02/03/2016

خطوط الانكسار


التحولات الجارية في الشرق الاوسط ، سيما تعثر مسيرة الربيع العربي وتفاقم العنف ، اعادت احياء نقاشات قديمة حول ما نسميه احيانا خطوط الانكسارfaultlines .

يشير هذا المفهوم الى اي عامل أو ظرف يسهم في تقليص رضا الناس عن النظام الاجتماعي ، أو تدهور الثقة في الدولة ، أو تراجع هيبة القانون ، أو شيوع العنف وتجاوز القانون ، أو تراجع الأمل في المستقبل. وهذه تترتب عادة على انهيار الامن او تدهور مستوى المعيشة او شيوع الفساد واستغلال السلطة او التمييز بين المواطنين. اي - بعبارة موجزة - فشل الدولة في القيام بواجباتها ، وعدم توفر بدائل تملأ الفراغ.

ظروف الثورات والحرب الاهلية ، تعتبر حالات نموذجية لظهور خطوط الانكسار في النظام الاجتماعي. اما في حالات السلم ، فان ابرز العلامات التي تشير الى ذلك الظرف هي انتشار الفساد بين موظفي الدولة.  وهي ظاهرة تتوازى غالبا مع بروز مراكز قوى او جهات نافذة ، تعالج المشكلات بالرشوة ، وتتاجر بالرشوة. تعتبر هذه الظاهرة في بداياتها مخرجا مناسبا من العسر. لكنها تصل في وقت متأخر الى ما يسمى في الاقتصاد بحالة الاشباع الحدي ، أي تفاقم الظاهرة وتصاعد الكلفة المالية للحلول ، على نحو لا تعود معه متيسرة الا للاثرياء ، فتتساوى عندئذ قيمة الغرض المطلوب وكلفة الرشوة ، فتتسع نتيجة لذلك شريحة المحرومين والمستبعدين وتتقلص الشريحة المحظوظة.

طبقا لاستنتاج صمويل هنتينجتون في كتابه الشهير "النظام السياسي لمجتمعات متغيرة" فانه اذا تحول الفساد الاداري الى ظاهرة عامة ، فان معالجته باصدار المزيد من القوانين قد يأتي بنتيجة معاكسة ، اي مضاعفة فرص الفساد بدل تقليصها. بل ان هنتينجتون كان يعتقد ان السماح بالرشوة قد يكون افضل – في المدى القصير – من اصدار المزيد من القوانين التي تزيد الامور تعقيدا. زبدة القول ان الرشوة بذاتها ليست بالأمر الخطير ، لكن تفاقمها وتحولها الى ظاهرة عامة يكشف عن وجود ظرف خطير قد لا يكون مرئيا بوضوح.

يضرب المثل عادة بالهند ، وهو مثال يساعد في فهم العوامل المختلفة التي تتدخل في تحديد مستوى خطورة خطوط الانكسار. تشتهر الهند بانتشار الرشوة واستغلال الوظيفة للاثراء. لكن هذا لا يعتبر دافعا محتملا للثورة ، ولا دليلا قويا على قيام ظرف ثوري. ذلك ان الهند تتمتع بنظام مؤسسي يوفر فرصا واسعة للمشاركة الشعبية في العمل السياسي والتعبير عن الرأي ، في جميع المستويات. لا يتم التستر على الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية التي تفتح الباب امام الفساد ، فالحكومة صريحة مع الناس ، كما ان الاحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني الكثيرة والصحافة الحرة تتولى فضح اي تستر. يمكن للجمهور ان يغيروا الحكومات المحلية والحكومة القومية كل أربع سنوات اذا غضبوا على أي منهما. هذا التنظيم المؤسسي الراسخ يشكل خط تفريغ للأزمات والاحتقانات ، ويجري باستمرار التأكيد على قيمة هذه البدائل من جانب النخبة الحاكمة.

ان فشل النظام الاداري للدولة او عسر القانون وكذلك الصعوبات الاقتصادية والسياسية ، قد تسهم في تشكيل خطوط انكسار للنظام الاجتماعي ، لكن توفر عوامل تبريد وامتصاص للتازمات ، كما ذكرنا في مثال الهند ، يمكن ان يشكل صمام أمان ، اي أداة تحييد  للتوترات، تسهم بفاعلية في تبديد الزخم الثوري والحيلولة دون تراكم الانكسارات.


الشرق الاوسط 2 مارس 2016

 http://aawsat.com/node/581836

مقالات ذات صلة

 

ابعد من فيلم الجني ومن لبسه

ارامكو واخواتها : الشفافية الضرورية في قطاع الاعمال

أم عمرو وحمار أم عمرو

بيروقراطية مقلوبة

البيروقراطية والإدارة

تحسين الخدمات العامة في المكاتب المهلهلة

التعسير على المواطن فساد أيضا

حتى لا تكون الادارة الحكومية عش دبابير

حول التفسخ السياسي

حياتنا مليئة بالأسرار

الخطوة الأولى لمكافحة الفساد.. تيسير القانون وتحكيمه

سلطة المدير

شبكة الحماية الاجتماعية

عسر القانون كمدخل للفساد الإداري

عيوب المركزية الادارية كما تظهر في الطرق

فضح العيوب واستنهاض المجتمع

قليل من صور الفساد فاتورة الوزير

كي نقتلع شبكات الفساد

لا بديل عن اللامركزية

اللامركزية الادارية اليوم وليس غدا

من أبواب الفساد

مؤشر السوق ومؤشر القلق

ميكنة الإدارة شيء.. وجودة الخدمة العامة شيء آخر

نقاشات ما بعد الكارثة

نقد مقولة "التغرير"

الوجوه المتعددة للشفافية

الوعد المستحيل

يا ملقوف ايش دخلك

 

24/02/2016

رأي الجمهور



الشورى العامة ليست عملا ترفيهيا او تجميليا ، وليست اجراء اضافيا. بل هي جوهر مفهوم "القيام بالعدل" في الحياة السياسية.

