اشرت في مقال الاسبوع
الماضي الى ضرورة التفريق بين الدين (النص الديني) من جهة والمعارف الدينية
والعلوم التي تسمى اسلامية من جهة اخرى ، وكان الغرض هو الدعوة الى منهج لقراءة
التراث الاسلامي قراءة علمية تؤكد على اصالة النص واوليته ، لكن هذا التفريق لم
يرض بعض الزملاء الذين اشاروا الى ان هذا الفصل ينطوي على قدر من التعسف.
طريق العلم وقيمته
العلم هو النتائج الظنية او القطعية
التي يتوصل اليها البحث والتحليل في موضوع معين نظري أو عملي ، بحيث يستغني
العارفون به عن اعادة التجريب والتحليل ، في وقت معين ، وهذا التحديد اشارة الى
وثيق الارتباط بين العلم والزمن ، اذ ان تطور الزمن قد يكشف عناصر جديدة ذات صلة
بموضوعه ،لم يجر اخذها بعين الاعتبار في التجارب السابقة ، مما يمكن من اعادة
التحليل على اسس امتن ، ويوفر الفرصة للتوصل الى نتائج اكثر صمودا عند النزاع .
والتحليل هو اصطناع علاقة بين عناصر
اولية هي المعلومات ، بالاعتماد على امكانية مفترضة للتفاعل فيما بينها ، تتوفر في
اطار منهج تحليل خاص يقدمه الباحث كمسار واطار لعمله العلمي ، فالمعلومات سابقة
على العلم ، ويؤثر وجودها ـ قلة أو كثرة ـ على مستوى العلم الناتج عن التحليل ، ان
توفر المعلومات او ندرتها ، تابع لمستوى مايوفره المجتمع من بيئة مناسبة للعمل
العلمي ، ولاسيما الاعتبار الاجتماعي
للنشطين في هذا المجال ، ومدى تمتعهم بحرية البحث والتجريب ، ثم التعبير عن
النتائج .
حاجات البيئة
وبديهي ان الاعتبار الاجتماعي للعلم
والعلماء ، انما تقرر لكون الجهد العلمي واحدا من الوسائل التي يستخدمها المجتمع
في انجاز حاجاته ، فالتقدم والرفاهية والقوة لاتاتي الا بتطبيق القواعد والارشادات
العلمية ، ولم يحصل في اي ظرف ان تقدم مجتمع من المجتمعات ، دون الاتكال على قواعد
العلم وارشاداته .
ومن هذه الزاوية خصوصا ، يمكن استنتاج
ان العلم ليس ـ في اغلب الاحيان ـ محايدا ، ان ارتباطه بحاجات المجتمع الذي ينتج
فيه ، يجعله خاضعا او ـ على الاقل ـ متأثرا بايديولوجية المجتمع ، بل ربما اصبح
العلم في حالات معينة جهازا لصناعة الايديولوجيا المجتمعية ، اذ يحتاج مجتمع معين
في وقت من الاوقات ، للاخذ بسلوك جديد او التخلي عن سلوك سائد ، خلافا لمقولات
النظام القيمي الخاص به ، وهذا مايحصل ـ عادة ـ في اوقات الشدة أو ظروف التحول
الاجتماعي ، فيقوم اهل العلم بوضع قاعدة نظرية لتبرير هذه الحاجة ، ومستلزماتها العملية
، بحيث يجري احلال السلوكيات الجديدة ضمن النظام القيمي للمجتمع كامتداد له ، حتى
لو لم تكن كذلك في الاصل ، فيتاح للفرد ان يقوم بالعمل الذي لم يكن معتادا او
مصنفا كأحد الافعال الصحيحة ، دون ان يشعر بتأنيب الضمير أو يتعرض لنقد اقرانه في
المجتمع ، وقد يستعمل هذا المنهج التبريري لتسهيل انفلات المجتمع ، او القوى
الفاعلة فيه ، من النظام القيمي الضابط للسلوك والعلاقات الاجتماعية .
الشيء ونقيضه
ولايصعب العثور على الكثير من المفارقات المثيرة
للدهشة في تاريخنا ، والتي انما وجدت في ظرف كالذي ذكرناه ، كما ان الامم الاوربية
ابتدعت مقولة رسالة التنوير ، التي يحملها الجنس الابيض للعالم ، كمبرر لاستعمار
البلدان والشعوب الملونة ، التي وصفت بانها في حاجة الى من يهديها طريق التقدم
الذي اكتشفه الاوربيون دون غيرهم ، وذلك للخلاص من مشكل التناقض بين دعوة التحرر
التي شاعت في اوربا قبيل الحقبة الاستعمارية ، وبين ارادة الاستعمار الذي
تبرره عوامل اقتصادية واستراتيجية ،
فاستعمال العلم لتسويغ الاغراض الاجتماعية المؤقتة أمر متعارف ، ولولا هذه
الامكانية ربما لم يشعر الناس بحاجة ماسة الى تقدير العلم والعلماء وتقديمهم على
من سواهم .
