21/06/2017

المعنوية ، حيث تلتقي جميع الرسالات

انتقل العلامة شحرور الى رحمة الله في 21-12-2019. للاطلاع على فكره وكتبه ، انظر موقعه على الشبكة https://shahrour.org/

Muhammad-Shahrur.jpgالحوارات اليومية للمفكر السوري د. محمد شحرور على قناة روتانا ، هي في ظني أفضل عمل ثقافي قدمه الاعلام العربي خلال هذا الشهر المبارك. تعرفت على شحرور للمرة الأولى في مطلع تسعينات القرن المنصرم ، من خلال عمله المثير للجدل "الكتاب والقرآن". وللحق فان تحليله الفريد للنص القرآني قد صدمني وسفه كثيرا من قناعاتي المستقرة. لكنه علمني ان فهم النص مشروط بالعبور منه الى ما وراءه. هذا "الوراء" قد يكون تخيلا للاحتمالات الممكنة في النص ، أو ربما قائمة معايير أولية بسيطة ترجع اليها كافة الاخلاقيات والمثل ، أو إطارا عاما يجمع ما تظنه الخيوط التي تربط بين حياة البشر المادية وحياة الانسان المعنوية.
وجدت ثلاثة مفاهيم تشكل ما أظنه اطارا عاما يجمع كل آراء محمد شحرور ، هي الدنيوية ، المعنوية ، والعقلانية. من حيث المبدأ تصور شحرور الاسلام وكتابه المقدس كمنهج لتنظيم حياة البشر في الدنيا. ما يتعلق بالغيب والآخرة مجرد تكملة للقواعد التي تنظم الحياة الدنيوية. ثم انه تصور الحياة الدنيا العاقلة كنموذج أولي لتطبيقات القيم الدينية. والحق ان القرآن لا يدعونا لغير القيم العليا وقواعد العيش الكريم ، التي توصل اليه عقلاء البشر في كل زمان ومكان. ربما تختلف تطبيقات تلك القيم ومقاصدها الفورية بين ظرف وآخر او بين مكان وآخر ، بحسب موقعها في التشكيل العام للظرف الاجتماعي – الاقتصادي الراهن. لكنها في نهاية المطاف ليست أدوات تبرير لذلك الظرف ولا السلوكيات او المفاهيم المتولدة عنه. بل هي على العكس من ذلك ، نماذج مرجعية لنقد السلوكيات والافعال والمفاهيم السائدة ، وتأكيد على تجاوز التطبيقات الظرفية الى النموذج الاعلى.
المعنوية هي النقطة التي تلتقي عندها كافة الأديان والدعوات الروحية. لطالما استمعنا الى من يقول ان الاسلام متمايز على سائر الأديان ، بما يحويه من توازن بين جانبيه المادي والروحي. لكن ماذا تغني روحانيات الدين ان لم تملأ القلوب بالمحبة لسائر خلق الله. ان ما جرى من افراط في استعمال الشعار الديني في الصراعات الاجتماعية والسياسية ، قد حجم روحانيات الدين ، وحولها من عالم مستقل موازن للميول المادية ، الى أداة للأغراض المادية ، من خيوط وصل تربط بني آدم الى تبريرات للعدوان عليهم.
في هذه الأيام أرى نوعا من إعادة الاعتبار لمعنويات الدين. اي تلك المفاهيم القائلة بان عباد الله جميعا يمكن ان يلتقوا على شاطيء واحد ، هو عمل الخير ، حتى لو سلكوا سبلا شتى او اختاروا مذاهب وأديانا مختلفة. ويلفت انتباهي خاصة الاراء الجديدة التي يطلقها دعاة ومفكرون ، وفحواها ان قصد الخير بشكل عام ، كاف لنيل رضا الله.
جوهر معنوية الدين هي الايمان بأن رسالة الله واحدة ، تختلف اشكالها واطارات عملها بحسب اختلاف ازمنة الناس ، وان رحمة الله تتسع لجميع خلقه ، المذنبين والمحسنين. ونقطة الالتقاء بين العقلانية والمعنوية هي الايمان بدور الضمير الانساني كنقطة اتصال بين الانسان وربه ، ودور العقل كمولد لمعاني الافعال. مهما كان اتجاه الانسان وقناعاته ، فان عقله قادر على كشف محتوى الفعل ، اي التمييز بين الصلاح والفساد فيه ، حتى لو كان جاهلا بتعاليم الدين.
قد تكون ممن يتوسع في اقامة شعائر الدين او ممن يقتصد فيها. ما هو مهم في كل الاحوال هو قصد الخير لنفسك ولعامة الخلق ممن تعرفهم او لا تعرفهم. هذا هو  الايمان بالله.
الشرق الاوسط 21 يونيو 2017

