى هذا الفعل باعتباره صحيحا ، ولو كان – خارج هذا الاطار – خطأ وقبيحا.

أعلم اني قد أوصلت القاريء الى نقطة تثير الحيرة. لكني أفهم أيضا ان ما سبق ، قد يحفز بعضنا لاعادة التفكير في بعض قناعاته المستقرة.

الخميس - 13 جمادي الأول 1446 هـ - 14 نوفمبر 2024     https://aawsat.com/node/5081472 

31/10/2024

من يهذب الاخلاق في المجتمع السياسي

هل يمكن للحكومة ان تهذب شعبها ، بمعنى ان تجعلهم اكثر التزاما بالفضائل ومكارم الاخلاق؟.

اثير هذا السؤال في نقاش حول معاني الاخلاق السياسية وتطبيقاتها في المجال العام. واستعرض احد المتحدثين رؤية افلاطون ، الفيلسوف اليوناني المعروف ، الذي قرر ان الدولة مسؤولة عن تربية الشباب ، وتلقينهم المعارف وتدريبهم على الحرف والعادات الحسنة.

ونعلم ان هذه الفكرة لازالت سائدة حتى يومنا الحاضر. فالناس جميعا ، في شرق العالم وغربه ، متفقون على ان ابسط واجبات الحكومة ، هو انشاء وتشغيل نظام التعليم العام ، من مستواه الأدنى ، اي رياض الأطفال حتى الدرجة الاخيرة في التعليم الجامعي.

لكنا نعلم أيضا ان مبررات هذه الرؤية تختلف - في نموذجها المعاصر - عن تلك التي تحدث عنها افلاطون. كان افلاطون يرى امكانية جعل الفضيلة سلوكا عاما ، يمارسه جميع الناس دون تكلف. كما رأى ان الجهل هو السبب الرئيس لارتكاب الاثم ، لأن الفضيلة في جوهرها هي الحقيقة ، او هي قرين الحقيقة. ونحن نصل الى الحقائق من خلال الدراسة والتعلم والتجربة. بعبارة اخرى ، فان الدراسة تؤدي الى ادراك حقائق الحياة ، وأدرك الحقائق يكشف الفضائل ، لان الفضيلة هي الحقيقة او قرينها. فاذا امست الفضيلة سلوكا عاما ، تحقق ما أسماه الفيلسوف "المدينة الفاضلة" وهو ما يعرف في الأدبيات الغربية الحديثة باسم "اليوتوبيا".

أما في نموذج الدولة الحديثة ، فان التزام الحكومة بانشاء نظام لتعليم الناشئة ، معلل بالحاجات الاقتصادية في المقام الأول. لقد توصل البشر بعد قرون من التجارب الى ان حياتهم تدور حول محور الاقتصاد. وهذا وان لم يشمل كافة أطراف الحياة ، الا انه – في حقيقة الامر – المحرك الرئيس لمعظم أطرافها. ومن هنا بات عمل الدولة مركزا – في معظمه – على الاقتصاد. وبالنسبة للبلدان النامية على وجه الخصوص ، فان سياسات التعليم تستهدف ، في المقام الاول ، انشاء قوة عمل كفوءة ، لادارة المشروعات الاقتصادية والادارة الرسمية (التي تنظم هي الاخرى على ضوء احتياجات السوق والاقتصاد). وهذا يفسر القول السائر بان التعليم الناجح هو الذي يلبي حاجات سوق العمل ، وكذا الدعوة لجعل سياسات التعليم متوافقة مع حاجات السوق.

ويبدو لي ان مفهوم الاخلاق ، السائد في علم السياسة المعاصر ، اكثر انسجاما مع اغراض الدولة ومبررات وجودها ، من ذلك المفهوم الذي ناقشه قدامى الفلاسفة ، او نظيره الذي عرفته الدول الدينية.

