وراء القشرة الخارجية التي
توحي بالارتخاء ـ واحيانا الركود ـ تشهد الدول العربية في الخليج تغيرات سياسية
واسعة النطاق ، وبعضها عميق التأثير ، وتطال في المقام الأول النظام السياسي ،
طبيعته وتركيب هيكل القوة والتراتب فيه .
غداة حرب الخليج الثانية
سيطرت على الجو السياسي توقعات متضاربة ، بعض المراقبين انتظروا تغييرات فورية في
السياسة المحلية ، وشدد آخرون على ان هزيمة العراق هي تأكيد على الاستمرارية لا
التغيير ، ويظهـر الان بعد مرور عقـد من الزمن على تلك الحرب ، انها لم تكن بذاتها
عامل التغيير أو الاستمرارية ، بقدر ما كانت البرق الخاطف الذي كشف لكثير من الناس
، ضمن النظام السياسي وخارجه ، عن المأزق الذي آلت اليه الامور كنتيجة لتجميد
الحراك السياسي لما يزيد عن عقدين من الزمن ، في الوقت الذي كانت آليات الاستقرار
السياسي ، ولا سيما التمويل الحكومي المباشر للمناشط الاجتماعية ، قد وهن فعلها
وتراجع تأثيرها ، مما قلص إلى حد واضح من مبررات استمرار النظام السياسي التقليدي
.
من نافل القول ان كفاءة
الدولة في تدوير عوائد البترول ، كانت المولد الرئيسي للشرعية السياسية ، وبالتالي
الاستقرار ، في دول الخليج العربي ، وربما لهذا السبب جرى التاكيد دائما على نموذج
دولة الرفاهية والوفرة ، وانعدام الواجبات الضريبية المباشرة ، وكفالة النظام
السياسي لحاجات الناس الاساسية وبعض الكمالية ، وتمكين الناشطين من الاثراء ،
وبالتالي تميز كل قطر من اقطار المنطقة ضمن محيطه الاقليمي ، جرى التاكيد عليها
باعتبارها مبررات لضرورة الانسجام والتكيف مع النظام الاجتماعي الموروث .
والحق ان العلاقة بين
المجتمع والسلطة في كل من الدول الست الاعضاء في مجلس التعاون ، تتميز بصفات قلما
وجد مثيل لها في اي دولة عربية أخرى ، ومن بينها مثلا فكرة الشراكة في المال التي
استعملت كبديل عن المشاركة في السياسة ، وهذه ، رغم كونها دون الحد الادنى من
المشاركة السياسية المتعارفة في النظم الحديثة ، إلا انها ساعدت في امتصاص
التوترات الاجتماعية ذات المنشأ المحلي ، خلافا لما جرى حتى الان في جميع الدول
العربية الأخرى ، حيث تحتكر فرص الاثراء الاقلية التي تملك القوة السياسية ،
وبالتالي تكون الثروة مرادفا للقوة السياسية وناتجا عنها ، وهو ما ادى إلى تركيز
الصراع حول محور السياسة وما توفره من نفوذ ، ونعلم ان الصراع من اجل القوة
السياسية يستوجب اشراك اعداد من عامة الناس ، بينما الصراع من اجل الثروة يكفيه
جهد المصارع وذكاؤه وقدرته على استثمار الفرص السانحة أو حتى اختلاق الفرص .
لكن هذا المضمون للعلاقة بين
المجتمع والسلطة لـيس ـ هو الآخر ـ بلا ثمن ، فالموارد بطبيعتها متناقصة ، بينما
المطالب والحاجات متزايدة ، ولنقل - على سبيل التحفظ - ان الزيادة في الموارد ، لا
يمكن ان تقابل الزيادة الموازية في المطالب والحاجات ، والتي يستتبعها ازدياد
طبيعي في عدد المحتاجين والمطالبين ، وازدياد في انواع المطالب ، باضافة تلك التي
لا يمكن مقابلتها بالمال ، وان امكن تحييدها مؤقتا عن طريق هذه الاداة ، وتبدو على
السطح مبادرات عديدة في جميع اقطار المجلس ، يمكن تصنيفها كمحاولات للاصلاح
السياسي ، وفي هذا المجال بالخصوص فان النموذج الكويتي يلعب دور البوصلة ، واعتقد
ان تجربة الكويت وتطوراتها ستكون مثالا معياريا لاتجاه وسرعة الاصلاح السياسي في
بقية اقطار المجلس.
