07/03/1995

تأمــــــــــــلات


مثل مئات الالاف من مسلمي العالم اتاح لي رمضان الكريم فرصة لاستماع المستطاع من المواعظ ، لاحظت انها جميعا تفيض بالشكوى من حال المسلمين الراهن ، وتدعو السامعين الى عودة  مخلصة لله من قبل ان يفوت الاوان ، وربما عرض بعضها فوائد هذه العودة المطلوبة وانعكاساتها على حياة المسلم ، لكني وجدت بعد شيء من التامل ان الايحاء الداخلي لفكرة العودة لاينطوي على  اكثر من تأكيد ماهو قائم فعلا ، مما اثار في نفسي حيرة كانت قبل ذلك مجرد اسئلة ، لا أظن احدا قد أجاب عليها كما اجاب القرآن المجيد .

لابد ان كثيرا من الناس قد اتيحت لهم فرصة لقراءة شيء من القرآن في رمضان المبارك ، فرمضان هو ربيع القرآن وهو ربيع القلوب  كما ورد في الاثر ، ولابد ان بعضا من هذا الكثير قد تأمل في آيات الكتاب المجيد، وتدبر في المعاني العميقة التي ينطوي عليها كلام الله، والحق ان جميع مافيه عميق الغور مع انه سهل المنال لمن تدبر واعمل الفكر.

دليل أمين
يؤمن المسلمون جميعا بان القرآن هو الدليل الامين لمن اراد سعادة الدارين ، الرفعة في الدنيا والنجاة في الاخرة ، على ان اتباع القرآن هنا يختلف عن السير وراء دليل في مجاهل الصحراء ، ففي هذه الحالة يتبع السائرون دليلهم اتباعا كليا مسلمين له القياد عن جهل بالطريق ، فان وصل وصلوا معه ، وان ضل طريقه هلكوا أو ضاعوا ، اما اتباع القرآن فهو على خلاف هذا ، معرفة ووعي سابق للحركة ، فهو اتباع عن علم بالطرق المختلفة ، وسير  بعد اختيار طريق محددة بين طرق كثيرة معروفة ، لذلك فان السائر خلفه لايخشى الاحتمالات ، بل يخشى تقصيره الشخصي في تامين حاجات الطريق وحسب ، اما الطريق ذاتها فهي معروفة منذ البداية .

عندما تقرأ القرآن باحثا في اغواره ، تصطدم ببعض الحقائق المثيرة للحيرة ، من ذلك على سبيل المثال وعود القرآن للمؤمنين ، وعده لهم بالنصر ووعده لهم بالقوة ووعده بالتقدم وبلوغ الكفاية في الحياة، من ذلك مثلا قوله تعالى (ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض)  والذي نعلم ان وعد الله ليس احتمالا بل هو حق واقع لامحالة في وقت من الاوقات، ثم انه ليس محدودا بزمن محدد، بل مشروط بمقدمة وتمهيد بحيث يتحقق الوعد اذا تحقق شرطه ومقدمته.

المفارقة
مايثير الحيرة هو النظر في واقع الحال مقارنة بتلك الوعود الربانية ، اذ لايحتاج حال المسلمين الى كثير من التامل ، لاكتشاف سوئه وتخلفه بل ماساوياته في امثلة عديدة ، فاين وعود القرآن اذن ؟
اجاب بعض الكتاب عن هذا السؤال تكرارا ، بالقول ان نقص الايمان او انعدامه ، هو الذين يجعل تلك الوعود مؤجلة ، وان العيب في التزام المسلمين باسلامهم ، اذ لايمكن الطعن في حقانية وعد الله وقطعيته.

لكني وجدت ان هذا الكلام ينطوي على قدر من الغموض في تصور معنى الايمان ، يتناسب مع مبالغة موازية في تصور شروط التقدم الموعود ، واظن ان افضل من أجاب على هذا السؤال هو المفكر الجزائري المرحوم مالك بن نبي ، حينما توقف هو الاخر امام هذه المفارقة ، فاستخلص بعد تحليله لمختلف الوقائع ان الايمان لم ينعدم ، ولم يضعف في صدور المسلمين ، لكن الذي ضعف هو فاعلية الايمان في الواقع الخارجي ، فالتحولات التي مرت على العالم الاسلامي منذ انتهاء عصر الخلافة ، شكلت ضغطا على نفسية المسلم وتفكيره ، انتهى الى نوع من الازدواجية في فهم معاني الايمان وتطبيقاته ، تجسدت على صورة انحسار للايمان من الحياة اليومية ، واقتصاره على موقعه الثابت في القلوب .

