06/04/1997

سلع سريعة الفساد: حروب الكلام

معظم الذين يعارضون الحركات الاسلامية ، يتهمونها باستغلال الخطاب الديني لتحقيق اغراض سياسية او حزبية. وهذا الوصف قابل للتطبيق على كل شخص او جماعة. فكل من اراد النيل من منافس له ، وصفه بالانتهازية ، او ارتداء عباءة الايديولوجيا لتحقيق اغراض سياسية او غير سياسية. واذا اراد التوسع في الوصف او تأكيد (التهمة) تبرع بتبرئة الدين من السياسة او المصالح. وتنشر الصحافة العربية كل يوم تقريبا ، مقالات او تصريحات لمعارضين سودانيين ، تتهم النظام القائم بانه مخادع ، وزعيم الجبهة القومية الاسلامية التي تدعمه بانه انتهازي ، يستغل الشعار الديني لتبرير استيلاء الجبهة على مفاصل الحياة السياسية .

 وقد قيل مثل هذا في النظام الايراني ، ويقال عادة في كل الصراعات الصغيرة والكبيرة التي تجري بين الفئات السياسية. وأمامي تصريح للسيد رفعت السعيد ، وهو من زعماء اليسار في مصر يحذر من ان جماعة الاخوان المسلمين تستغل الديمقراطية لكي تقتلها حينما تصل الى الحكم ، لانها لا تؤمن بالديمقراطية ولا تمارسها (الحياة 3/7/1996) وهو كلام يمكن تطبيقه على الحزب الذي ينتمي اليه السيد السعيد ، فقد شهدت مصر بعض احلك ايامها حينما كان اليسار في السلطة ، وأمامي ايضا خبر عن احتجاج قدمه الامين العام لجناح حزب البعث اليمني المؤيد للعراق ، الى لجنة الاحزاب في الحكومة اليمنية ، يتهم الجناح المؤيد لسورية في الحزب نفسه باستغلال الاسم لاغراض سياسية ، بخلاف ما ترمي اليه المنطلقات والبرامج الخاصة بالحزب ، ويتهم اللجنة بالتآمر مع هذا الفريق ، خلافا للسلوك الديمقراطي والدستور والفانون الجاري (الحياة 4/7/1996) .

 خلاصة ما نريد قوله ان اتهام الجماعات الاسلامية بالانتهازية او استثمار الدين ، هو مجرد سلعة في سوق الصراع بين القوى السياسية ، ومثلما يوجه للاسلاميين ، فهو قابل للتوجيه ضد اي طرف سياسي اخر ، فيمكن اتهام اليسار باستثمار شعار العدالة الاجتماعية لتقويض الحريات الفردية ، كما يمكن اتهام الليبراليين باستثمار شعار الديمقراطية والحريات ، لافساد المجتمع او اقامة حكم يعتمد على استثمار الاقوياء للضعفاء .

 والحقيقة ان ايا من  السياسيين الذين حاولوا التقدم في ميدان السياسة ، لم يعجز عن ابتكار قائمة اتهامات من هذا النوع يوزعها على منافسيه ، لكن ايا منها لايصلح دليلا لتقويم تجربة الطرف المتهم او مصداقية طروحاته. انها اشبه بالسلع السريعة الفساد ، ليس لها اي قيمة خارج الظرف الذي شهد اطلاقها ، الظرف المحدود زمنيا ومكانيا  .

ولايقتصر هذا النوع من التراشق على الجماعات المختلفة ايديولوجيا ، ففي داخل التيار الاسلامي نفسه ، نرى التقليديين يتهمون الحركيين الجدد باستثمار الشعار الاسلامي لتحقيق مآرب سياسية آنية ، ويتهم هؤلاء اولئك باستغلال الدين لتجميد المجتمع الديني ، ويشكك كل من هؤلاء في الاخر ، في اخلاصه وفي تقواه وفي تطابق منهجه وتكتيكاته مع مرادات الشريعة. وكل هذه الاتهامات والمراسلات الخطابية ، نفخ في الالفاظ لا يغير شيئا من الحقيقة ، لكنها تعكس الارتباك السائد في تحديد خطوط الاتصال وخطوط الانفصال ، بين ما ندعوه مبدأ وما ندعوه مصلحة .