تمتع شعب الكويت برفاهية
نادرة سبقت زمنيا جميع دول الخليج الأخرى ، لكن الاجتياح العراقي لاراضيها قد فاقم
المطالبة العامة باعادة الحياة الدستورية ، وهو الامر الذي ادى - عقب التحرير
مباشرة - إلى احياء الدستور المجمد واعادة مجلس الامة ، الذي كان قد استبدل خلال
منتصف الثمانينات بمجلس استشاري في مرتبة ادنى من مرتبة السلطة التنفيذية ، خلافا
لمجلس الامة الذي يصنفه الدستور في المكان الأعلى ، وكانت المطالبة باعادة الحياة
البرلمانية خلال فترة الاحتلال العراقي ، قد ارتكزت على ادانة تعطيل الحياة
الدستورية من جانب الامير ، باعتبارها انتقاصا من شرعية الحكم وسببا غير مباشر في
قصور الاداء الحكومي ، الامر الذي ادى إلى تيسير السبيل امام الغزو .
وفي هذا المورد بالخصوص فان
الضرر الذي اصاب العلاقة بين المجتمع الكويتي والحكومة ، لم يكن ناتجا بصورة
مباشرة عن انخفاض كبير في القدرة على التمويل ، بل على العكس من ذلك فان الحكومة
قامت - رغم ظروف الغـزو المريـرة ورغم انهيار الجهاز الحكومي - بتوفير حد معقول من
الموارد لمساعدة عشرات الالاف من الاسر الكويتية التي غادرت البلاد اثر اجتياحها ،
وهو موقف يحسب لصالح العائلة الحاكمة ، التي لم تستأثر بالمال ، ولم تتخل عن
مسؤولياتها تجاه مواطنيها في ذلك الظرف الصعب .
الضرر الذي اصاب العلاقة بين
الطرفين ، نتج - تحديدا - عن تفاقم الشعور بان شرعية الحكم لم تعد قائمة على كفاءة
الاداء الاقتصادي والتمويل ، بل على مستوى تمثيل النظام السياسي لارادة الجمهور ،
ولهذا السبب فان أكثرية الكويتين لم يشككوا في شرعية الاسرة الحاكمة ، وكونها جزء
من النسيج السياسي الوطني ، رغم ان ظروفا مثل تلك كانت جديرة بان تثير شيئا من هذه
الشكوك ، لكن الذي حصل هو ان معظم الكويتيين ولا سيما القوى السياسية ، ركزت
دعوتها على إعادة الحكم الدستوري والتمثيل النيابي والحريات العامة .
ومنذ عودة الكويتيين إلى
بلادهم بعد انسحاب القوات العراقية ، كانت هناك دعوات إلى الفصل بين رئاسة الحكومة
وولاية العهد ، المرتبطين تقليديا منذ استقلال الكويت في الستينات ، لكن هذه
الدعوة لم تصعد إلى واجهة النقاشات المحلية قبل 1998 ، أما في الاشهر الخمسة الماضية فان الجدل حول الفصل
بين المنصبين لم يعد مقتصرا على مجالس نواب المعارضة ، بل انتقل للمرة الاولى إلى
ديوانيات الشيوخ وكبار السياسيين الذين اعتادوا التحفظ في مناقشة امور كهذه امام
الملأ ، وكان السبب المباشر لهذا التحول هو تدهور الوضع الصحي لولي العهد رئيس
مجلس الوزراء الشيخ سعد العبد الله السالم
الصباح ، واضطراره إلى الاعتكاف في داره والسفر إلى الولايات المتحدة وبريطانيا
لفترات طويلة طلبا للاستشفاء .
