24/09/1998

حكومة العالم الخفية

لا زال بعض الناس في الولايات المتحدة الأمريكية ، يعتقد أن منظمة الأمم المتحدة ، ما هي إلا الصورة الظاهرة لحكومة خفية تدير العالم ، وفي أوقات سابقة ، ولا سيما في الثمانينات ، كشف النقاب عن وجود ميليشيات مسلحة ، تتكون أساسا من المحاربين السابقين في فيتنام ، يصل بعضها من حيث الحجم إلى ما يقارب حجم الجيوش الصغيرة ، عقيدتها الرئيسية هي الدفاع عن الولايات المتحدة في مواجهة غزو خارجي محتمل ، تخطط له وتديره هيئة الأمم المتحدة .

 ويقال أن الارهابيين الذين فجروا مبنى الحكومة الفيدرالية المركزي في مدينة أوكلاهما ، في أبريل 1995 ، وقتلوا 168 من المدنيين فيه ، كانوا أعضاء في ميليشيا من هذا النوع ،  وحين اعتقل بعض أعضاء تلك الميليشيا ، برروا عملهم بأن حكومة واشنطن ليست إلا (مسرح عرائس) تتحكم في حركة شخوصه ، خيوط ، نهاياتها في نيويورك ، حيث المقر الرئيسي للأمم المتحدة ، وسأل المحققون سجناءهم : هل تعتقدون أن الحكومة التي انتخب الشعب الأمريكي رئيسها وأعضاء الكونغرس ، هم مجرد أدوات بيد الأجانب ، أجاب أولئك بأنهم لا يشكون مطلقا ، بأن حكومة واشنطن عميلة لقوى أجنبية غير ظاهرة على المسرح .

 وبدا الأمر مثل صورة كاريكاتورية ، لكنه حدث فعلا ، وهو يحدث الآن أيضا ، ولولا انشغال الأمريكيين بفضائح رئيسهم الجنسية ، فلربما اتسع المجال في التقارير الاخبارية ، التي تبثها شبكات التلفزيون ، لتنقل إلينا  مشاهد عن تظاهرة صغيرة أمام القاعة الكبرى التي يجتمع فيها ممثلو دول العالم ، يطالب المشاركون فيها برحيل المنظمة الدولية وأعضاءها عن الأراضي الأمريكية .

وتذكرت للتو صورة مماثلة في كاريكاتوريتها ، حين سأل صحافي إيطالي ضابطا في ميليشيا صومالية ، قبل عقد ونصف من الزمن ، عن الدولة التي يسعى ورجاله لاحتذاء نموذجها ، حين يطيحون بالرئيس ـ يومئذ ـ الجنرال محمد سياد بري ، فقال ضابط الميليشيا ، انهم سيحتذون بنموذج ألبانيا ، وهي دولة صغيرة فقيرة في البلقان ، كان حليفها الوحيد في العالم هو الصين الشعبية ، قبل أن تتخلى عنها تماما في 1982 ، كانت ألبانيا ـ يومئذ ـ محكومة بحزب شيوعي شديد الانغلاق ، يقوده أنور خوجة ، الذي كان معاديا لواشنطن وموسكو وبكين وأوربا في آن واحد ، وسأل الصحافي صاحبنا الميليشياوي عن السر في إعراض جماعته عن الاتحاد السوفيتي الذي كان دولة عظمى ، فأجاب بأن حكومته عميلة ، فماذا عن الولايات المتحدة الأمريكية ، أجاب الرجل ان حكومتها عميلة أيضا ، فسأل الصحافي مستغربا .. موسكو وواشنطن ، كلاهما عميلة .. عميلة لمن في رأيك ؟ فأجاب الميليشياوي الهمام بأنهما عميلتان للجنرال سياد بري! . وهكذا اكتشف الصحافي معلومة لم تخطر على بال أحد مطلقا ، خارج الصومال على الأقل .

فكرة عمالة واشنطن للأمم المتحدة ، لا تقل ـ من حيث المستوى ـ عن فكرة عمالتها هي وموسكو معا للجنرال الراحل. لكن الحقيقة التي قد لا يعرفها كثير من الناس ، ان فكرة تأسيس منظمة الأمم المتحدة ، نبعت في الأساس من رغبة ثلاث من الدول الكبرى في اقتسام السيطرة على العالم ، أو على الأقل التحكم في مجاري العلاقات الدولية ، بحيث لا تخرج عن إطار يضع الكبار الثلاثة خطوطه .

أدى قيام الحرب العالمية الثانية إلى انتشار الاعتقاد بعجز عصبة الأمم ، عن الوفاء بالأغراض التي أقيمت لأجلها ، وفي طليعتها الحيلولة دون قيام حرب كونية ثانية ، وكان الحلفاء الذين انتصروا في الحرب الأولى ، قد اتفقوا عقب انتهاء الحرب ، على إقامة العصبة باعتبارها ممثلا لـ (المجتمع العالمي) لكن الحرب الثانية اندلعت بعد أقل من عشرين عاما ، فتهاوت في ضجيج مدافعها عصبة الأمم ، وانحلت دون أن يقرأ لها أحد قصيدة نعي .

في حمأة الحرب الكونية الثانية ، شعر البريطانيون بالأخطار التي ستنجم عن التعاون العسكري الوثيق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ، وكان الزعيم البريطاني الراحل ونستون تشرشل يؤمن إيمانا عميقا ، بأن جوزيف ستالين وحزبه الشيوعي ، لن يرضى بأقل من السيطرة على أوروبا ومستعمراتها ، وطرق  تجارتها في النصف الشرقي من الكرة الأرضية ، إذا أتيح له الخروج منتصرا في الحرب ضد ألمانيا وحلفاءها .

أما ستالين نفسه فكان يقلقه التوجه السياسي الأمريكي المتصاعد للانفتاح على العالم ، ومحاولاتها الحثيثة لوضع سياسة لما كان يسمى سابقا (وراء البحار) وأدرك ستالين ان الولايات المتحدة ، تملك القوة والامكانية المادية لوراثة النفوذ الأوروبي في العالم ، وما تحتاجه فقط هو التحرر من سياسة العزلة التقليدية ، التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة في واشنطن ، وقد وفرت مشاركتها الواسعة في الحرب ، الفرصة لاخراجها من عزلتها .

