25/07/2018

حاكم ملتح وحاكم يستحي

شعرت بنوع من الصدمة حين وقعت عيني على شعار "مانريد حاكم ملتحي .. نريد حاكم يستحي" الذي رفعه المتظاهرون في البصرة وبغداد والنجف ، ومدن عراقية اخرى ، في الايام القليلة الماضية. هذا الشعار يلخص الكثير مما قاله المتظاهرون وما فعلوه أيضا. ومعناه الواضح انهم ما عادوا مهتمين بالمظهر الديني ولا اللغة الدينية التي يستعملها الزعماء السياسيون.
قدم ماكس فيبر ، عالم الاجتماع الالماني (1864- 1920) نظرية شاملة حول الشرعية السياسية ، ومصادرها وأهميتها في الحياة العامة. ومن بين انماط الشرعية التي درسها ، نشير الى الشرعية المرتبطة بالكاريزما الشخصية ، الشرعية المرتبطة بالدين والتقاليد ، وتلك المرتبطة بالانجاز.
ينطوي مفهوم الشرعية في جواب سؤال بسيط: بأي حق يأمر الزعيم وينهى ، وبأي مبرر يطيع الناس أوامره ونواهيه. ان ايمان الجمهور بالمصدر الذي يولد هذا الحق ، هو مصدر شرعية السلطة والزعامة.
يستمد الزعيم الكاريزمي شرعيته من ايمان الجمهور بان وعوده صحيحة دائما وقابلة للتحقيق. ربما لشجاعته او لانتصاراته السابقة او قدرته الخطابية او غيرها. اما الشرعية المستندة للدين والتقاليد ، فتبرز في قناعة الجمهور بان رجلا يحمل تعريفا خاصا ، مثل شيخ القبيلة او رجل الدين ، يمثلهم تماما ، لأنه يجسد منظومة تقاليد او قيم مستقرة  في الثقافة الاجتماعية ، مقدسة او شبه مقدسة. بمعنى ان هذا الزعيم هو صورتهم في ذروة الكمال ، الذي يطمحون الى بلوغه لكنهم لا يقدرون.
اما الزعيم الذي يستمد شرعيته من الانجاز ، فهو ببساطة مدير نجح في تحقيق مكاسب ضخمة للمجتمع ، حين فشل غيره. هذا يفسر مثلا عودة مهاتير محمد الى حكم ماليزيا رغم تقدمه في السن.
كان العرب والمسلمون عموما يميلون دائما الى النمط الثاني ، اي الزعماء الذين يقدمون انفسهم كرموز للايمان. وأحتمل ان هذا يرجع لوهم راسخ في ثقافة العرب ، فحواه ان اجتماع الايمان مع قوة الدولة ، سيقيم المعادلة المستحيلة: السياسة والاخلاق ، او الدين والدنيا.
 مظاهرات العراق تخبرنا ان الجمهور ما عاد مقتنعا بهذا المفهوم. سنوات الخراب الطويلة التي مرت على البلد ، تتطلب مديرا يوفر الكهرباء والوظائف والخدمات العامة والعيش الكريم. ولايهم بعد هذا ان كان ملتحيا او حليقا. شعارات المتظاهرين وتحركاتهم تؤكد ان محور اهتامهم هو عمل الحاكم وليس شخصه. سواء كان الزعيم ملتحيا او معمما او بليغ الكلام او ابن حمولة او قبيلة نافذة ، فالمعيار الذي يطبقونه هو انجازه العملي وليس صفاته الشخصية.
تحول مفهوم الشرعية من النمط التقليدي الى النمط العقلاني المرتبط بالانجاز ، ينبيء عن تحول آخر جوهري ، وان لم يكن شديد الوضوح ، في الثقافة العامة ، اعني به تحرر الجمهور من المخاوف المرتبطة بالهوية وقلق العلاقة مع الاخر المختلف في المذهب او الايديولوجيا. الصدريون ، وهم تيار ديني ، تحالفوا مع الحزب الشيوعي ، فلم يواجهوا اعتراضا يذكر بين الجمهور. بمعنى ان "الهوية" لم تعد مبعث توتر او مؤشرا على الاتجاه السياسي.
ماحدث في العراق ليس تحولا شاملا حتى الان. لكنه يقدم إشارات جدية على ان النسيج الثقافي العميق في المجتمع يتعرض لتغيير ، ليس بضغط الدعاية ولا بتأثير زعيم ، بل من خلال معاناة يعيشها الناس يوميا ، فيعيدون تشكيل قناعاتهم وخياراتهم على ضوئها. وأرى ان هذا هو الذي سيجعل مستقبل العراقيين خيرا مما مضى.
الشرق الاوسط - 12 ذو القعدة 1439 هـ - 25 يوليو 2018 مـ رقم العدد [14484]
http://aawsat.com/node/1341966

