10/05/2011

الاسلام في ساحة السياسة: متطلبات العرض والتطبيق

http://www.adabwafan.com/display/review.asp?id=44D30498-1B42-432C-8645-3734E6108A53

علي سالم  - النهار
عرض نقدي
 الاسلام في ساحة السياسة ، تاليف توفيق السيف

128 صفحة ، دار الجديد ، بيروت 2000


يشهد العالم الاسلامي اليوم مرحلة من التفكير الديني الجديد الذي يتوافق مع بروز حركات اسلامية سياسية تسعى الى تبديل انظمة الحكم السياسية القائمة, من خلال طرح المشكلات العامة التي تهمّ الشعوب المعنية, كالأمان الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والحرية والديموقراطية والعدالة والاستعمار والتقدّم, الخ. وتمكّنت هذه الحركات من تحقيق سيطرتها في بعض البلدان, كإيران والسودان وافغانستان. وكان لها دور مهم ولا يزال في بلدان اخرى, مثل الجزائر ومصر والشيشان وسواها. وقد يكون ظهورها نتيجة الاخفاقات الاقتصادية الاجتماعية السياسية او العسكرية التي حصلت, مما ساعدها على كسر التقليد والتهميش والعزل والتصوّر, او الفكرة التي تفصل بين الدين والسياسة, والتي سادت لفترة طويلة من الزمن. في هذا الاطار, ظهر حديثا كتاب لتوفيق السيف عنوانه "الاسلام في ساحة السياسة" يعالج فيه المسائل المتعلقة بأزمة الاسلام السياسي (تحديدا مسألة حرية الرأي وحق الاختلاف), حاليا, من منظار نقدي ديني (الانطلاق من مسلّمة الدين كشيء مقدّس) يدمج بين الرؤيتين الوضعية والدينية. 

هنا بعض ملاحظاتنا المنهجية: 

- بين الوصف والتحليل: تتميز الطريقة المستخدمة بأنها وصفية اكثر منها تحليلية. فالكاتب يتحدث عن علّة العلل (شيوع الاستبداد بالرأي), والتقدم البطيء للعالم الاسلامي في معالجة مشكلاته الجوهرية, وعدم التغيير في ما يتعلق بنظرة الناس الى الافكار الجديدة, عوض البحث عن السيرورات الاجتماعية والسياسية والثقافية للاستبداد, وفي الاسباب الاجتماعية للتقدم البطيء وعدم التغيير. وينطلق من فرضية ان الاسلام يتيح لأبنائه او للآخرين حرية التفكير, ويحاول التأكد منها استنادا الى نصوص محدّدة او نموذج تطبيقي يعكس وجهة نظر معارضة في الاسلام, ويعمّم استنتاجاته كحقيقة لا لبس فيها, كأن حرية التفكير تتحدد بنفسها ولنفسها من طريق المبادئ والمثل والاخلاق, لا من طريق الظروف والمصالح والتناقضات والصراعات. وحتى المثل والاخلاق مرتبطة بمصالح محدّدة. وفاته ان مشروعية الاختلاف التي تشدّد عليها المعارضة كفكرة خاصة بالدين ليست سوى فكرة خاصة بفهم الدين, وان اي خلاف في الرأي هو خلاف في المصالح, وان معنى الدين لا يمكن فصله عن معنى الاشخاص او المجموعات المعنية به. وعلى هذا, تبرّر مشروعية الاختلاف كما يُبرّر التوافق والاتفاق. وتأتي الخطوات الاصلاحية (الدعوة الى التغيير, والتمسك بحق الرأي) للمؤلف بعد التشخيص (وصف الحالة الاجتماعية بناء على احكام قيمية تدلّ على القبول او الرفض), متجاهلة الفهم والشرح والتفسير وتحديد الاسباب, وان الحق قيمة اجتماعية قبل ان يكون قيمة نظرية. ويشرق الامل على الافكار الجديدة, وكأنه لا جديد بعدها. 

- بين الدين والمعارف الدينية: يورد الكاتب ادلة غير مباشرة عن التفريق بين الدين والمعارف الدينية. ويبدو ان مفهومه للعلم صحيح لجهة النقصان. اذ, مهما بلغت درجة تطوره, فإنه لن يتجاوز الوقوع في الاخطاء والصفة النسبية للحقيقة. ولن نتساءل في شأن نظرته القدسية الى الدين, وليس هدفنا ان نقول انها صحيحة او غير صحيحة. لكن يهمنا من هذا الجانب التأكيد على ان اي نظرية, قدسية او غير قدسية, لا يمكن تجريدها عن انظمة الاستعدادات والتصورات والواقع, وان الشيء المقدس ما هو الا نظرة. وبالتالي, من الصعب الفصل بين الموضوع والذات او بين الدين والمعارف الدينية. والشيء, في رأينا, لا يكتسب قيمة بذاته, بل هو الانسان مَنْ يمنحه قيمة. وحتى, عندما يحدِّد الانسان قيمة للشيء ويعتبرها خارجة عنه, فإنها, في الحقيقة, ملازمة له, لأنه هو الذي منحها. انها احدى الصور العديدة التي يملكها. والصفة القدسية التي تكتسبها لا تعدّل طبيعتها كنظرة الى الشيء. وفي هذا الاطار, ما قيمة الدين, اي دين, إن لم يوجد ناس يؤمنون به? وما قيمة النبي, اي نبي, ان لم يوجد اعتقاد به? وهل الفنان العظيم عظيم بذاته ام لأن الناس منحوه تلك القيمة? وعليه, فالعلاقة جدلية, لا موضوع من دون ذات, ولا ذات من دون موضوع. 

- الموقف من الشورى: الشورى, في رأي المؤلف, دليل على حق الاختلاف في الاسلام, وتُطبّق بالنسبة الى غير الرسول. ولكن, كيف تتحدّد عصمة النبي? هل الدين بذاته هو الذي يحدّدها ام الانسان? وهل ثمة امكان لفصل الدين عن الناس المعنيين به? ومن في استطاعته القول إنه المؤتمن اكثر من سواه على تفسير الدين بمعزل عن الناس والظروف? وهل الدين الذي يتحدث عن نفسه, ام الانسان الذي يتحدث عنه? ومن يملك المبادرة? 

- حول المسؤولية الفردية: يشير الكاتب الى ادلة فردية للتكليف والاختيار. وحول هذه النقطة, لا نعتقد بالنظرية القائلة إن الانسان حر او وُلد حرا مختارا على طريقة روسو, إذ لا امكان لسلخ الانسان عن ظروفه وواقعه. كما لا يعيش الانسان في السماء كجوهر او كقيمة بذاتها. والانسان ليس مجرد وعي مستقل عن الظروف الاجتماعية الطبقية او الضرورة. ولا يمكن الفصل كذلك بين حرية الفرد او خياراته وامكاناته الموضوعية (من رأس مال مادي او ثقافي او علمي...). وتصرف الانسان لا يُعتبر ارادة وحرية كما يتصور المفكرون المثاليون, ولا قدرا, كما يعتقد المفكرون الماديون. انه فعل تاريخي تتبدل حقيقته بتبدّل الزمن او الاسباب. وهو عبارة عن علاقة جدلية بين الذاتي والموضوعي. وفضلا عن ذلك, عامل المسؤولية الفردية غير علمي, في تقديرنا, وله صفة سياسية او ايديولوجية او اخلاقية. ويستند هذا العامل او الاعتبار الى فكرة ان الانسان جوهر بذاته (خارج الواقع او الظروف) ومسؤول عن تصرفاته. وتكون مسؤولية الظروف بسيطة او ثانوية. ويمكن النظر, في هذه الحال الى كيفية تعاطي القوانين السائدة في العالم مع الاشخاص والى وضع المحاكم والسجون واحكام الاعدام. ونحن, اذ نرفض الموقف الذي يعتبر الاختيار مسألة ارادية, فإننا نرفض ايضا لصق الصفة الارادية بالموقف المتعلق بالامتناع. والاكراه او الارغام غير مقتصرين على الضغط, ففي "الحالة الطبيعية" ثمة إكراه رمزي يتطابق ووضع الشخص المعني. وفي هذا الاطار, يُبرّر علمياً وليس اخلاقياً موقف اولئك الذين رفضوا الدعوة الربانية, تقليدا لآبائهم, وتنازلوا عن حقهم في الاختيار (المهم بالنسبة الى الباحث هو الانطلاق من الموقف الحاصل وتفسيره), وكذلك عدم فاعلية الوسائل التي تمكّنهم من الاختيار او تأثيرها. وبناء على ذلك, فالمسؤولية الفردية تنبع من فلسفة فردية ذاتية ماورائية لا صفة علمية لها. وتتكرس تلك الفلسفة بموازين قوى سياسية تفرض حقائقها على الافراد والمجتمعات كحقائق ابدية مقدّسة غير قابلة للنقد او التساؤل. 

- حول الزامية النظام العام: يميّز المؤلف بين فردية التكليف والزامية النظام العام. ولهذه الناحية الاخيرة, نشير الى ان مشروعية النظام الاسلامي (او نظام الشورى فيه) لا تختلف عن مشروعية النظام غير الاسلامي. فالشورى لا تضمن انتفاء المواقع المتنوعة, وبالتالي, المصالح, والهيمنة في أشكالها المختلفة, والتناقضات الفكرية والسياسية والاخلاقية, والصراعات. وقول مجموعة من الناس ان لا حق للدولة في فرض الافكار والمعتقدات (مناشدة اخلاقية صرفة), لا يعدّل من حقيقة فرض الدولة تلك الاشياء او من حقيقة الدولة, حديثا, كرأس مال متمركز او كقوة رأسمالية اساسية (فيزيائية واقتصادية وثقافية واعلامية وقانونية وسياسية ورمزية) تمارس, باسم حماية النظام, عنفا رمزيا (القوانين المتعلقة بالميادين المختلفة) يكتسب قيمة شرعية تعترف بها كل فئات المجتمع وتخضع لها. واي دولة, مهما كان شكلها, تمارس شرعية معينة تتضمن الزاما في الافكار والمعتقدات. والمعتقدات الجديدة ليست مجردة من صفة الالزام. فأي كلام مرتبط بسلطة وبأفكار لتبريرها وحمايتها وضمان استمرارها. 

- بين البحث والفهم القيمي: ثمة خلط دائم لدى المؤلف بين موقفه كباحث وموقفه كمناضل. ويأسف لحجب حرية الاختلاف في العالم الاسلامي, عوض البحث في الاسباب الاجتماعية لذاك الحجب. وعدم قبوله بالتبريرات الموجودة يفترض منه تقديم تبريرات جديدة. ويتحدث عن عمومية الاستبداد كأن الامر لا يحتاج الى البحث والتفسير. ويكرر اسفه في شأن موضوعات اخرى, بدلا من تحليلها كمعطيات ملموسة. ويشرح قمع الاختلاف في العالم الاسلامي بعدم وجود شرعية صحيحة (كأن هذه الاخيرة, من خلال الانتخابات العامة, لا تعكس التفاوت الاجتماعي, وتجسّد المصلحة العامة). ويطلب الى المظلومين والمكافحين ان يتحلوا بالديموقراطية, ويدعو الى اعتماد القرآن كميزان لكل فكر او عمل, والى العدل والاعتراف بحق الآخر, والى عدم الاستسلام والتخلي عن الارادة وتجميد العقل والاعتماد على عقل الرؤساء والتكفير... (كأن المسألة في كل تلك الحالات خيار ارادي ذاتي اخلاقي, لا خيار محدد بشروط الواقع). وتحدث عن الخمول والتخلف وعدم التعلّم والابداع وتشتتنا الى قبائل والاستبداد, ويرى في التفكّر والتعقّل والابداع, الطريق الوحيد الى النهضة, من غير تناول الاسباب او الشروط الاجتماعية. ويؤكد على التميز بين الدين وفهم الدين, بين النص وتفسير النص, بين الحقيقة المجردة والاجتهاد, كأن حقيقة الدين هي خارج حقيقة الانسان, وقدسيته ليست فهما او تصورا. ويدين الموقف الذي ينقل صفة القدسية من الدين الى تصورات الانسان. ويطرح موقفا من النقد يقوم على رفع حجاب العصمة عن اي موضوع, باستثناء الدين. ويتحدث في استغراب عن توجه التيار الاسلامي شأن اي تيار اجتماعي او سياسي, يسعى الى اكتساب القوة المادية, كأن ثمة امكانا لتيار فكري فوق تجاذب القوى والمنافسة. ويفصل الدين عن السيطرة, مع ندرة الامثلة التي تدلل على تعالي الانظمة المتعلقة به عن التجاذبات الاجتماعية او تساميها. ويعرّف الحرية بأنها مقياس واحد ذو نتائج متشابهة, من غير ان يحدد اساسها المادي الاجتماعي او كيفية ضمان حرية الآخر. وهل يكفي ان نقول ان الاستبداد بغيض ومرفوض كي نتخلص منه? الا تُشن باسم الديموقراطية حروب وتُرتكب جرائم كثيرة بحق الانسانية? الا يمارس العنف والهيمنة والسيطرة والاخضاع والاذلال ونهب الثروات باسمها? أليست الفاشية وليدتها وشكلا من اشكالها? وهل الغاء الآخر مقتصر فقط على الفكر الايديولوجي? ويقول ان العلاقات داخل المجتمعات الاسلامية غير طبيعية, دونما تحديد لمعنى الطبيعي وغير الطبيعي وشرح للاسباب. واعتقادنا انها غير طبيعية لو كانت غير متلازمة مع الشروط الاجتماعية التاريخية. بيد ان اللاتلازم المفترض يوجب براهين وادلة ملموسة.