ويظهر ان الذين يوصفون بالمصلحية - عادة - هم النشطون في المجال الاجتماعي او السياسي ، الذين يهددون غيرهم بابتلاع مجاله الاجتماعي او فرصته السياسية ، اما المنعزل الذي لا يهدد احدا ولاينافس احدا ، ولايسعى لتحويل رصيده الشخصي الى قوة سياسية تنافس القوى القائمة ، والتي تخطط للقيام على الساحة ، فانه ينام قرير العين ، لا يرشق بحجر ولا ينال منه لسان. وكان استاذنا اية الله السيد محمد الشيرازي اطال الله عمره يقول ان راشقي السهام في الحروب القديمة ، يوجهون سهامهم الى اصحاب القامات العالية والرايات الواضحة ، قبل بقية الجيش. وقرأت في حياة الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول قوله ، انه حاول الفرار من اسر القوات الالمانية مرارا ، لكن قامته الطويلة فضحته دائما ، فلم يكن بين الجند من هو في مثل طوله ، ولهذا كان جميع جنود المعتقل الالماني يعرفونه حتى لو اخفى وجهه ، والحاصل ان الاتهام بالانتهازية او المصلحية ، هو في حقيقته لون من الوان الصراع الاعتيادي يواجهه كل نشط على الساحة ، وكلما امتدت قامته وظهر صيته ، ازداد حجم الاتهامات الموجهة اليه لا سيما من هذا النوع .

قلنا سابقا ان التزام الانسان ، سياسيا كان او رجل شارع ، بمصلحته او مصلحة جماعته ليس تهمة ، وليس عيبا ، وبناء المواقف على اساس المصالح ليس خطأ بل قد يكون عين العقل ، كما ان تأثر الاراء والافكار بالمصالح ليس اختيارا ، فعقل الانسان لا يتحرك بمعزل عن تعاطيه مع شئون حياته ، ولذلك فانه لا يوجد انسان الا وهو ينظر ، حين يتكلم وحين يعمل ، الى مصلحة ، مصلحة لنفسه او لجماعته او لعقيدته ، وهي في كل الاحوال مصلحة للذات .

لكن مع ذلك ، وبسبب تخلف الثقافة وانفصالها عن الحياة ، واحتلال الخيال مكان المنطق في عقل الانسان المسلم ، فقد اصبح السعي الى المصلحة عيبا يسوء المرء ، كما  اصبح التباطؤ عنها او القعود عنها حتى تضيع ، مكرمة يستحق صاحبها الثناء وجميل الذكر ، وما نريد قوله كخلاصة انه لا يمكن للانسان ان يكون فاعلا الا اذا وثق اتصاله مع الواقع الذي يعيش ، الواقع بما فيه من مادة وعناصر حياة وجمهور وقوى وسلطة. ولان العلاقة بهذا الواقع مستحيلة ، اذا لم يظهر الانسان استعدادا للتشابك مرة والتلاحم أخرى والقتال ثالثة ، فان على الانسان ان يهيء نفسه لردود الفعل ، السلبية والايجابية ، وعليه ان يتحمل الاساءة بمثل ماهو مستعد لتقبل الثناء.

23/03/1997

مباديء اهل السياسة ومصالحهم


لم يبخل احد من الحركيين الاسلاميين في عرض الادلة ، على ان موقفه خلال الاجتياح العراقي للكويت في اغسطس 1990 ، كان تعبيرا عن مصلحة مؤكدة للاسلام كدين وللمسلمين كأمة ، لكن ولسوء الحظ ، فإن هذه المواقف تباينت الى حد التناقض ، وترتب عليها اتهامات متبادلة من جانب المتعارضين ، في الادلة والاسباب التي حملتهم على اتخاذ مواقفهم ، واعتبر كل من الطرفين ان الآخر لم يَرْعَ متطلبات معينة في الشريعة ، يعتقد أنها أولى بأن تقدم في الاعتبار  .

ستجد ان هذا الاختلاف في الموقف ، كان هو السائد ايضا وسط التيارات الاخرى غير الاسلامية ، بل يمكن القول ان الجماعات السياسية في كل بلد قد تبنت الموقف الذي ساد في بلدها ، بغض النظر عن متبنياتها الفكرية الخاصة ، وفي هذا اشارة الى ان الاساس الذي بني عليه الموقف لم يكن تنظيرا ايديولوجيا مجردا ، بل ادلجة للتوجهات الاجتماعية التي هي نتاج خالص لشروط البيئة الاجتماعية وانعكاساتها ، والفرق كبير بين العودة الى مجردات الايديولوجيا ، وبين وضع التوجهات المجتمعية في اطار ايديولوجي ، ففي هذه الحالة ستكون الايديولوجيا مجرد مصدر لتبرير الارادات الخاصة او العامة ، وليست اساسا للحكم ، فهي محكومة بالمجتمع وليست دليلا له  .

تناقض المواقف

رأى الاسلاميون في الخليج ان الغزو بما هو عدوان ، وتضييع للحقوق وانتهاك للحرمات ، هو اولى بان يكون الأساس في التقدير ، وان ما تبعه من تطورات ، ولاسيما الإستعانة بغير المسلمين في رد المسلم المعتدي ، انما هو تسلسل للضرورة الاولى المتمثلة في الاعتداء ، وليس حدثا منفصلا يتطلب موقفا منفصلا عن الأول ، خاصة مع عدم التمكن من رد العدوان بأي وسيلة أخرى .