ويقول الكويتيون ان الفصل
بين المنصبين ، والذي سيؤدي بالتاكيد إلى تولي وزير الخارجية الشيخ صباح الاحمد
منصب رئيس الوزراء ، هو تحصيل حاصل لان الشيخ صباح يتولى - فعليا - رئاسة الحكومة بصفته نائبا لرئيس الوزراء ، لكن
اهمية التغيير لا تتعلق بشخص رئيس الحكومة ، بل في المعنى السياسي الذي ينطوي عليه
، فوجود ولي العهد ، وهو امير البلاد المستقبلي على راس السلطة التنفيذية كان سببا
لاحراج القوى السياسية التي تريد فرض رقابة برلمانية اوسع على عمل الحكومة ،
والعرف القاضي بتضامن الحكومة في مواجهة المجلس ، يقضي بتوجيه النقد إلى شخص ولي
العهد ، وهو ما لم يكن ممكنا بسبب ما يتمتع به من الحصانة العرفية ، أما في حال رئاسة اي شخص آخر فان مساءلة الحكومة
ومراقبتها ستكون خالية من الحرج ، اضافة إلى ان الغاء العرف القاضي بالربط بين
منصبي ولاية العهد ورئاسة الحكومة ، قد يفتح الباب أمام تولي اشخاص من خارج
العائلة الحاكمة هذا المنصب أو المناصب الوزارية السيادية التي درجت العادة على
ايكالها إلى اعضاء العائلة الحاكمة .
وتتمتع الكويت الان بقدر من
الانفتاح السياسي ، ليس لـه مثيل في دول الخليج الأخرى ، ويريد السياسيون واعضاء
البرلمان تقنينه لقطع الطريق أمام تصادم محتمل بين واقع يتمثل في حريات واسعة
يمارسها الناس ، بما فيها تشكيل احزاب علنية وتجمعات ذات طابع سياسي ، وبين
القوانين القديمة التي لا تقر بمشروعية هذا القدر من الانفتاح ، رغم ان هذه
القوانين لا تنفذ بشكل فعال في الوقت الراهن .
ان الجزء الاهم من مشروعية
النظام السياسي الكويتي يعتمد على العقد القائم بين العائلة الحاكمة والشعب ،
والمتمثل في الدستور ، ولهذا فان اي اضطراب اقتصادي ، أو عجز في التمويل لا يتوقع
ان يضعف من مكانة العائلة الحاكمة أو يخدش مشروعيتها ، رغم ما يفرضه من تغييرات في
السياسات والاشخاص ، أما الجزء الباقي من
المشروعية فلا زال مرتبطا بدور الدولة كموزع لعائدات البترول ، وهو دور لا يتوقع
لـه ان ينتهي في المستقبل المنظور ، إلا ان القوى السياسية ولا سيما تلك المثلة في
البرلمان تسعى للحد من قدرة الحكومة على استثمار المال العام في اغراضها السياسية
، وهو تطور متوقع ، ولكن ليس بصورة سريعة أو كاملة .
أما المملكة العربية السعودية ، وهي الدولة الكبرى
في مجلس التعاون ، فلم تشهد تغييرات كبرى على المستوى السياسي خلال العقد الأخير ،
وربما كان التطور الاهم في بداية التسعينات ، هو اقامة مجلس الشورى ووضع نظام
للحكم بمثابة دستور ونظام للحكم المحلي ، لكن يبدو ان القليل فقط من المراقبين
اعتبر هذه التطورات كبيرة الاهمية ، فالنظام الاساسي لا يعتبر قانونا أعلى للحكم ،
فهو ينص على امكانية تعديله بامر ملكي ، وبالطبع فانه لم يتضمن اشارة إلى هيئات
ذات طابع دستوري ، لها صلاحية تفسير النظام ، كما ان الحقوق والحريات العامة التي
تحدث عنها بصورة اجمالية ، لم تقترن بتحديد وسائل قضائية أو سياسية للاحتكام عند
التنازع ، أو الشكوى من انتهاك الحقوق المشار اليها ، وبصورة عامة فان كبار اعضاء
الحكومة قادرون إذا شاؤوا على تجاوز اي بند في نظام الحكم ، الذي لا ينص على حدود
للسلطات أو وسائل لكبح التجاوز.
مجلس الشورى لا يعتبر هو
الآخر هيئة سيادية ، فقد صنفه النظام السياسي في مرتبة ادنى من السلطة التنفيذية ،
وهو اقرب إلى هيئة استشارية يعـود اليها مجلس الوزراء عند الحاجة ، لكنه لا يناقش
القضايا الحساسة مثل الميزانية العامة والعلاقات الدولية واوضاع القوات المسلحة
واجهزة الامن ، كما لا يحق لـه مساءلة الوزراء والمسؤولين الرسميين .