أما تشرشل فقد وجد في الولايات المتحدة أهون الشرين ، فهي وان كانت تمثل تهديدا جديا لمصالح بريطانيا في العالم ، إلا ان التهديد السوفيتي بدا اكثر احتمالا وجدية ، وكان مهتما بايجاد توازن بين العملاقين ، يضمن لبريطانيا خاصة ، ولأوربا عموما ، مكانا في عالم ما بعد الحرب .

من هذه المخاوف والمطامع ، ولدت الأمم المتحدة ، ففي أغسطس 1941 وقع زعماء  البلدان الثلاثة ، روزفلت ، ستالين وتشرشل (ميثاق الأطلسي) الذي  يدعو لقيام نظام علاقات دولية يحول دون تجدد الحرب ، ووضع آلية لصون السلام في العالم ، تتمثل في اجتماع منتظم لممثلين عن كل الحكومات المستقلة ، وفي يناير من العام التالي اتفقت 42 دولة من الحلفاء على الخطوط العامة لهيئة دولية جديدة تنفذ تلك النوايا ، ثم عقد مؤتمر تمهيدي للكبار الثلاثة في موسكو في اكتوبر 1943 ، وآخر في طهران بعد شهر من قمة موسكو ، لكن الخطوة الحقيقية التي أدت إلى إقامة الأمم المتحدة ، كانت مؤتمر يالطا في فبراير 1945 ، الذي جاء بعد أن اتضحت صورة الموقف العالمي مع انتصار الحلفاء في الحرب ، وأصبح ممكنا الحديث عن (تقاسم حصص) بين المنتصرين ، وتم بالفعل الاتفاق على تقاسم النفوذ في العالم ، مما فتح الباب أمام الاتفاق على تشكيل الهيئة التي ستردع احتمالات تجدد الحرب ، لا سيما الحرب بين الدولتين الأعظم ، الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة .

في منتصف هذا العام (1945) اجتمع ممثلون لخمسين دولة في سان فرانسيسكو ، غرب الولايات المتحدة ، للاعلان الرسمي عن قيام هيئة الأمم المتحدة ، ووضع ميثاقها الذي جاء في 111 مادة ، صودق عليها في أغسطس ، واعتبرت الهيئة قائمة رسميا ابتداء من سبتمبر ، ولهذا فان هذا الشهر يعتبر بداية الدورة السنوية للجمعية العامة ، حيث تتاح الفرصة لرؤساء الدول أو من يمثلهم لمخاطبة العالم ، من على منبر  الجمعية العامة ، ويحرص معظم الرؤساء على مخاطبة هذا الحشد الكبير من ممثلي العالم ، مرة واحدة على الأقل خلال ولاية كل منهم .

مع مرور الذكرى الخمسين لقيام الامم المتحدة في 1995 حاولت أقطار عديدة ادخال تعديلات على ميثاق الأمم المتحدة ، باتجاه توسيع دور البلدان النامية ، ولا سيما زيادة الاعضاء الدائمين في مجلس الأمن ، باضافة ممثل عن كل من أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا ، إضافة إلى دولة صناعية ، واقترح بالتحديد اسم جنوب أفريقيا ممثلا عن القارة السوداء والبرازيل أو الارجنتين عن أمريكا اللاتينية ، وماليزيا عن آسيا ، إضافة إلى اليابان أو ألمانيا ، لكن الدول الدائمة العضوية ، وهي الخمس الكبرى في العالم ، لم ترغب في اشراك الآخرين في هذا المكان ، الذي يعتبر مطبخا حقيقيا للكثير مما يصنف تحت عنوان (الشرعية الدولية) و (المجتمع العالمي).

وقد شكا معظم أقطار العالم الثالث من تحكم الدول الكبرى ، ولا سيما الولايات المتحدة في قرارات الأمم المتحدة ومبادراتها ، ونادى بعضهم بالانسحاب من هذه المنظمة ، لكن أحدا لم ينسحب ، فمع كل سلبياتها ومع كل عناصر ضعفها ، لا تزال هذه المنظمة عنصرا مفيدا في نظام العلاقات الدولية ، ولا شك ان وجودها أنفع كثيرا من عدمها ، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار ان نشاطات الأمم المتحدة لا تقتصر على الجانب السياسي ، فهي تعمل أيضا عبر منظماتها المتخصصة ، لرفع مستوى الحياة في العالم ، بوضع معايير ، وتقديم الخبرات والمعرفة الفنية ، وأحيانا المساعدات المالية والقروض ، في سبيل الارتقاء بمستوى الحياة في دول العالم الفقيرة ، والتي على طريق النمو .

انها ليست الحكومة الخفية للعالم ، وهي ليست هرقل القادر على حسم الأمور لاقرار الحق والعدل ، لكنها في كل الأحوال ، مجمع يمكن المظلوم من ان يتأوه فيسمعه الناس ، ويمكن المحتاج من طلب العون ، كما يمكن الأقوياء من تبرير سياساتهم ، مهما بدت قاسية أو خالية من المنطق.

عكاظ 24 سبتمبر 1998

10/09/1998

المدرسة ومكارم الاخلاق



نتحدث عادة عن دور (تربوي) للمدرسة ، إضافة إلى دورها التعليمي المعروف ، وكان قد لفت انتباهي ملاحظة لأحد المدرسين ، قال فيها ان التربية مهمة الوالدين ، أما المدرسة فمهمتها التعليم ، حيث لا يتسع الوقت لأداء المهمتين في آن واحد .

المبررات التي عرضها الاستاذ تبدو منطقية لا يصعب تفهمها وقبولها ، رغم صعوبة القبول بالمحصلة النهائية ، فهو يقول مثلا ان معظم الاساتذة يجدون المنهج الدراسي طويلا ، بالقياس إلى عدد الحصص والوقت المخصص له خلال العام ، كما ان عدد الطلبة في معظم الصفوف يتجاوز الحد المناسب ، مما يضطر المعلم إلى انفاق كامل الوقت المخصص في شرح المنهج ، سيما وانه سيكون مدار تقييم الطالب في الامتحانات الشهرية أو النهائية .
وعلى رغم منطقية التبرير ، فلا زلت مترددا في قبول محصلته ، وهو اذا صح في بعض المدارس ، فلا ينبغي ان يكون صورة عن الوضع الاعتيادي في جميعها .