07/05/2011

نافذة على فلسفة كارل بوبر



مجلة الخط – العدد الثالث – مايو 2011

اكتب هذه الملاحظات ناصحا زملائي واصدقائي بقراءة كارل بوبر ، الفيلسوف البريطاني ، النمساوي المولد ، الذي يعتبر واحدا من اهم الفلاسفة المعاصرين واكثرهم تاثيرا. رغم اني اميل شخصيا الى نظرية "تغير الانساق" التي اقترحها توماس كون فيما يتعلق بفلسفة العلم ، الا ان فلسفة بوبر تذهب الى افاق اوسع من تلك التي عالجها كون ، في فلسفة المعرفة وفي الفلسفة السياسية والمجتمع وغيرها.


ولد بوبر في فيينا عام 1902 ، وتوفي في 1994. في اوائل القرن العشرين اشتهرت فيينا بحلقاتها العلمية ولا سيما الفلسفية ، وكان لكل حلقة مذهب خاص ، وقد انتجت تلك الحلقات بعض اهم المساهمات في الفلسفة الحديثة. ليس من قبيل المبالغة القول بان الامة الالمانية قد ارست بعض اهم الاسس في العلوم والتقنيات الحديثة ، ولا شك ان شيوع الفكر الفلسفي في الثقافة الالمانية كان من ابرز العوامل وراء شيوع التفكير العلمي.

قدم بوبر نظرية هامة في فلسفة العلم تبدأ بنقد منهج الاستقراء الذي يقوم في صورته المبسطة على ملاحظة العناصر المشتركة بين الامثلة الواقعية وصياغة قاعدة عامة وصفية بناء على تلك المشتركات. رأى بوبر ان ملاحظة الواقع ليست بسيطة : حين ترى شيئا فانك لا تستعمل عينك فقط ، العين هي مجرد اداة لنقل المشهد الخارجي الى منصة فرز وتصنيف في داخل عقلك. هذه المنصة هي اداة فهم للاشياء تتشكل على ضوء ثقافتك السابقة وتوقعاتك وفهمك لنفسك ولمحيطك. ولهذا فان الوصف الذي تعطيه لذلك الشيء يتضمن – بصورة صريحة او ضمنية – حكما عليه. ومن هنا فان ما قرر الباحث انه عنصر اشتراك بين الاشياء هو في حقيقة الامر حكمه الخاص عليها ، وهو حكم قد يحكي الواقع وقد يجافيه.

 

يعتقد بوبر ان البحث العلمي في كل مراحله هو سلسلة من المشكلات الذهنية او الواقعية التي يجري تجريب الحلول عليها بشكل تدريجي. ما نسميه حلا او تفسيرا او نظرية هو في واقع الامر تجربة او مرحلة من مراحل تطور الفكرة وليس نهايتها. الباحثون في العلوم لا يختلفون في عملهم عن سائر الناس . اولئك مثل هؤلاء ، يتبعون نفس الطريق التجريبي في التعامل مع المشكلات التي يواجهونها . تبدأ العملية بتحديد المشكلة ، وهذا يقود الى بروز العديد من الحلول المحتملة ، التي تخضع للمقارنة بغرض استبعاد الاحتمالات الاضعف . ما ينتج عن هذه العملية هو احتمال اقوى وليس حلا نهائيا او حقيقة صريحة . سياتي اشخاص اخرون ويكتشفون بعض العيوب في تلك النتيجة ، ويقترحون حلا ارقى ، اي اقل عيوبا. وهكذا تستمر العملية ولا تتوقف ابدا. من هنا فان البحث العلمي لا يستهدف اثبات حقائق نهائية ، وهو على اي حال لا يستطيع بلوغ هذه المرتبة مهما حاول . هدف البحث العلمي هو تقديم حلول مؤقتة كل منها يمثل احتمالا افضل في وقته.

وضع بوبر معيارا للتمييز بين ما يعتبره علميا او غير علمي ، اثار الكثير من الجدل ، فحواه ان القابلية للتفنيد هي ما يميز العلمي عن غير العلمي. النظريات التي لا يمكن دحضها او تفنيدها ليست علما. يجب ان تكون الفكرة قابلة للتفنيد كي توصف بانها علمية. كلما ازدادت العناصر القابلة للتفنيد في النظرية كانت اقرب الى العلمية والعكس بالعكس. بناء على هذا المعيار قرر بوبر ان المادية التاريخية التي تعتبر من اعمدة النظرية الماركسية ليست علما لانها لا تحوي عناصر قابلة للتفنيد. كذلك الامر بالنسبة لنظرية فرويد المشهورة في التحليل النفسي.

غير العلمي يمكن ان يكون ايديولوجيا او ايمانا او ميتافيزيقا او انطباعا شخصيا ، اي – في العموم- شيء تؤمن به لانك تريد ذلك ، بغض النظر عن قابليته للاثبات والتجربة او عدمها. هذا المعيار ، الذي يبدو غريبا بعض الشيء ، ينطلق من اعتقاد بوبر بان العلم ليس اكتشافا واحدا ، بل هو سلسلة من الكشوف التي لا تتوقف . يتوقف العلم اذا توصلنا الى الحقيقة النهائية ، لكن هذا مستحيل بالنسبة للانسان . نحن نسعى للتعلم والبحث لا ننا لا نعرف الحقيقة الكاملة والنهائية ، ولو وصلنا الى هذه الغاية لما عاد الانسان محتاجا الى العلم ، وهذا من الاحتمالات المستحيلة.

يخلص بوبر من وراء هذه التحليل الى ان النظرية التي نعارضها قد لا تكون "خطأ" في الحقيقة ، بل هي احد الاحتمالات ، وان ردنا عليها هو احتمال آخر. سلسلة الاحتمالات هذه هي خط متصاعد يتطور من خلاله العلم وتتسع المعرفة. كل احتمال هو مرحلة ، ليس بالضرورة خطأ وليس بالضرورة صحيحا. هي في كل الاحوال احتمالات ومراحل تطور. نحن نستفيد من الفكرة التي نعتبرها خاطئة بقدر استفادتنا من الفكرة التي نعتبرها صحيحة.  فالاولى مثل الثانية تفتح اعيننا على بدائل وخيارات مختلفة عنها.

"منطق البحث العلمي" و "المجتمع المفتوح واعداؤه" هي ابرز كتب بوبر التي ترجمت الى اللغة العربية ، ويحوي الاول ابرز محاور نظريته في المعرفة ، بينما يدور الثاني بشكل رئيسي حول فلسفته السياسية التي ركز فيها على نقد الانظمة الشمولية والمثالية.

دار معظم فصول الكتاب الثاني حول نقد اليوتوبيا التي اقترحها الفيلسوف اليوناني افلاطون في "الجمهورية". ويعتقد بوبر ان اليوتوبيات او النظريات المثالية كانت من اكثر الافكار التي اساءت للانسان ، لانها قامت ابتداء على انكار فردانيته وخصوصيته ، وبررت للاقوياء ميولهم للاستبداد والتسلط. ولعل الانظمة الشمولية مثل النازية والشيوعية هي ابرز تمثلات المباديء السياسية القائمة على يوتوبيا . فهي تنطلق من ايمان اصحابها بانهم يملكون الحقيقة والادوات المناسبة لاجبار الاخرين على ان يكونوا صالحين وسعداء.

ويكرر بوبر السؤال الذي تردد عبر العصور: هل يستطيع احد غيري ان يحقق لي السعادة التي اتصورها واسعى اليها؟ هل السعادة تصور شخصي لما يريد الانسان ان يكون عليه او يفعله لنفسه ، ام هي تصور يصنعه الاخرون ويحشرونك في عباءته؟  بعبارة اخرى : هل انا الذي اصمم حياتي كي اصل الى سعادتي الخاصة ، ام ان غيري هو الذي يفكر نيابة عني ويقرر كيف يجب ان اعيش وما هو معنى السعادة التي اريدها؟.

مقالات ذات صلة
كتاب اخر يستحق القراءة : كارل بوبر "منطق البحث العلمي
نافذة على فلسفة كارل بوبر
حول القراءة الايديولوجية للدين

نافذة على مفهوم "البراغماتية"

مدينة الفضائل

ايديولوجيا الدولة كعامل انقسام: كيف يحدث التفارق الآيديولوجي والثقافي؟


29/04/2011

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات

لو اردنا تلخيص تاريخ الانسان منذ البداية وحتى اليوم في جملة واحدة ، لقلنا انه : كفاح من اجل التحرر والانعتاق. التحرر من قيود الطبيعة والتحرر من قيود الخرافة والتحرر من قيود الغشم والتحكم . جوهر انسانية الانسان هو ان يعيش حرا منطلقا قادرا على تجاوز حدود الجغرافيا وحدود البيئة وحدود الذات. كمال الانسان يكمن في تحرره ، في انطلاق عقله ، ولهذا وضع التحرر بين اهداف الرسالات السماوية  "ويضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم".

- هل تحتاج الحرية الى اثبات نظري؟.   

ربما ، لكننا ندعو المرتابين في ضرورتها الى تجربتها اذا لم يكونوا قد فعلوا، او الى التامل في معنى وقيمة الحرية التي مارسوها . ازعم انه لا يوجد انسان الا وقد خاض تجربة التحرر ، وازعم انه لا يوجد انسان الا وقد احب الحرية وكره القيود.

ربما يختلف الناس في مساحة الحرية التي يشعرون بالحاجة اليها ، وربما يختلفون في تقديرهم لمساحة المسؤولية التي تناظر مساحة الحرية ، وربما يختلفون في تقدير ضرورتها في وقت معين ، او في اهلية الاخرين لتحمل ما يترتب عليها. لكن لا يوجد احد في شرق العالم او غربه ، في حاضر الزمن او غابره ، يجرؤ على القول صراحة انه ضد الحرية أو ان العبودية خير منها.

هذه الخلافات لا تدور في حقيقتها حول قيمة الحرية وضرورتها ، بل حول اولويتها على غيرها من الخيرات الاجتماعية. اشتهرت الماركسية بتقديمها للعدالة الاجتماعية على الحرية ، وهي تبرر ذلك بان الحرية لا معنى لها اذا كنت جائعا او فقيرا معدما. لا يستطيع الانسان التمتع بحريته طالما كان مفتقرا الى ضرورات الحياة الاولية مثل الغذاء والدواء والمسكن. 

واشتهر الناصريون بشعارهم المعروف "لاصوت يعلو فوق صوت المعركة". كان تحرير الارض اولى عندهم من تحرر الانسان. وفي وقتنا الحاضر تقف شريحة كبيرة من الاسلاميين التقليديين ضد دعاة الحرية لانهم يرون فيها طريقا الى انفلات الزمام وتدهور المعايير والاعراف التي يرونها ضرورية لصيانة اخلاقيات المجتمع والتزاماته الدينية.

هذه المبررات لا تقنع الليبراليين ، لان القبول بها يعني في نهاية المطاف التضحية باغلى القيم الانسانية ، اي جوهر انسانية الانسان. صحيح  ان لقمة العيش اغلى من الحرية واولى ، لكن هذا التفاضل ظرفي محدود بزمانه ومكانه واشخاصه ، ولا يصح تعميمه. الليبراليون رفضوا الماركسية التي تجعل الدولة متحكمة في الحرية ولقمة العيش معا. وهم يقولون للدولة : دعوا الناس يصنعون حياتهم بعقولهم وايديهم. لا يحتاج الناس الى لقمة العيش التي تقدمها الدولة ، بل يحتاجون الى الحرية وحق الاختيار وسوف يدبرون خبزهم وما يزيد عن الخبز.

ورفض الليبراليون المقولة الناصرية ، لان العبيد لا يحررون ارضا ولا يبنون وطنا ، بل ليس من المنطق ان تدعو لتحرير الارض بينما تستعبد اهلها واصحابها. ورفض الليبراليون مقولات الاسلاميين التقليديين ، لانها تنطلق من ارتياب في اهلية الانسان وقدرته على التحكم في افعاله وتحمل مسؤولياته. هذا الارتياب يذكر بفلسفة الاثم الاصلي المسيحية التي تعتبر الانسان آثما بطبعه  ، وانه اميل الى ظلمات الشيطان منه الى نور الرحمن.

الليبرالية ليست ايديولوجيا مغلقة ، وليست نموذجا مفردا تاخذه كله او تتركه كله. الليبرالية ليست منتجا ينسب الى شخص او هيئة او دولة على وجه التحديد. انها تعبير شبه معياري عن تطلع انساني يتناغم مع طبيعة الانسان الاصلية التواقة الى التحرر والانعتاق.

ربما يستعمل بعض الناس مسمى الليبرالية ضد الدين او ضد المجتمع ، مثلما يستعمل اخرون مسمى الدين ضد الحرية او ضد المجتمع. ومثلما استعمل الماركسيون مبدأ العدالة الاجتماعية في اقامة دولة اشبه بمعسكر. لكن هذه لا تعيب الفكرة . يبقى الدين في الجوهر منهجا للخلاص الانساني ، كما تبقى الليبرالية عنوانا لتطلع الانسان نحو الحرية. 