أما نظام المناطق الذي افترض انه سيكون الاساس
القانوني لتقليص المركزية الادارية الشديدة ، فانه لسبب ما لم يؤد إلى هذه النتيجة
، فلا زالت جميع الوزارات تعمل بصورة شبه مستقلة انطلاقا من مكاتبها في العاصمة ،
على الرغم من ان رؤساء مجالس المناطق جميعا هم من الامراء البارزين ، ويبدو ان
التنافس الخفي بين الحكومة المركزية والادارات الاقليمية ، كان يحسم على الدوام
لصالح الاولى التي تضم كبار امراء العائلة المالكة .
وخلال السنتين الماضيتين بدا
ان جولة جديدة من الاصلاحيات على وشك ان تبدأ ، وتفاءل كثيرون بهذه الجولة ، التي
بررتها الظروف الاقتصادية الصعبة ، والشروط التي وضعتها الولايات المتحدة واوربا
لقبول المملكة في منظمة التجارة الدولية ، والحقيقة ان هذا التطور كان مدعاة لدهشة
كثيرين رأوا ان المملكة فرطت في فرص جدية لادخال اصلاحات غير مكلفة ، لكنها حيوية
، مثلما جرى حين توصلت إلى اتفاق مع المعارضة الشيعية في المنطقة الشرقية ، كان
سيتيح لها تحقيق الاستقرار في واحدة من اكثر مناطق المملكة توليدا للتوتر ، فضلا
عن كونه نموذجا لاصلاح سياسي يتلافى مبررات القلق التقليدي من تجاوز المعارضة
المحلية لحدود النظام .
على الجهة الأخرى فان عددا اكبر من النخبة
الجديدة ، ولا سيما من المثقفين والتجار ، يميل إلى الاعتقاد بان اي اصلاح سياسي
مهم لن يقدر لـه النجاح ما لم يكن مدعوما بضغط دولي ، ولهذا فان الاصلاحات
التدريجية التي قصد من ورائها تمهيد الطريق امام انضمام المملكة إلى منظمة التجارة
الدولية ، تعتبر - في رأي هؤلاء - مؤهلة للثبات والتطور بدرجة اقوى من اي اصلاحات
تنطلق من دوافع محلية .
على هذا المستوى ، فقد جرى
وضع نظام للاستثمار الاجنبي ، سوف يؤدي إلى تعديل انظمة الاقتصاد المحلي ، وتلك المؤثرة
فيها ، ومن بينها مثلا نظام توظيف العمال الاجانب ، وملكية الاجانب للاصول الثابتة
واسهم الشركات المحلية المساهمة ، ونظام التقاضي والضمانات القضائية للمتنازعين
امام المحاكم ، فضلا عن برنامج تخصيص
الخدمات العامة .
ورغم ان بعض المراقبين
المحليين قد قلل من شأن هذه التطورات ، إلا ان الانصاف يقتضي النظر إلى تأثيراتها
ضمن منظور شامل ، فالحديث عنها قد اتاح الفرصة - للمرة الاولى منذ زمن طويل - لطرح
مسألة الانغلاق والتكتم الذي يسم الحياة العامة في المملكة ، والذي يؤدي -
بالضرورة - إلى حصر ممارسة السياسة والحديث عنها في شريحة ضيقة جدا ، ونعتقد ان
الالحاح الشديد في الصحافة المحلية على تطوير نظام المطبوعات ، ومحاولتها للافلات
من طوق الرقابة المشدد ، كان إحـدى الثمرات غيـر المباشـرة لذلك التطور ، أما برنامج التخصيص ، والذي سيطال خدمات الهاتف
والكهرباء والطيران ، فهو سيؤدي إلى تخفيف تدخل الدولة في حياة الناس ، وهو أحد
العناصر المهمة في إعادة صياغة الدور المستقبلي للدولة ، وعلاقتها بالمجتمع .