ثمة مهمات تربوية لا يمكن للبيت ان يؤديها ، بل لا ينبغي التعويل عليه فيها ، الا اذا كنا واثقين من تفهم الوالدين لها ، وهو أمر لا يمكن ضمانه في اغلب الاحوال .

من ذلك مثلا اخلاقيات التعامل مع الغير ، فقد ورثنا قيما وسلوكيات تحتاج الان إلى شطب أو تحتاج إلى تهذيب ، ولا نتوقع ان يكون الآباء الذين اعتادوا على هذه القيم ، وربما آمنوا بها ، قادرين على نقضها وتعليم خلافها لابنائهم ، قيم من النوع الذي يلخصه القول المشهور (كن ذئبا والا اكلتك الذئاب) وقيم من النوع الذي يلخصه القول الآخر ( ما حك جلدك غير ظفرك) و (الذي يأخذ أمي اقول له عمي ) فهذه الامثال التي تشير الى قاعدة ثقافية لخط كامل من السلوك الاجتماعي ، انما تؤسس في الحقيقة لشخصية الانسان المتفرد ، الذي لا يؤمن بفضيلة التعاون مع الغير ولا الاندماج في الجماعة ، الا اذا ضمن عودة الفائدة عليه شخصيا ، حيث تكون مصلحته الذاتية معيار التفاضل ، دون مصلحة الجماعة التي هو عضو فيها أو جزء منها ، تلك القيم ، وان امكن رؤية وجه ايجابي لها ، الا انها تنتهي في المحصلة ، إلى تبرير الافراط في عبادة الذات ، ورؤية الاخرين باعتبارهم موضوعا للاستثمار ، لا شركاء في الكفاح من أجل ارتقاء الحياة وعمران الارض .

خلال السنوات القليلة الماضية تحدثت الصحف كثيرا عن مسألة التطرف ، وأشار بعضها إلى دور للمدرسة في بلورة أو تثبيط الاتجاه المتطرف ، ونحن نعلم ـ من قراءة تاريخنا الاجتماعي ـ ان المجتمع مؤهل لاعادة انتاج السلوكيات والافكار المتطرفة ، وان كثيرا من الآباء قد تبلورت شخصيتهم وثقافتهم  في وسط يؤمن بهذا النوع من التفكير ويمجد أصحابه ، قبل ان تظهر الثمار المرة للتطرف في السنوات الأخيرة .

 وفي حالة كهذه فاننا لا نستطيع الاعتماد على التربية المنزلية في انتاج شخصية الجيل الجديد ، الذي نتمنى ان نراه متواضعا ، متوازنا ، متعاونا ، قادرا على استقبال آراء الاخرين والتعامل معها بعقل مفتوح ، قادرا على التعامل مع الآخرين باعتبارهم أحد اثنين ـ كما يقول الامام علي بن ابي طالب ـ (اما اخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) . تحتاج بلادنا في مرحلتها الحاضرة وفي مستقبلها ، اشخاصا قادرين على الملاينة والتكيف ، قادرين على نسيان مسبقاتهم الذهنية والنفسية حين يعملون وحين يتعاملون .

ومن ذلك أيضا السلوكيات الفردية ، التي وان لم تتضمن إضرارا مباشرا بالغير ، الا انها تعبر عن شخصية عابثة ، لا أبالية ، لو نظرت مثلا إلى المعارك العظيمة التي يخوضها الناس في الشوارع من أجل اللحاق بالاشارة الخضراء ، أو تجاوز سيارة بطيئة ، المعارك التي تكلفنا في كل عام من الضحايا والاصابات وتلف الممتلكات ، ما يشبه نتائج الحروب ، فالواضح ان طالب المدرسة يتعلم هذه الاشياء من ابيه أو من اقرانه أو من الاخرين الذين يراهم في الشوارع ، ولعله يجد الامر ممتعا قبل ان يصبح ضحية . الذين يمارسون هذا النوع من السلوك ليسوا جميعا من الصبيان ، معظمهم من الكبار الذين لهم ابناء في المدارس .

انظر إلى مثال آخر على مستوى التهذيب الشخصي ، الاب الذي يفتح نافذة السيارة ليلقي بعلبة المرطبات ، أو بقايا المأكولات ، أو المناديل الورقية في الشارع  ، انما يعلم اولاده الجالسين معه في السيارة ، كيف يفعلون حين يصبحون كبارا ، انه لا يؤذي شخصا بعينه في هذه الحالة ، بل يؤذي مجموع الناس الذين يرغبون في رؤية بلادهم نظيفة ، وهو يزيد في أعباء المساكين ، الذين قضت عليهم اقدارهم بان يعملوا جامعين لقمامة الشوارع ، في صيف بلادنا الحارق ، الولد لا يتعلم هنا كيف يرمي الاوساخ ، بل يتعلم كيف يكون عابثا ، قليل الاهتمام بما لا يخصه مباشرة .

لننتقل إلى جانب آخر يتعلق بصورة المستقبل في عيون الطالب ، ففي السنوات الماضية اعتاد الناس على اعتبار الوظيفة الحكومية الضمان الوحيد للمستقبل ، وكانوا يعتبرون هذه الوظيفة شيئا مؤكدا اذا أنهوا دراستهم ، بغض النظر عن طبيعة الاختصاص ومستوى الاداء الدراسي ، ربما لهذا السبب لم يكن كثير من الطلبة يجهدون انفسهم في الدراسة ، ولا في اختيار التخصص المناسب ، همهم ان يتخرجوا بأسهل الطرق ، لكي يضمنوا كرسيا في دائرة وراتبا في آخر الشهر ، عن دوام لا يتجاوز الثلاثين ساعة في الاسبوع ، اذا بالغوا في الاخلاص .

لقد انقضى ذلك الزمان ، واصبح الحصول على وظيفة من هذا النوع مثل جوائز المسابقات ، لا ينالها غير المحظوظين ، اصبحنا اليوم نسمع عن مئات من الناس ، من خريجي المدارس والجامعات ، يبحثون عن وظيفة فلا يجدون ، ليس لانعدام الفرص كما أظن ، بل لقلة الكفاءة أو لصعوبة الشروط ، وهذه هي الحال الطبيعية التي كنا سنصل اليها على  أي حال ، رغم ان العادة قد جرت على اعتبار ظروف السنوات الماضية هي الحالة الطبيعية ، مع انها في حقيقة الامر حالة استثنائية محدودة بموضوعها وزمنها ، طالب اليوم بحاجة إلى تفكير جديد في مستقبله ، وبحاجة إلى مؤهلات جديدة لمواجهة تحديات هذا المستقبل . الاب الذي اعتاد على ما مضى ، لا يزال يظن بان الحصول على وظيفة حكومية ، ممكن دائما ، وان ما ينقصه هو (الواسطة) وهل يمكن ايجاد واسطة لعشرات الالاف الذين ينهون دراستهم كل عام ؟ .

