03/07/2004

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التأصيل

فكرة التأصيل هي احدى علل الفكر الديني المعاصر. وقد ظهرت في سياق الرد على الحداثة ، لا سيما في ميدان العلوم الانسانية. ويبدو انها تحولت - عن قصد او عن غفلة - الى نوع من المساومة مع الحداثة ، يؤدي في نهاية المطاف الى ابقاء العلم ميدانا خاصة للنخبة. ومن هذه الزاوية ، فهي تستوحي فكرة قديمة – وراسخة الجذور الى حد ما في التراث الديني – تقول بان من الافضل ابعاد عامة الناس عن الفلسفة والعلوم العقلية ، لان عقولهم اضعف من احتمال اشكالاتها ، ولهذا يخشى على دينهم ان يتزعزع اذا انفتح عليهم موج الاسئلة.

مارتن هايدغر

 في سياق الجدل حول الحداثة ، تبلور في العالم الاسلامي ثلاثة اتجاهات :

يدعو الأول الى رفض العلوم الحديثة كليا او جزئيا ، لان ما ورثه المسلمون من علوم ابائهم ، فيه خير وزيادة.

ويدعو الثاني الى الاخذ بالعلوم الحديثة وما تقوم عليه من اسس فلسفية ، لان العلم هو ميراث الانسان في كل الازمان والامكنة ، وان الاخذ بهذه العلوم سيؤدي بالتدريج الى توطينها واغنائها بالقيم الخاصة بالمجتمعات المستقبلة.

اما الثالث الذي يبدو انه حل محل الاتجاه الاول ، فيدعو الى الاخذ بالجوانب التقنية في العلم الحديث ، وترك القواعد الفلسفية والمعيارية. ثم تأصيل تلك الجوانب ، اي اعادة بنائها على اساس المعايير الخاصة بالاسلام.

حتى هذه النقطة يبدو اقتراح التأصيل حلا مريحا ، خاصة لأولئك المهمومين بقلق الغزو الفكري والهجمة العالمية على الاسلام ، وبقية مفردات نظرية المؤامرة. لكن هذا الحل الذي يبدو مريحا ، غير صحيح من الناحية المعيارية ، وغير ممكن من الناحية العلمية. يقوم هذا الحل على فرضية خاطئة اساسا ، تخلط بين الدور الوصفي - التفسيري للعلم والدور التوجيهي للعالم. الممارسة العلمية بالمعنى الفني ، عملية وصف وتحليل وتفسير. اما توجيه النتائج ووضعها في سياق دعوة او استخدامها لتعزيز دعوة ، فهي خارج نطاق العلم ، ويمكن ان يقوم بها اي انسان ، عالما او غير عالم.. ولهذا تميز المجامع العلمية بين الابحاث التي تستهدف العلم بذاته ، وتلك التي تستهدف وضع سياسات عمل. الاولى تقوم – او ينبغي ان تقوم - على معايير علمية بحتة ، بينما تهتم الثانية بوضع خيارات ملائمة لأهداف محددة مسبقا ،  ولهذا فان اعتبارها العلمي ادنى من الاولى. 

لكي يقوم الباحث او المفكر بممارسة علمية صحيحة من الناحية التقنية ، فانه يحتاج الى التحرر الكامل من قيود الاستهداف المسبق. يجب ان يكون الغرض الوحيد للبحث ، هو التوصل الى معرفة جديدة ، حتى لو كانت تعارض المسلمات والبديهيات التي يؤمن بها سلفا ، لان غرض العلم ليس تعزيز الايمان بل كشف الحقائق الغائبة.

طبقا للفيلسوف الالماني مارتن هايدجر فان من المستحيل تقريبا ، الانفصال عن المسلمات الذهنية السابقة ، التي تشكل عقل الانسان ونظرته الى العالم. دور الخلفية الثقافية في تحديد فهم الانسان للعالم المحيط به ، بما فيه من ناس واشياء ، امر ثابت ، بل هو من المسلمات التي لا يختلف عليها اثنان. لكن لا بد من ملاحظة الفارق الدقيق بين التأثر العفوي بهذه المسلمات ، وسوق الحقائق والتفسيرات بالقوة لكي تطابقها. مشكلة فكرة التأصيل انها تدعو الى المعنى الثاني على وجه التحديد ، اي فرض مسلمات سابقة (يدعى انها دينية) على صورة الحقيقة ، وكيفية وصفها وتحليلها ثم تفسيرها ، وفي هذه الحالة فاننا لا نتوصل الى اي معرفة جديدة ، بل الى تأكيد ما نعرفه مسبقا او ما نريد تحويله ، من رغبة عاطفية الى معرفة او شبه معرفة.

