06/05/2020

مسارات للتفكير في تحولات العالم بعد الوباء




معظم الخبراء في مختلف التخصصات ، واثقون من ان العالم مقبل على تحولات عميقة وواسعة بعدما يتلاشى وباء كورونا وتزول آثاره. السؤال عن صورة العالم في الاعوام القادمة ، بات الشغل الشاغل للعلماء والمحللين في العالم كله. وتنشر الصحافة الدولية ،  كل يوم تقريبا ، تصورات أولية حول مسارات التحول المنتظر. مما يكشف عن حيوية النقاش الجاري في هذا السياق. 

سوف اقترح اليوم اربعة مسارات للتفكير في التحولات المتوقعة:
المسار الاول: يتناول طبيعة التحولات ، التي قد تكون تراكمية تدريجية ، او تكون باراديمية/نسقية.  في النوع الاول يقوم المجتمع بتجديد وتطوير بنياته القائمة. ومن هنا فان الجديد محكوم بمنطق البنيات القائمة فعلا. اما النوع الثاني فهو عبارة عن عملية احلال ، تتضمن الغاء البنيات القديمة ، واقامة بنيات جديدة ، متباينة غالبا مع نظيرتها القديمة.
المسار الثاني: يتناول انعكاسات التحول. فحين يبدأ ، سواء كان نسقيا او تراكميا ، فان أولى علاماته تظهر على العناصر الضعيفة ، العاجزة عن مقاومة رياح التغيير. وهذه قد تطال السوق والثقافة والقيم المعيارية والعائلة والقوى الاجتماعية ومراكز النفوذ.
ومع انهيار هذه ، ينطلق "الدومينو" أي سلسلة الانهيارات المتوالية. نستطيع القول ان هذا المسار  قد بدأ فعلا. شركة الطيران البريطانية "فلاي بي" اعلنت افلاسها. ولحقتها فيرجين استراليا للطيران. وثمة خوف على مصير مماثل ينتظر شقيقتها فيرجين اتلانتيك. وفي بريطانيا اعلنت بريمارك ، شركة الملابس الاقتصادية ، اغلاق 189 من متاجرها من دون توقيت محدد للعودة. وهناك ما يشبه الاجماع بين منظمات التجارة واتحادات العمل الدولية ، على ان خسائر قطاع العمل ستزيد عن 100 مليون وظيفة. أما التقديرات المتشائمة فتحذر من أن 195 مليون عامل سيخسرون وظائفهم على امتداد العالم ، هذه السنة. تخيل عدد الشركات التي كانت توظف هذا الجيش الهائل من العمال ، وكم منها سيغلق أبوابه الى الأبد.
المسار الثالث: يركز على محرك التغيير. منذ بداية العقد الحالي ، بات واضحا ان البيانات والمعلومات تشكل مضمون التحول القادم ، وهي جوهر النسق الحياتي والاقتصادي في عالم ما بعد كورونا. ومن هنا فان التحول سيكون أوسع وأعمق في القطاعات التي تتعامل مباشرة مع البيانات/المعلومات والتقنيات الخاصة بها. هذا يعني في المقام الاول قطاعات التعليم والاتصالات والصحة والادارة. لكن تأثيره لا يتوقف عند هذا الحد ، فهو سيطال ايضا حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا ومنظومات القيم التي نستند اليها في فهمنا للعالم وحكمنا عليه. وسيكون لنا في هذا المسار حديث لاحق اكثر تفصيلا.
المسار الرابع: ان التحولات الكبرى في تاريخ البشر لم تقف عند تفكيك البنيات القديمة ،  بل أقامت بنيات بديلة.دعنا نضرب مثلا بدخول الروبوت الى المصانع والمستودعات ، حيث قيل يومها انه سيقضي على الوظائف. وهذا ما حصل فعلا. لكن على الوجه الثاني ، فان هذا  التطور ولد وظائف جديدة اكثر من تلك التي الغاها ، واكثر تنوعا واعلى عائدا.  هذا الشيء حدث ايضا حين دخول الانترنت وقبلها الكهرباء وقبلها البخار.
لقد جرت سيرة الثورات الصناعية الكبرى على تدمير العديد من القطاعات والغاء الوظائف المرتبطة بها. لكنها في الوقت ذاته فتحت الباب امام قطاعات جديدة ووظائف جديدة اكثر وأفضل. وهذا من ابرز اسرار التقدم.
هذه اذن مسارات اربعة ، اقترح ان تكون اطارا للتفكير في التحولات القادمة ، لا سيما  في بلادنا ومحيطها الاقليمي. وآمل ان تكون مفيدة في توجيه الاذهان واثارتها.
الشرق الاوسط الأربعاء - 13 شهر رمضان 1441 هـ - 06 مايو 2020 مـ رقم العدد [15135]
مقالات ذات صلة


29/04/2020

في الاعجاز والاختبار والعذاب الالهي


||هذا الكون يتحرك في نظام ثابت ، هو "سنة الله". وهو مفهوم للبشر، ولذلك يستعملونه ويسخرون أدواته لتحسين معيشتهم||

لو لم يكن هذا الشيخ مشهورا ومسموع الكلمة ، لما انتشر حديثه عبر العالم ، وما شاهده عشرات الألوف. ولولا ان الكلام الذي قاله يحاكي قناعات عميقة في نفوس مستمعيه ، لما قوبل بالاستحسان والتأييد. خلاصة كلام الشيخ ان وباء كورونا اختبار رباني للبشر جميعا ، غرضه اظهار قدرة الباري سبحانه وتذكير البشر الآثمين بجبروته كي يتعظوا. 