 

مقالات ذات علاقة 

ان تكون عبدا لغيرك

جدل الدولة المدنية ، ام جدل الحرية

حدود الحرية .. حدود القانون

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

الحرية التي يحميها القانون والحرية التي يحددها الق...

الحرية المنضبطة والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تقليدي...

الحرية بين مفهومين

الحرية والنظام العام

الحرية وحدودها القانونية

الحرية وحق الاختلاف في منظور الاسلاميين: عرض كتاب

حقوق الانسان : قراءة معاصرة لتراث قديم

دعاة الحرية وأعداء الحرية

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا

الطريق الليبرالي

عن الحرية والاغـتراب

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات

كيف يضمن القانون حرية المواطن ؟

الليبرات والليبرون المكبوتون المخدوعون 

الليبرالية ليست خيارا 

مجتمع الاحرار

مجتمع الأحرار.. ومفهوم الحرية

مجتمع العبيد

معنى ان تكون حرا ، اراء قديمة وجديدة

من يتحدث حول الحرية.. وماذا يقول ؟

الهجوم على الليبرالية ليس سيئا 

 

22/04/2011

الشيعة السعوديون : مشكلات المواطنة في ظروف التحول

د. توفيق السيف

 July 2010
قصة الشيعة السعوديين هي ذاتها قصة اكراد العراق وسوريا وسنة ايران ومسيحيي جنوب السودان وامازيغ الجزائر وارمن تركيا، هي ذاتها قصة معظم الاقليات الدينية والاثنية التي تعيش في الشرق الاوسط. بينما يتجه العالم للاقرار بالمواطنة كاساس للعلاقة بين المجتمع والدولة، فان وجود اقلية بجانب الاكثرية لا يزال - في نظر الدولة وفي الثقافة السياسية السائدة السائدة في المنطقة– عبئا امنيا وسياسيا ويتعامل معها من منظور يحكمه الارتياب.
لا يوجد احصاء دقيق لعدد الشيعة السعوديين، لكنا نميل الى تقديرهم بنسبة تتراوح بين 17- 20% من مواطني المملكة. وتقدرهم الاجهزة الرسمية بنحو 10%  من السعوديين، اي 1.75 مليون، يعيش ثلثاهم في المنطقة الشرقية ويتوزعون بين المحافظات الاربع الرئيسية : القطيف والاحساء والدمام والخبر[1]. يمثل الشيعة اغلبية السكان في منطقة نجران جنوب المملكة، ويسكن بعضهم المدينة المنورة وقراها، كما يتواجد عدة الاف في المدن الكبرى مثل جدة والرياض.
لا زال النظام القبلي قويا في منطقة نجران، وثمة علاقة وثيقة بين رؤساء قبيلة يام التي ينتمي اليها اغلبية السكان وبين الزعامة الدينية التي يتوارثها ابناء عائلة المكرمي. اما في المنطقة الشرقية فان القبيلة ليس لها وجود.
ينتمي جميع الشيعة في نجران الى المذهب الاسماعيلي (نسبة الى اسماعيل بن جعفر الصادق)، وينتمي الباقون الى التشيع الاثني عشري. واكثر هؤلاء ينتمون الى المدرسة الاصولية في الفقه، وتنتمي اقلية منهم الى المدرسة الاخبارية، وفي العقيدة تنتمي شريحة كبيرة نسبيا من شيعة الاحساء الى المدرسة الشيخية.  التيار السائد بين شيعة المملكة هو التيار الديني التقليدي، لكن الاتجاه الاصلاحي يحظى بقوة بارزة، وهو يتسع تدريجيا مع تنامي دور الاجيال الجديدة التي تميل الى نمط حياة يزاوج بين التدين والليبرالية، ويشبه الى حد ما التيارات المحافظة في اوربا. يرجع الاخباريون الى زعيم ديني محلي هو الشيخ محمد علي ابو المكارم. ويرجع الشيخيون الى الميرزا عبد الله الحائري الاحقاقي، زعيم هذه المدرسة المقيم في الكويت. اما الزعامة الدينية بين الشيعة الاصوليين فهي موزعة، اذ يرجع 70% تقريبا الى اية الله السيستاني في النجف الاشرف واية الله صادق  الشيرازي في قم – ايران، ويتوزع البقية بين سبعة مراجع اخرين.
والعلاقة بين الشيعة السعوديين ومراجعهم الدينيين في الخارج روحية بحتة. ولم يسبق لهؤلاء ان قاموا باي دور او حاولوا تطوير علاقتهم باتباعهم، الامر الذي ابقاها احادية الاتجاه الى حد كبير. ربما كان الاستثناء الوحيد هو ما جرى في العام 2009 حين وجه بعض المراجع مثل مكارم الشيرازي والسيستاني خطابات تدعو شيعة الخليج والمملكة الى تحسين علاقتهم مع مواطنيهم السنة، وتجنب النزاعات المذهبية. في المقابل فان الزعماء الدينين المحليين يتمتعون بنفوذ كبير بين السكان، ويلعب بعضهم ادوارا سياسيا واجتماعية وثقافية واسعة، وتتعامل الحكومة مع بعضهم كممثل طبيعي للمواطنين الشيعة.
وكانت الزراعة نشاطا اقتصاديا رئيسيا في كل من نجران والاحساء والقطيف حتى وقت قريب. الا ان اهميتها تتدهور بسرعة، بسبب التحولات الاقتصادية في البلاد. القوة العاملة في الزراعة حاليا تتكون بشكل كلي تقريبا من كبار السن والعاملين الاجانب. اما الشباب فهم يفضلون العمل في الوظائف الحكومية والشركات الكبرى. ويهاجر معظم شباب نجران والمدينة المنورة الى المدن الكبرى مثل جدة والرياض والدمام من اجل العمل. كما هاجر ما يزيد عن 40,000 عائلة احسائية الى الدمام والخبر لنفس السبب. ظاهرة الهجرة هذه منعدمة الى حد كبير في القطيف، فمعظم سكانها يفضلون العمل في المدن القريبة. ويرجع ذلك جزئيا الى توفر فرص العمل في المنطقة ولا سيما في قطاع البترول والصناعة، فضلا عن ارتفاع مستوى التعليم واهتمام السكان بتعليم ابنائهم، الامر الذي يعطيهم فرصا وظيفية اوسع. على المستوى المعيشي تصنف الاحساء ونجران بين المناطق الفقيرة نسبيا، وعلى وجه الدقة فانها تقع ضمن المعدل العام للمناطق الريفية وهو يقل قليلا عن المعدل العام لمستوى المعيشة في المملكة. اما محافظة القطيف فيصنف معظم سكانها بين الطبقة الوسطى، ومستوى المعيشة فيها يزيد قليلا عن المتوسط الوطني. وقد نجحت هذه المحافظة في الامساك بفرصتها خلال المرحلة التي تحول فيها الاقتصاد السعودي من الاعتماد على الزراعة والرعي الى البترول والخدمات، بينما عانت بقية المناطق الريفية من تدهور مصادر معيشتها في الوقت الذي لم يكن التحول الى الاقتصاد الحديث ميسرا او سهل المنال[2].
المنطقة الشرقية التي تضم اغلبية الشيعة هي اكبر خزان طبيعي للبترول في العالم، ففيها نحو 22% من احتياطي البترول العالمي الثابت، وتنتج  98% من بترول المملكة. كما توفر 12% من اجمالي واردات البترول الامريكية، وحوالي ثلث واردات اليابان.  ومع ضم الانتاج الصناعي الذي يتركز ايضا فيها، فان المنطقة الشرقية تساهم بما يص الى 90% من الدخل الخارجي للمملكة. وتبلغ المساهمة المباشرة لقطاع البترول في الناتج القومي الاجمالي الى 40%.
 اعتماد المملكة على هذه المنطقة يعطيها اهمية استثنائية ضمن منظومة الاقتصاد والامن القومي. لكنه ايضا احد اسباب معاناتها. اذ تشعر النخبة السياسية بان وجود المصدر الرئيس لثروة البلاد في منطقة تهيمن عليها "فئة مختلفة" هو مصدر جدي للقلق. ويترجم هذا القلق غالبا على شكل تفكير امني في قضايا الشيعة وفي التعامل معهم. لكن البترول ليس السبب الوحيد للمعاناة. فمناطق سكنى الشيعة تصنف – رمزيا على الاقل – كمناطق طرفية، في بلد يتميز بحكم شديد المركزية. ياتي معظم اعضاء النخبة السياسية من وسط نجد، وبالتحديد من منطقتي الرياض والقصيم. وبالدرجة الثانية – مع فارق كبير – من الحجاز، وبالتحديد مكة المكرمة والمدينة المنورة. الحكم المركزي يعني في المملكة ان جميع نفقات الدولة وتعيين الموظفين واقرار مشروعات التنمية والتطوير تتقرر في العاصمة. ولهذا فانه لا توجد حياة سياسية بالمعنى الدقيق خارج العاصمة، لان موضوعات السياسة والعمل السياسي محصورة ضمن حدودها.

العلاقة بين الشيعة والحكومة

تحسنت العلاقة بين الحكومة السعودية ومواطنيها الشيعة في العقدين الماضيين بشكل ملموس. الا ان سياسة التمييز لازالت راسخة في النظام السياسي والاجتماعي للبلاد. لم تكن العلاقة في الماضي طيبة، وهي لم تبدأ في التوتر بعد هيمنة الشيعة على الحكم في العراق في 2003، ولا مع الثورة الاسلامية في ايران في 1979، كما يعتقد بعض المحللين.
تعود سياسة التمييز الطائفي الى زمن طويل جدا، وقد لاحظها باحثون امريكيون زاروا المنطقة وكتبوا عنها. من بينهم مثلا جورج ليبسكي الذي نشر كتابه في 1959[3]. يشكو الشيعة السعوديون من سياسة تمييز رسمي نشطة لكنها غير معلنة. وهي تتمثل في حرمانهم من حقوق اولية مثل حرية الاعتقاد والعبادة  وحرية التعبير والنشر، فضلا عن حقوق مدنية مثل تولي الوظائف العامة في المراتب المتوسطة والعليا. منذ تاسيس المملكة في 1932 وحتى اليوم حرم الشيعة من تولي اي وظيفة في الدرجات الوظيفية الثلاث العليا (اي الخامسة عشرة، الممتازة، درجة وزير) وخلال هذه المدة الطويلة حصل فرد واحد فقط منهم على المرتبة 15، وحصل آخر على وظيفة وكيل وزارة مساعد ثم سفير بالمرتبة 14[4]. وفي مجلس المنطقة الشرقية المكون من 14 عضوا تعينهم الحكومة، هناك عضو واحد فقط يمثل الشيعة، رغم انهم يشكلون ثلثي سكان المنطقة. وفي مجلس الشورى (وهو شبه برلمان يتالف من اعضاء يعينهم الملك) يوجد خمسة اعضاء شيعة من مجموع 150 عضوا. وفي فبراير 2009 اعاد الملك تشكيل هيئة كبار العلماء المسؤولة عن الشؤون الدينية واضاف اليها ثلاثة علماء يمثلون المذاهب الاسلامية المالكية والحنفية والشافعية، الى جانب 18 عضوا من علماء المذهب الرسمي، لكنه استثنى الشيعة من هذا التشكيل.
لكن التمييز لا ينحصر في الوظائف العليا، فهناك دوائر حكومية تمنع الشيعة من تولي وظائف صغيرة. فمنذ 1960 لم يعين اي شيعي رئيسا لبلدية. كما ان وزارة التربية لم تسمح بتولي اي سيدة شيعية وظيفة مديرة مدرسة بنات (عدا واحدة عينت في 2009)، ولم تسمح (حتى العام الجاري 2010) بفتح مدارس اهلية للبنات في مناطق الشيعة. كما لا تسمح وزارة التعليم العالي بتوظيف اساتذة شيعة في جامعات معينة مثل جامعة الامام محمد بن سعود والجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة وجامعة ام القرى بمكة المكرمة. ومن بين 30 جامعة تضم مئات الكليات، وصل شيعي واحد فقط الى منصب العمادة في كلية هندسة البترول بجامعة الملك فهد في الظهران. كما لا تسمح وزارة الخارجية بتوظيف الشيعة في الكادر الدبلوماسي. وينطبق مثل هذا التمييز على جميع المؤسسات شبه الحكومية والشركات الحكومية الكبرى ومعظم الشركات التي تساهم فيها الحكومة[5]. ربما كانت شركة ارامكو – ضمن حدود معينة – استثناء من هذه القاعدة، فقد وصل بعض موظفيها الشيعة الى درجة نائب رئيس، اي ما يعادل المرتبة الثالثة في قمة الهرم. كما انها رشحت احد هؤلاء ليكون مسؤولا عن اقامة جامعة الملك عبد الله، التي وضعت تحت اشرافها. وبعد نجاحه الباهر في  هذه المهمة، عين نائبا لمديرها العام في الشؤون غير الاكاديمية.
رغم ان مسألة التمييز قديمة نوعا ما وسابقة للتطورات التي شهدتها المملكة خلال العقود الاربعة الماضية. الا انها في وضعها الراهن لا تختلف – في اسبابها ومبرراتها – عن معظم قضايا التنمية السياسية الاخرى التي تواجه المجتمع السعودي. فهي تتاثر بشكل عميق بالصراع حول التحديث، كما تتاثر بالتفارق بين النمو السريع نسبيا على المستوى الاجتماعي والنمو البطيء على المستوى السياسي والقانوني.