مقالات ذات علاقة

14/06/2017

كهف الجماعة



أنت وأنا ننظر الى واقعة واحدة ، فأرى شيئا وترى شيئا آخر. انا وأنت لا نرى الواقعة كما هي ، بل نرى صورتها التي في أذهاننا. لا يختلف الناس في حكمهم على الاشياء لأنهم يجهلون الحقائق ، بل لأنهم يرونها على صور متباينة. قدم الفيلسوف الالماني مارتن هايدغر صياغة مبسطة لهذا المفهوم فقال ان كل فهم جديد مشروط بالفهم السابق. ولا فهم من دون فهم مسبق. لهذا السبب على الارجح رأى توماس كون ، المفكر الامريكي المعاصر ، ان ما يكتشفه البشر في مراحل العلم العادي ليس سوى اعادة ترتيب لما يعرفونه سلفا.
قبل ذلك بزمن طويل ، رأى افلاطون ان عامة الناس سجناء للذاكرة الفردية او الجمعية التي تحدد رؤيتهم للعالم. تخيل افلاطون كهفا يتسلل اليه بصيص ضوء ، فتنعكس على جدرانه ظلال من حركة الحياة في خارجه ، فيتخيل أهل الكهف انهم يرون الحياة بذاتها. لكنهم في حقيقة الامر لا يرون غير ظلالها. قلة قليلة ممن يملكون البصيرة أو يتحلون بالشجاعة ، يتمردون على كهف الذاكرة فيخرجون الى النور ، فيرون العالم كما هو ويرون الحياة كما هي. وحين يصفونها لأهل الكهف فان قليلا منهم سيجرأون على تقبل فكرة ان هناك ، خارج جدران الكهف ، عالما ينبض بالحياة أو يتحرك في اتجاه مختلف عما تخيلوه طوال حياتهم.

أعاد فرانسيس بيكون شرح الفكرة في نظريته الشهيرة عن أصنام العقل الاربعة ، أي منظومات الأوهام الساكنة والنشطة التي تتحكم في رؤية العقل للحقائق ، وبينها أصنام الكهف.
اصنام الكهف او كهف الذاكرة تنطبق بصورة بينة على المسار الاجتماعي الذي نسميه التمذهب. نحن ننظر الى معتقداتنا فنراها صحيحة دائما. بينما ينظر اليها اتباع مذهب مختلف ، فيرونها خاطئة دائما. نأتي بالادلة والشواهد ، فيأتون بأدلة وشواهد مقابلة. وفي نهاية النقاش ، يزداد الطرفان قناعة بما كانوا عليه أصلا. وكأن النقاشات كلها حوار بين طرشان أو مجرد نفخ في الهواء.
ليس بين الطرفين جاهل او قليل العلم ، وليس بينهما من لا يفهم الادلة او طرق الاستدلال. المسألة وما فيها انهم يفكرون في قضايا تتحد في الاسماء ، وربما تتحد في الجوهر ، لكنهم لا يهتمون بجوهر الاشياء ولا باسمائها ، بل يهتمون بالمعاني المتولدة من تلك الاشياء.
معنى الشيء هو الصلة التي تربط بينه وبين الناس. ولا قيمة لأي شيء ما لم تتحدد علاقته بالاشخاص الذين يتداولونه. جرب ان تعرض على طفل خمسمائة ريال او لعبة بعشرة ريالات ، فما الذي سيختار؟. المؤكد انه سيختار اللعبة ، لانها تعني له شيئا. اما الخمسمائة ريال فليست – بالنسبة اليه – سوى ورقة.
اتباع الأديان والمذاهب وأعضاء الجماعات السياسية ، بل كافة الناس على وجه التقريب ، لايجادلون قناعاتهم الاساسية ، ولا يتخلون عن مسلماتهم ، حتى لو رآها الاخرون غير معقولة. لانها ليست عناصر هائمة في الفضاء ، بل هي اجزاء متناغمة ملتحمة في صورة كاملة مستقرة في ذاكرتهم ، تشكل كهفهم الخاص ، اي عالمهم الحقيقي ، الذي قد يماثل عالم الناس او يختلف عنه ، لكنهم يعرفون انفسهم والعالم على هذا النحو.
هل يستطيع أحد البرهنة على ان عالمك اكثر معقولية من عالمي ، أو ان كهفك اوسع من كهفي؟. ربما. لكننا نتحدث في نهاية المطاف عن كهف ، واسعا كان أو ضيقا.
الشرق الاوسط 14 يونيو 2017