ترى هل يمكن الاعتماد على الوالدين في توجيه ابنهم إلى الوجهة الاخرى ، وكيف لهما ان يعرفا طبيعة هذه الوجهة وحاجاتها ، هذه الوجهة الجديدة وليدة ظرف جديد ، لم يسبق لهما التعرف عليه ، ولا معرفة حاجاته ولا مواجهة تحدياته ، فمن أي كيس سيستخرج الاب ما يعطيه للولد ، وهل سمعتم باناء ينضح ما ليس فيه ؟ .

لكل ما سبق اعود إلى القول بأن (التربية) هي مهمة المدرسة ، فهي التي يفترض فيها العلم بالوجهة التي ينبغي ان يقاد الطالب اليها ، وهي التي ينبغي ان تعرف صورة الشخصية القويمة ، التي سيجتهد الطالب في اكتسابها ، وهي الجديرة بتوجيه الجيل الجديد إلى مكارم الاخلاق والفضائل .

قد تعيق ظروف خاصة هذه المدرسة أو تلك عن القيام بدورها التربوي ، فتنصرف إلى حشو أدمغة طلابها بالمعلومات بدل تربية نفوسهم ، لكن لا ينبغي ان تتحول هذه الحالة إلى قاعدة عامة مقبولة ، والا فاننا نغامر بأثمن ما لدينا ، اعني رأس مالنا البشري والانساني ، الذي لا قيمة لأي شيء إذا فقدناه أو فقدنا ما هو ضروري فيه .

03/09/1998

العودة الى المدرسة



 )سيكون اليوم الاول من العام الدراسي الجديد مخصصا للترحيب بالاساتذة الذين انضموا حديثا الى المدرسة ، وللتعارف بين الطلبة واساتـذتهم ، اضافة الى تعريف الطلبة الجدد بالمدرسة …(

تخيلت هذه الفقرة جزء من تعميم اصدره وزير المعارف الى مدراء المدارس في انحاء البلاد ، ليقيم بذلك سنة حسنة قوامها تحسين العـلاقة بين الطالب والمدرسة ، وبينه وبين اساتذته .
يقول لي جاري ، وهو مشرف تربوي واستاذ متمرس ، ان معظم الكتب التي عالجت قضايا التربية المدرسية ، تلح على ضرورة كسر الجاجز النفسي الذي يفصل الاستاذ عن تلاميذه ، وهو حاجز قائم بحكم فارق السن وفارق المكانة ، اضافة الى طبيعة العلاقة التي تقوم بين الطالب والمعلم منذ اليوم الاول ، وهي علاقة مضمونها الرئيسي الامر والنهي .

والمؤكد ان جميع الاساتذة ـ القدامى منهم والجدد ـ قد عرفوا هذه الحقيقة ،  خلال دراستهم أو من قراءاتهم الخارجية ، أو اكتشفوا الحاجة اليها من خلال التجربة العملية ، لكن الانسان قد ينسى أو يتناسى ، أو تشغله الأمور العاجلة الكثيرة عما يبدو قابلا للتأجيل .

في ماضي الزمان كان المعلم يدخل الى صفه ملوحا بعصا رفيعة ، يهذبها بعضهم ويتركها آخرون كما كانت في طبيعتها المتوحشة ، ويراها الطلبة فيفهمون الرسالة ، واي رسالة اسرع بلوغا من عصا في يد قادر على استعمالها ؟ لكن الامور تغيرت اليوم ، واصبح حمل العصا موجبا للعيب والاتصاف بالرجعية والتخلف ، ذلك ان أهل التربية في بلادنا قد اقتنعوا بان التربية بالعصا ، لا تخرج غير حامل عصا آخر ، فمنعوها ، واستراح ابناؤنا من منظرها المثير للرهبة ، بعد ان اكلت علقتها أنا ومن في سني مرارا وتكرارا .

رغم قلة معلوماتي فاني اجرؤ على الظن ، بأن كل طالب في  أي بلد من بلاد العالم ، يشعر بقدر من الرهبة ـ قليل أو كثير ـ سيما في الايام الاولى من العام الدراسي ، سواء كان المعلم يحمل عصا أو يحمل وردة ، وترتفع حدة الشعور بالرهبة ، لدى طلاب الابتدائية ، الذين اعتادوا على عطف الابوين ، ومحدودية العلاقات خارج البيت ، أما في مجتمعنا فاني اتوقع ان تكون الرهبة مضاعفة ، بالنظر لما يجتمع في المدرسة من صفات الاب والسلطة معا ، والشعور الغريزي لدى الطالب بانه ازاء سلطتين متداخلتين ، أو سلطة مكثفة .

شعور الرهبة لدى الطالب ، مريح لبعض الاساتذة ، فهو يوفر عليهم بعض العناء حين يحتاجون الى استجابة سريعة من جانب تلاميذهم ، ولعل هذا هو السر وراء التجهم ، والجدية المبالغ فيها ، التي يتكلفها بعض الاساتذة حين يقفون أمام طلابهم ، واذكر ان احد أساتذتي كان يدخل الى الصف كما يدخل العساكر ، يطرق الارض بحذائه الغليظ ، ويلوح يديه الى الامام والى الوراء ، بينما يهتز كرشه الممتليء كالحقيبة ، ثم يتجه الى السبورة فيواجهنا بظهره ، وبعد ان يكتب تاريخ اليوم وعنوان الدرس ، يستدير بخشونة ليشير على طالب ما ، سائلا اياه عن دفتر الواجبات ، أذكر انني وزملائي شعرنا بكثير من الخوف في البداية.