ظرف التحول الاجتماعي واشكالاته

لو اردنا حساب المشكلات الداخلية التي تواجه الحكومة السعودية فقد نصاب بالاحباط. لكن يشجعنا على التفاؤل ان معظم هذه المشكلات هي نواتج فرعية لسياسات تنموية، او انها تفاقمت في سياق تصفية النظام الاجتماعي التقليدي لصالح نظام اقرب الى الحداثة. يمكن اعتبار المرحلة الجديدة من الجدل بين الاقلية الشيعية والحكومة شبيهة بمعظم النزاعات التي تفاقمت في  المجتمع السعودي بعدما قررت الحكومة استثمار عوائد البترول في تحديث الاقتصاد.
في 1971 تبنت الحكومة اول خطة للتنمية الاقتصادية في سلسلة خطط قصيرة الامد، يمتد كل منها خمس سنوات، وتستهدف بصورة محددة تنشيط اقتصادها وتطوير جهازها الاداري. الدافع الرئيس للتركيز على الاقتصاد والادارة هو ايمان المخططين بنظرية التنمية الكلاسيكية التي تقول بان النشاط الاقتصادي محرك فعال للتغيير في مختلف جوانب الحياة، من انماط المعيشة الى القيم المعيارية ونظم العلاقات الاجتماعية. لكن المخرجات السياسية والثقافية لتحديث الاقتصاد لم تكن واضحة جدا لاصحاب القرار السياسي (وهم فريق اخر غير مخططي التنمية) ، وهي بالتاكيد غير مرغوبة. يعرف دارسو التنمية ان النظام الاجتماعي التقليدي يبدأ في الانكسار بعدما يتلقى صدمة الحداثة. منظومات القيم ونظم العلاقات التي يقوم عليها النظام القديم لا تعود قادرة على توفير الشرعية السياسية اللازمة لاستقرار النظام والمحافظة على الاجماع الوطني. لهذا السبب يلح دراسو التنمية في العالم الثالث على التنمية الشاملة التي تهتم – بموازة الاقتصاد - بتطوير النظام السياسي والقانوني للبلاد لاستيعاب الادوار الجديدة والنظم الثقافية غير المعتادة. في هذا السياق، يفترض – نظريا على الاقل – ان تطور الحكومة فلسفة الحكم وقاعدته الاجتماعية ومصادر شرعيته، وان تبدأ في اعداد الاطارات المؤسسية الضرورية لاستيعاب التوازنات الاجتماعية الجديدة والادوار الجديدة التي سيفرزها التحديث ، وان تتجه خصوصا الى  الطبقات الجديدة، كي تعيد بالتوافق معها بناء الشرعية السياسية والاجماع الوطني على ارضية قيمية جديدة تتضمن خصوصا قيم المساواة والمسؤولية المتبادلة واعتبار المواطنة وحقوق المواطن ثوابت معيارية تنظم وفقا لمقتضياتها الحياة العامة والعمل السياسي.
خلال الاربعين عاما التي مضت على اول خطة تنموية، تغير وجه المملكة كليا. فالبلد الصحراوي الفقير، اصبح اليوم اسرع الاقتصادات نموا في الشرق الاوسط واكثرها انفتاحا على التقنيات الجديدة. ويظهر تاثير هذا التطور خصوصا في قطاع التعليم العام حيث تضاعف عدد الطلاب في المراحل الثلاث قبل الجامعية عشر مرات (من 0.474 مليون الى 4.02 مليون) في الفترة بين 1970-2007[6]. وانعكس هذا التطور بشكل مباشر على الثقافة العامة وانماط المعيشة، فقد بلغ معدل التحضر 83% من عدد السكان في 2004[7] بعدما كان اقل من 30% في 1970.  فيما يتعلق بانفتاح الجمهور على مصادر المعلومات فقد قدر احد الباحثين المحليين معدل وصول الافراد السعوديين الى القنوات التلفزيونية الفضائية بما يتجاوز 89%. هذا يعني ان كل بيت سعودي اصبح مجهزا بوسيلة التقاط القنوات الفضائية التي لا يخضع كثيرمنها للرقابة. في كل المجتمعات، تؤدي مثل هذه التحولات الى تطور في الهويات الفردية والمكانة الاجتماعية والتطلعات، ويقود ذلك بالضرورة الى ظهور مطالب جديدة وتوازنات قوى اجتماعية مختلفة وانماط ثقافية وتعبيرات غير مألوفة. ينعكس هذا خصوصا على العلاقات بين الافراد والمجموعات من جهة ومراكز السلطة والنفوذ من جهة اخرى. يتزايد شعور الناس بذاتهم وخصوصياتهم وعناصر تمايزهم، ويزداد الحاحهم على اقرار المجتمع الوطني والدولة بهذه الخصوصيات باعتبارها "حقوقا".
حدث هذا في كل قرية ومدينة سعودية. لكن رد الفعل الرسمي لم يكن متوافقا او متناسبا. وفي الحالات التي شهدت رد فعل ايجابيا، فان استجابة الحكومة كانت محدودة جدا ومتاخرة في الغالب. لعل ابسط الامثلة على ذلك هو صدور نظام الحكم الاساسي واقامة مجلس الشورى واقرار نظام الحكم اللامركزي في العام 1992، رغم انه كان على اجندة الحكومة منذ 1964. ومن امثلته ايضا قانون الجمعيات الاهلية الذي ما زال حبيس الادراج رغم مرور عام كامل على اقراره من جانب مجلس الشورى، ورغم ان النقاش حوله يرجع الى بداية العقد الجاري.
تباطؤ الحكومة في التعامل مع التحولات في المجتمع والثقافة العامة يرجع جزئيا الى قلق من القبول بمبدأ تحديد السلطة او توسيع دائرة المشاركين فيها، او وضعها تحت الرقابة العامة. ويرجع من ناحية اخرى الى مقاومة المؤسسة الدينية التقليدية لمبدا التحديث بكل تجلياته، وضغطها المتواصل على الدولة للالتزام بالاعراف والتقاليد الموروثة التي توصف بانها اكثر تعبيرا عن صفاء الاسلام. ويعتقد رجال الدين ان التحولات المذكورة هي جزء من مخطط يدعمه الغرب وبعض رجال الدولة ويستهدف فرض نمط حياة علماني يقود بالضرورة الى تهميش الدين واقصاء رجال الدين من مواقع نفوذهم[8].
فيما يتعلق بالاقتصاد فان الحكومة قد اغفلت تماما ضغوط المؤسسة الدينية وواصلت سياسات التحديث، حتى في الجوانب التي تثير غضب رجال الدين[9]. لكن فيما يتعلق بالانفتاح الثقافي والاصلاح السياسي والقانوني فقد اتخذت من تلك الضغوط مبررا لمقاومة المطالب الاجتماعية. بل انها استعانت بالشيوخ وكبار العلماء في المقاومة المباشرة لهذه الدعوات من خلال الفتاوى وخطب الجمعة والبرامج الدينية الاخرى. والحقيقة ان هذا التكتيك قد اوقع الدولة في مشكلات داخلية ومشكلات مع الدول الاخرى. فرجال الدين الوهابيون الذين اصبحوا اكثر قوة ونفوذا في عهد الملك فهد هم الذين يعيقون الان محاولات الحكومة لتخفيف العزل المفروض على النساء واصلاح القضاء ومناهج التعليم، كما يعيقون محاولاتها لتقديم صورة جديدة عن المملكة تتسم بالتسامح واللين، بعدما تضررت كثيرا اثر الهجوم على نيويورك في 11 سبتمبر 2001، ووصمت بتشجيع التطرف الديني او التساهل مع المتطرفين، وتضررت علاقاتها – لهذا السبب – مع الولايات المتحدة واوربا.
نحن اذن في ظرف  انتقالي، بدأ في 1971 وكان يفترض ان ينتهي بعد عقد او عقدين من الزمن، لكنه طال اكثر مما ينبغي، ولعله سيطول اكثر واكثر. ويشهد هذا الظرف صراعا مريرا بين طرفين: الاول هو الطبقات الاجتماعية الجديدة التي تريد الحصول على موقع يتناسب مع قيمتها الفعلية ومساهمتها في حياة البلاد واقتصادها، والثاني هو الطبقات التقليدية التي تضم النخبة السياسية وكبار رجال الدين. يشترك الفريقان في القلق من تاثير التحديث والتحولات الاجتماعية على نفوذهما اللامحدود.
في ظل هذه التحولات طور الجيل الجديد من الشيعة السعوديين هوية مختلفة اقل تاثرا بالموروث المذهبي والديني، اكثر شعورا بالوطن وهمومه ووجودهم فيه، واعمق اهتماما بتحولات العالم الجديد العلمية والتقنية والفلسفية. ويعتبر اقبال الشباب الشيعة على دراسة العلوم الجديدة مؤشرا هاما على هذا الاتجاه. ففي الوقت الذي يتجه 76% من طلبة الجامعات السعوديين لدراسة العلوم الاجتماعية والانسانية[10]، فان هذه النسبة تقل عن 47% بين طلاب محافظة القطيف. حتى العام 1990 كانت الحريات الدينية هي المطلب الرئيس للشيعة، لكن هذا المطلب تراجع في السنوات التالية الى المستوى الثالث او الرابع لصالح المساواة، حرية التعبير، والمشاركة السياسية، التي اصبحت تحتل المراكز الثلاث الاولى في قائمة اهتمامات الاجيال الجديدة. وظهرت تجليات هذا التحول في  نوعية المهن التي يشغلونها، وفي التوسع الكبير لنشاطهم الثقافي والسياسي، ولا سيما ذلك الذي يركز على قضايا حقوق الانسان.
اعتبر رجال الدين الوهابيون تطور وضع الشيعة على هذا النحو نذير خطر.  خاصة وان التطورات الاقليمية كانت تخدم الشيعة بشكل او باخر، بدءا من تنامي القوة الاقليمية للجمهورية الاسلامية، مرورا بترسيخ حزب الله لمكانته في لبنان، وانتهاء بهيمنة الشيعة على الحكم في  العراق، بعدما كان يصنف كقوة اقليمية "سنية"، او على الاقل مضادة لما يعرف عندهم بالتمدد الشيعي. بل ان بعضهم اعتبر السماح لجمعية الوفاق – وهي حزب ديني شيعي -  بالمشاركة في الانتخابات النيابية في البحرين عام 2006  ثم فوزها باكبر كتلة نيابية، اعتبرها دليلا على مصداقية الادعاء السابق بوجود مخطط شيعي يستهدف استثمار الاصلاحات الجديدة للسيطرة على مراكز نفوذ بقيت سنوات طويلة بيد "السنة"[11].
ويعتقد رجال الدين ان الحكومة السعودية هي الجهة الوحيدة القادرة على التصدي للشيعة. ولذا فقد كانوا مستعدين للدخول معها في مساومات حول دعمهم لها في مواجهة العنف الديني وسكوتهم عن سياسات التحديث مقابل تبنيها مواقف حاسمة تجاه الشيعة وعدم استجابتها لمطالبهم. وبمقدار ما توفر لدي من معلومات فان كبار رجال الدولة يقفون في منتصف الطريق، فهم – من ناحية - يرفضون زيادة الضغط على الشيعة، لكنهم – من ناحية اخرى – مترددون في القيام باي عمل يمكن ان يفهم كتنازل او اقرار بامتيازات اضافية للشيعة. مثل هذا الموقف المتردد يتحول مع مرور الوقت الى نوع من الجمود والسلبية، فانضمام اجيال جديدة الى سوق العمل يعني اضافة مطالب جديدة تفاقم الضغط الداخلي على الدولة. وهذا بدوره يجعل المبادرات الصغيرة غير فعالة او مرضية للراي العام الشيعي.

