06/03/2010

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي


صورة ذات صلة
  يمثل كتاب د. نادر كاظم "استعمالات الذاكرة في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ" محاولة جادة لفهم اشكالية الهوية في مجتمع الخليج. كثير من النقاشات التي عالجت المسألة الديمغرافية والتطور السياسي واشكاليات التحديث والعلاقة مع الغرب ترتبط جوهريا بمشكلة الهوية . لكن معظم ما كتب خلال السنوات الاخيرة تحاشى مقاربة جوهر المسألة . وحتى تلك التي تعرضت لها فقد ركزت على تنبيه القراء والباحثين الى اهمية الموضوع وحيويته والضرورة الفعلية لطرحه في نقاشات علمية ونقاشات عامة . هذا النوع من المعالجة يدور حكما حول حواشي الموضوع وتمثلاته اكثر مما يطرق جوهره. واظن ان الحساسية السياسية والاجتماعية هي التي حالت دون طرقه بصورة معمقة وعلى نطاق واسع . على اي حال فان منطقة الخليج وكثير من الدول العربية الاخرى تعاني من هذه المشكلة التي لاحظ د. محمد الرميحي منذ زمن طويل انها تميل الى التفاقم مع انتشار التعليم ، خلافا للفرضية التقليدية القائلة بان التعليم العام سيؤدي الى تفكيكها ، ولا سيما من خلال تسويد هوية جمعية ترسي مفاهيم مشتركة ، او ما يمكن وصفه باجماع وطني.
النقاشات العلمية في علاقة الهوية بالسياسة ليست قديمة . فابرزها يرجع الى النصف الثاني من القرن المنصرم . وبرزت خصوصا بعد ما وصف بانفجار الهوية الذي ادى الى تفكيك الاتحاد السوفيتي السابق. ثمة اتجاهان رئيسيان في مناقشة الموضوع ، يعالج الاول مسألة الهوية في اطار مدرس
ة التحليل النفسي التي اسسها سيغموند فرويد ، ويركز على العلاقة التفاعلية بين النمو الجسدي والتطور النفسي. بينما يعالجها الثاني في اطار سوسيولوجي يتناول انتقال الثقافة والقيم الاجتماعية الى الفرد من خلال التربية والمعايشة. كلا الاتجاهين يهتم بدور المجتمع ومؤسسة الدولة في تشكيل هوية الفرد ، من خلال الفعل العكسي ، او الاعتراف بالرغبة الفردية كما في الاتجاه الاول ، او من خلال التشكيل الاولي لشخصية الطفل – المراهق عبر الادوات الثقافية ، كما في الاتجاه الثاني.
هوية الفرد هي جزء من تكوينه النفسي والذهني . وهي الاداة التي تمكن الانسان من تعريف نفسه والتواصل مع محيطه. انها نظير للبروتوكول الذي يستعمله الكمبيوتر كي يتعرف على اجزائه وما يتصل به من اجهزة . ولهذا يستحيل الغاؤها او نقضها ، مثلما يستحيل الغاء روح الانسان وعقله . الغاء الهوية او انكارها لن يزيلها من روح الانسان بل سيدفع بها الى الاختفاء في