الاشكال الثاني يتعلق بالمعايير الدينية التي يراد تطبيقها على العمل العلمي. الكتاب والسنة لا يقدمان بحوثا علمية ، بل منظومة قيم تتعلق اساسا بمسألة الوجود والكينونة. نقل هذه القيم من صورتها الاصلية ، المجردة والمعيارية ، الى نطاق محدد علمي او عملي ، يؤدي فعليا الى نزع صفتها التجريدية المتعالية ، وتحويلها من مطلق الى محدد ، ومن مجرد الى نسبي. هذه العملية التي يطلق عليها احيانا "الاجتهاد" تتضمن بالضرورة ، تأثر النتائج التي يتوصل اليها المجتهد بخلفيته الذهنية الخاصة.  الزعم بامكانية اخذ النص واستعماله في الاجتهاد او التطبيق ، دون مؤثرات ذهنية او خارجية ، يستحيل اثباته علميا وتجريبيا.

كل اجتهاد هو بدرجة او بأخرى نتاج عقل مختلف في مكوناته ، ولهذا تختلف اجتهادات المجتهدين وتتعارض. فاذا توجهنا الى المجتهدين للحصول على ما يوصف بالقيم الدينية ، فان ما سنحصل عليه ليس قيما معيارية بل منظورات شخصية. وبهذا فان ما سنبني عليه علمنا ليس القيم بل آراء اشخاص محددين. 

لهذين السببين ، ولأسباب اخرى ربما نعود اليها لاحقا ، فان فكرة التأصيل التي يدعى اليها ، كسبيل للمواءمة بين العلوم الحديثة والتقاليد العلمية او السلوكية (التي يدعى انها دينية) لا يمكن ان تنتج علما. لكي ينتعش العلم فانه يحتاج الى التحرر من الاهداف المسبقة والرغبات.

http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/7/3/Art_122424.XML
جريدة عكاظ السبت - 15/5/1425هـ ) الموافق  3 / يوليو/ 2004  - العدد   1112

مقالات  ذات علاقة
-------------------


23/06/2004

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

خطاب العنف هو ايديولوجيا قائمة بذاتها. وهو  - مثل سائر الايديولوجيات - يستثمر اللغة السائدة ورموزها ، ويعيد ‏انتاجها في قوالب جديدة تبرر اغراضه وتعلي قدره. الايديولوجيا نظام مفهومي - قيمي يميل بطبيعته الى تعميم ‏نفسه ، وادعاء القدرة على تفسير الانسان والاشياء والعالم ، باعتماد نموذج تحليلي صارم يطبق على الجميع .

في المقابل ، يميل التدين المدني المعتاد الى تفسير كل عنصر من عناصر الحياة بصورة موضوعية ، اي من خلال النظر اليه ‏كموضوع خاص له معاييره وادوات التفسير الخاصة به. ولهذا يقال بان الايديولوجيا حجاب الحقيقة . لانها ‏ببساطة تصور الواقع على نحو افتراضي يخالف حقيقته. ونجد ابرز تمثلات هذا في منظور دعاة العنف ‏لمواطنيهم ، فهؤلاء لا يظهرون في ادبيات المجموعات الايديولوجية كشركاء واخوة ، بل كعلمانيين ومتغربين ‏ومبتدعة.. الخ ، اي كأعداء. على رغم ان شراكة الوطن لا تسمح بغير علاقة الشراكة ، والا كان المصير هو انهيار ‏السلام الاهلي وطغيان العنف المتبادل.‏