اشكالات التخلي عن الدولة القديمة

على المستوى النظري البحت، فان من الافضل للحكومة ان تستقطب ولاء الطبقات الجديدة من اجل توسيع القاعدة الاجتماعية للنظام السياسي وتعزيز الاستقرار والنظام العام وهيبة القانون. ويمكن تحقيق هذا المطلب في اطار استراتيجية شاملة لاصلاح القانون والتنظيم السياسي والادارة العامة. لكن تلك الافضلية النظرية لا تبدو جذابة للنخبة الحاكمة بسبب عوامل ثقافية وسياسية. يصنف النظام السياسي في العربية السعودية بين الانظمة التقليدية. وفلسفة الحكم هنا هي فلسفة الدولة القديمة التي تعطي لنخبة صغيرة سلطة مطلقة واحتكارا لمصادر القوة والقرار. يظهر هذا في تشكيل مجلس الوزراء مثلا منذ تشكيله في 1953 وحتى اليوم. في المجلس الحالي الذي يتالف من 28 وزيرا هناك 20 مقعدا يشغلها وزراء من المنطقة الوسطى "نجد"، (بينهم 5 امراء) و 4 من الحجاز. وتشكل المنطقة الوسطى نحو 27% من اجمالي السعوديين (احصاء 2004).
تعرف الدولة الحديثة باعتبارها نتاجا لعقد اجتماعي يمنح الحكومة صفة تمثيل مواطنيها، كما يمنحها السلطات اللازمة لادارة مصالحهم، ويرسي مبدأ "المواطنة" كارضية قانونية ومعيارية للعلاقة بين المجتمع والدولة. ويضمن القانون حقوق المواطنين كما يحدد واجباتهم، بغض النظر عن اصولهم العرقية او جنسهم او انتمائهم الديني او مكانتهم الاجتماعية او ميولهم السياسية. لكننا لا نزال في المملكة بعيدين عن هذه المرحلة، فالبلاد لا تحكم بناء على دستور مثل الملكيات الدستورية. بدل الدستور هناك ما يعرف ب "النظام الاساسي للحكم" الذي صدر في 1992 وهو وثيقة مختصرة لا تذكر الا القليل جدا عن حقوق المواطن، وتعطي للملك سلطة مطلقة من دون محاسبة او مسؤولية. كما لا يوجد مجلس وطني يمثل الشعب، فمجلس الشورى يعين اعضاؤه من قبل الملك، وهو لا يملك سلطة المحاسبة او اصدار القرارات او التشريع او التفتيش ، فضلا عن تعيين او عزل المسؤولين السياسيين.
فيما يتعلق بفلسفة الحكم ، فانه لا يوجد اي تصريح شفهي من جانب مسؤولين كبار كما لا توجد اي وثيقة رسمية ، منذ تاسيس المملكة وحتى اليوم ، تشير الى علاقة تعاقدية بين المجتمع والدولة. كما ان النظام الاساسي لا يعتبر الشعب او رضى العامة مصدرا السلطة، ولا بحقه في مراقبتها او محاسبتها. ولا ينظر الى اعضاء مجلس الشورى كممثلين لمناطقهم، رغم ان هذا يؤخذ بعين الاعتبار عند تعيينهم. فيما يتعلق بالاقليات، فان الحكومة لا تعترف رسميا بوجود اقليات في البلاد لها حقوق خاصة، ولا تعترف ايضا بوجود تنوع مذهبي او اثني يستوجب استثناءات او ضمانات خاصة في القانون.
كان الملك عبد الله قد اكد في اكثر من مناسبة على اهتمامه بردم الفجوات بين الاطياف المختلفة التي يتشكل منها المجتمع السعودي، كما عبر عن انزعاجه من اتخاذ هذا التنوع مبررا للتمييز، وكذلك فعل ولي العهد الامير سلطان، ومن قبلهم المرحوم الملك فهد. الا ان هذه التعبيرات لم تتطور الى اجراءات قانونية ومؤسسية لمعالجة الشكاوى المتعلقة بالتمييز، ولا سيما بالنسبة للمجموعات الثلاث الاكثر معاناة من سياسات التمييز، اي الشيعة والنساء والسعوديين من اصل افريقي.
فيما يتعلق بالحريات والحقوق المدنية، فقد انضمت المملكة الى معظم المعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الانسان، الا انها لم تضع اللوائح التنفيذية التي تسمح بتحول مضمون تلك المعاهدات الى جزء من القانون الوطني. بل ان القوانين المحلية القليلة التي تحمي الحقوق المدنية والشخصية لا تطبق لاسباب مختلفة. من ذلك مثلا نظام المرافعات والتقاضي، ونظام الاجرات الجزائية، وكلاهما يوفر قدرا من الضمانات القانونية للمتهمين والموقوفين. الا ان الاول لا يطبق لعدم وجود لائحة تنفيذية رغم مرور عشر سنوات على صدوره ، والثاني يطبق بصورة انتقائية لان المسؤول عن تنفيذه، اي وزارة الداخلية، لا ترى نفسها ملزمة به، سيما بالنسبة للمتهمين في قضايا سياسية. وهناك الان 400 متهم على  الاقل (من بين 3000 معتقل في قضايا سياسية) مضى على اعتقالهم اكثر من عام ولم يحالوا الى المحاكمة ولم يتحدد مصيرهم. ومن بين هؤلاء بضع عشرات مضى عليهم في السجن اكثر من سبع سنوات دون ان يحاكموا[12]. وقد شكت الجمعية الوطنية لحقوق الانسان شبه الحكومية في تقريرها السنوي الاول (2008) من ان كثيرا من الوزارات ومؤسسات الدولة لا تستجيب لمراسلاتها واسئلتها ، خلافا لفحوى تعاميم رسمية من الديوان الملكي. كما ان الجمعية نفسها وكذلك نظيرتها الحكومية (هيئة حقوق الانسان) اغفلت في تقاريرها الشكاوى المتعلقة بالتمييز بشكل كلي.
زبدة القول ان التمييز الطائفي ضد الشيعة هو جزء من مشكلة اوسع نطاقا، تتمثل – من جهة – في اهمال النواتج الاجتماعية والثقافية لتحديث الاقتصاد والادارة، وتتمثل – من جهة اخرى – في تمسك النخبة السياسية بنظام الدولة القديمة الذي لا يفسح مكانا للمجتمع للتعبير عن نفسه او المشاركة في صناعة القرار السياسي.
اضافة الى هذا المشكل الوطني العام، ثمة عوامل اخرى اكثر التصاقا بالوضع الشيعي، ابرزها انعدام الثقة بين الحكومة ومواطنيها الشيعة، الامر الذي يجعل محاولات التفاهم والاصلاح عسيرة ومحكومة بعوامل خارجة عن اطارها.

