08/03/2010

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

 

من بين الكتب التي أثارت انتباهي في معرض الرياض لهذه السنة (2010)، كتاب «العدالة كإنصاف» للفيلسوف الأمريكي جون رولز. هذا الكتاب الذي ترجمه د. حيدر حاج إسماعيل هو الصيغة الأخيرة من هذا العمل المهم والمثير للجدل، والذي واصل مؤلفه تعديله على ضوء النقاشات والنقد طيلة العقود الثلاثة التي تلت صدور طبعته الأولى في 1971.

 يقدم رولز في هذا الكتاب نظرية جديدة في فلسفة الدولة والتنظيم الاجتماعي/ السياسي، تبتعد شيئا ما عن الرؤية الليبرالية الكلاسيكية رغم أنها تنطلق من نفس المنطلقات، لا سيما الحرية الفردية في حدها الأعلى ومبدأ العقد الاجتماعي كأساس للنظام السياسي / الاجتماعي.

قدم رولز حلا لإشكالية المغالاة في الفردانية، والتي تعتبر أحد العيوب الرئيسية في الليبرالية، لا سيما بسبب تركيزها على الجانب الغرائزي في الفرد، وتمحور فكرة السعادة والنجاح ــ وبالتالي العوامل المؤثرة على قرار الفرد ــ حول التملك والاستحواذ. انطلق رولز من رؤية متفائلة للطبيعة الإنسانية.

المثال الذي يشكل خلفية لرؤيته هو مثال الإنسان الراشد الذي يتمتع بقوى ذهنية ونفسية تسمح له بانتخاب الخيار الأقرب للعدالة فيما لو عاش تحت نظام تعاون اجتماعي يقوم على الإنصاف ويضمن لاعضائه الحرية والمساواة. أهلية الإنسان للاختيار الصحيح قائمة على تمتعه بعنصرين معنويين يحملهما معه منذ الولادة:

 أولهما هو إحساسه بقيمة العدالة، أي قابليته لإدراكها وتمييزها وفهمها وتطبيقها والعمل بموجبها ولأجلها..

 والثانية هي إحساسه بمنفعته الخاصة، أي قدرته على استيعاب تطبيقاتها وتشكيلها ومراجعتها وتنظيم حياته على نحو عقلاني يمكنه من نيلها. بفضل هذين العنصرين يستطيع الفرد أن يفهم ذاته كما يفهم الآخرين باعتباره وإياهم أحرارا يتحملون مسؤولية أفعالهم. وبهذا فهما يمثلان الأرضية التي يقوم عليها استقلال الفرد وأهليته للتعاقد مع الغير والمشاركة في تشكيل النظام الاجتماعي الذي يعيش في إطاره.

جون رولز  (1921-2002)
احتذى منهج رولز عشرات من الباحثين، وتشكل على ضوء أفكاره تيار في الفلسفة السياسية يتوسع بالتدريج، ويقدم بديلا جديا عن التصور الاشتراكي للعدالة الاجتماعية الذي يسمح بتأجيل أو تحجيم حرية الفرد من أجل منافع أخرى مادية أو غير مادية. بينما قرر رولز أن تمتع الجميع بشكل فعلي بالقدرة على ممارسة حقوقهم وحرياتهم المقررة في القانون هو جزء من مفهوم العدالة ومعيارا لتوفر العدالة في نظام اجتماعي معين.

والحق أن توظيف مصطلح «عادل» أو «ظالم» في وصف مجموع النظام الاجتماعي وبنيته القانونية والاقتصادية والمؤسسية هو واحد من أبرز تجليات الفهم الجديد، خلافا للمفهوم السابق الذي كان يطلق الوصف على أفعال الأفراد أو الدولة فقط. رأى رولز أن جميع عناصر وأجزاء النظام يجب أن تقيم وفقا لمعيار مشترك كي نستطيع وصفها ــ كمجموع ــ بالعدالة أو الظلم. نظرا للتأثير الديناميكي لكل مسار من مسارات النظام الاجتماعي على حياة أعضائه، فإن تقرير ما هي حقوق المواطنين وواجباتهم في جانب معين، الاقتصاد مثلا، يجب أن يسبقه تعريف لانعكاس النظام الاقتصادي وتطبيقاته على حياة الأفراد الذين يعملون في إطاره أو تتأثر حياتهم بمفاعيله، ولا سيما في تمكينهم أو إعاقتهم من ممارسة حقوقهم الأولية وحرياتهم.