رؤية افلاطون عن اهمية التعليم ، مبعثها ارتيابه العميق في طبيعة الانسان. فرغم اقراره بقابلية العقلاء لاكتشاف الخير والعدل واتخاذ طريق الحكمة ، إلا انه نظر الى جمهور الناس كأسرى لشهواتهم وأوهامهم وجهلهم بحقائق الحياة. وقد صور هذا المعنى في مثاله الشهير عن الاشخاص المقيدين في داخل الكهف ، الذين لا يرون غير انعكاس ظلال الحركة التي تحدث في الخارج ، فيتوهمون انها هي كل ما يجري في عالمهم.

في التحليل يظهر ان افلاطون نظر الى افعال الانسان كانعكاس لميوله الداخلية ، سواء تهذبت بفعل التعليم ام لا. ولذا تحدث عن التعليم كوسيلة لتهذيب النفس.

خلافا لهذا ، ينظر علم السياسة المعاصر الى الميول النفسية ، كمحصلة لتاثير العوامل البيئية والاجتماعية في المحيط الحيوي للانسان. الانسان السوي الميال للحلول العقلائية والتعاون ، هو ذلك الذي ينشأ في مجتمع يوفر الأمان والعيش الكريم لأهله. وبعكسه المجتمع الذي يسوده النزاع والانقسام او شحة مصادر العيش ، وكذا المجتمع الذي يعاني الاحتقار والاذلال والقهر لزمن طويل. فمثل هذا الحالات تنعكس بشكل سلبي جدا على روحية اعضاء المجتمع ، فتعزز فيهم الميول اللاعقلانية والارتياب والرغبة في الاستئثار.

زبدة القول ان علم السياسة الحديث ، يرى ان الدولة قادرة على تحسين المستوى الاخلاقي في المجتمع الوطني. لكن ليس باضافة مادة الأخلاق الى نظام التعليم ، ولا بزيادة عدد الوعاظ ، بل بتوفير سبل العيش الكريم وتعزيز الشعور بالامان والكرامة عند الافراد.

الشرق الأوسط الخميس - 28 ربيع الثاني 1446 هـ - 31 أكتوبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5076634

24/10/2024

اخلاق الدولة واخلاق الناس

 

للدولة اخلاقها وللناس اخلاقهم. هذان عالمان مختلفان في كل الجوانب تقريبا: في التكوين والمبررات ومصادر القوة وادوات العمل وقيمة الفعل ومعايير النقد والمراجعة.. الخ. الدولة ليست مجموعة اشخاص يديرون بلدا ، بل هي تكوين صلب لا يقبل التفكيك. وبهذه الهيئة فهي مختلفة عن مجموع اعضائها. كي لا نغرق في الكلام العام ، دعنا نقارن بين المعادن التي بنيت منها سيارتك وبين سيارتك نفسها. ان قيمة تلك المعادن – لو جمعت - لن يبلغ خمسة آلاف ريال. اما سيارتك فقد تتجاوز المئة الف ريال. السبب انها ليست مجموعة معادن نظمت وربطت الى بعضها ، بل هي شيء آخر يعمل بطريقة مختلفة ويقاس بمعايير مختلفة ، ويحسب على ضوء قيم مختلفة. مكينة السيارة كون مستقل وليس مجموع المعادن التي تألفت منها. كذلك الدولة. فهي ليست مجموعة الاشخاص الذي يشغلون مكاتبها. الدولة – ببساطة – عالم قائم بذاته وخصوصياته ، ولا يشبه شيئا غيره.

لو سألت علماء السياسة عن الوصف الدقيق لوظيفة الدولة ودورها ، فسوف يذكرون – على الاغلب - تعريف ماكس فيبر الذي قال ان الصفة الجوهرية التي تميزها عن كل شيء آخر ، هو كونها الهيئة الوحيدة التي تمارس العنف بشكل مشروع. وماكس فيبر مفكر الماني يعتبر من آباء علم الاجتماع الحديث. وهو يرى ان حقيقة الدولة ترتبط بملكيتها لمصادر القوة العامة ، وتفويضها بتوجيه تلك المصادر الى الجهات التي تراها ضرورية ومفيدة.