معظم المحللين في الصحافة
الامريكية والاوربية ، يميل إلى ربط الاصلاحات بدواع اقتصادية ، وهم يشيرون إلى
نقص السيولة الذي اعقب انخفاض اسعار البترول منذ النصف الثاني من الثمانينات ،
وتفاقم خصوصا خلال النصف الثاني من التسعينات بسبب الاعباء المالية لحرب الخليج
الثانية ، والحق ان انخفاض التمويل قد اثر ايجابيا في تعامل الدولة مع المجتمع ،
وسمعنا للمرة الاولى - ربما - كلاما من مسؤولي الدرجة الاولى يتضمن مناشدة للشعب
لمساعدة الحكومة في احتمال الاعباء الاقتصادية الثقيلة ، خلافا للخطاب الذي اعتاده
المسؤولون ، والذي يتضـمن ان الامور جيدة جدا وان المشكلات الاقتصـادية هي "
كلام جرايد " و" دعايات حاسدين " .
ونعتقد ان الحكومة قد اكتشفت
فعلا استحالة التعويل على المال السياسي في دفع المطالبة بالاصلاح ، لكن من جهة
أخرى فان هذا لم يؤد - في اعتقادي - إلى تغيير جذري في طبيعة التفكير السياسي
وفلسفة الحكم ، كما انه يتأثر بتحسن ايرادات البترول المستمر منذ اواخر اغسطس
الماضي ، لكن ينبغي على اي حال اتخاذ جانب الحذر في اصدار احكام قطعية ، فالتفاعل
بين دواعي الاصلاح والنظام القديم ، لا زال في بداياته ، ولهذا فان ما يتوقعه البعض من انعكاسات فورية أو بارزة ،
قد لا يكون واقعيا ، سيما بالنظر إلى تراخي الطبقات الاجتماعية التي تعتبر صاحبة
المصلحة الاولى في التغيير السياسي ، تراخيها في دفع مسيرة التغيير أو المساهمة
فيها أو بلورة مبرراتها .
النموذج الذي يستحق التامل
هنا هو النموذج القطري ، ثم العماني ، فالواضح ان قطر تسير على الطريق الذي شقته
الكويت من قبل ، وهي تزمع وضع دستور للحكم يكون بمثابة عقد اجتماعي بين العائلة الحاكمة
والشعب ، وقد اوضح امير قطر الشيخ حمد بن خليفة في افتتاح الدورة الحالية لمجلس
الشورى ، ان الدستور العتيد سيضمن الحريات العامة كما يحدد الاساس القانوني لتشكيل
برلمان منتخب .
وقطر هي الدولة الخليجية الوحيدة التي شهدت تحريرا واضحا للاعلام
المحلي ، رغم ما اثمر عنه من غضب كثير من الدول العربية التي انزعجت من الانفتاح
الاعلامي ولا سيما الظاهر في قناة ( الجزيرة ) الفضائية ، لكن قطر حافظت حتى الان
على موقف ثابت نسبيا ازاء ردود الفعل هذه ، حتى بعد ان سحبت دول عربية مثل ليبيا
وتونس سفراءها من الدوحة ، وهو ما يعزز الامال في ان مسيرة الاصلاح السياسي في قطر
قد تكون ارسخ قدما واوسع من نظيرتها الكويتية ، لكن لا ينبغي المبالغة في تناسي
الفارق بين الدولتين ، لجهة النضوج السياسي للمجتمع المدني والقوى السياسية
الاهلية في الكويت ، والتي تجسد ابرز نماذج الفعل السياسي الاهلي في المنطقة ،
وتساهم في صياغة الحياة السياسية بشكل محدد ، قد لا تكون مقوماته متوفرة في دولة
قطر بالمستوى ذاته .
سلطنة عمان التي اختارت
اصلاح النظام السياسي بمبادرة من الحكومة نفسها ، اتخذت نهجا تجريبيا - إذا صح
التعبير - فبدأت بعد ازمة الخليج الثانية في اختبار ظرف التمثيل السياسي باقامة
مجلس نيابي محدود الصلاحيات ، تتراوح طبيعته بين التمثيل الشعبي والتعيين الحكومي
، وجرى تطوير التجربة في الدورة التالية ، أما
في الدورة الحالية فان المجلس هو اقرب إلى نموذج التمثيل النيابي للمجتمع ،
كما انه سمح للمرة الاولى بتمثيل النساء ، وجرى اختبار قدرة المجلس على مساءلة
الوزراء ، والمطلوب الان هو الانتقال إلى المرحلة الاعلى اي اعتبار الحكومة مسؤولة
امام المجلس ، مع حقه في اقالة الوزراء الذين يتعرضون للاستجواب ، وفتح الباب امام
الترشح لعضوية المجلس امام كل عماني مؤهل دون قيود ، وهذا الأخير يبدو محتملا جدا
في الدورة القادمة لمجلس الشورى.