من بين التطبيقات العديدة لمفهوم الحرية، صنف رولز عددا منها كحريات أساسية، وتشمل الحقوق الخاصة بالضمير مثل حرية الديانة والتفكير والتعبير والتنظيم، كما تشمل الحقوق الضرورية لصيانة الكرامة الشخصية مثل حرية الحركة والعمل واختيار المهنة والملكية الشخصية، إضافة إلى شريحة من الحقوق المرتبطة بالمشاركة في الشان العام. هذه الحريات أساسية لأنها أكثر أهمية وأعلى قيمة من غيرها من المنافع الاجتماعية أو الحريات الأخرى، وهي عنده تشكل معيارا لحدود سلطة المجتمع..

طبقا لرولز فإن توفر منظومة الحريات الأساسية ضروري لتبلور هوية الإنسان المستقل، الكفء، القابل لتحمل المسؤولية عن عمله، والمشارك في الحياة العامة. ومن هذا المنطلق فإن نظرية العدالة التي اقترحها رولز تعطي للحريات الأساسية أولوية على كافة المنافع الاجتماعية الأخرى. فلا تصح التضحية بها من أجل سعادة المجتمع أو زيادة الثروة الوطنية أو مساعدة الفرد على بلوغ الكمال الذاتي، أو غير ذلك من المنافع.