 لكننا اكتشفنا لاحقا ان الاستاذ كان في غاية اللطف مع زملائه ، وكان يجيد حبك النكتة التي لا تخطر على بال الكثيرين ، فأصبح الطلاب يتضاحكون سرا حين يدخل اليهم ، ويتبادلون النكات حول طريقته حين يخرج من عندهم ، وفي وقت لاحق ، تجرأ احدنا وسأله عن السبب في تجهمه أمامنا ، بينما يغرق في الضحك مع الاساتذة خارج الصف ، وأثار هذا السؤال ضحك الصف كله ، ورأينا الاستاذ يضحك أمامنا للمرة الاولى خلال ذلك العام ، وفيما بعد اصبح هذا الاستاذ صديقا لكل واحد من الطلاب ، الذين استشاره بعضهم في مشاكل دراسية أو أسرية ، وزرناه مرة أو مرتين في داره ، وكان قد تخلى بالطبع عن الطريقة العسكرية التي اعتاد عليها ، واصبح حضوره ودرسه من الاوقات المحببة عند طلابه .

وقبل ثلاث سنين وجدت احد ابنائي متخبطا في درس التربية الدينية ، كان حاصلا على درجة الامتياز في جميع المواد ، راسبا في التربية الدينية ، واجتهدت كثيرا في الحديث معه ، لكنه كان يلقي اللوم على معلمه ، بل كان يعتبر نفسه ناجحا لولا هذا المعلم ، فتحدثت مع المعلم ، وكان شابا حديث التخرج ، فوجدته يلقي اللوم كله على الولد ، واصفا اياه بالسفيه والمغرور ، ودلل على سفه الولد وغروره بالطريقة التي يحلق بها شعر رأسه ، وارتدائه البنطلون ، خلافا لما تقتضيه الاداب الاجتماعية ، وقد عجزت في الحقيقة عن حل المشكلة ، لكني وجدت ـ حين حضرت مجلس الاباء ـ ان معظم اولياء الامور كانوا يتحدثون عن مشكلة مماثلة ، وفي منتصف العام ، وجدت جميع طلاب الاستاذ المشار اليه راسبين ، عدا ثلاثة أو اربعة .

في نهاية المطاف جرى استبدال الاستاذ ، وتمكن الطلبة من عبور امتحانات ذلك العام بسلام ، وجدت بعد التأمل ان جوهر المشكلة كان صعوبة ـ بل استحالة ـ التفاهم بين الطرفين ، المعلم والطالب ، ولعل المعلم كان على حق ، لكن النتيجة لم تكن مشرفة على الاطلاق ، فرسوب ثلاثين طالب في صف واحد ، ليس مما يمنح المعلم فرصة للافتخار ، وظننت اذ ذاك انه كان ينبغي على المعلم الاجتهاد في ازالة الحواجز بينه وبين تلاميذه ، وان يشعرهم بحرصه على مصلحتهم ، بدل ان يضع نفسه في موضع الاتهام من جانبهم ، الاتهام بالقسوة والاتهام بالتفريط في المصلحة .

المعلم الناجح هو الذي يساعد طلابه جميعا على النجاح ، وهو الذي يزرع في انفسهم الشوق الى المدرسة ، لا الخوف منها ، الرغبة في التعلم ، لا التثاقل عنه .

من المهم ان يكون المعلم صديقا لطلابه ، من المهم ان يجتهد في اكتساب محبتهم وثقتهم ، وان يكون قريبا الى نفوسهم ، حتى يجتهدوا في اداء واجباتهم راغبين لا مرغمين .

الصداقة تبدأ بالتعارف البسيط ، والثقة تبدأ بابتسامة ولو مصطنعة ، والشعور بالرهبة يزول بعد قليل من الكلام المنطوي على مجاملة .

اتمنى ان يدعى كل معلم ، لتخصيص اليوم الاول من العام الدراسي ، لتعريف نفسه الى طلابه ، اسمه وموطنه وسنين دراسته ، وكيف قضى عطلة العام المنصرم ، ثم سؤال طلابه عن اسمائهم وأعمارهم ، وموقع كل منهم في عائلته ، والهوايات التي يمارسها ، وفريق الكرة الذي يلعب معه ، ثم يحدثهم عن اهمية المادة التي سيدرسها لهم ، والعلماء البارزين في مجالها العلمي ، وهذه كلها اشياء بسيطة ، لكنها عميقة الاثر في نفوس الطلاب ، وهي تهيء لعلاقة ناعمة سلسلة بين المعلم والطالب ، تستمر حتى نهاية العام .

قال لي صاحبي ان هذه الامور بديهية ، يعرفها كل معلم ، ويمارسها كثير من المعلمين ، لكني اعرف ان معلمين آخرين لا يحبون اضاعة الوقت في احاديث مثل هذه ، وهم من الجدية بحيث يريدون البدء بالدرس قبل انتهاء الدقيقة الاولى من الوقت المخصص ، وعلى  أي حال فاني اتمنى ان لا يكون السادة الاساتذة في حاجة الى هذا الحديث الطويل ، وكنت مهتما بالتذكير ، ولو على طريقة حامل العلم الى من هو اعلم منه .
عكاظ 3 سبتمبر 1998

27/08/1998

الفكرة وصاحب الفكرة

 

ليس من واجبات الكاتب ان يقول للناس ما يحبون ، والا كان حديثه اعلانا عن نفسه ، لا دعوة الى الفكرة ، والاصل ان المهمة الكبرى للكتاب والمثقفين ، هي دعوة الناس الى تبني الافكار أو المواقف التي يظنونها صحيحة ، ولهذا قال اهل العلم في سالف الزمان ، ان العلم حجة على صاحبه ، كما ان الدعوة اليه وظيفة ، يقوم بها شكرا لله الذي انعم عليه بهذا القدر من المعرفة .

بناء على هذا ، فقد يظن الكاتب نفسه قادرا على قول ما يشاء حين يشاء ، لكن الفرق عظيم بين الحقيقة والواقع ، فما هو صحيح قد لا يكون ممكنا ، وما هو ممكن قد لا يكون صحيحا ، وقد يجد الكاتب نفسه مخيرا بين السكوت ، أو التحول الى رجل علاقات عامة ، يقول للناس ما يرغبون في سماعه ، بدل اخبارهم بما ينبغي لهم معرفته ، البديل الصحيح هو التسلح بالقدر الممكن من الشجاعة لقول ما يراه صحيحا ، ان كان الامر يستحق العناء ، أو كان العناء قابلا للتحمل.


