أصبح تقليديا القول بان الاسلام قد خص
العلم وأهل العلم ، بالمكانة الارفع في سلسلة المراتب الاجتماعية ، وتعارف
المسلمون على هذا المفهوم ، حتى استحال ثابتا من ثوابت العلاقات الاجتماعية .
لكن المسلمين ـ مع هذا ـ بين اقل شعوب
العالم ، استفادة من العلم واستثمارا لنتائجه ، في شئون حياتهم المختلفة ، وتدل
احصائية نشرتها اليونسكو قبل اعوام قليلة ، على ان نصيب الدول العربية من انتاج الكتب ، يقل في مجموعه السنوي
عن مثيله في معظم الدول المتقدمة ، كما توصل باحث لبناني في دراسة عن تجارة الكتاب
في العالم العربي ، الى نفس الاستنتاج ، ولاحظ ايضا ان نسبة تفوق الثلث ، من الكتب
التي تحتويها الاحصاءات الوطنية ، هي اعادة طباعة لكتب قديمة ، ويؤيد هذا المنحى
استطلاعات نشرتها الصحف عن معارض للكتب ، اقيمت في اربع عواصم عربية ، خلال عامي
1988 و 1989 ، تضمنت تصريحات للناشرين ، تشير جميعها الى ان الكتب التي تحظى باكبر
قدر من المبيعات ، هي الكتب التراثية على اختلاف موضوعاتها وانواعها .
وباستثناء الكتب المدرسية وكتب الدعاية
الرسمية ، فان ايا من الكتب التي صدرت باللغة العربية في الاعوام الاخيرة ، لم
يتجاوز توزيعه بضعة الاف ، ولم نسمع عن كتاب وصل توزيعه الى المائة الف نسخة ، اما
في الغرب فان بعض الكتب تطبع لاول مرة ، بما يجاوز هذا الرقم ، ولدي معلومات عن
كتب طبعت نصف مليون نسخة .
ويرجع هذا التباين بيننا وبين الغرب ،
الى الفارق في مستوى التعليم ومستوى المعيشة ، فضلا عن الصعوبات السياسية ، التي
تحول دون انتشار المصنفات الفنية ، وهذه وغيرها ناتجة بدروها عن عدم تحول العلم
الى جزء من الحياة اليومية لمعظم الناس في بلادنا.
واذا كنت ممن اتيحت له زيارة اي قطر
اوربي ، فلابد انك شاهدت مدى اهتمام الناس بالمعرفة ، فهم يستثمرون اي وقت يحصلون
عليه في القراءة ، في القطار او الباص او على مقعد في الطريق فضلا عن المنزل ،
وهذا هو السبب الذي يجعل صحيفة يومية توزع مليون نسخة في اليوم ، رغم انها ليست
وحدها في الميدان ، فثمة عشرات اخرى غيرها ، يوزع بعضها مليونا ويوزع بعض آخر نصف
هذا الرقم او ثلثه .
ان الثقافة والعلم لايزال على رغم
انتشار التعليم في العالم العربي ، حرفة اقلية من العرب ، بينما يشك اكثر الناس في
جدواها ، أو على الاقل في قدرتهم على استنباط فائدة منها . واتذكر بهذا الصدد
حادثة قديمة عميقة المعنى ، شهدتها قبل عقدين من الزمن ، كنت اتشاغل بتصفح ديوان
شعر جديد للشاعرة العراقية نازك الملائكة ، ريثما يحين دوري عند احد المصورين ،
وعندما وصلني الدور نظر المصور من فوق نظارته متسائلا : ما هذا ؟ واشار الى
الكتـاب ، فاجبته بانه ديوان شعر ، فقال مستهجنـا (يوكل خبز ؟) اي هل يطعم خبزا ؟ اجبته ضاحكا : يوكل علم ... قال
: يعني مايفيد.
ليس غريبا بعد هذا ان تعقد المؤتمرات ،
وتلقى الخطب والمحاضرات ، في الشكوى والتحذير مما يطلق عليه الغزو الثقافي والغزو
الاعلامي ، والغزو الاخير مصطلح ابتكر خصيصا ، لمناسبة انتشار الاطباق اللاقطة
للقنوات التلفزيونية الاجنبية .