أما دولة الامارات العربية فهي البلد الوحيد في
المنطقة تقريبا ، الذي لم يشهد اي تغيير يذكر ، وليس هناك على السطح حديث جدي عن
تغييرات سياسية كبيرة ، ويبدو ان المشكلات الهيكلية الناشئة عن النظام الاتحادي
نفسه ، حيث تتوزع السلطة السياسية - ولا سيما في الشان المحلي - بين عدد كبير من
الزعماء ، اضافة إلى مشكلة التركيبة السكانية ، تقف حجر عثرة امام اي طرح جدي
لبرنامج اصلاح سياسي ، لكن بصورة عامة ، فان الظرف السياسي في الامارات ، ظرف
ارتخاء ويبدو ان الانتعاش الاقتصادي المستمر منذ ربع قرن على الاقل ، قد ساعد بشكل
جدي في تقليص مبررات الازمة ، وبالتالي المبادرات السياسية التي تبرر بالقلق منها
.
ما يجمع بين دول الخليج
العربي ، هو تفاقم الشعور ، على المستوى المحلي وفي الخارج ، بالحاجة إلى تجاوز ما كان يوصف بالمتطلبات
السياسية لمرحلة دولة الرفاه التي لم تنقض تماما ، وهي متطلبات يراها معظم
المثقفين والنخبة تحميلا غير منطقي ، وتتلخص في ان استمرار الرفاهية مشروط
باستمرار نمط الدولة الريعية ، وفوقية السلطة السياسية ، وامتلاك النخبة التقليدية
لكل ازمة الحكم ، وانعدام الاساس القانوني الذي يسمح بدور للمجتمع الاهلي في
الحياة العامة .
وبصورة اجمالية فان شرعية
الحكم التي اقيمت ابتداء على متطلبات ظروف تاسيس الدولة وبنائها وتحديث المجتمع ،
لم تعد الان مكينة وراسخة كما كان الامر في السبعينات ، وثمة حاجة ماسة إلى إعادة
تاسيس منظومة الشرعية السياسية على اسس جديدة ، تستمد جوهرها من تعاقد المجتمع مع
النخب الحاكمة ، فهذا هو السبيل الوحيد لضمان الاستقرار السياسي على المدى البعيد
، ولا سيما في ظل التغيرات السريعة التي يشهدها العالم عند نقطة الاستدارة نحو
القرن الجديد .
ومن الواضح ان حكومات
المنطقة تستوعب دواعي التغيير التي تشهدها المنطقة ، سواء المحلية منها أو تلك
التي هي انعكاس لتغير العالم ، وآية هذا الاستيعاب ، هي المبادرات التي تشهدها
جميع اقطار المنطقة ، والتي تصب جميعا في مسار واحد هو اصلاح النظام السياسي
وتحديثه .
لكن من الواضح ايضا ان تلك
المبادرات لا تزال بطيئة وشديدة الحذر ، مما قد يجعلها عاجزة عن احتواء الاسباب
التي بررت الاقدام عليها ، والحق اننا بحاجة إلى تحرك سريع في اتجاه توسيع اطارات
العمل السياسي ، وبصورة محددة فتح ابواب السلطة وممارسة العمل العام امام جميع
المواطنين ، وتحرير الاعلام من الرقابة الحكومية ، وكبح المنظومات الامنية التي
اعتادت انتهاك حقوق المواطن لسبب ولغير سبب ، ان اصلاحات من هذا المستوى هي
الكفيلة بتغيير العلاقة بين المجتمع والسلطة ، بحيث ينظر الناس إلى الحكم باعتباره
ممثلا لـهم لا مفروضا عليهم بقوة الحاجة أو بالقهر.