قال الشيخ أيضا انه مندهش غاية الدهشة ، لأن مخلوقا في غاية الضعف والتفاهة ، صغيرا لا يرى بالعين المجردة ، عطل حياة العالم من اقصاه الى أدناه: أوقف السيارات والقطارات والطائرات ، وعطل المصانع والشركات والجامعات والحكومات ، وضرب الجيوش والاجهزة الأمنية من داخلها ، بل لم ينج منه حتى رؤساء الدول وعائلاتهم.
لا حاجة لذكر اسم القائل ، فقد تكرر على السن العديد من الدعاة المحترمين ، الذين ظنوا ان كلاما كهذا ، سوف يذكر  مستمعيهم بما يتوجب عليهم من طاعة الله والتوجه اليه ، وقد يردعهم عن المعاصي ان كانوا من أهل العصيان.
والحق ان طريقة الوعظ هذه خطأ في ذاتها. فهي لا تقنع الا من كان مقتنعا سلفا ، اي من لا يحتاج للموعظة. كونها خطأ تظهر في وجهين: الاول ان جبروت الله وقدرته ، لا تتجلى في أمور يستطيع البشر التنبؤ بها ودفعها ، او اتقاءها وتقليل آثارها ، وهذا لاينطبق على كورونا ولا الاوبئة المماثلة. اما الوجه الثاني فهو ان الأصل في دعوة الناس الى الله ، هو البشرى وإثارة الأمل بالنجاح الدنيوي وليس التنفير.
الوجه الأول يوضحه القرآن في آيات عديدة كقوله سبحانه "لاعاصم اليوم من أمر الله-هود 43" ، بينما نعلم ان العواصم من الاوبئة كثيرة ، وابسطها التباعد الاجتماعي. اما الاوبئة التي ضربت العالم فيما مضى ، فقد طور العلماء امصالا تقي منها ، فما عادت قابلة للتكرار على نطاقات واسعة ، مثل الملاريا والكوليرا والسل والطاعون والتراخوما والايبولا والسارس وأمثالها. وحتى كورونا المستجد الذي ادهش فضيلة الشيخ ، فان العلماء واثقون بامكانية التوصل الى مصل له بحلول نهاية العام الجاري. ثم ان ظهور الفايروس كان مفاجئا ، أما طبيعته فليست مجهولة تماما. كما ان انتقاله للبلدان الأخرى لم يكن مفاجئا ، ولا التحكم فيه والتقليل من آثاره مستحيلا.
بعبارة اخرى فان المسار الذي رأيناه وتابعناه بشكل يومي ، لم يوح أبدا بعجز البشر عن كبح هذا الوباء ،  ولم يقل احد ان العالم اقترب من نهايته ، او ان عواقب الكارثة ستكون بلا حدود. ومن هنا فان هذا الوباء لم يكن بالصورة التي نتخيلها عن جبروت الله وقوته ، التي لا ترد ولا تقف عند حد.
القول بان الله يعاقب البشر من خلال التدخل المباشر في النظام الكوني ، لا يخلو من مضمون خرافي. هذا الكون يدور ويتحرك وفق نظام ثابت ، أسماه القرآن "سنة الله" و "آيات الله" و "فطرة الله". ولو تأملت في هذا النظام لوجدته كله ، قواعده وتفصيلاته ، تسير وفق منطق دقيق ، منطق يفهمه البشر ويستوعبون تفصيلاته ، ولذلك يستعملونه ويسخرون أدواته لتحسين معيشتهم ، وهذا بالتحديد مراد الخالق سبحانه.
ادعو المشايخ الكرام والدعاة الافاضل الى القراءة العقلانية والانسانية للدين ، القراءة التي تنظر للعالم باعتباره مختبرا للعقل والفكر والرحمة ، لا ساحة للعذاب وانتقام القوي من عباده الضعفاء.
الشرق الاوسط الأربعاء - 6 شهر رمضان 1441 هـ - 29 أبريل 2020 مـ رقم العدد [15128]


مقالات ذات علاقة

لماذا يرفضون دور العقل؟

  ليس هناك – على حد علمي – من ينكر دور العقل بصورة مطلقة. لو فعل أحد ذلك فلربما عده العقلاء مجنونا أو ساذجا. لكننا نعرف أناسا كثيرين ينكرون ...