عام 1995 طرح وزير الداخلية البريطاني اقتراحا بالزام المواطنين بحمل بطاقة هوية. لكنه سرعان ما تخلى عنه بعدما اثار اعتراضات واسعة. وليس في بريطانيا حتى الآن قانون يلزم المواطن بحمل هوية شخصية. وعند الضرورة فان اي وثيقة رسمية مع صورة تكفي لاثبات الشخصية.
تكررت المحاولة بعد الهجوم الشهير على نيويورك في سبتمبر 2001. وطرح الوزير يومها مشروعا متكاملا يحوي تفصيلا للاجراءات التي ستتخذ لتنفيذ القانون ، والنفقات المتوقعة ونوعية المعلومات الشخصية التي سيسمح للحكومة بتخزينها ، والجهات التي سيمكنها الاطلاع على تلك المعلومات ، وحقوق الافراد الذين تخزن معلوماتهم الشخصية ، والاجراءات الادارية والقضائية التي يمكنهم اتباعها في حال تضرروا من تطبيق القانون عليهم.
طرح مشروع القانون للنقاش العام نحو ثلاث سنين. وخلال هذه المدة خضع للكثير من التعديلات حتى وافق عليه البرلمان في 2006. لكن كثيرا من القانونيين ومنظمات المجتمع المدني واصلوا اعتراضهم على القانون ، وجادلوا بان كمية المعلومات الشخصية التي تحتفظ بها الحكومة ، تمكن اجهزتها من مراقبة الافراد وربما التدخل في حياتهم ، على نحو يخرق استقلالهم وخصوصيتهم. وفي 2011 عاد البرلمان فاستبدل ذلك القانون بآخر مخففا ، يخلو من معظم البنود المثيرة للجدل.
قد يندهش القراء من سياسة كهذه. لانهم يفترضون ان حمل بطاقة شخصية واحتفاظ الحكومة بمعلومات كثيرة عن مواطنيها ، هي أمور طبيعية. أنا ايضا افترض انه طبيعي. لكن هذا ليس موضوعنا اليوم. موضع اهتمامنا هو "حق" المواطنين في مناقشة القوانين العامة والقرارات الحكومية قبل اعتمادها ، سيما تلك التي تؤثر على حياتهم او حقوقهم ، حتى لو كان القانون بديهيا مثل حمل بطاقة شخصية.
ثمة فرضية بسيطة وراء هذا المبدأ ، خلاصتها ان الحكومة ليست كونا مستقلا عن المجتمع ، بل هي جهاز خدمة عامة ، يعيش على رضا الناس وأموالهم ، وأن مهمتها الوحيدة هي احسان خدمة المجتمع ، وليس التسلط عليه. ومن هذا المنطلق فمن واجبها مشاورة المجتمع ، قبل تبني سياسات يراها كل الناس او بعضهم ، مضرة بأشخاصهم او مصالحهم او معاكسة لمراداتهم. الشورى العامة ليست عملا ترفيهيا او تجميليا ، وهي ليست اجراء اضافيا ، بل هي جزء جوهري من مفهوم "القيام بالعدل" في الحياة السياسية.
عرف تاريخ العالم حكاما متسلطين ، يقررون ما يشاؤون ويفعلون ما يريدون ، دون نقاش او مساءلة. اما في عالم اليوم ، فان معيار عدالة الدولة هو الانصاف ، اي الاقرار بحقوق جميع افراد المجتمع وضمانها بالقانون. نعلم طبعا انه يستحيل ارضاء كافة الافراد. لكنا نعلم ايضا ان الحكومة ستكون معذورة اذا طرحت سياساتها على الناس ، حتى يعلم كل فرد بما سيخسره او يربحه او يترتب عليه من وراء كل سياسة او قانون جديد ، كي يكيف نفسه وحياته بناء عليه. وهذا هو الحد الأدنى من الانصاف.
مثل هذا المبدأ يبدو أكثر لزوما في ظروف العسر ، كالازمات الاقتصادية والسياسية ، التي تدفع الحكومات لاتخاذ سياسات ضاغطة ، تؤثر في معظم الشرائح الاجتماعية.
تصدر القرارات عادة بعد مشاورة اهل الاختصاص. ولعل هذا يتخذ حجة لتجاوز رأي الجمهور. لكنها حجة باطلة ، لأن رضا العامة جزء من جوهر مبدأ "القيام بالعدل" وليس اجراء اضافيا. والتفريط فيه تفريط في المبدأ.
الشرق الاوسط 24 فبراير 2016
http://aawsat.com/node/576151



المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...