لو سألت الناس عن الكاتب الذي يفضلونه ، فسيخبرك معظمهم ـ إذا لم نقل جميعهم ، بانهم يريدون كاتبا يتحدث بصراحة وتجرد ، ولعلهم يغتنمون الفرصة لذم كتاب العلاقات العامة ، الذين يفصلون المادة على مقاس الشخص الذي يتوجه اليه الخطاب ، لكن إذا تعلق الامر باشخاصهم ، فان هؤلاء الناس انفسهم ، لا يرغبون في كاتب يقول لهم ما لا يعجبهم ، أي ما لا يتفق مع رأيهم الحاضر أو مصلحتهم الراهنة أو ميولهم  .

ويبدو لي ان هذا هو الامر الطبيعي ، فكل انسان يريد من الآخرين ان يكونوا موضوعيين ومنصفين ، شرط ان لا تؤدي تلك الموضوعية وهذا الانصاف ، الى الاضرار به أو ايذاء مشاعره ، وعلى أي حال فلكل انسان الحق في ان يحمي مصالحه وما يراه من حقوقه ، وله الحق في ان يدافع عن آرائه ، بعض النظر عن مواقف الاخرين ومصالحهم ، فاولئك ايضا لن يقفوا مكتوفي اليدين إذا اقتربت النار من خبزهم .

اقول ان هذه ممارسات مقبولة ، ينبغي تفهم ما يترتب عليها ، ولو كان غير مريح ، لكن من ناحية ثانية فان الافراط في التمسك بالاراء والمواقف ، ولا سيما الضجر من آراء الاخرين المخالفة ، يجعل الانسان معزولا عن محيطه الثقافي ، ويحرمه من ثمرات التفاعل مع اراء الغير وحاصل عقولهم ، وخير للانسان ان يتحمل اذية الخلاف البسيطة من ان يبقى اسيرا للجهل .

ويكره الناس ان يوصفوا بالجمود والانغلاق والعاطفية ، ويحبون ان يوصفوا بالمرونة والانفتاح والعقلانية ، لكن الى أي حد يا ترى يستطيعون تلبية المتطلبات النفسية والسلوكية ، التي تؤهلهم للاتصاف بتلك الاوصاف المرغوبة ؟ .

الجمود يعني التمسك بالاراء والافكار المعتادة ، ومقاومة أي محاولة لتغييرها او تعديلها ، والانغلاق هو اقامة جدار بين الذات والاخرين ، يمنع وصول اراءهم وتاثيرهم ، هذا الجدار عبارة عن تصنيفات مسبقة لكل شخص ، تجعل افكاره موصومة ومعيبة ، قبل ان يكلف المتلقي نفسه عناء البحث فيها او تحليلها ، اما العاطفية فهي بناء الاراء والمواقف على اساس قرب الموضوع من الذات وبعده عنها ، لا على اساس مقومات الموضوع ، والقواعد العقلانية والمفاهيمية ، التي يسميها اهل العلم (بناء العقلاء) والتي يشترك في الايمان بها كل ذوي العقول .

وعلى العكس من هذا فان الانفتاح والمرونة والعقلانية ، هي الاستماع الى الاراء المختلفة ، بغض النظر عن الموقف النهائي منها ، ثم الاخذ بعين الاعتبار احتمال ان تكون صحيحة حتى لو خالفت ما هو مقبول سلفا لدى الشخص المعني ، فالانسان المنفتح يقبل بالاستماع الى الاراء المختلفة بغض النظر عن الموقف النهائي منها ، ويعلم ايضا ان الزمن فعال سلبا وايجابا في المعلومات والافكار ، معلوماته ومعلومات الاخرين ، افكاره وافكار الاخرين .

لكي تنطبق صفة الموضوعية والانفتاح والمرونة على شخص ، فانه مطالب باحتمال مخالفة الغير لارائه ، ومطالب باحتمال التخلي عن بعض هذه الاراء ، أي التخلص من الاعجاب بالذات ، الذي يضفي على المتبنيات الذاتية نوعا من العصمة والمصونية من التغيير والتعديل ، فالعاقل لا يرفض فكرة دون تمحيصها ، ولا يرفض فكرة لأنه يبغض صاحبها ، ولا يشكك في فكرة لانها دارت حول موضوع ثقيل على نفسه ، او ارتبطت شواهدها بمواقف تباين ما يميل اليه ، وقد ورد في الاثر عن نبي الله عيسى عليه السلام ان الحكمة كالجوهرة تؤخذ ولو كانت في فم الكلب .

كما تحترم افكارك فان الاخرين يحترمون افكارهم ، ومثلما تتوقع من الغير ان يقبل بارائك فان اولئك يتوقعون منك موقفا مماثلا ، ولو ان كل الناس اختاروا التمسك بآرائهم ، وطرح ما يقوله الاخرون ، لما قام للعلم بنيان ، ولما تطورت معارف البشرية ، ينبغي للعاقل ان يعامل الناس بمثل ما يحب من المعاملة ، فاذا ارادهم ان يقبلوا بما عنده ، فلا بد له ان يقبل بعض ما عندهم ، والا كان من المطففين الذين توعدهم القرآن بالويل ، لانهم (اذا اكتالوا على الناس يستوفون واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) .

الموضوعية والعقلانية هي ان تقول الحق ولو كان مرا ، وتقوله ولو كان خلاف ما ترغب ، وتقوله ولو انتهى الى قناة من لا تحب ، فالحق مجرد في ذاته ، لا يتكيف بحسب الميول والرغبات ، والموضوعية تقتضي النظر في أبعاد الموضوع ذاته ، دون قياس للمسافة التي تفصله عن المتبنيات الشخصية .

يستطيع الكاتب ان يقول للناس ما يحبون ، لكنه لن يكون صادقا معهم ولا امينا ، ويستطيع ان يتحول الى كاتب عرائض يكيل الأوصاف بحسب المناسبة ، لكنه لن يكون صادقا مع نفسه .

 الى جانب هذا فهو يستطيع احيانا قول ما يؤمن به ، والتعبير عما يعجز الاخرون عن التعبير عنه ، بعض الحقيقة ليست زيفا ، فهي القدر المستطاع ، فان قدر على الحقيقة كلها ، وجب عليه اظهارها ، وان عجز عنها كلها ، فخير له ان يعتصم بالصمت كي يريح ويستريح ، فليس اسوأ من قتل الحقيقة غير تزييفها .