غياب الثقة في العلاقة بين الشيعة والحكومة

منذ قيام الثورة الايرانية في 1979 برز انعدام الثقة كواحد من العوامل المؤثرة التي تدفع بالعلاقة بين الطرفين الى حدود التنازع. وهذا امر معروف للطرفين، وطالب الشيعة بمناقشة الموضوع منذ 1996، الا ان الحكومة لا ترغب في طرحها للنقاش مع النخبة الشيعية. توصلت الى هذا الانطباع بعد اخفاق العديد من المحاولات التي بدا ان الجميع متفق – في اول الامر على الاقل – على ضرورتها وامكانية تحويلها الى برنامج. كما سمعت هذا التفسير مباشرة وصراحة من عدد من كبار المسؤولين الذين يتخذون القرار او يساهمون في صناعته. هناك بطبيعة الحال اتصالات كثيرة جرت وتجري دائما على مستويات مختلفة، بغرض التفاهم وحل المشكلات التي تتفاقم بين حين واخر، لكن لا نزال بعيدين عن الاتفاق على استراتيجية عمل متكاملة وقابلة للتطبيق على المستوى القانوني والمؤسسي تقود الى اقرار بحقوق المواطنة الكاملة للشيعة، وانهاء الوضع الاستثنائي الذي يعيشونه منذ تاسيس المملكة. انعدام الثقة يرجع الى عوامل دينية واخرى سياسية:
التنازع المذهبي :
 المصدر الاساس لحالة انعدام الثقة هو الخلاف المذهبي. المذهب الرسمي في البلاد هو مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1703-1792)  الذي يتبنى – في صورته النموذجية على الاقل - منهجا اخباريا متشددا في الفقه ويركز على تجريد الاعتقاد الديني من التجسيدات او التمظهرات الشخصية، كما ينكر التداخل الفعلي بين الدين وتمثلاته في الثقافة الشعبية. ويعتقد الشيخ عبد الوهاب وتلاميذه ان المهمة الرئيسية للدولة هي الدعوة الى الدين، ولهذا فان من واجبها استخدام القوى والموارد المتاحة لها في تصفية المظاهر المتعارضة مع الدين الصحيح في المجتمع. ان التزام الدولة بهذه الفريضة هو المعيار الاول لشرعيتها وحقها في طاعة الجمهور. هذه المسؤولية لا تتعلق بالدولة كمؤسسة بل بشخص الحاكم. ومن هنا فان قبوله بتحملها يخوله سلطات مطلقة للحكم والتصرف في موارد البلاد من دون محاسبة او مساءلة.
على المستوى الاجتماعي يتميز المذهب الوهابي وبيئته الاجتماعية بحركية عالية، فالتوجيه الاولي للافراد يشدد على دورهم في  الدعوة. من ناحية اخرى فان كون المذهب ايديولوجيا رسمية للدولة يترجم كفرصة اضافية تعزز مسؤولية الافراد عن نشره وتعميمه ومحاربة اعدائه. تنظر النخبة السياسية الى المذهب كوسيلة فعالة لتسوير الدولة وتحصين بيئتها الاجتماعية (نجد) من التيارات المعارضة[13]. كما ان رجال الدين يعتبرون حلفهم مع الدولة وسيلة لاستثمار مواردها في نشر المذهب وتعزيز فاعليته[14]
في اوائل القرن العشرين جرى استثمار هذه الحركية في سلسلة من الحروب ادت الى تصفية النفوذ العثماني والامارات القبلية في الجزيرة العربية وضم اراضيها الى الحكم السعودي وصولا الى توحيدها في اطار المملكة العربية السعودية سنة 1932. وقبيل ذلك حاول الملك عبد العزيز انهاء ما عرف يومئذ بالجهاد، واضطر الى خوض صراعات دامية مع امراء القبائل الوهابية الذين اصروا على مواصلته. الحركية التي كانت تنصرف الى الجهاد ضد القوى الخارجية فيما مضى تحولت الى ما يعرف بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل البلاد، وجرى اقرار هذا في اتفاق ابرمه الزعماء الدينيون والقبليون مع الملك عبد العزيز في نوفمبر 1928.
 الصراع ضد الشيعة والصوفيين، الذين يمثلون نسبة كبيرة من سكان الحجاز، وكذلك الطبقات الحديثة التي توصم بالعلمانية، يشكل في الوقت الحاضر جانبا هاما من النشاط اليومي لرجال الدين والحركيين في الاتجاه الوهابي. بل انهم يتخذون تراخي الحكومة في دعم هذا النوع من النشاط مبررا لحث الناس على معارضتها والضغط عليها[15]. وقد طور الجيل الجديد من الناشطين الوهابيين نظاما للضغط على الامراء والوزراء ورؤساء الاجهزة الحكومية، يحمل اسما تراثيا هو "الاحتساب" لكنه يتوسل باساليب جديدة تتمثل غالبا في تكوين جماعات ضغط صغيرة تهتم بتعبئة الجمهور والمشايخ والاعيان لمقاومة الخطط الحكومية التي توصف بالليبرالية. وقد نجحت هذه المجموعات في افشال خطط حكومية او اهلية هامة، رغم المقاومة التي تبديها الحكومة في بعض الاحيان.
ويظهر تاثير هذه المجموعات بشكل واضح في القضايا الخاصة بالنساء والشيعة. ان استمرار حرمان النساء من الحق في قيادة السيارة وتراجع الحكومة عن قرارها السابق بالسماح لهن بالعمل في متاجر بيع الملابس النسائية والكثير من الوظائف التي تتطلب التعامل مع الرجال، هو نتيجة مباشرة لنشاط مجموعات الضغط تلك. وخلال السنوات الخمس الماضية خسر ثلاثة وزراء على الاقل مقاعدهم لانهم فشلوا في تحييد مجموعات الضغط  تلك، سواء بارضائها او الرد عليها بشكل مناسب، وهم وزيرا التربية السابقان محمد الرشيد وعبد الله العبيد ووزيرالاعلام اياد مدني[16]. وفي 1995 تراجع امير المنطقة الشرقية عن قرار بمنح الشيعة مسجدا حديث التاسيس وسط حي شيعي بعد حملة نفذتها مجموعات الضغط الوهابية. وكان هذا سيشكل سابقة في العلاقة بين الحكومة والشيعة الذين لم يحصلوا على مسجد واحد من مجموع 60 الف مسجد بنيت من المال العام. وفي 2009 قرر وزير الداخلية منع الشيعة من اقامة تجمعات دينية او بناء منشآت يمكن ان تستعمل لهذا الغرض في المدن التي لا يشكلون فيها اغلبية[17]. وعلم ان هذا القرار صدر نتيجة لضغوط من النوع السابق.
يعتبر الوهابيون المذهب الشيعي نقيضا طبيعيا. فهو مذهب اصولي في الفقه، كما ان جانبا مهما من بنيته العقيدية يقوم على ربط وثيق بين المعتقدات النظرية وتمثلاتها الشخصية. وتخصص الثقافة الشيعية مكانا واسعا للاشخاص وتواريخهم، وتعتبرهم محاور يدور عليها الالتزام الديني، ومعايير لتصحيح او تخطئة الاجتهاد. كما يحظى الفولكلور والثقافة الشعبية بقيمة دينية او تعامل باعتبارها جزءا من العالم الديني. ويتجلى هذا مثلا في الاحتفالات السنوية الضخمة بذكرى عاشوراء، وفي الاهتمام الكبير بتكريم الشخصيات التاريخية. وفي العراق وايران التي يشكل فيها الشيعة اغلبية يتوجه الملايين من الشيعة لزيارة قبور الائمة التي اقيمت عليها "مشاهد" ضخمة تعلوها قباب ومنائر مطلية بالذهب.
تقديس اشخاص الائمة واتباعهم ادى الى حضور كبير للتاريخ وحوادثه واشخاصه في الثقافة الشيعية اليومية، وتذكير مستمر بالصراعات التي دارت في الماضي، وبالتالي مواقف محددة مع او ضد شريحة كبيرة من الشخصيات البارزة في تاريخ المسلمين. يعتقد الشيعة ان اهل بيت النبي محمد قد تعرضوا لظلم متواصل خلال معظم مراحل التاريخ الاسلامي ، ابرز تجسيداته هو ابعادهم عن القيادة السياسية التي يعتبرونها حقا لهم. هذه القضايا التاريخية تشكل جزءا هاما من العالم الديني الشيعي ومنظورا مؤثرا في فهمهم للتاريخ والتراث.
تشكل هذه المسألة موضوع تضاد يومي بين الشيعة والوهابيين. وفي ديسمبر الماضي كاد الشيخ الوهابي محمد العريفي ان يتسبب في ازمة داخلية في المملكة وبينها وبين العراق حين وصف المرجع الشيعي اية الله السيستاني بالزنديق والفاجر. وبرر العريفي هذا الموقف بنصوص تتهجم على الصحابة، عثر عليها في موقع الكتروني يدعمه السيستاني.
ويتجه جانب من الضغط الوهابي المضاد للشيعة الى الوظائف التي يشغلها مواطنون شيعة في القطاع العام او الخاص. وتقوم مجموعات الضغط بارسال تقارير الى كبار المسؤولين والعلماء عما يصفونه بتزايد النفوذ الشيعي في دوائر معينة او هيمنة الشيعة على دوائر اخرى او كليات جامعية. ونتيجة لذلك تمنع الحكومة – بشكل غير رسمي – توظيف الشيعة في المواقع التي تسمح لهم بالتاثير في اختيار الموظفين، مثل ادارات الموارد البشرية والهيئات المكلفة باختبار المتقدمين للوظائف العامة، فضلا عن لجان القبول في الجامعات. وتمثل رسالة "واقع الرافضة في بلاد التوحيد" التي نشرها الشيخ ناصر العمر في مايو 1993 مرجعا للناشطين في هذا المجال. وتبدأ تلك الرسالة بالتحذير من ان الشيعة السعوديين "يملكون اليوم من الثروات، والقدرات، والأمن، والرفاهية، وما يمكنهم من التخطيط لدولة رافضية، تتصل بالدولة المجوسية في طهران"، وتحدد تسعة مقترحات مفصلة في التعامل مع الشيعة، هدفها جميعا "ردعهم والأخذ على أيدي المواطئين لهم، حتى وإن كانت السياسات [المصلحة الوطنية] هي الباعثة على ذلك فدين الله لا يثنى ليقام سواه". وتقترح الرسالة اجراءات محددة لتحقيق تلك الغاية، منها هدم جميع المنشآت الدينية الشيعية، وفرض الاقامة الجبرية على شيوخهم، ومنعهم من الحصول على الثروات او تولي الوظائف التي ترفع شأنهم او تسهل تاثيرهم على الاخرين، سيما في الاعلام والتربية والقضاء والقوات المسلحة والمالية، تكثيف النشاط الدعوي لاقناع الشيعة بالتخلي عن مذهبهم .. الخ[18].
استقلال المؤسسة الدينية الشيعية 
منذ قديم الزمان حافظ الشيعة على تقليد يقضي بابقاء حياتهم الدينية خارج نطاق علاقتهم بمؤسسة الدولة. ورغم ان هذا التقليد ظهر ابتداء في ظرف الخصام بين الطرفين، الا انه عمم في الحقب التالية فاصبح سائدا حتى في ظل الحكومات الشيعية. وكان هذا معروفا في ايران منذ الدولة الصفوية، وفي العراق وجميع الاقطار الاخرى، بل لا زال قائما حتى في ايران المعاصرة التي يحكمها رجال الدين. ويتجلى المظهر الابرز لهذا الفصل في العلاقة بين عامة الشيعة ومرجعيتهم الدينية. اذ يحرص مراجع الدين على ابقاء مسافة واضحة بينهم وبين الحكومات. وفيما عدا اية الله الخميني الذي تمتع بوضع استثنائي فان جميع المراجع او العلماء المؤهلين للمرجعية الذين اقتربوا كثيرا من الدولة خسروا شعبيتهم وفرصتهم في تشكيل مرجعية مؤثرة، بمن فيهم اية الله خامنئي، مرشد الثورة الايرانية، الذي لا تتناسب مكانته الدينية وموقعه في منظومة المرجعية الدينية مع نفوذه السياسي الكبير. في السياق نفسه فان الشيعة يحرصون على ابقاء مدارسهم الدينية ومساجدهم ومؤسساتهم الدينية الاخرى بعيدة عن تدخل الدولة. وهذا عرف جار في جميع الاقطار التي يقطنها الشيعة.
هذا التقليد الراسخ هو احد المبررات القوية لارتياب الحكومة السعودية في نوايا مواطنيها الشيعة. من المفيد الاشارة هنا الى ان الحكومة لم تتساهل ابدا مع المجموعات الدينية التي حاولت الاستقلال عن جهاز الدولة. كمثال على ذلك فان المؤسسة الدينية الوهابية حاولت في ظل زعيمها القوي الشيخ محمد بن ابراهيم ال الشيخ (1893-1969) اتخاذ خط مستقل عن الحكومة، الا ان الملك فيصل  الذي تولى العرش في 1964 عالج بحزم هذا الاتجاه واعاد المؤسسة وعلماءها الى "بيت الطاعة" الحكومي. ومنذ اوائل السبعينات تبنت الحكومة سياسة تقضي بتصفية النشاطات الاهلية التي يمكن ان تقود الى تشكيل مراكز قوة خارج الاطار الرسمي ونال النشاط الديني نصيب وافر من هذه السياسة، نظرا لانه يستاثر بالنصيب الاكبر من النشاطات التطوعية في  البلاد وخلال العقود الثلاثة الماضية اتمت الحكومة سيطرتها على المدارس الدينية والمساجد والاوقاف المستقلة، والزمت الدعاة بالانخراط في السلك الوظيفي الرسمي مقابل السماح لهم بامامة المساجد والقاء الخطب. وفي اوائل 2002 منعت وزارة الداخلية الهيئات الدينية والخيرية التي يشرف عليها رجال الدين من جمع تبرعات من الجمهور[19]، وفي يوليو 2007 منعت هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من الاستعانة بالمتطوعين الذين يشكلون القوة الاكبر في صفوفها[20].
حاولت الحكومة تكرار السياسة نفسها مع النشاطات الدينية الشيعية، لكنها ووجهت بسلبية مطلقة، لاسباب يتعلق بعضها بالعرف الشيعي الراسخ، ويرجع البعض الاخر الى فشل الحكومة في وضع تنظيم مناسب يتسع لمذهب مختلف عن المذهب الرسمي. وقد طرح زعماء الشيعة في العام 1998 مقترحات لمعالجة الشق الثاني على وزير العدل يومئذ الشيخ عبد الله ال الشيخ، الا انه رفض الفكرة بدعوى ان وجود نظام مزدوج للعمل الحكومي امر غير مقبول.
على كل حال فان بقاء العالم الديني الشيعي خارج اشراف الحكومة يثير عند المسؤولين شعورا بالمرارة ، يغذي الشكوك في طبيعة النشاطات التي يقوم بها الشيعة وما يمكن ان يترتب عليها. ويتكرر حديث المسؤولين عن هذا الامر في اجتماعاتهم مع وجهاء الشيعة، حيث يشار دائما الى ان علاقة الجمهور الشيعي بالمراجع المقيمين في الخارج وارسال الزكوات والتبرعات اليهم تفهم باعتبارها ولاء لجهة خارجية تتعارض مع ما يفترض من اخلاص الولاء للحكومة الوطنية. ورغم تاكيد الشيعة المستمر على المضمون الروحي المحض لهذه العلاقة ، الا ان سلبية الجمهور الشيعي ازاء الحكومة، سيما تمظهراتها السياسية، تتخذ كدليل على ان علاقتهم مع مراجع الدين تتجاوز البعد الروحي.
القلق من التمدد الايراني
اثار الرئيس المصري زوبعة سياسية حين صرح في ابريل 2006 بان الشيعة العرب يوالون ايران وليس دولهم[21]. رغم ان الحكومة المصرية حاولت التخفيف من وقع هذه الاقوال ، الا ان الرئيس مبارك كشف في حقيقة الامر عن الارتياب الشديد لزعماء المنطقة في طبيعة العلاقة بين الايرانيين والشيعة العرب. وكان ملك الاردن قد حذر في ديسمبر 2004 من ان تصاعد القوة الشيعية بعد الاجتياح الامريكي للعراق يهدد بقيام "هلال شيعي" يمتد من ايران الى لبنان. ووجه التحذير خصوصا الى حكومات الخليج والسعودية التي قال انها مستهدفة وان المجموعات الشيعية فيها منخرطة في هذا المخطط الذي سيقود الى خلخلة التوازان السياسي القائم بين الشيعة والسنة في الشرق الاوسط[22]. هذه التحذيرات التي تاخرت بعض الشيء، عبر عنها بشكل مفصل الشيخ سفر الحوالي، وهو ابرز المتحدثين في السياسة بين رجال الدين الوهابيين، في كتاب نشره عام 1991 بعنوان "كشف الغمة عن علماء الامة" وهو عبارة عن رسالة الى كبار العلماء ، يطالبهم فيها بتحذير الحكومة مما وصفه بمخطط امريكي سيقود الى هيمنة الشيعة على العالم الاسلامي، مرورا بتقسيم المملكة والقضاء على المذهب الوهابي:
إذا تصورنا ذلك أدركنا خطراً كبيراً يهدد المنطقة في حالة تدمير العراق وإحلال التحالف الشيعي محله (إيران-سوريا-العراق الذي سيصبح دولة شيعية بعد فصل الأكراد- ثم بقية المناطق الخليجية كالبحرين والإمارات وشرق السعودية- والوجود الشيعي واضح فيها، ولا ننسى أن نذكر أن كثيراً من الناطقين بالعربية في جنوب تركيا من النصيرية أيضاً، أما باكستان فكثير من قادة جيشها الكبار شيعة ومعهم إخوانهم القاديانية والبريلوية). إنها مصيبة عظمى لو أصبح هذا القوس الكبير قوساً رافضياً يهودياً توجهه الصليبية الغربية المتحالفة. [...] وأخشى -لا قدَّر الله- أن نصحو على إمبراطورية مجوسية تمتد من الهند إلى مصر.[23]
منذ قيام الثورة الايرانية في 1979 اضيف الى قائمة الواجبات المفروضة على الشيعة السعوديين واجب جديد يتمثل في الانكار المتكرر لعلاقتهم بايران. في كل ازمة سياسية، سواء كانت المملكة طرفا فيها او لم تكن، يتوقع المسؤولون تصريحات من زعماء الطائفة تعيد تاكيد ولاءها للحكومة ورفضها للسياسات الايرانية. وكلما قال شخص شيعي كلمة ايجابية عن ايران او عن شيعة العالم، توجب على زعماء الطائفة ان يقدموا تفسيرا او اعتذارا. ومع ذلك فان المسألة لا تنتهي، فالارتياب في ولاء الشيعة ووطنيتهم ارسخ من كل اعتذار او تفسير. لا يوجد تفسير مقنع لهذا الارتياب الذي لا يوجد دليل واحد على مصداقيته، ليس خلال السنوات الثلاثين الاخيرة فقط، بل خلال المئة عام الماضية كاملة. صحيح ان جماعات شيعية سياسية تحالفت مع ايران في وقت من الاوقات، وصحيح ان بعض الشبان الشيعة ربما انخرطوا في مخططات ايرانية، وصحيح ايضا ان الشيعة السعوديين قد تعاطفوا مع الثورة الايرانية. لكن يمكننا القول دون تردد ان المجتمع الشيعي لم يعبر في اي يوم وباي صورة عن ولاء سياسي لاي دولة في العالم يتضارب مع ولائه الثابت لوطنه. ويمكننا القول ان الشيعة السعوديين لم ينخرطوا – رغم المعاملة المهينة التي يتلقونها – في اي مشروع سياسي من ذلك النوع الذي تحدث عنه سفر الحوالي او الملك عبد الله بن الحسين او الرئيس مبارك. وقدد اشرت في سطورسابقة الى ان الشيعة طالبوا، ولا زالوا يطالبون، بطرح الموضوع للنقاش وعرض الادلة التي ادت الى هذه الريبة.
يفهم العقلاء والسياسيون ان تلك التهم ليست ارضية مناسبة للحكم بالخيانة على مجتمع باكمله، يشكل ما يصل الى 20% من اجمالي المواطنين. ولو صح الاستدلال بتلك الحوادث لوجب اقصاء 90% من سكان البلاد ومعاقبتهم. منذ منتصف القرن العشرين انخرط عدد كبير من الافراد والجماعات السعودية في مشروعات سياسية وحزبية مع ايران والعراق وسوريا ومصر واليمن وليبيا وقطر ومع الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق. كما ان اشخاصا خطفوا او شاركوا في خطف طائرات وتهريب اسلحة وتفجير منشآت واغتيالات وتشكيل شبكات تجسس ودبروا محاولات انقلابية. وهؤلاء جميعا ينتمون الى قبائل او مدن او عائلات او تيارات دينية وسياسية، فهل يصح القاء اللوم على قبائلهم ومدنهم وعائلاتهم وجماعاتهم ومعاقبتها جميعا. هل يصح مثلا ان نعاقب عائلة بن لادن، التي تدير اكبر شركة انشاء في المملكة على ما ارتكبه ابنها اسامة من افعال؟. وهل يصح ان نعاقب قبيلة عتيبة على ما فعله جهيمان العتيبي حين اقتحم المسجد الحرام بالسلاح في 1979 وقتل العشرات من المدنيين ورجال الامن؟. وهل يصح ان نعاقب سكان منطقة عسير باكملهم لان عشرات من ابنائهم شاركوا في عمليات تنظيم القاعدة داخل المملكة وخارجها؟. بل هل يصح معاقبة اتباع المذهب الوهابي لان عددا من كبار علمائه اصدروا فتاوى تتضمن تكفيرا للدولة او كبار مسؤوليها، او تبريرا لعمل مجموعات العنف الديني مثل تنظيم القاعدة ؟.
لعل هيمنة النظرة الطائفية على تفكير المسؤولين هي التي حالت بينهم وبين مساءلة تصوراتهم في هذا الجانب. واريد التاكيد هنا على التمييز الضروري بين الطائفية – ومضمونها سياسي/اثني وبين المذهبية التي مضمونها ديني/اثني. في اعتقادي ان سياسة التمييز تبرر بمبررات مذهبية ، لكن دافعها الاول طائفي، هو نفسه العامل المؤثر في العلاقة بين معظم الاكثريات والاقليات في الشرق الاوسط، في ايران وتركيا وسوريا والسودان ومصر وغيرها. سواء صنفت الاقلية على اساس عرقي كما في السودان وايران او على اساس ديني كما في مصر او قومي كما في العراق وسوريا، فان ارتياب الاكثرية في الاقلية هو الطابع الغالب على الثقافة السياسية المهيمنة[24]. هذا يشير في الحقيقة الى اشكالية رئيسية في الثقافة السياسية السائدة تتجسد في عنصرين بارزين :
1-      ضبابية مفهوم المواطنة كاساس لحقوق المواطنين الدستورية والعلاقة بين المجتمع والدولة.
2-      تضخم الجانب الامني في تصور القيادة السياسية لعلاقة الدولة مع المجتمع.
من المفهوم ان للدولة حق ثابت في صيانة النظام العام. وقد يقتضي هذا وضع اشخاص معينين تحت المراقبة وربما حرمانهم من بعض الحقوق. لكن المفهوم ايضا ان هذا الحق ليس مطلقا، ولو كان مطلقا لذهب مبدأ المواطنة ادراج الرياح. لا يجوز لاي حكومة ان تفرض قيودا تحرم المواطنين من حرياتهم وحقوقهم الطبيعية او المدنية من دون تحديد الاشخاص المعنيين بهذه القيود ومبرراته والامد النهائي له. مبدأ العدالة يقتضي الربط الوثيق بين تقييد الحقوق او حجبها وبين كفالة حق المتضرر في الاعتراض والتظلم وتحديد الجهة المعنية بالاستماع الى اعتراضه ومعالجته. من المؤسف انه لا يوجد في النظام القانوني للمملكة اي اطار دستوري او مؤسسي يحدد صلاحيات الحكومة في تعاملها مع الاشخاص، او يسمح بالاعتراض على القيود التي تفرض من جانبها. كما ان العهود الدولية التي انضمت اليها المملكة لا تعتبر جزءا من القانون المحلي. ولذلك لا يمكن الاستعانة بها في دعاوى قضائية او دفوعات ضد انتهاكات الدولة لحقوق الافراد.