-         لكن ما الذي يمنع انقلاب العنف المشروع الى عنف اعتباطي ، اي غير مشروع؟.

حقيقة الامر ان هذا هو مفتاح النقاش حول أخلاق السياسة ، الذي تعرضنا له في الاسبوع الماضي. والجواب عن السؤال يكمن في كلمتين: سيادة القانون.

سيادة القانون تعني ببساطة انه لايحق لموظفي الدولة ان يتصرفوا في اي شيء ، الا بموجب قانون قائم. سواء كان الموظف وزيرا او وكيلا او مديرا عاما او غيره ، فهو لا يستطيع فرض غرامات او رسوم او كلف مالية على الناس ، الا بموجب قانون تصدره الجهة المخولة بالتشريع ، كالبرلمان او مجلس الوزراء او رئيس البلد. كما لايسمح له بالتصرف في الاموال التابعة لادارته ، خارج الاطار الذي حدده قانون الميزانية العامة للدولة ، بغض النظر عن ميله الشخصي او رغباته.

انظر الآن الى الفرق بين الشخص العادي وبين رئيس البلدية مثلا: استطيع انا وانت ان نتصرف في اموالنا كما نشاء ، فنصرفها على انفسنا او نتبرع بها او نودعها في البنك او نستثمرها ، من دون حاجة لاستئذان أي شخص. اما رئيس البلدية فهو لا يستطيع شراء كرسي اضافي لمكتبه ، الا بموجب مكاتبات ومخاطبات واستئذان الادارة المالية.

لقد أدت هذي الاجراءات الى قيام ما أسماه فيبر بالبيروقراطية (حكم المكاتب) الذي كان من ثماره تعطيل الاعمال وتعقيدها ، وهو أمر سيء من ناحية. لكنه من ناحية أخرى ، جعل كل شيء مسجلا ومقيدا بالقانون ، فلا يستطيع الموظف الحكومي – مهما كان منصبه – ان يتصرف بحسب هواه ، في مصادر قوة الحكومة كالمال والسلاح وغيره. ولو فعل هذا ، فسوف يحاسب الآن أو بعد زمن ، طالما ان كل شيء مسجل ، وان الناس يعرفون ان التصرفات الشخصية تخالف مبدأ سيادة القانون.

هذا الشرح أوضح – فيما أظن - أن المقصود باخلاقيات السياسة ، هو الالتزام بالقانون وعدم استغلال موارد الدولة وقواها في المصالح الشخصية ، او اتباع الهوى الشخصي في التعامل معها او مع المواطنين.

حان الوقت إذن للقول بان من الجيد جدا ان يكون رجل الدولة متواضعا لطيفا لينا في التعامل. والافضل ان يوجه موظفيه الى ملاينة الناس بدل الخشونة معهم. لكن الحد الأدنى من اخلاقيات السياسة هو الالتزام بالقانون وعدم تحكيم الاهواء الشخصية. ان سيادة القانون هي العنوان العريض لاخلاقيات السياسة ، والالتزام بها هو ما يميز سياسيا ملتزما بالاخلاق عن سياسي عابث.

الشرق الاوسط الخميس - 21 ربيع الثاني 1446 هـ - 24 أكتوبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5074261

مقالات ذات علاقة

أم عمرو وحمار أم عمرو

بيروقراطية مقلوبة

البيروقراطية والإدارة

سلطة المدير

سيادة القانون ورضا العامة

صيانة الوطن في سيادة القانون

الطريق الياباني

عسر القانون كمدخل للفساد الإداري

لا بديل عن اللامركزية

المجتمع السري

ميكنة الإدارة شيء.. وجودة الخدمة العامة شيء آخر

نبدأ حيث نحتاج

الوجوه المتعددة للشفافية

17/10/2024

اخلاقيات السياسة

 

أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء السياسة وبعض رجالاتها. اما اتفاق الناس على خلو السياسة من الاخلاق ، فمرجعه عاملان فيما أظن. أولهما ان السياسة ناد مغلق ، عضويته حكر للنخبة العليا في المجتمع. اما العامل الثاني فهو ان الموضوع اليومي في مهنة السياسة ، هو استعمال مصادر القوة وتوجيه نتائجها ، بحسب ما يراه اهل هذه المهنة دون بقية الناس.