نحن بحاجة الى توسيع مساحة التعبير ، بحاجة الى فضاء يخلو من العقبات التي تجعل الكاتب عاجزا ، نحن بحاجة الى ان نحتمل بعضنا ، وان نسمع اراء بعضنا ولو خالفت اراءنا او اضرت بمشاعرنا ، ذلك هو السبيل الوحيد الذي اذا سلكه الناس ارتقت معارفهم واصبح للعلم شأن ومكان .

عكاظ 27 اغسطس 1998  


مقالات  ذات علاقة
-------------------


09/07/1998

حـديـث النــــــــاس



رغم انشغال الناس بمتابعة مباريات المونديال ، فان الوضع الاقتصادي يحظى بنصيب كبير من الأحاديث التي تدور في المجالس والسوق ، لا سيما بعد القرارات التي اتخذت الشهر الماضي لخفض الانفاق في ميزانية العام الجاري ، وقد غذى الوزير النعيمي الآمال بتحسن قريب في الاوضاع ، حين بشر الناس بان اسعار البترول سوف ترتفع ، إذا التزمت الدول المنتجة باتفاقات تحديد الانتاج الأخيرة ، وان هذا التحسن سوف يبدأ بالظهور في اوائل السنة القادمة .

ونود ان نحمل تصريحات وزير البترول على محمل الجد ، فلنا حاجة في التفاؤل ، وانتظار الخير الآتي ، لكني آمل ان لا تؤدي هذه التصريحات الى اعتبار الامور طبيعية تماما ، أي ان لا يقول المخططون بأن الانخفاض الحالي في اسعار البترول ، طبيعي ويحدث في كل مكان .. الى آخر ما يقال عادة ، عندما يراد تطييب الخواطر القلقة في الازمات ، نأمل حقا ان تتحسن اسعار البترول في اوائل السنة القادمة ، لكن من جهة اخرى ، يصعب التصديق بانها سوف تتجاوز المعدلات التي سادت خلال السنوات العشر الاخيرة ، خلافا للتفاؤل الذي ساد اواخر العام الماضي ، بان الاسعار سوف تقف عند معدل 16 دولارا للبرميل .

كثير من الناس الذين يشغلهم هذا الموضوع ، وانا منهم ، يسمعون تصريحات متفائلة مثل هذه ، كما يقرأون ما ينشر ويسمعون ما يقال ، مما يخالف فحواها ، ويعلمون بان التطمينات وتطييب الخواطر لا تعالج مشكلة ولا تغير حالا الى احسن منه ، وان خففت من القلق الوقتي لدى القلقين . ما يهمنا الان هو النظر في المسألة ككل ، فالعاقل من يتعظ بتجارب غيره فضلا عن تجاربه الخاصة .

بدأت انعكاسات  الانخفاض الحالي في اسعار البترول ـ ومعها الدخل الوطني ـ تظهر تدريحيا في السوق ، فانخفض مؤشر اسعار الاسهم المحلية مع انخفاض الطلب ، كما تدور احاديث عن احتمال رفع اسعار الخدمات العامة مثل الكهرباء والوقود ، وهي اجراءات سبق ان اتخذت عندما واجهت البلاد ازمة مماثلة قبل ثلاثة اعوام ، ونجحت الى حد ما في اختصار عجز الميزانية ، لكن معالجة عجز الميزانية ليس دواء طويل الامد لاقتصاد البلاد ، الا اذا اردنا التوقف في المستوى الابتدائي للاقتصاد أي ابقاء الناس متكلين في حياتهم ومعايشهم على الانفاق الحكومي المباشر ، وهو أمر لا يريده أحد ولا يستصوبه أحد .

يقول أهل الرأي في السوق بأن ما نحتاجه اليوم ، هو حلول جذرية وسياسات واقعية واستراتيجيات طويلة الأمد ، تؤدي الى تحرير الاقتصاد الوطني من الاعتماد الكلي والكامل على مبيعات البترول الخام ، واذا كنا قد وجدنا انفسنا مضطرين في بدايات معركة النمو ، الى التعويل على عائدات البترول ، والتساهل في ربط حياة الناس بصورة كاملة بالانفاق الحكومي ، فلا ينبغي الاسترسال في هذا النهج الى النهاية ، فهو يتحول  مع مرور الزمن ، من حافز للنمو الى مثبط لامكاناته ، في الوقت الذي لا تستغني البلاد عن مصادر جديدة لمواصلة نموها الاقتصادي والاجتماعي .

من ناحية أخرى فان رفع اسعار الخدمات العامة ، ليس محبوبا ولا مبررا عند أكثرية الناس ، لا سيما من الطبقات الوسطى والفقيرة ، صحيح ان الحكومة تدعم اسعار الكهرباء مثلا ، لكن من الصحيح ايضا ان الناس ليسوا مسئولين عن السياسات التي تتسم بالتبذير من جانب شركات الكهرباء ، والتي تتحول تاليا الى فواتير يتحمل عبئها المستهلك الذي لا ناقة له ولا جمل ، والحق ان الاحتكار الشامل الذي تتمتع به الشركة السعودية الموحدة للكهرباء (سكيكو) قد مكنها من فرض اراداتها الخاصة على جمهور المستهلكين ، وهناك من يدعي ان بالامكان اختصار فواتير الكهرباء  بصورة ملموسة ، لو وجدت شركات منافسة لشركة سكيكو ، وهناك من جرب فعلا وتأكد من هذا المدعى ، الامر نفسه يقال بالنسبة للوقود ، فنحن نعلم ان تكاليف انتاج البترول في المملكة ، تعتبر الاقل على مستوى العالم ، وان الحكومة لا تدعم اسعار الوقود ، أي ان ارامكو كانت تربح سابقا ، ولا تزال تربح من مبيعات الوقود ، والاحرى ان تخفض اسعاره  الآن ، تماشيا مع انخفاضه في السوق العالمية ، لا ان ترفعه كما يتوقع المتشائمون . الغرض ان التفكير يجب ان ينصب على سياسات اكثر واقعية ، وعدم رمي عباءة المسئولية على الحائط الواطئ للمستهلك البسيط .