ـ لماذا نشعر بالقلق من الثقافة
الاجنبية ؟
ـ اليس لما عندنا من ارضية خصبة تستقبل
الغث والسمين ؟
ـ واليس هذا بسبب الفراغ الثقافي
الكبير الذي نحن فيه ، والا فما الذي يجعلنا في قلق من امرنا ، ولانجد مثل هذا
القلق عند المجتمعات المصدرة للثقافة ؟ .
لقد مضى على قيام التعليم الحديث في
العالم العربي نحو قرن من الزمن ، وثمة عشرات الالاف من الناس يتخرجون من الجامعات
كل عام ، ولازلنا ـ مع ذلك ـ نحتاج الى الخبرة الاجنبية في كل مشروع جديد ، وفي اي
مخطط للتطوير ، ثم ـ من بعد ذلك ـ نرفع اصواتنا بالشكوى من مظاهر الغزو الخارجي
لمجتمعاتنا .
هل نتخلى عن سعينا لتطوير حياتنا مع
مايتطلبه هذا من استيراد للخبرات والمعارف ؟ ام نتحمل ـ بالرضى او القهر ـ النتائج
المترتبة على خيار التطوير ، لابد لنا ان نختار ، ولابد لنا ان نختار مواجهة
التحدي ، لان الحياة لاتقبل التوقف او النظر الى الوراء .
مواجهة التحدي تعني ان نتعلم ما
استطعنا من الاخرين ، وان نسعى في الوقت نفسه لمعالجة الاسباب ، التي تجعلنا
عاجزين عن الوفاء بحاجاتنا ، مضطرين الى التطلع لما عند الغير .
ان قصورنا العلمي هو مايجعلنا مهددين
بالغزو الثقافي والغزو الاقتصادي ، وكل انواع الغزو الاخرى ، وهو ايضا مايجعلنا
عاجزين عن التحرك الحثيث ، نحو مهماتنا الوطنية الكبرى ، من تصحيح مسارات الحياة
الاجتماعية ، الى الاكتفاء في ميدان الانتاج الصناعي ، الى تطوير الامكانات
القائمة في مجال الغذاء ، فضلا عن ضمان استمرار القدر المعقول من اسباب الحياة
الكريمة ، اذا لم نطمع في بلوغ قدر من الرفاهية لعامة الناس ، مشابه لما هو موجود
في دول العالم الاخرى الغنية .
ويقتضي هذا اعادة نظر في الاسباب ،
التي ادت الى التباعد الفعلي بين عامة المواطنين العرب وبين الممارسة العلمية ،
اني اتحدث بالتحديد عن اهتمام عامة الناس بالعلم ، لان خاصتهم مهتمون فعلا ، لكن
هذا الاهتمام ـ كما راى المرحوم مالك بن نبي قبـل ثلاثـين عاما ـ لايجدي فتيلا ،
فما الذي يستطيعه رئيس عالم اذا كان اعوانه اميين .
نستطيع البداية بالمدرسة ، فالاهتمام
المبكر بالشبيبة ضمان لانتظام الجيل الاتي ، وهذا مشروط بتمكين طلاب المدارس ، من
قراءة اي شيء خارج المنهج الدراسي ، بتخفيف العبء الدراسي المرهق ، وبوضع منهج
توجيهي خاص لتشجيع الطلاب على القراءة الخارجية.
وحسب تجربتي الشخصية الراهنة ، فلا ارى
اي مجال للطلاب لكي يقرأوا شيئا خارج المقررات ، بل يعز علي ان أرى اطفالي الذين
اعتادوا تخصيص وقت للقراءة ووقت للهو ، وقد اصبحوا سجناء للمذاكرة والواجبات التي
لاتنتهي ، وهذا وضع لا اظنه صالحا او
مفيدا في تطوير قدرات الطالب الذهنية او تعويده الاستراحة الى الكتاب ، خاصة مع
الطريقة العجيبة التي يتبعها معظم المدرسين ، في اجبار الطالب على حفظ النصوص بدل
فهمها واعادة انتاجها بلغته الخاصة .
اما الخطوة الثانية فهي جعل العلم ـ
على اختلاف فروعه وموضوعاته ـ مرغوبا من عامة الناس ، قريبا من مجالات حياتهم
الاعتيادية ، وهذا يقتضي اعادة النظر في بعض التقييمات التي اكل عليها الدهر وشرب
، والتي يحتاج البحث فيها الى مجال اوسع ، فلنتركها لمقال قادم بعون الله .
نشر في (اليوم ) 24-10-1994