 وهو يعرض نموذجا للارتقاء الحضاري يعتمد على (مثلث الانسان والتراب والزمن) ويعتبر تعاليم القرآن مركبا لعناصر المثلث ، وهذا يستدعي بالطبع ان تكون هذه التعاليم ، فعالة في الحياة اليومية للمجتمع المسلم .

ويبدو لي ان فعالية تعاليم القرآن في حياة المسلمين هي مربط الفرس ، فالذي نرى ان جميع المسلمين يتحلون بايمان عميق بالخالق سبحانه ، كما ان كثيرا منهم ملتزم بالعبادات وحسن الاخلاق ، الا ان المشروع الاسلامي للتمدن يتجاوز هذه الحدود .

بعد الايمان
ذلك الجزء من الاسلام المتعلق بالحياة العامة ، ودوافع التقدم ومناهجه لايزال شبه مجهول في حياتنا الفكرية ، او هو ـ على اقل التقادير ـ لايحظى بالعناية التي يستحقها في المدارس او في ابحاث المهتمين بالشريعة ، وقد اقترح باحثون في المعهد العالمي للفكر الاسلامي ، في تقديم لمنهج مقترح في اسلمة المعرفة ، التركيز على المفهوم الكوني للشريعة ، والنظر الى القرآن الكريم باعتباره مجموعة واحدة ، دون فصل بين آيات الاحكام وقصص الاولين والتعاليم الارشادية ، كما فعل معظم الباحثين في علوم القرآن والشريعة ، واعتبروا هذا النوع من الدراسة سبيلا وحيدا ، لمعرفة الطريق التي ينبغي لنا ان نسير عليها ، اذا شئنا الاهتداء بالنموذج القرآني في الحياة .

الى جانب المعهد ، فقد اقترح مفكرون آخرون التركيز على الايات ، التي تعرض مقتطفات عن تجارب الامم الماضية ، بل والبحث في احوال الامم والمجتمعات ، من اين انطلقت وعوامل تحركها ، ثم اسباب انهيار حضاراتها ، ويرد في هذا السياق استنتاج العلامة ابن خلدون ، الذي توصل الى ان الامم تتحرك قدما او تتقهقر بفعل عوامل متشابهة .

والذي يظهر ان امتنا قد ابتليت منذ زمن طويل بعوامل الانحطاط والتخلف ، ولسبب ما ، فان هذه العوامل لاتزال حية بل ومتفاقمة في بعض الاحوال ، ولهذا فانه قد يكون من المفيد لنا ، ان ننظر ايضا في المسار التاريخي للحضارة الاسلامية ، منذ ان انطلقت والى ان تلاشى وهجها وانهارت ، والعوامل التي يمكن اعتبارها مسببات او دوافع في كل مرحلة من تلك المراحل .

اتجاهان للتفكر
يعرض القرآن على المتدبر في آياته اتجاهين للتأمل والتفكر ، احدهما افقي يشعر الانسان خلاله بخيط وثيق يشده الى نظام الكون وعناصره المادية المتنوعة ، وعمودي يرتبط خلاله بالتجربة التاريخية للبشر ، في مختلف اطوار التاريخ ، باعتبارها مراحل تطور للانسان ، في وعيه بذاته ووعيه بمحيطه ، ومحاولاته لتسخير امكانات الطبيعة التي خلقها الله من اجله .

لقد ادى تراخي المسلمين عن النظر في الافاق والانفس الى تخلفهم على الصعيد العلمي ، اي الى عجزهم عن استثمار الطاقة الانسانية وامكانات الكون ، وهذا بدوره جعلهم في حاجة الى غيرهم ، مما اوجد اختلالا في العلاقة بين الطرفين وتستمر السلسلة ، حلقة تاتي بأختها وهكذا .
5 شوال 1415 (7 مارس 1995)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...