عكاظ 8 مارس 2010

06/03/2010

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي


صورة ذات صلة
  يمثل كتاب د. نادر كاظم "استعمالات الذاكرة في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ" محاولة جادة لفهم اشكالية الهوية في مجتمع الخليج. كثير من النقاشات التي عالجت المسألة الديمغرافية والتطور السياسي واشكاليات التحديث والعلاقة مع الغرب ترتبط جوهريا بمشكلة الهوية . لكن معظم ما كتب خلال السنوات الاخيرة تحاشى مقاربة جوهر المسألة . وحتى تلك التي تعرضت لها فقد ركزت على تنبيه القراء والباحثين الى اهمية الموضوع وحيويته والضرورة الفعلية لطرحه في نقاشات علمية ونقاشات عامة . هذا النوع من المعالجة يدور حكما حول حواشي الموضوع وتمثلاته اكثر مما يطرق جوهره. واظن ان الحساسية السياسية والاجتماعية هي التي حالت دون طرقه بصورة معمقة وعلى نطاق واسع . على اي حال فان منطقة الخليج وكثير من الدول العربية الاخرى تعاني من هذه المشكلة التي لاحظ د. محمد الرميحي منذ زمن طويل انها تميل الى التفاقم مع انتشار التعليم ، خلافا للفرضية التقليدية القائلة بان التعليم العام سيؤدي الى تفكيكها ، ولا سيما من خلال تسويد هوية جمعية ترسي مفاهيم مشتركة ، او ما يمكن وصفه باجماع وطني.
النقاشات العلمية في علاقة الهوية بالسياسة ليست قديمة . فابرزها يرجع الى النصف الثاني من القرن المنصرم . وبرزت خصوصا بعد ما وصف بانفجار الهوية الذي ادى الى تفكيك الاتحاد السوفيتي السابق. ثمة اتجاهان رئيسيان في مناقشة الموضوع ، يعالج الاول مسألة الهوية في اطار مدرس
ة التحليل النفسي التي اسسها سيغموند فرويد ، ويركز على العلاقة التفاعلية بين النمو الجسدي والتطور النفسي. بينما يعالجها الثاني في اطار سوسيولوجي يتناول انتقال الثقافة والقيم الاجتماعية الى الفرد من خلال التربية والمعايشة. كلا الاتجاهين يهتم بدور المجتمع ومؤسسة الدولة في تشكيل هوية الفرد ، من خلال الفعل العكسي ، او الاعتراف بالرغبة الفردية كما في الاتجاه الاول ، او من خلال التشكيل الاولي لشخصية الطفل – المراهق عبر الادوات الثقافية ، كما في الاتجاه الثاني.
هوية الفرد هي جزء من تكوينه النفسي والذهني . وهي الاداة التي تمكن الانسان من تعريف نفسه والتواصل مع محيطه. انها نظير للبروتوكول الذي يستعمله الكمبيوتر كي يتعرف على اجزائه وما يتصل به من اجهزة . ولهذا يستحيل الغاؤها او نقضها ، مثلما يستحيل الغاء روح الانسان وعقله . الغاء الهوية او انكارها لن يزيلها من روح الانسان بل سيدفع بها الى الاختفاء في اعماقه . وفي وقت لاحق سوف يؤدي هذا التطور الى ما يعرف بالاغتراب ، اي انفصال الفرد روحيا عن محيطه ، وانتقاله من الحياة الاعتيادية التي يتناغم فيها الخاص مع العام ، الى حياة مزدوجة ، حيث يتعايش مع الناس على النحو المطلوب منه ، بينما يعيش حياته الخاصة على نحو متناقض تماما مع الاول ، بل ورافض او معاد له في معظم الاحيان.
نتيجة بحث الصور عن نادر كاظم
الهوية الشخصية هي الوصف الذي يرثه الفرد من الجماعة الصغيرة التي ولد فيها ، والتي قد تكون قبيلة او طائفة او عرقا او قومية او قرية او عائلة او طبقة اجتماعية. وحين يشب الطفل يبدأ في استيعاب هويات اخرى ، ابرزها الهوية الوطنية ، كما يطور هوية فردية غير شخصية ترتبط بالمهنة او الهواية ، وفي مرحلة لاحقة يطور هوية اخرى يمكن وصفها بالاجتماعية وتتعلق خصوصا بالمكانة التي يحتلها في المجتمع او الوصف الذي يقدمه مع اسمه .
لكل فرد -اذن- هويات متعددة ، موروث ومكتسبة . يشير بعضها الى شخص الفرد ، ويشير الاخر الى نشاطه الحياتي ، بينما يشير الثالث الى طبيعة العلاقة التي تربطه مع المحيط العام ، الاوسع من حدود العائلة . يمكن لهذه الهويات ان تتداخل وتتعاضد ، ويمكن لها ان تتعارض . في حالات خاصة يخترع الفرد تعارضا بين هوياته. لاحظنا مثلا افرادا يتحدثون عن تعارض بين هويتهم الدينية وهويتهم الوطنية او القبلية . وقد يقررون – بناء عليه – التنكر لاحداها او تخفيض مرتبتها ، بحيث لا تعود مرجعا لتنظيم العلاقة بينه وبين الغير الذي يشاركه الهوية ذاتها .
لكن المجتمع او مؤسسة الدولة هي المنتج لاكثر حالات التعارض بين الهويات الفردية . في تجربة الاتحاد السوفيتي السابق مثلا ، جرى اجبار المواطنين على التنكر لهوياتهم القومية والدينية والالتزام بالهوية السوفيتية في التعبير عن الذات . وفي تركيا الاتاتوركية اطلقت الدولة على الاقلية الكردية اسم "اتراك الجبل" ومنع التعليم باللغة الكردية او استخدامها للحديث في المحافل العامة او دوائر الدولة . وفي كلا المثالين ، وجدنا ان النتيجة هي تحول الهوية القومية الى عنصر تضاد مع الهوية الوطنية ومبرر للانشقاق. ولهذا يركز الاكاديميون اليوم على دور الهوية في تحديد ديناميات الحراك الاجتماعي والسياسي. مسألة الهوية لا تعالج بالوعظ الاخلاقي ، بل تحتاج في الدرجة الاولى الى فهم معمق للتنوع القائم في كل قطر وكيفية تاثيره على السياسة ، ثم التعامل معه بمنظور الاستيعاب والتنظيم وليس الانكار او الارتياب.
مقالات ذات علاقة 
الهجوم على الثوابت .. اين هي الثوابت ؟

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...