 


18/07/2018

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي


الروائي المعروف عبد الله بن بخيت خصص مقاله هذا الاسبوع لنقد ما اعتبره افراطا في الاهتمام بالعلوم الطبيعية والتجريبية ، واغفالا للعلوم الانسانية. ويقول ان الحضارة الاوربية لم تبدأ بدراسة العلوم الطبيعية  "إنما قامت على التفكير العلمي والوعي والفكر... قامت على الرجال الذين ألفوا في التاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية وفرضوا التنوير". ويستنتج ان تركيزنا الحالي على العلوم البحتة ، سيعين الشباب على ضمان وظائفهم ، لكنه لن يقودنا للتقدم (جريدة الرياض 16 يوليو).
عبد الله بن بخيت

الوضع الذي انتقده بن بخيت هو السائد في المشهد الاجتماعي. فالاتجاه العام بين الناس وفي الادارة الرسمية يربط التعليم بالوظيفة وليس بانتاج العلم او نشره. وفي العام الماضي ابتكر وزير التعليم برنامجا اسماه "بعثتك-وظيفتك" يربط بين التخصص الدراسي ومتطلبات الوظيفة المنتظر ان يشغلها الطالب بعد التخرج.
هذا يحملني على الظن بان دعوة بن بخيت لن تجد مستمعا. ليس فقط لأن دراسة العلوم الانسانية “ماتوكل عيش” كما يقول اشقاؤنا المصريون ، بل لأنها أيضا لا تؤدي – وفق فرضيته - الى النهضة ، ولا تسهم في ترسيخ الفكر العلمي.
شيوع الاهتمام بالتخصص في العلوم البحتة لا يؤدي - في اعتقادي – الى انتشار العلم او انتاجه ، فضلا عن النهوض الحضاري. كما ان التركيز على العلوم الانسانية لا يؤدي الى هذه النتيجة ، ولا الى انتشار الادب والعلوم الاجتماعية والنظرية. ولدينا تجربة متكررة على مدى زمني طويل ، تؤكد هذا الادعاء. لقد مضى على بداية التعليم الجامعي نحو 60 عاما ، تخرج خلالها عشرات الالاف من الطلبة في تخصصات علمية وانسانية وشرعية. كما تخرج من الجامعات الاجنبية خلال الفترة نفسها ، ما يزيد - وفق تقديرات منشورة - عن نصف مليون طالب. وطبقا لبيانات نشرتها مصلحة الاحصاءات العامة في نوفمبر 2016 ، فان عدد السعوديين الذين يحملون شهادات جامعية قد بلغ 2.8 مليون ، بينهم 44,792 يحملون شهادة الدكتوراه.
تخيل ان كل حامل دكتوراه قد نشر بحثا واحدا في السنة. تخيل ايضا ان حملة البكالوريوس الذين يزيد عددهم عن المليونين ، هم قراء هذه الابحاث. لو حدث هذا في الواقع لكان لدينا اليوم ما يصح وصفه بحياة علمية نشطة ، اي انتاج متزايد للعلم ونقاشات علمية واسعة وانتشار افقي وعمودي لمختلف العلوم.
لكننا نعلم ان هذا لم يحصل ابدا. فلماذا؟.
لقد كتب بعض الزملاء في اوقات سابقة عن ندرة مراكز البحث العلمي ، وندرة المجلات العلمية المتخصصة ، رغم وضوح الحاجة اليها والرغبة فيها.
السبب الاجمالي في اعتقادي هو ضعف الرغبة في التغيير ، بين النخبة وشريحة معتبرة من ابناء الطبقة الوسطى الذين تفترض الدراسات الاجتماعية انهم – في العادة – خزان التغيير. الرغبة في التغيير هي اول عوامل النهوض العلمي والثقافي. وهي ليست برنامجا او خطة عمل او قانون ، بل هي اقرب الى شعور عميق عند نسبة معتبرة من المواطنين فحواه التشكك في القيم السائدة والسلوكيات وانماط المعيشة والانشغالات العامة. يتأسس بناء عليه تطلع نحو واقع مختلف ، وايمان بالقدرة على بناء الواقع الجديد. نقطة الانطلاق هي الايمان بالذات ، اي باننا نستطيع ان نصنع اقدارنا ، ثم من الجرأة على نقد الماضي والتحرر من قيوده الثقافية.
روحيةالنهضة لا تتوقف على تخصص محدد ، بل على اقتناع القادرين على توجيه الجمهور بان هذا الجمهور واياهم يستطيع ان يغير التاريخ ، ثم تحديد معنى التغيير الذي نريده واتجاهاته.
الشرق الاوسط الأربعاء - 5 ذو القعدة 1439 هـ - 18 يوليو 2018 مـ رقم العدد [14477]

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...