قد يقال ان النادي السياسي مفتوح لمن يطرق أبوابه ، وليس لكل عابر ، وأن السياسة كأي حرفة أخرى ، تتطلب مؤهلات ربما لا تتوفر لكل راغب فيها. لكني أجد ان انغلاق النادي معناه قلة الفرص المتاحة فيه. وأذكر هنا رأي المفكر الايطالي القديم نيقولو ماكيافيلي ، الذي قدمه في سياق تفسيـره لرغبة الناس في الحرية ، حيث يقول ان الناس لا يطمعون في السلطة ، لأنهم يدركون ان "مهنة الحكم" متاحة لعدد محدود جدا من الأفراد ، وهم يشكون في ان أحدهم سينال الفرصة ، دون عشرات الآلاف من الراغبين في دخول ناديها.

كون النادي السياسي مغلقا ، يعني ان معظم ما يجري بين جدرانه ، مكتوم عن عامة الناس. مكتوم قصدا ، او بحكم اختلاف مجالات الاهتمام ، وامكانية الوصول الى مصادر المعلومات ، وخاصة الحساسة منها. وطالما بقي عمل السياسيين سرا ، فسوف يثير الارتياب ، لا سيما بالنظر للعامل الثاني اي كون موضوع عمل السياسي هو تحريك مصادر القوة وثمراتها بين الاتجاهات المختلفة ، كما يدير السائق سيارته بين مسار وآخر ، أو بين وجهة وأخرى. وكانت العرب تقول فيما مضى ان "المرء عدو ما جهل" بمعنى انه أقرب الى تفهم الاشياء التي يعرفها. والتفهم يعني تقبل مبرراتها حتى لو بدت – في ظاهرها – بغيضة او ثقيلة على النفس.

-         لكن يبقى السؤال قائما: الى اي حد يلتزم الفاعلون السياسيون بمعايير الاخلاق؟.

هذا السؤال ينقسم – بالضرورة – الى جزئين: الاول ما هو المقصود بالاخلاق ، هل هي طرق العمل المطابقة لما يمليه العقل السليم ، ام هي – كما هو شائع بين عامة الناس – لين المعاملة والاحسان للناس وصدق القول والترفع عن الصغائر ، وأمثال هذه؟.

اما الثاني فيتناول موضوع العمل في النادي السياسي ، الذي سنسميه اختصارا "استعمال مصادر القوة" ، لأن هذا التحديد يستدعي لزوما سؤال: ماهي مصادر القوة التي نتحدث عنها ، ولماذا نستعملها او نحركها؟.

سوف ابدأ بالثاني لانه يوضح معنى الأول. ان "قانون الندرة" هو المبرر الجوهري لوجود السياسة والحكومة. يقول هذا القانون ان الموارد المتاحة لتسيير حياة الناس محدودة ، بينما حاجات الناس متزايدة ، ويمكن وصفها باللامحدودة ، بمعنى انها لا تتوقف عند حد ولا تنحصر في إطار. توزيع الموارد المحدودة يعني ان كل فرد من الجمهور سينال حصة أصغر مما يطمح اليه. ولكي لا يعتدي على حصص غيره ، احتجنا الى القوة ، اي اظهار العنف او استعماله احيانا ، كي يرتدع المعتدي.

نحتاج طبعا لتطوير الموارد كي تسد الحاجات المتزايدة. وهذا يتطلب استثمارات جديدة في الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها. من هنا نعتبر المال والسلاح ابرز مصادر القوة ، وهما محور العمل في مهنة السياسة. نحن نريد ان يلتزم رجال السياسة بالانصاف والمساواة بين الناس ، ان يعملوا كممثلين لمصالح المجتمع ، وان لا يفرطوا في الأمانة التي وضعت في ايديهم. وهذا هو جوهر المضمون الاخلاقي للسياسة.

