شعرت بنوع من الصدمة حين وقعت
عيني على شعار "مانريد حاكم ملتحي .. نريد حاكم يستحي" الذي رفعه
المتظاهرون في البصرة وبغداد والنجف ، ومدن عراقية اخرى ، في الايام القليلة
الماضية. هذا الشعار يلخص الكثير مما قاله المتظاهرون وما فعلوه أيضا. ومعناه
الواضح انهم ما عادوا مهتمين بالمظهر الديني ولا اللغة الدينية التي يستعملها
الزعماء السياسيون.
قدم ماكس فيبر ، عالم
الاجتماع الالماني (1864- 1920) نظرية شاملة حول الشرعية السياسية ، ومصادرها
وأهميتها في الحياة العامة. ومن بين انماط الشرعية التي درسها ، نشير الى الشرعية
المرتبطة بالكاريزما الشخصية ، الشرعية المرتبطة بالدين والتقاليد ، وتلك المرتبطة
بالانجاز.
ينطوي مفهوم الشرعية في جواب
سؤال بسيط: بأي حق يأمر الزعيم وينهى ، وبأي مبرر يطيع الناس أوامره ونواهيه. ان
ايمان الجمهور بالمصدر الذي يولد هذا الحق ، هو مصدر شرعية السلطة والزعامة.
يستمد الزعيم الكاريزمي
شرعيته من ايمان الجمهور بان وعوده صحيحة دائما وقابلة للتحقيق. ربما لشجاعته او
لانتصاراته السابقة او قدرته الخطابية او غيرها. اما الشرعية المستندة للدين
والتقاليد ، فتبرز في قناعة الجمهور بان رجلا يحمل تعريفا خاصا ، مثل شيخ القبيلة
او رجل الدين ، يمثلهم تماما ، لأنه يجسد منظومة تقاليد او قيم مستقرة في الثقافة الاجتماعية ، مقدسة او شبه مقدسة. بمعنى
ان هذا الزعيم هو صورتهم في ذروة الكمال ، الذي يطمحون الى بلوغه لكنهم لا يقدرون.
اما الزعيم الذي يستمد شرعيته
من الانجاز ، فهو ببساطة مدير نجح في تحقيق مكاسب ضخمة للمجتمع ، حين فشل غيره.
هذا يفسر مثلا عودة مهاتير محمد الى حكم ماليزيا رغم تقدمه في السن.
كان العرب والمسلمون عموما
يميلون دائما الى النمط الثاني ، اي الزعماء الذين يقدمون انفسهم كرموز للايمان.
وأحتمل ان هذا يرجع لوهم راسخ في ثقافة العرب ، فحواه ان اجتماع الايمان مع قوة الدولة
، سيقيم المعادلة المستحيلة: السياسة والاخلاق ، او الدين والدنيا.
مظاهرات العراق تخبرنا ان الجمهور ما عاد مقتنعا
بهذا المفهوم. سنوات الخراب الطويلة التي مرت على البلد ، تتطلب مديرا يوفر
الكهرباء والوظائف والخدمات العامة والعيش الكريم. ولايهم بعد هذا ان كان ملتحيا
او حليقا. شعارات المتظاهرين وتحركاتهم تؤكد ان محور اهتامهم هو عمل الحاكم وليس شخصه.
سواء كان الزعيم ملتحيا او معمما او بليغ الكلام او ابن حمولة او قبيلة نافذة ،
فالمعيار الذي يطبقونه هو انجازه العملي وليس صفاته الشخصية.
تحول مفهوم الشرعية من النمط
التقليدي الى النمط العقلاني المرتبط بالانجاز ، ينبيء عن تحول آخر جوهري ، وان لم
يكن شديد الوضوح ، في الثقافة العامة ، اعني به تحرر الجمهور من المخاوف المرتبطة
بالهوية وقلق العلاقة مع الاخر المختلف في المذهب او الايديولوجيا. الصدريون ، وهم
تيار ديني ، تحالفوا مع الحزب الشيوعي ، فلم يواجهوا اعتراضا يذكر بين الجمهور.
بمعنى ان "الهوية" لم تعد مبعث توتر او مؤشرا على الاتجاه السياسي.
ماحدث في العراق ليس تحولا
شاملا حتى الان. لكنه يقدم إشارات جدية على ان النسيج الثقافي العميق في المجتمع يتعرض
لتغيير ، ليس بضغط الدعاية ولا بتأثير زعيم ، بل من خلال معاناة يعيشها الناس
يوميا ، فيعيدون تشكيل قناعاتهم وخياراتهم على ضوئها. وأرى ان هذا هو الذي سيجعل
مستقبل العراقيين خيرا مما مضى.
الشرق الاوسط -
12 ذو القعدة 1439 هـ - 25 يوليو 2018 مـ رقم العدد [14484]
http://aawsat.com/node/1341966