 اما الاسلاميون من الدول الاخرى فاختلفوا أولاً في تقييم الحدث الاول وهو الغزو ، فرأى معظمهم انه غير مقبول ، بالنظر الى ما يرتبه من آثار عامة ، حتى مع التحفظ في التفاصيل ، لكن معظمهم عاد ـ من ثم  ـ الى اعتبار موضوع الغزو ثانويا ، بعد ان تدخلت القوات الاجنبية في المعركة ، بناء على ان الحرب بين الكافر والمسلم ، توجب نصرة المسلم مهما كانت طبيعة القضية .

وقد حدث تلاوم كثير بين اصحاب هذا الاتجاه واصحاب الاتجاه الآخر ، أدى من الناحية الفعلية الى انشقاق في التيار الاسلامي ، شبيه للانشقاق الذي احدثته الازمة على مستوى الحكومات العربية ، ووصف الخليجيون الاخرين بأنهم مكيافيليون ، تنبع مواقفهم من الرغبة في الاستثمار السياسي السريع المردود ، بينما وصف هؤلاء اولئك بالسطحية في تقدير الامور ، والنظر اليها من زاوية المصالح الشخصية ، والخوف على نعيم الحياة الذي يمثل مجتمع الخليج البترولي رمزه الابرز .

ومع ان هذه الاوصاف هي نتاج للانفعال الفوري بانعكاسات الازمة ، ويصعب التدليل على صحتها او سقمها ، الا انها من ناحية اخرى ، تكشف عن قبول الطرفين باعتماد (المصلحة) اساسا في تقييم الموضوعات واتخاذ المواقف .

وربما بدا هذا الاستنتاج بديهيا لكثير من القراء ، فليس ثمة عاقل الا وهو يلاحظ مصالحه حين يقدم على اي عمل ، لكن الامر ليس بنفس العفوية في الحياة السياسية ، فعلى الرغم من ان الاكثرية الساحقة من السياسيين والنشطين في المجال الاجتماعي ـ اذا لم نقل جميعهم ـ يؤسسون مواقفهم المكتومة  والمعلنة على (المصلحة) التي يرونها لانفسهم او للوسط الاجتماعي الذي يعتمدون على دعمه ، المصلحة الفورية عادة ، والبعيدة الامد في بعض الاحيان ، الا ان الجميع يتنصل من هذه الحقيقة ، وربما اعتبر مثل هذا القول ( تهمة ) تستوجب النفي والتكذيب ، وهو يجاهد بكل ما استطاع للتدليل على ان مواقفه وأراءه ، هي التجسيد الكامل والدقيق لمرادات الايديولوجيا التي يتبناها (الشريعة او غيرها) .

وبالنظر الى غموض العلاقة بين فكرتي المصلحة والمبدأ ، فقد اصبح من الاعتيادي ان ينظر الى فريق من السياسيين ، باعتبارهم مبدئيين ، والى غيرهم باعتبارهم مصلحيين (او براغماتيين حسب التعبير المتداول حاليا) ويشار الى الفريق الاول باعتباره اكثر تمسكا بالعقيدة ، والى الثاني باعتباره متحررا ، والحقيقة ـ كما هي في الحياة السياسية على اقل التقادير ـ ان الفريق الاول لا يختلف عن الثاني ، في اعتبار المصلحة العاجلة او البعيدة الامد منطلقا واساسا لمواقفه العملية ، وغاية ما يميزه عن منافسه هو قدرته اللغوية او المعلوماتية ، التي تتيح له عرض موقفه في اطار يبدو لصيقا بالايديولوجيا ، بينما يفتقر الثاني الى البراعة اللفظية والاعلامية التي يتمتع بها الاول .

من الواضح ان فكرة ( المصلحة ) والتاسيس عليها والدفاع العلني عنها ، غير موجودة ، او لنقل ـ على سبيل التحفظ ـ انها غائبة في الثقافة الاسلامية المتداولة ، ولا سيما الشعبية ، ولذلك نجد ان الخطاب الرسمي كالخطاب الشعبي تماما ، يتحدث عن علاقة الدولة بالمجتمع ، وعلاقة الدولة بالدول الاخرى ، وعلاقة الاطراف الاجتماعية ببعضها باعتبارها تجسيدا لقيم او متبنيات ذات ظلال معنوية بحتة ، بينما هي في الواقع ، وينبغي ان تكون ، تعبيرا عن مصالح تتقارب او تتباعد ، ان اقرب الاصدقاء في السياسة قد تبعده مصالحه عنك ، كما قد تقربك مصالحك الى البعيد القصي ، وبالنسبة للزعيم او الجماعة السياسية ، فان صدقيتها في تبني مصالح المجتمع الذي تدعي تمثيله ، ستكون رهينة  بمدى حرصها على تحقيق مصالحه المباشرة والمحددة ، وليس في انسجامها مع متبنياتها الايديولوجية التي تخصها وحدها ، حينئذ فان المبدئية الحقة ستكون في حجم الانجازات المحققة للجمهور ، أي في قدرتها على تحقيق المصلحة العامة .

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...