تعيد الايديولوجيا بناء ذهنية الفرد الذي يقع تحت تاثيرها ، فتحوله من فرد مدني ، او – حسب تصوير الفلاسفة ‏‏- كائن مدني بطبعه الاولي ، الى فرد ايديولوجي يهتم بالحدود التي تفصله عن الغير ، اكثر من اهتمامه بالمشتركات ‏التي تجمعه واياهم. ذهنية الفرد هي منظومة القيم والمفاهيم التي على ضوئها يصف الفرد نفسه لنفسه، ‏ويحدد المسافة بينه وبين الغير. تتشكل هذه المنظومة بتاثير عوامل مختلفة اجتماعية وثقافية واقتصادية. تاثير ‏الايديولوجيا على الذهنية يتحدد في اعادة ترصيف تلك المكونات وربطها بمعايير الايديولوجيا نفسها ، وعندئذ ‏فان الفرد يتناسى المعايير الموضوعية في تقييم علاقته مع الغير، اي يغفل كون هذا الغير حسن الخلق امينا ‏مهذبا متعلما ناجحا ، ويركز على موقفه من تلك الايديولوجيا الخاصة ، اي مع او ضد. ‏

خطورة خطاب العنف تكمن في قيامه على ايديولوجيا لبست رداء الدين. وأقول انها لبست رداء الدين لان ‏الناس لم يكونوا كفارا فاسلموا ، بل ان التدين اتخذ نموذجا خاصا ، يمكن تمييزه بوضوح عن التدين الاجتماعي ، ‏الذي كان متعارفا قبل اوائل الثمانينات الميلادية. في هذا النموذج يجد الانسان نفسه مسوقا الى تحديد هويته ‏، انطلاقا من معايير الايديولوجيا التي تركز على تعريف الاخر كعدو ، وهذا هو الفارق الجوهري بين فكرة الولاء ‏والبراء الايديولوجية ونظيرتها الدينية.‏

تفكيك خطاب العنف يبدأ بتفكيك الايديولوجيا التي توفر له المبررات ، وتحمله الى عقول الناس وقلوبهم . ‏تكشف تجارب العالم ان تفكيك الايديولوجيا لم يكن مهمة شاقة. سهولتها تكمن في اتكالها على صور افتراضية ‏عن الواقع ، ولهذا فان الخطوة الحاسمة لتفكيكها ، تتمثل في كشف الواقع امام الناس ، بمن فيهم اولئك الذين ‏يحتمل ان يقعوا تحت تاثيرها. ليست ايديولوجيا الارهاب التي نواجهها اليوم اكثر قوة وتماسكا من الايديولوجيا ‏الشيوعية في اوربا واسيا . لقد تفككت هذه الايديولوجيا خلال زمن قياسي ، حينما توفرت الفرصة للتعددية ‏الثقافية وحرية التعبير ، والغيت القوالب القسرية التي تقيد السلوك الاجتماعي للافراد. ينطوي المجتمع على ‏امكانات ثقافية هائلة ومتنوعة ، يمثل كل منها تحديا جديا لخطاب العنف . كما يمثل – من زاوية اخرى – احد ‏وجوه الواقع الذي تنكر ايديولجيا الارهاب وجوده . ‏

تحرير السلوك الاجتماعي من قيود التقاليد والايديولوجيا ، سوف يؤدي هو الاخر الى اشاعة الخطاب الذي يؤمن ‏بالحياة المدنية الطبيعية ، ويميل الى التساهل مع الذات والغير . وطبقا للدراسات المتوفرة عن تجارب التحول ‏الاجتماعي في بلدان مختلفة ، فان ازالة القيود المفروضة على الحريات الاجتماعية ، قد ادت مباشرة الى تعاظم ‏الامل في المستقبل وازدياد الثقة في النظام الاجتماعي. وكلا العاملين ، الامل في المستقبل والثقة ، يلعبان دورا ‏معاكسا تماما لما تبشر به ايديولوجيا الارهاب ، فهما يعززان الميل الى التصالح والتساهل ويضعفان جانب ‏المنازعة في شخصية الفرد . واظن ان جانبا كبيرا من التوتر النفسي الذي يستثمره الارهابيون ، هو ثمرة لضيق ‏مساحة الحريات الاجتماعية. ولهذا فان اطلاقها سيكون الخطوة الاولى لاعادة غول العنف الى قمقمه.‏


الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...