مقالات ذات علاقة


07/06/2017

كيف تولد الجماعة



لا نسمع هذه الايام عن ظهور مذاهب دينية جديدة. لكنا نسمع دائما عن ظهور جماعات دينية جديدة. لو عدنا الى التاريخ وتأملنا في الظروف التي ولدت في رحمها المذاهب المختلفة ، لوجدناها شبيهة بالظروف التي تتخلق في رحمها أحزاب اليوم.
معظم المذاهب الدينية القائمة ، مثل نظيرتها التي اندثرت في مسار الزمن ، ولدت كنتيجة لتحولات اجتماعية او صراعات سياسية. ثم جرى شحنها بمحتوى نظري يؤكد الحدود التي تفصلها عن التيار السائد. أحزاب اليوم تسير في نفس الطريق. يكتشف شخص او عدد من الاشخاص فكرة ، تتحول الى موضوع تناقض مع حاضنها الاجتماعي ، ثم تتحول الدعوة اليها او الدفاع عنها الى "دائرة مصالح" لأصحابها ، ثم يجري تنظير الحدود التي تميزها عن دوائر المصالح المنافسة في ذات الاطار الاجتماعي ، فتمسي "جماعة" مستقلة.
التحول من دائرة مصالح اجتماعية او سياسية الى مذهب او طائفة ، يتم تدريجيا ، وربما يستغرق عشرات السنين ، بحيث ينسى الناس ظرف البداية ، فيتعاملون مع الجماعة او الطائفة كمعطى ناجز او واقع قائم ، لا يبحث أحد عن أصوله وبداياته.
من حيث الشكل الخارجي ، لا تحمل الاحزاب الدينية المعاصرة سمات المذهب او الطائفة. فكلها حريصة على تحديد موقعها ضمن أحد المذاهب. لكن التأمل في مضمونها ومحتواها الايديولوجي ، فضلا عن مواقفها الثابتة ، يوضح انها لا تختلف كثيرا عن المذاهب المكتملة. ولذا فقد نجدها على خصام مع بقية أتباع المذهب نفسه ، سواء انتموا الى دوائر مصالح مستقلة او كانوا ضمن التيار العام. انها اذن اقرب الى ما يمكن اعتباره شبه طائفة او شبه مذهب ، تحمل كل مقومات المذهب المستقل او الطائفة المستقلة ، لكن سماتها الخارجية ما تزال غير مكتملة.
ربما يرجع هذا اللبس الى اصرار الجماعات الجديدة على التمسك بذات المصادر القيمية والمرجعية النظرية للمذهب الاصل. وهذا من الأمور الشائعة. اذ نادرا ما تتخلى الجماعة عن المصادر المرجعية المشتركة ، لانها تحتاج اليها في تأكيد مشروعيتها.  وهي تحتاجها كي تصون قدرتها على العمل في نفس الحاضن الاجتماعي الذي تخارجت عنه. ولو انكرت تلك المصادر لسهل على المنافسين اقصاءها باعتبارها اجنبية او خارجية.
تتمسك الجماعة بتلك المصادر ، اي الكتاب والسنة والمنظومات العقدية ، والاجتهادات الفقهية الرئيسية، ثم تعيد تفسيرها على نحو يبقي على الارتباط بالأصل. لكنه في الوقت نفسه يؤكد الفارق بينها وبين المنافسين. ويبرر تخارجها النسبي عن المذهب الاصل. وهي تطرح هذه التفسيرات باعتبارها المفاد الصحيح او المعنى الأقرب للمصادر المرجعية.
زبدة القول ان ظهور الجماعات الدينية اليوم ، مثل ظهور المذاهب الدينية في الماضي ، هو استجابة لدوافع ومحركات اجتماعية او سياسية. اما الافكار المتمايزة فهي إعادة تفسير للنص او المصادر المرجعية على نحو يبرر التفارق. ولهذا نجد ان بعض ما يطرحه اصحاب المذاهب من اراء متمايزة ، لا مبرر له سوى تأكيد التمايز. انها – بتعبير آخر – تأكيد على مركزية الجماعة ، ودعوة الاتباع للنظر الى الدين والعالم من خلال الجماعة/المذهب ، وليس النظر الى الجماعة من خلال الدين او الرؤية الدينية الى العالم.
هذا لا يعني بطبيعة الحال ان هذه الرؤية صحيحة او باطلة ، بل يعني فقط وفقط ان الاختلاف والتمايز ، سنة جارية في كل دين وايديولوجيا. يبدأ الانقسام لاسباب اجتماعية او سياسية ، ثم يشحن بمبررات دينية او ايديولوجية.
الشرق الاوسط 7 يونيو 2017