جهود المصالحة

الاجتياح العراقي للكويت في اغسطس 1991 كان نقطة فاصلة في العلاقة بين المجتمع والدولة في المملكة. فقد انكشفت على نطاق واسع نقاط ضعف جوهرية في النظام السياسي والاداري للبلاد التي شهدت للمرة الاولى تحركات على مستويات مختلفة لمطالبة الحكومة بتبني برنامج جدي للاصلاح السياسي. كان الامر كذلك ايضا بالنسبة للعلاقة بين الشيعة السعوديين وحكومتهم. قبل اجتياح الكويت وفي اثنائه حاول العراقيون اقناع المعارضين الشيعة بالانضمام لمشروع افتراضي يتضمن احتلال الكويت والمنطقة الشرقية للسيطرة على منابع البترول  التخلص نهائيا من الحكم السعودي. لكن الشيعة رفضوا بحزم هذه المحاولات. وعلى العكس من ذلك فقد طالب الشيخ حسن الصفار، ابرز الزعماء السياسيين الشيعة، طالب الحكومة بتسهيل انضمام الشبان الشيعة الى القوات المسلحة للدفاع عن سيادة البلاد، في الوقت الذي كانت مدينة الخفجي الحدودية تتعرض للهجوم من جانب القوات العراقية. لم تستجب الحكومة لهذا الطلب، لكن الموقف الشيعي العام ترك اثرا حسنا في اوساط الحكومة التي كانت على علم بمحاولات العراقيين ، وكانت قلقة جدا من ان يستغل الشيعة هذا الظرف الحرج لتصعيد ضغوطهم عليها. وتجلت ردة الفعل الاولى بدعوة وجهاء الشيعة لمقابلة نجل الملك فهد، الامير محمد الذي يحكم المنطقة منذ 1982، لابلاغهم بارتياح الحكومة ووعدهم بان الامور ستسير الى  التحسن فور ان تنتهي الحرب الدائرة قرب الحدود الشمالية للبلاد.
حدث التطور الابرز في سبتمبر 1993 حين استقبل الملك فهد وفدا من قادة "الحركة الاصلاحية"، التنظيم السياسي الرئيسي للشيعة السعوديين، برئاسة كاتب هذه السطور.  وقدم الملك التزاما بان المطالبات التي اثيرت في المفاوضات التي جرت خلال الاشهر الستة الماضية سوف تجد استجابة بالتدريج. وكتاكيد على حسن النوايا، اطلق سراح العشرات من السجناء السياسيين واعيدت جوازات السفر المصادرة الى مئات اخرين. بعد هذا الاجتماع التاريخي ارتفع مستوى النقاش بين الشيعة والحكومة، وسادت حالة من الارتياح والامل. وبفضلها تحققت تطورات ايجابية، لا سيما على المستوى الامني.
الهجوم على نيويورك في 11 سبتمبر 2001 كان نقطة فاصلة اخرى في التاريخ السعودي المعاصر. فقد اكتشفت الحكومة ان التيار الديني المتشدد الذي حظي برعايتها منذ 1982 تحول بالفعل الى غول يهم بابتلاع النظام الاجتماعي والسلطة. كانت مؤشرات عن هذا التحول قد ظهرت منذ العام 1992 لكن الحكومة شعرت وقتئذ ان جهازها الامني قادر على احتواء المخاطر المتوقعة. اما بعد بروز تنظيم القاعدة كرأس حربة للتشدد الديني، فقد تبين ان التهديد يتجاوز كثيرا حجم التوقعات وامكانات السيطرة الفعلية.
اثمر هذا الحادث عن تطورين رئيسيين، اولهما ان الحكومة شعرت بالحاجة الى اعادة حساباتها فيما يتعلق بتحالفها التاريخي مع التيار الديني المتشدد، وهو التحالف الذي مكن هذا التيار من اعاقة معظم محاولات التحديث، على المستوى الاهلي والحكومي معا، وكان على الدوام مبررا لتشدد الحكومة تجاه دعوات الاصلاح الاهلية. اما التطور الثاني فتمثل في بروز نخبة اهلية مستقلة عن الحكومة، وتمثل شرائح اجتماعية متنوعة، تطالب بشكل علني بالاصلاح السياسي. وقدمت في هذا الصدد مذكرة الى ولي العهد - يومئذ – عبد الله بن عبد العزيز في يناير 2003 تعبر عن احتجاج النخبة على مماطلة الحكومة وتاخرها غير المبرر في اصلاح النظام السياسي والادارة. شكلت هذه المذكرة التي عرفت باسم "رؤية لحاضر الوطن ومستقبله" نقطة التقاء لجميع الاطياف الاجتماعية السعودية ولا سيما الداعية للاصلاح. شارك ممثلو الشيعة بشكل واسع في وضع المذكرة وتطويرها[25]. وفي وقت لاحق وقع 450 من النخبة الشيعية مذكرة اخرى اتخذت نفس المنحى الاصلاحي، واكدت على مشاركة الشيعة لبقية السعوديين في همومهم وتطلعاتهم، كما طالبت الحكومة باستثمار الفرصة المتاحة للتخلص من سياسة التمييز الطائفي. كان عنوان هذه المذكرة "شركاء في الوطن" وقدمت لولي العهد ايضا في ابريل 2003[26]. كانت المملكة قد شهدت في الماضي دعوات اصلاحية عديدة ، لكنها بقيت في الغالب محصورة ضمن نطاقات محلية او طبقية ، او عبرت عن هموم شرائح  محددة في المجتمع السعودي. اما حوادث 2003 فقد كشفت عن تبلور نخبة تمثل جميع مناطق المملكة وطوائفها واطيافها، تتبنى رؤية موحدة عن الاصلاح السياسي واهدافه الفورية والمتوسطة المدى. وتضمنت وثيقة الرؤية بندا يطالب الحكومة صراحة بالغاء التمييز الذي تعانيه شرائح محددة، مثل النساء والشيعة وبعض القبائل. بالنسبة للوثيقة الشيعية فقد شكلت اول تحديد دقيق لموقف الشيعة من الحكومة ومطالبهم، يحظى بالاجماع، حيث ضمت قائمة الموقعين عليها ابرز رجال الدين والناشطين السياسيين ووجهاء المجتمع والاكاديميين فضلا عن ممثلي الطبقات المختلفة والنساء وقطاع الاعمال[27].
حصل الوفد الذي قدم الوثيقة لولي العهد على وعد بانه سيدرس المقترحات وانه يدعم بعضها. كما ان الامير سلطان، الرجل الثالث في سلم السلطة اخبرهم في اجتماع لاحق بان كبار العائلة المالكة قد اقروا مشروعا يقضي بتشكيل مجلس  الشورى عن طريق الانتخاب، وان الدورة الرابعة المتوقعة عام 2005 ستشهد انتخاب نصف الاعضاء وتعيين النصف الاخر كمرحلة انتقالية قبل انتخاب جميع الاعضاء. لكن هذه الوعود لم تر النور. ما حصل فعليا هو ان الملك عبد الله قرر اطلاق مشروع للحوار الوطني يستهدف اقناع التيار الديني السلفي بقبول الاطياف الاجتماعية الاخرى. هذه الرؤية كانت خيبة امل للاصلاحيين. لكنهم مع ذلك اهتموا بانجاحها على امل ان تكون خطوة اولى تليها خطوات.
تضمنت وثيقة الرؤية دعوة للحكومة لعقد مؤتمر للحوار مع ممثلي مناطق المملكة حول العلاقة بين المجتمع والدولة ولسماع همومهم جميعا، كمقدمة لوضع ما يمكن اعتباره وثيقة اجماع وطني حول الاصلاحات المطلوبة. لكن بدلا من ذلك اعادت الحكومة انتاج الفكرة على شكل حوار بين المواطنين انفسهم وليس بينهم وبين الحكومة. والحق ان المؤتمر الثاني الذي عقد في ديسمبر 2003 كان استثنائيا ومبشرا، فقد شارك فيه عدد من الشخصيات المؤثرة، ونجح في رسم صورة جديدة للمجتمع السعودي كمجتمع متعدد مذهبيا وثقافيا[28]. لكن بقية الاجتماعات السنوية كانت غير مهمة على الاطلاق، فقد ناقشت مسائل كثيرة لكنها جميعا ثانوية، كما ان مستوى النقاش كان منخفضا. وعلى اي حال فان المؤتمر الذي تحول الى دائرة حكومية تحمل اسم "مؤسسة الملك عبد العزيز للحوار الوطني" لا يملك آلية لتحويل توصياته الى قرارات، كما ان الحكومة لم تعلن ابدا التزامها بتلك التوصيات. ولهذا فان مؤتمرات الحوار السنوية فقدت اهميتها واهتمام الجمهور بها. في الوقت الحاضر يميل الاصلاحيون الى الاعتقاد بان الحكومة قد طرحت ملف الاصلاح جانبا ولم يعد موضع مناقشة على اي مستوى[29]. فيما يتعلق بالشيعة فهناك مؤشرات على تراجع في الحريات الدينية بعدما شهدت تحسنا ملموسا منذ 1993[30].