-         هل يستلزم هذا لينا في الكلام او التعامل؟.

 ارى انه لا يستلزم. وان كان من مكارم الاخلاق ، ومن علامات الكمال عند اي انسان ، سياسيا او غيره. عالم السياسة مختلف عن العلاقات الاجتماعية العادية ، ولذا فاخلاقياتها مختلفة ايضا. أي ان لها اخلاقياتها ومعاييرها وإن خالفت توقعاتنا بعض الشيئ.

الشرق الاوسط الخميس - 14 ربيع الثاني 1446 هـ - 17 أكتوبر 2024 م

 https://aawsat.com/node/5071868/

10/10/2024

هويات متزاحمة


ليس معتادا أن يتنازل الناس عن هوياتهم الفرعية ، مهما كانت قليلة الاهمية عند الآخرين. بعد الحرب العالمية الثانية ، تبنى الاتحاد السوفييتي ودول المعسكر الشرقي ، استراتيجية موسعة لتفكيك الهويات الدينية والقومية والاقليمية ، واستبدالها بما أسموه "هوية سوفييتية واحدة". بعد اربعة عقود فحسب ، رأينا كيف تحولت تلك الهويات المقهورة ، الى عوامل هدم للهوية الكبرى. هذه التجربة المريرة تكررت في دول اخرى ، وثبت عيانا ان القهر الايديولوجي او القومي والديني ، لايفلح أبدا في تفكيك الهويات الصغرى او  قتل ثقافتها.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحتضن نسخة من القرآن الكريم، في مسجد النبي عيسى - غروزني، الشيشان

معرفتنا بهذه النتيجة ، لا تكفي لحل المشكل الواقعي ، اي الارتياب القائم بين المجموعات الاثنية المختلفة ، وهو ارتياب يتحول الى قلق مزمن ، وخوف عند كل طرف من نوايا الآخر.  

لهذا السبب ، نحتاج لفهم ظاهرة التنوع والتعدد في الهوية ، سواء كان تنوعا عموديا كالاختلاف الديني والعرقي والجندري ، أو كان أفقيا كالاختلاف الطبقي والثقافي والسياسي ، الخ. كما نحتاج لوضع الظاهرة في إطارها الصحيح ، كي نشخص المشكلات بدقة ، بدل ان نغرق في انفعالات اللحظة.

تلافيا للتعقيد الذي يلازم هذه المسائل ، سأخصص هذه الكتابة لايضاح ان  التنوع قد يتحول الى تضاد وتنافر بين الهويات ، لكنه في غالب الحالات مجرد تزاحم ، سببه مادي او ثقافي ، وقد يكون مؤقتا. هذه نقطة مهمة لأن كثيرا من الناس يغفلون الفارق الكبير بين الاثنين. سوف اعرض في مقالات قادمة جوانب اخرى ، إذا وفق الله.

هنا ثلاثة امثلة واقعية على التضاد والتنافر بين الهويات. المثال الاول سياسي من ايرلندا الشمالية ، كان يتحدث للتلفزيون قائلا: انا ايرلندي ولست بريطانيا. فقال له المذيع: انت عضو في البرلمان البريطاني وتحمل جواز السفر البريطاني ، فيرد ذاك مرة اخرى "انا ايرلندي". وقد سمعت تكرارا لهذه القصة بنفس التفاصيل تقريبا من أديب كردي – تركي ، أكد خلال حديثه مرة بعد أخرى انه كردي وليس تركيا. وسمعت شبيها لهذا من شخص مصري ، يقول انا اتحدث اللغة العربية لكني لست عربيا ، ولا اريد الانتساب الى العروبة. فالواضح ان هؤلاء الاشخاص ينظرون للهوية الأوسع كضد لهويتهم الخاصة ، وان الزامهم بالاولى يؤدي بالضرورة الى الغاء الهوية الاخرى. الايرلندي لا يرى بريطانيا وطنا له ، ولو حمل جوازها ، وكذلك الكردي في تركيا.