اعماقه . وفي وقت لاحق سوف يؤدي هذا التطور الى ما يعرف بالاغتراب ، اي انفصال الفرد روحيا عن محيطه ، وانتقاله من الحياة الاعتيادية التي يتناغم فيها الخاص مع العام ، الى حياة مزدوجة ، حيث يتعايش مع الناس على النحو المطلوب منه ، بينما يعيش حياته الخاصة على نحو متناقض تماما مع الاول ، بل ورافض او معاد له في معظم الاحيان.
نتيجة بحث الصور عن نادر كاظم
الهوية الشخصية هي الوصف الذي يرثه الفرد من الجماعة الصغيرة التي ولد فيها ، والتي قد تكون قبيلة او طائفة او عرقا او قومية او قرية او عائلة او طبقة اجتماعية. وحين يشب الطفل يبدأ في استيعاب هويات اخرى ، ابرزها الهوية الوطنية ، كما يطور هوية فردية غير شخصية ترتبط بالمهنة او الهواية ، وفي مرحلة لاحقة يطور هوية اخرى يمكن وصفها بالاجتماعية وتتعلق خصوصا بالمكانة التي يحتلها في المجتمع او الوصف الذي يقدمه مع اسمه .
لكل فرد -اذن- هويات متعددة ، موروث ومكتسبة . يشير بعضها الى شخص الفرد ، ويشير الاخر الى نشاطه الحياتي ، بينما يشير الثالث الى طبيعة العلاقة التي تربطه مع المحيط العام ، الاوسع من حدود العائلة . يمكن لهذه الهويات ان تتداخل وتتعاضد ، ويمكن لها ان تتعارض . في حالات خاصة يخترع الفرد تعارضا بين هوياته. لاحظنا مثلا افرادا يتحدثون عن تعارض بين هويتهم الدينية وهويتهم الوطنية او القبلية . وقد يقررون – بناء عليه – التنكر لاحداها او تخفيض مرتبتها ، بحيث لا تعود مرجعا لتنظيم العلاقة بينه وبين الغير الذي يشاركه الهوية ذاتها .
لكن المجتمع او مؤسسة الدولة هي المنتج لاكثر حالات التعارض بين الهويات الفردية . في تجربة الاتحاد السوفيتي السابق مثلا ، جرى اجبار المواطنين على التنكر لهوياتهم القومية والدينية والالتزام بالهوية السوفيتية في التعبير عن الذات . وفي تركيا الاتاتوركية اطلقت الدولة على الاقلية الكردية اسم "اتراك الجبل" ومنع التعليم باللغة الكردية او استخدامها للحديث في المحافل العامة او دوائر الدولة . وفي كلا المثالين ، وجدنا ان النتيجة هي تحول الهوية القومية الى عنصر تضاد مع الهوية الوطنية ومبرر للانشقاق. ولهذا يركز الاكاديميون اليوم على دور الهوية في تحديد ديناميات الحراك الاجتماعي والسياسي. مسألة الهوية لا تعالج بالوعظ الاخلاقي ، بل تحتاج في الدرجة الاولى الى فهم معمق للتنوع القائم في كل قطر وكيفية تاثيره على السياسة ، ثم التعامل معه بمنظور الاستيعاب والتنظيم وليس الانكار او الارتياب.
مقالات ذات علاقة 
الهجوم على الثوابت .. اين هي الثوابت ؟