ماذا يريد الشيعة

منذ العام 2003 اصبحت المسألة الشيعية والتمييز الطائفي بين ابرز موضوعات الجدل على المستوى الوطني . وشهد العام التالي تطورا ملفتا حين بدأت صحيفة الوطن، وهي احدث الصحف السعودية، في نشر مقالات تتضمن نقدا لبعض ما تعرض له مواطنون شيعة على يد دعاة او قضاة او مسؤولين حكوميين. وهو امر كان محضورا في الماضي.
وواصل زعماء الشيعة مساعيهم لاقناع قادة الدولة بمعالجة قضايا التمييز. وتعززت امالهم باقتراب الحل مع تولي الملك عبد الله للعرش في اواخر 2005، الا ان الامور تتجه الى الجمود، اذ لم يحصل تغيير يذكر في السنوات الخمس الماضية. في العام 2008 اقترح زعماء الشيعة مشروع عمل بعنوان "اندماج الشيعة في النظام السياسي الوطني" يمثل خارطة طريق لحل مشكلة التمييز. وقدم المشروع الى ولي العهد الامير سلطان في اغسطس 2008، الا انه لم يطرح للنقاش حتى الان. يتضمن المشروع تصورا متكاملا عن المشكلة، كما يبسط اسبابها وعناصرها، ويقترح حلولا تدريجية وغير مكلفة سياسيا.
يفهم زعماء الشيعة السعوديين ان علاج معضلة التمييز ليس سهلا ولا سريعا. لكن المؤكد ان هناك وسائل للعلاج يمكن ان تكون فعالة على المدى القصير او المتوسط. في كل الاحوال فاننا بحاجة الى معالجة الاشكال الرئيس في العلاقة بين الطرفين، اي انعدام الثقة المتبادلة. في اعتقادنا ان الطريق الوحيد لاستعادة الثقة هو المناقشات الصريحة حول مصادر القلق عند كل من الطرفين ومقترحاته لعلاجها. لا يتوقع الشيعة ان يحصلوا على كل الحقوق التي يطالبون بها، لكننا على الاقل نستطيع الوصول الى نوع من العلاقات الطبيعية، التي قد تكون تمهيدا لاندماج الشيعة في النظام السياسي الوطني، بدل وضعهم الحالي كأقلية قلقة ومثيرة للقلق.
من المهم تحييد العنصر الديني في العلاقة بين الشيعة والحكومة، فقد كان على الدوام سببا في اثارة الخلاف. لا يصح ان تعامل الحكومة مواطنيها الشيعة باعتبارها ممثلا للمذهب الوهابي، ولا ان تنطلق في سياساتها من التصورات المتداولة في دوائر هذا المذهب. وللحق فانها قد تقدمت بخطوات واسعة في الفصل بين انتمائها المذهبي وبين سياساتها في مجال الاقتصاد مثلا. وهذا يؤكد قدرتها على التحرر من تاثير المذهب في علاقتها مع الشيعة. كما ينبغي تحييد العامل الامني في هذه القضية. اذ لا يصح ان يعامل الشيعة باعتبارهم حزبا خارجا عن القانون او عبئا امنيا بسبب انتمائهم المذهبي او انخراط افراد منهم في  اعمال معارضة للحكومة.
ما يريده الشيعة هو ان يعاملوا كمواطنين عاديين، مثل سائر المواطنين السعوديين لا اكثر من ذلك ولا اقل. يريدون ان يحصلوا على المساواة في الفرص والمساواة امام القانون والحصول على نصيبهم العادل في الموارد العامة، وان يتحملوا في المقابل جميع الاعباء والمسؤوليات التي يتحملها بقية المواطنين.
يمكن ان توضع المشكلة على طريق الحل باحدى طريقتين، او بهما معا:
أ‌)    برنامج زمني لتصفية تجليات ومظاهر التمييز، في القانون والسياسات والممارسات الرسمية، تقابله مبادرات محددة من جانب الشيعة لمعالجة اسباب قلق الحكومة في الجانب الامني او الديني او غيره. يجب ان يسند هذا البرنامج بتشريعات قانونية تجرم التمييز وتحدد الاجراءات التي تتخذ في حال ممارسته من جانب هيئات رسمية. 
ب‌)  اجراءات غرضها احداث صدمة ثقافية مثل تعيين عدد من الشيعة في مناصب ذات قيمة رمزية (وزير، سفير، وكلاء وزارات، مدراء هيئات رئيسية .. الخ). مثل هذا الاجراء لا يعالج مشكلة التمييز الراسخة، لكنه يوجه رسالة قوية الى الجميع فحواها ان الشيعة لم يعودوا مصنفين كمواطنين من الدرجة الثانية وان التمييز ضدهم لم يعد مقبولا او محميا.

في كل الاحوال فان الامر يتوقف على قرار شجاع بطي صفحة التمييز الطائفي ومعالجة الاثار التي ترتبت على ممارسته طوال الحقب الماضية. ويعتقد الشيعة ان حل المشكلة ممكن ضمن الظروف المحلية والاقليمية والامكانات المتوفرة للدولة والمجتمع السعودي، وهم جاهزون للمساهمة بنصيبهم من الحل. ويتوقعون ان تقدم الحكومة على الخطوة الاولى بالموافقة  على طرح الموضوع للنقاش معهم او على المستوى الوطني. لقد قدمت العديد من الاقتراحات العملية حتى الان، ويمكن ان تشكل اساسا للتفاوض في المسألة، لكن الباب مفتوح لاي طرح جديد اذا قررت الحكومة البدء في مناقشة الموضوع بصورة جدية.
---------------------------
قدم النص الاولي كورقة بحث في مؤتمر لبرنامج دراسات الشرق الاوسط – مدرسة العلوم الاجتماعية – جامعة باريس – نشر بالفرنسية في مجلة Moyen-Orient
Bib. Tawfiq al-Saif, Arabie saoudite, Quelle place pour les chiites ? Moyen-Orient 06, Paris, June – July 2010




هوامش


[1]      في 2007 قدرت مصلحة الاحصاءات العامة عدد السعوديين بـ 17.5 مليون.
[2]  حول التاثيرات المبكرة لصناعة البترول على اقتصاديات المنطقة ، انظر عبد الله السبيعي :  اكتشاف النفط واثره على الحياة الاقتصادية في المنطقة الشرقية 1933-1960 (الرياض 1988)
[3] G. Lipsky, M. Ani, M. Bigelow, F. Gillen, T. Larson, A. Matthews, C. Royce, S. Gillen,  Saudi Arabia, Its People Its Society, Its Culture, ( HRAF Press, 1959)
[4]  اعلى المراتب الوظيفية في المملكة هي مرتبة وزير وتليها المرتبة الممتازة ثم المرتبة 15.
[5] For a recent documentation on the issue, see: Human Rights Watch, Denied Dignity, Systematic Discrimination and Hostility toward Saudi Shia Citizens, (September 2009)
[6] لتفاصيل اخرى انظر وزارة التربية والتعليم، البيانات الاحصائية : http://www.moe.gov.sa/stat/index.htm
[7] احمد الجار الله: اطلس السكان الرقمي للمملكة العربية السعودية، (جامعة ام القرى، مكة، 2004) http://uqu.edu.sa/page/ar/68800
[8] صدر خلال العقدين الاخيرين من القرن المنصرم العديد من الكتب والرسائل والفتاوى تربط فكرة الحداثة بالغزو الفكري الأجنبي والمؤامرة على الإسلام، من بينها مثلا : حسن الهويمل : الحداثة بين التعمير والتدمير - 1992، عوض القرني : الحداثة في ميزان الإسلام -1988، سعيد الغامدي: الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها-2003، عبد الرحمن الزنيدي: العصرانية في حياتنا الاجتماعية- 1995، جمعان الزهراني: اسلوب جديد في حرب الاسلام – 1989، وغيرها. وبعض الكتب المذكورة نشر بدعم هيئات دينية رسمية.
[9] من الامثلة على هذا ان الحكومة رفضت منح اي ترخيص لاقامة بنوك اسلامية، رغم ان هذه التجربة الجديدة ابتكرها مستثمرون سعوديون اقاموا بنوكا في دول اخرى، ورغم الحاح كثير من المشايخ على فرض هذا النظام في المملكة.
[10] فهد العرابي الحارثي: مبحث في مشكل التخلف، مركز اسبار للبحوث (يناير 2009) . www.asbar.com/ar/contents.aspx?c=508
[11] في 2008 وزع الامير ممدوح بن عبد العزيز، على اعضاء مجلس الشورى وكبار مسؤولي الدولة، ملفا يتضمن تقارير وديسكات صوتية ومصورة، تدل - كما قال في تقديم الملف - على مؤامرة واسعة يشارك فيها شيعة السعودية وايران ودول عربية اخرى، وتحظى بدعم دولي، هدفها اختراق النظام السياسي والاجتماعي للعالم العربي والسيطرة على مفاصل حياته. وهي تستثمر باعلى الحدود التقنيات الجديدة وكفاءات بشرية عالية التاهيل، فضلا عن مصادر مالية هائلة حكومية واهلية. ودعا الامير ممدوح  النخبة السعودية الى وضع خطة مضادة واقامة هيئة رسمية تتولى كبح تطلعات الشيعة وتحجيم نشاطاتهم. وحذر من كارثة تحيق بالمملكة اذا لم يصغ المسؤلون الى تحذيراته. وقد اعد الملف ممدوح الحربي وهو رجل دين وهابي. والامير ممدوح هو اصغر اخوة الملك عبد الله، ويوصف بانه رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية في الديوان الملكي. نموذج عن بعض كتابات الحربي وخطاباته في الموضوع على موقع طريق الاسلام: www.islamway.com/?iw_s=Scholar&iw_a=series&series_id=5504. للاطلاع على اهتمامات الامير ممدوح، انظر موقع لجينيات www.lujainiat.com
[12] ارقام سجناء الراي متفاوتة بين مختلف المصادر وهي تتغير  بين فترة واخرى. انظر بهذا الصدد تقرير مراقبة حقوق الانسان: عدالة غير آمنة (2008). الذي يتضمن ايضا ملاحظات المنظمة حول نظم التقاضي ومناقشاتها مع المسؤولين بهذا الصدد.
[13] انظر في هذا الصدد تصريحات الامير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية – (عكاظ 21 سبتمبر 2006) www.okaz.com.sa/okaz/osf/20060921/Con2006092149379.htm
[14] انظر في هذا الصدد: عبد الله عبد المحسن التركي: مسؤولية الدول الإسلامية عن الدعوة، مركز البحوث والدراسات الإسلامية، (الرياض 1996).
[15]  انظر مثلا "مذكرة النصيحة" على موقع جزيرتنا الجديدة www.myarabia.info/vb/showthread.php?t=14236
[16] كمثال على الادبيات التي تستعملها مجموعات الضغط ، انظر الرسالة التي جرى تعميمها خلال الحملة على الوزير مدني :
http://www.almeshkat.net/vb/archive/index.php/t-50456.html
 [17]  انظر صورة الامر على شبكة راصد الاخبارية (21-10-2009) : http://208.78.41.209/artc.php?id=32939
[18  انظر نص الرسالة على موقع طريق الاسلام: 
 www.islamway.com/index.php?iw_s=library&iw_a=bk&lang=1&id=3165
[19] اسلام اون لاين (3 سبتمبر 2007) www.islamonline.net
[20] لبعض التفاصيل، انظر منصور النقيدان: هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. نقاش لا ينتهي www.montdiatna.com:8686/forum/showthread.php?t=37898
[21] قناة العربية www.alarabiya.net/articles/2006/04/08/22686.html
[22]  Washington Post (8 Dec. 2004),  www.washingtonpost.com/wp-dyn/articles/A43980-2004Dec7.html
[23] سفر الحوالي : كشف الغمة عن علماء الامة، ص 37. ونشر الكتاب ايضا تحت اسم "وعد كيسنجر والاهداف الامريكية في الخليج". ن.إ: http://saaid.net/book/open.php?cat=84&book=540
[24] حول تطور وضع الاقليات في العالم العربي ، انظر "الملل والنحل والاعراق "  وهو سلسلة تقارير سنوية متخصصة يصدرها مركز ابن خلدون للدراسات الانمائية بالقاهرة ، ويشرف على تحريرها د.سعد الدين ابراهيم .

[25] انظر نص المذكرة على موقع شؤون سعودية: http://www.saudiaffairs.net/webpage/sa/issue02/article02l/issu02lt011.htm
[26] نص المذكرة وتفاصيل اخرى، انظر شبكة راصد الاخبارية http://www.rasid.com/artc.php?id=43
[27] On the political trends among Saudi Shia in the present time, see: Crisis Group International, The Shiite Question in Saudi Arabia, Middle East Report N°45 – (Brussels, Sep. 2005). The report features field research and interviews with Shia activists.
[28] انظر نص توصيات المؤتمر، موقع التجديد العربي http://www.arabrenewal.net/index.php?rd=AI&AI0=2804
[29]  For a recent evaluation of Saudi politics under King Abdullah, see : The Kingdom of Saudi Arabia, 1979-2009: Evolution of a Pivotal State, The Middle East Institute, (Washington, DC 2009).
[30] في سبتمبر 2009 اصدر النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء امرا بمنع الشيعة من اقامة مساجد او حسينيات او مقابر خارج مدن القطيف والاحساء ونجران، ومنع استخدام المساكن والاستراحات في اقامة العبادات والاعمال الدينية الخاصة بالشيعة. ونص امر اخر صدر في اكتوبر عن امير المنطقة الشرقية محمد بن فهد على تكليف الاجهزة الامنية بمراقبة الشيعة في المدن للتاكد من عدم خرق القرار السابق. انظر شبكة راصد الاخبارية www.rasid.com/artc.php?id=33105

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...