وفقا لابحاث أجريتها في سنوات ماضية ، فان الشعور بالتنافر والتضاد محدود جدا ، ومحصور بين فئات صغيرة متطرفة. وهذا يشمل حتى المجتمعات التي تتعرض لقهر شديد ، ولعل اقرب مثال على هذا هو العلاقة الحالية بين الروس والمسلمين ، من سكان الجمهوريات التابعة للاتحاد الروسي او الجمهوريات التي كانت متحدة معه ثم استقلت. فرغم التاريخ الطويل للصراع ، الا ان الميل السائد حاليا ينحو للتسالم والتعايش وتناسي ذلك التاريخ. بل نجد هذا حتى في الدول التي شهدت صراعات أهلية كحال الشيشان ورواند ونيجريا وايرلندا وسيريلانكا ، على سبيل المثال.

تبدأ المشكلات حين يسعى أحد الاطراف للاستئثار بما هو مشترك بين المواطنين. واوضحها الفرص المتاحة في المجال العام ، كفرص الاثراء والوظائف والتعبير الحر عن الذات. ونعلم ان هذا حصل للاكراد في تركيا ، حين حظرت طيلة 40 عاما استعمال اللغة الكردية في المدارس والمؤسسات الرسمية والصحافة والاجتماعات العامة. وحصل شيء قريب من هذا في العراق وسوريا وايران ، الأمر الذي أدى لتفاقم التنافر بين الهويتين الوطنية والقومية ، وتبرير الحديث عن كردستان كوطن قومي.

بعبارة اخرى ، فان الوضع الطبيعي لعلاقة الناس مع بعضهم هو التعايش والتسالم. وهو وضع سيبقى قائما لأمد طويل ، طالما لم يتعرض اي طرف لعدوان يتصل خصوصا بمكونات الهوية. ولهذا فان أبرز عوامل ترسيخ الوحدة الوطنية ، هو تبني الحكومات لسياسة عليا تحول دون امتهان الهويات الصغرى او محاولة تفكيكها ، أيا كان المبرر.

الخميس - 07 ربيع الثاني 1446 هـ - 10 أكتوبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5069567

مقالات ذات صلة

الارضية النظرية لمفهوم المواطنة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي
الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول أزمة الهوية

حول الانقسام الاجتماعي

حول المضمون القومي للصحوة الدينية

حول نظام حماية الوحدة الوطنية

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

"عيش الحسين"

قانون حماية الوحدة الوطنية

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

 كيف تشكلت الهوية الوطنية

كيف تولد الجماعة

مسيرة الهويات القاتلة

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

الهوية المتأزمة

الوحدة الوطنية والسلم الاهلي هو الغاية

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنةتفصيح للاشكاليات

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

03/10/2024

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتاج أيضا للرابطة الشعورية ، اي الشعور بالتضامن والتكافل والانتماء الواحد ، كي تكون مواطنة صحية وبناءة؟.

لقد واجهت مثل هذا السؤال في واقع الحياة. كما سمعته موجها لأشخاص اعرفهم ، من مواطنين يقولون: كيف تكون مواطنا مثلنا ، وانت تنكر كثيرا مما نؤمن به. وسمعت شخصا كان مشهورا في زمن سابق ، يقول في حديث تلفزيوني: لو التقيت ب "فلان" لتفلت في وجهه. ثم شرح قائلا: اننا لا ننتمي لذات المكان والمرجع. واعلم ان كثيرين قد شاهدوا تلك المقابلة التي أثارت جدلا واسعا في وقتها. والحمد لله ان تلك الصفحة قد طويت ، وارتاحت بلادنا من اثقالها.

يشير سؤال السيدة ميرة الى رغبة في الارتقاء بمفهوم المواطنة الى مستوى الهوية الكاملة ، بمعنى تحقيق التماثل التام بين المواطنين ، في القناعات السياسية والدينية والعاطفية والثقافية. ولا أظن هذا ممكنا في الواقع. ولو قلنا انه ممكن ، فهو عسير المنال جدا. ولذا لا أرى داعيا للسعي اليه أو المطالبة به ، خشية تكليف الناس ما لايطيقون.