منذ عدة أعوام يلح الخبراء على تخصيص شركات القطاع العام وخفض النفقات الحكومية ، باعتبارهما عنصرين جوهريين لتصحيح المسار الاقتصادي ، وقد بدأت أولى بشائر القبول بهذه الاقتراحات مع قرار تخصيص خدمة الاتصالات ، والحديث عن تخصيص النقل الجوي ، لكن الواضح ان الامر بحاجة إلى ما هو أكثر ، كما يحتاج إلى إزالة الصفة الاحتكارية التي تتمتع بها هذه القطاعات ، مع تحولها من مفهوم الخدمة العامة إلى الخدمة التجارية المدفوعة الثمن ، إذ لا يعقل أن تحافظ شركة الهاتف على احتكارها لهذه الخدمة ، مع أن التزامها الاول سيكون منصبا على مصالحها كشركة تجارية ، كما انه لن يكون منطقيا تمتع الخطوط السعودية بميزة احتكار خدمة النقل الجوي بعد تخصيصها ، واجبار المستهلك على دفع قيمة أعلى لما يشتريه من الخدمات ، اذا كان بالوسع ايجاد هذه الخدمة باسعار اقل .

ما أردت قوله ان تخصيص الخدمات العامة ذات الطبيعة التجارية ، وهو الاجراء الذي اعتبره الخبراء ضروريا لخفض النفقات الحكومية وتنشيط القطاع الخاص ، بحاجة الى أن يوضع ضمن مفهوم أوسع من بيع اسهم الشركات المملوكة للحكومة ، لتوفير بضعة عشرات من الملايين ، ينبغي ان يوضع ضمن مفهوم تطوير اهتمامات القطاع الخاص من الاستثمارات الجزئية والقصيرة الامد ، الى الاعمال الاستراتيجية الطويلة الامد ، ولتحقيق هذا المفهوم ، فاننا بحاجة الى تحرير السوق من الامتيازات الاحتكارية التي تتمتع بها بعض الشركات على حساب البقية ، ولا سيما على حساب المستهلك النهائي ، كما ينبغي التأكيد على تضمين مفهوم الخدمة العامة في الاستثمار ، والتخلص من عقلية الربح المادي الاقصى ، السائدة في السوق ، والتي ترسخت في السنوات الماضية كنتاج للتدفق المفاجيء للثروة والفرص ، وقصور المفاهيم والقيم التي يجري نشرها وتعليمها ، عن استيعاب الحقائق الجديدة ، التي افرزها تطور الصراع بين المال والقيمة الاجتماعية ، بين العناصر المادية وغير المادية في النمو الاقتصادي

يقول الناس ايضا ان المحافظة على المستوى المرتفع للمعيشة ، بحاجة الى ابتكار مداخل وأدوات واطارات استثمار جديدة ، لا سيما في قطاع الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة ، ويضربون مثلا على هذا المدعى بقطاع البناء والاسكان ، الذي لا يمكن التساهل في اهميته وحيويته ، فمع تراخي صندوق التنمية العقاري او توفقه احيانا عن الاقراض السكني ، فان هذا القطاع قد انكمش الى حدود مقلقة ، وقد كان يمثل شريحة واسعة من اجمالي القطاع الخاص ، ويمكن اعادة تنشيطه بتغيير سياسات الاقراض السائدة في البنوك المحلية .

 ولنا في تجارب الدول الاخرى درس وعبرة ، في بريطانيا مثلا يتم تمويل 60 بالمائة من عمليات بناء وتملك البيوت السكنية بقروض شخصية ، ونظرا لاتساع هذا القطاع فقد تأسست ـ الى جانب البنوك العادية ـ بنوك متخصصة في هذا المجال ، يطلق عليها (جمعيات البناء) حيث يستطيع أي مواطن بغض النظر عن امكاناته المادية الفعلية ، اقتراض مبلغ لشراء مسكن خاص ، كما ان شركات البناء تنظم اتفاقات مع تلك البنوك ، لاقراض من يرغب في شراء المساكن التي تبنيها ، ان قطاع الاسكان من القطاعات المزدهرة في بريطانيا رغم ان الحكومة لا تقدم قروضا ، بل تضع سياسات وتوجيهات لتعمل هيئات التمويل الخاصة على ضوئها . ان تنشيط قطاع البناء يمكن ان يتوازى مع وضع توجيهات للاستثمار في صناعة مواد البناء ، ومعظمها من نوع الاستثمارات المتوسطة ، من اجل رفع مستوى التكامل الرأسي لهذه الصناعة ، وتمكين البلاد من انتاج كل ما يلزمها لبناء مساكن ابنائها .

في نفس المجال نحن بحاجة الى تغيير بعض مفاهيم الملكية السائدة في الانظمة ، والمفاهيم السائدة في المجتمع ايضا ، لتمكين المواطن من امتلاك شقة في عمارة او طابق في بيت ، يتشارك في ملكية ارضه مع الغير ، والسماح بتأجير الارض لفترات طويلة ، مئة سنة مثلا ، بحيث تعامل المنشآت المقامة فوقها معاملة الملك الحر طيلة فترة التاجير ، اضافة الى تشجيع اقامة الجمعيات التعاونية للسكن ، ومنحها امتيازات مالية او قانونية ، لتخفيض كلفة البناء او الاستملاك السكني ، مما سيؤدي الى تنشيط قطاع البناء والعقار والصناعات المرتبطة بالبناء .

الخلاصة ان الناس ـ معظمهم على الاقل ـ ينظرون بقلق الى انعكاسات الانخفاض الراهن في الدخل الوطني على معيشتهم ، لكنهم في المقابل ليسوا غافلين عن حقيقة ان هذا التطور السلبي لم يكن اختياريا ، كما ان اعادة الوضع الى ما كان عليه في أوائل الثمانينات او بعيدها ، ليس من الاحتمالات التي ينظر اليها غالبية الناس ، الاكثرية حسب ما أظن تعرف بعض الحقائق او كلها رغم انها لا تعلن بصورة رسمية ، ولا تناقش في الصحافة المحلية ، ما يطمح اليه الناس هو سياسات جديدة تتعامل مع الشأن الاقتصادي باعتباره قضية مستقبلية ايضا ، وليس مشكلة وقتية محدودة ، ذلك يحتاج الى سياسات جديدة والى توجيه جديد لمراكز الثقل ، وتعديل الانظمة السائدة لتكون عونا على هذا التوجيه ، فلعلنا نعود الى وضع اقتصادي طبيعي ، لا يعتمد كليا وقطعيا على عدد براميل البترول التي نبيعها وقيمة كل برميل .

عكاظ 9 يوليو 1998

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...