01/03/2010

طريق اليمن وطريق سريلانكا



الخميس الماضي (25-2-2010) كنت استمع لرسالة علي سالم البيض النائب السابق للرئيس اليمني بينما تتراءى لي صورة برافاكاران ، زعيم نمور التاميل الذي قتل قبل ذلك بيومين مع عشرات من رجاله . تحدث البيض من مدينة جنوب النمسا ، بينما تمدد جسد برافاكاران في لباسه العسكري قرب كوخ في جفنا شمال سريلانكا
تخلى البيض عن مقعد رئاسة الجمهورية كي يشارك في توحيد ما كان يعرف باليمن الجنوبي وشقيقه الشمالي في العام 1990. وحدة بلد مفكك حققت حلما لجميع العرب. لكن سرعان ما انفرط العقد . عجز الشركاء عن مواصلة الحديث حول نقاط الاختلاف انتهى الى حرب صغيرة ثم خروج قادة الجنوب جميعا من المعادلة.
في العام 2000 اصدر الاستاذ رياض الريس كتابا بعنوان "قضايا خاسرة" ، عرض فيه عددا من القضايا المثيرة للاسى في عالمنا الاسلامي وحوله . القاسم المشترك بين تلك القضايا جميعا هو كون اقلية ما طرفا فيها .  قد نعرف الاقلية من خلال وصفها المادي ، اي كونها اقل عددا ، وقد نعرفها من خلال وصفها السياسي. ثمة اكثريات تعامل كاقلية ، وثمة اقليات لا تشعر بذلك على الاطلاق .
حين قرأت كتاب الريس ، تذكرت انطباعاتي عن زيارتي الاخيرة لصنعاء عاصمة الوحدة في 1992 . وجدت الناس فرحين بالوحدة فرحة البسطاء حين يحققون حلما . لكن مشاعر النخبة كانت تنضح بالقلق وربما الارتياب. في مجلس الشيخ عبد الله الاحمر الزعيم القبلي والسياسي البارز ، وجدت رجل دين يتحدث عن الوحدة باعتبارها انتصارا على الشيوعيين الحاكمين في الجنوب . رد عليه صحافي شاب بان الوحدة لم تكن معركة بين الشيوعية والاسلام ، ولا بين الجنوب والشمال ، بل عقدا جمع شمل طائفتين من شعب واحد فرقته الاقدار والسياسة . ظننت لوهلة ان الحاضرين سوف يميلون جميعا مع الصحافي الشاب ، لكن الجميع بقي صامتا قبل ان يذهب الحديث في اتجاه اخر بعيد . صدمني اعراض الحاضرين عن مناقشة الموضوع ، سيما في تلك الفترة المبكرة ، حين كان خبز الوحدة لا يزال ساخنا
مساء اليوم التالي التقيت بالمرحوم جار الله عمر ، وهو سياسي مفكر ومناضل قديم ، ينتمي اجتماعيا الى الشمال وسياسيا الى الجنوب. وسألته عن انطباعه الشخصي عن مسار التوحيد ، فوجدته هو الاخر قلقا . قال ان قادة في صنعاء ينظرون الى الشراكة مع الجنوب كعبء لا كفرصة. اراد الجنوبيون شراكة كاملة في القرار السياسي المتعلق باليمن شماله وجنوبه ، بينما فكر قادة الشمال في نظام رئاسي تتمركز فيه السلطة والقرار عند شخص واحد يختار مساعديه من بين معارفه ورجاله الموثوقين. وزاد الطين بلة موقف التيار الديني الذي وجد في الوحدة فرصة لتصفية التيار الماركسي الذي كان حاكما في الجنوب ثلاثة عقود ، فوجهوا جانبا من جهدهم لاضعاف زعماء الجنوب والتشكيك في نواياهم او كفاءتهم ، وتخريب العلاقة بينهم وبين شركائهم في حكومة صنعاء.
بعد عقد ونصف من الوحدة اجد الهوة تتسع بين اهل الجنوب واشقائهم في الشمال ، ويتزايد شعور الجنوبيين بانهم اصبحوا فعلا اقلية في بلد اختاروا المشاركة في صناعته وترسيخ وحدته. ليس اقلية بالمعنى المادي – رغم انه يصدق بشكل او باخر - ، بل اقلية بالمعنى الاعتباري والسياسي ، اي محرومين من حقهم الطبيعي والقانوني في المشاركة المتساوية في القرار ومصادر القوة.
الرسالة التي وجهها علي سالم البيض من منفاه في جنوب النمسا لا تشبه تماما الرسالة التي نقرأها في جسد برافاكاران الممدد في شمال سريلانكا ، رغم ان كلا الرسالتين مليئة بذات القدر من الاسى والحسرة . طبقا للمعطيات السياسية القائمة فان اليمن لا يسير في طريق سريلانكا . لكن الازمنة خداعة ، فهي حبلى بما لا يرى ولا يتوقع .
هل ينتظر اليمنيون شركة مقاولات تمهد طريقا يشبه طريق سريلانكا ، ام يعيدون النظر في مفهوم الانتصار الذي افتخروا بانجازه. تحتاج الوحدة السياسية الى كثير من العمل كي تصبح وحدة ثقافية وشعورية . استعراض القوة العسكرية يوحي بالغلبة اكثر مما يوحي بالمحبة. البيت السعيد يحتاج الى عقد يوحد الارواح وليس الى اعلان بالانتصار في حرب حقيقية او متوهمة.
1 مارس 2010

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...