على اني سأطالع الموضوع من زاوية أخرى ، تركز على معنى الهوية والمواطنة ومضمونها الثقافي. وسبب اهتمامي بهذه المسألة ، هو ما أراه من خلط بين الهويات المختلفة ، ولا سيما تحميلها على الهوية الوطنية وخلطها بالاعراف الدينية/المذهبية ، من دون داع.

في الوضع الطبيعي يحمل الانسان هويات متعددة ، بدءا من انتمائه العرقي/القومي الى العائلي والقبلي والاقليمي ، وصولا لهويته المهنية والطبقية وميوله السياسية ، ودينه ومذهبه ولغته ، والتاريخ الثقافي لبيئته الاجتماعية ، الى الوطن الذي يحمل جنسيته. كل من هذه الانتماءات العديدة يمثل خيطا يشده الى مكان ويؤثر في ثقافته وتصوره للعالم ، اي في تشكيل ذهنيته. وبهذا المعنى فان هوية الانسان توليف معقد ومتداخل من هويات متنوعة. وكلما تزايدت ، كانت شخصية صاحبها اعمق تفكيرا وأوسع أفقا.

أزعم انه لا يوجد شخص واحد ، أحادي الهوية ، في العالم كله ، بمعنى ان ذهنيته تشكلت في اطار هوية واحدة ، او انتماء واحد فقط. ان شخصا كهذا ينبغي ان يكون منعزلا عن العالم كله طوال حياته. وهذا – في ظني – مستحيل بحسب ما نعرف عن عالم اليوم.

حسنا. دعنا نتخيل صورة الهويات التي نحملها على شكل دوائر متداخلة. بعضها يقع في الوسط وبعضها في الاطراف ، وبعضها فوق بعض ، وهكذا. افضل الحالات هي حالة التفاعل والتلاقي بين تلك الهويات ، اي حين يكون الانسان قادرا على التعبير عن نفسه وثقافته ودينه وانتمائه العائلي والقبلي والسياسي في اطار القانون الوطني. هنا يلتقي الجميع على ارض واحدة ، وتمثل الهوية الوطنية دائرة واسعة جامعة ، او مظلة حامية لكافة الانتماءات والهويات الاخرى.

في حالة كهذه لا يكون المجتمع الوطني حشدا هائلا من الأفراد المستقلين ، بل مئات من الدوائر التي لكل منها لون وعلامة ، لكن جميعها يقع في داخل الدائرة الكبرى ، اي الهوية الوطنية. هذا ما نسميه "التنوع في اطار الوحدة". وهو ارقى التعبيرات عن فكرة الوطن في هذا العصر.

ربما توجد حكومة فائقة القوة ، تسعى لتذويب كافة الهويات ، عدا واحدة. وهو أمر لا يمكن تحقيقه الا بالقوة الغاشمة. ونعرف من السجلات التاريخية ان بعض الطغاة قد فكر في هذا او حاول فعله.  ونعلم ان تلك المشروعات فشلت في اول خطواتها ، لانها ضد المنطق وضد المسار الطبيعي للحياة. خلاصة القول ان المواطنة الكاملة متحققة فعلا لكل من يحمل جنسية البلد ، مهما اختلف مع بقية المواطنين. هذا كاف تماما. فان حاولنا فيما يزيد ، فقد نتحول من بناء الوطن الى هدمه. التنوع إثراء للوطن ، والوطن لكل أهله ، مهما اختلفت مصادرهم أو مشاربهم وغاياتهم.  

الشرق الاوسط الخميس - 30 ربيع الأول 1446 هـ - 3 أكتوبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5067178

عقل الصبيان

  في هذه الكتابة شيء من العسر. وأرجو من الأصدقاء الأعزاء الذين تفضلوا بقراءتها ، ان يتحملوا قليلا ، وأعدهم بأنها ستحل إشكالية مهمة جدا ، وكث...