وعلى هذا فمن البديهي القول ان العمل
العلمي وماينتج عنه ، غير محايد ولاموضوعي ، في اغلب الحالات ، بمعنى ارتباطه
بالمعلومات المفترض حيادها ، دون تاثر بالظرف الاجتماعي الذي يعايشه .
ــ اذا لم يكن العلم محايدا فهل يمكن القول ان المعلومات محايدة ؟ .
ــ ربما ولكن ليس على الدوام ،
فالعناصر التي يجري تحليلها ضمن عملية علمية ، تتضمن ملاحظات مباشرة لوقائع ،
اضافة الى نتائج لتجارب أخرى سابقة ، وهي موصوفة بما سبق ذكره ، كما ان تجميع
العناصر المشتركة في التحليل ، هو في حقيقته تقرير لموقعها ضمن هذا السياق او ذاك
، وهو يتأثر بخلفية الباحث التي لايمكن ان تكون محايدة ، بالنظر لكونه جزءا من
مجتمع له ايديولوجية خاصة أو نظام قيم خاص ، وليس شجرة معزولة في صحراء .
الـــدين
اما الـدين فهو مجموع الحقائـق التي
علمها الله سبحانه لخلقه ، على لسان نبيه ، لتمكينهم من حمل الامانة العظمى ، وهي
خلافته في الارض ، ويتضمن قواعد لنظم
علاقة الانسان بربه ، وأخرى لنظم علاقته بمن سواه من البشر ، وثالثة لنظم علاقته
بالكون المادي المحيط به ، والحقائق الدينية يقينيات ليس فيها جدل ، في صحتها او صلاحيتها
، اذ انها تأتي من عند خالق الكون ، العالم بكل مافيه وكل مايصلحه .
وفي هذه النقطة يختلف الدين عن العلم ،
فبينما الدين كامل وحقائقه نهائية ، كما اخبرنا الله سبحانه {اليوم اكملت لكم
دينكم } فان العلم لايكتمل ، بل هو في حال تطور لايتوقف ، وكل مرحلة من مراحله
تكشف قصور سابقتها .
العلم الذي نعنيه هو بطبيعة الحال علم البشر ،
فعلم الله مطلق وكامل ويقيني ، وهو مالا يستطيعه بشر ايا كان .
المعرفة الدينية
ولذلك ميز علماء المسلمين بين ارادة
الله للاشياء ، وقدرة عباده على ادراك تلك الارادة ، وقالوا بوجود عالمين للحكم
الشرعي ، اعلاهما عالم التكوين حيث ان لله في كل واقعة حكما ، مطابقا للواقع على
وجه اليقين ، وأدناهما عالم التشريع حيث يسعى اهل العلم لاستنباط الحكم الشرعي من
مصادره ، بالاعتماد على ادوات الاستنباط المعروفة ، وهم مع بذل كامل جهدهم لبلوغ
الحقيقة ، لايستطيعون القطع بان ماتوصلوا اليه هو عين مراد الخالق سبحانه ، او انه
مطابق للواقع على وجه اليقين ، ولذلك عرف بعض الاصوليين الفقه بانه الظن الغالب ،
أو القطع بحسب الطاقة العقلية للبشر غير المعصوم ، وهي محدودة على اي حال .
ومن مظاهر القصور في علم البشر ،
اختلاف فهمهم للدين وحقائقه ، فالذي وصل الينا على لسان النبي (ص) يتضمن ماهو واضح
لايحتاج الى مزيد بيان ، كما يتضمن مالايعرف كنهه غير الراسخين في العلم ، وهو اذن
بحاجة الى تفسير وتبيين ، ان اختلاف الناس في فهم مقاصد النص الديني ، هو احد
اللوازم القهرية لاختلاف العقول ، وتباين مقادير العلم بين اهل العلم ، وهذا
الاختلاف هو الذي جعل العلم ضرورة لفهم الشرع . كما يوضح هذا مكان العلم بالنسبة
الى الدين ، فهو يفسره ويبين غوامضه ويفصل مجملاته ، كما يشخص موارد تطبيق كل حكم
من أحكامه ، وبقدر مايتطور العلم ترتقي قدرتنا على فهم الدين .
ومنذ البعثة النبوية كان تطور العلوم
في مجالاتها المختلفة ، سبيلا للكشف عن حقائق في الدين او سنن الحياة ونظام الكون
، اشير اليها مجملة في النص القرآني او النبوي ، ولم يتح مستوى العلم في ازمان
سابقة استيعابها او معرفة تطبيقاتها .
ومن هذا يتضح ان فهم البشر لحقائق
الدين رهين بمقدار معارفهم ، ويبقى هذا الفهم قاصرا ، بقدر ما العلم قاصر ، ان
قصور العلم هو الاساس في تطوره ، والاعتقاد بهذا القصور هو الدافع الى البحث عن
مجهولاته والتعرف على المزيد من دقائقه ، وهو السر في حركته الدائمة نحو الكمال
الذي لايبلغه .
نشر في (اليوم) 24 رجب 1415
(26/12/1994)
مقالات ذات علاقة
·