31/05/2017

نسبية المعرفة الدينية



من حيث المبدأ ، يتجه الخطاب الديني الى كل البشر ، في كل الازمان والأماكن ، باعتباره مثالا ومنهجا كونيا ، قادرا على توحيد الأحياء وتعزيز الالفة فيما بينهم ، وصولا الى تشكيل أمة واحدة تسود الكوكب. وفي هذا المجال لا يختلف دين عن دين. الاسلام مثل المسيحية واليهودية والبوذية وجميع الاديان الأخرى ، كل منها يقدم نفسه كخطاب كوني وقوة توحيد للعالم. وهي جميعا تدعو  للتعارف والتفاهم بين الاقوام والجماعات البشرية المختلفة ، تمهيدا للاندماج والتوحد..
لكن تاريخ العالم يخبرنا ان الأديان التي نجحت أولا في توحيد المجتمعات الصغيرة ، سرعان ما أصيبت بداء الانقسام والتفكك الداخلي.
الامبراطورية الرومانية المقدسة 117م

ومن المفارقات ان كل الاديان تسعى للتوسع ، من خلال ضم مجتمعات جديدة الى قاعدة اتباعها ومعتنقيها. لكن هذا المسار بذاته ، يفتح الباب لدخول أعراف تلك المجتمعات وموروثاتها الثقافية ، الى النسيج الثقافي للدين. وطالما بقيت ابواب المعرفة الدينية مفتوحة لجميع اتباع الدين ، فان احتمالات التحول في تلك المعرفة ، تبقى مشرعة بنفس القدر. المزيد من الاتباع يعني المزيد من الاضافات ، والمزيد من الاضافات يعني احتمالات جديدة لظهور جماعات متمايزة داخل الدائرة الدينية.
اختلاف الفتوى من بلد لآخر ومن زمن لآخر ، مثال شائع عن تلك الحقيقة. وهو للمناسبة من الأمور التي يحبذها كافة اتباع الأديان ، ويرونها دليلا على يسر الدين وانفتاحه. بعض الباحثين ينظر لاختلاف الرأي والفتوى كقضية علمية بحتة ، سببها اختلاف العقول وتعدد الأدلة. لكن الواقع يخبرنا ان عقل الانسان لا يعمل في العزلة.  فهو يتأثر بالمعارف المنظمة والأدلة ، إضافة الى التصورات الذهنية المنعكسة عن ظرفه الاجتماعي ، أي أنماط معيشة الناس وهمومهم ومشكلاتهم وتطلعاتهم ومصالحهم ومخاوفهم. تترك هذه المؤثرات بصمتها على الفتوى والرأي الديني ، مثل اي تعبير ثقافي آخر. العوامل البيئية تؤثر في فهم الباحث لموضوع البحث كما تؤثر في مسارات تفكيره ، وتؤثر اخيرا في صياغته لنتاج عقله. اختلاف البيئة الاجتماعية لعالم الدين ، هو السبب وراء تعدد النماذج الدينية واختلافها بين بلد وآخر ، أو حتى بين جيل وآخر في نفس البلد.
المفترض ان نتعامل مع تعدد النماذج الدينية كسياق طبيعي في الحياة. بل من المنطقي القول انه مؤشر على اتساع التجربة الدينية وميلها الى الثراء والتكامل. لكننا مع ذلك سنواجه سؤالا لا يسمح باجابة نهائية ، وهوسؤال المسافة الممكنة للاختلاف بين النماذج المحلية للدين من جهة ، والمسافة الممكنة للاختلاف بين كل من هذه النماذج ، وبين النموذج النظري الاصلي. سبب هذا السؤال هو القناعة القائلة بأن النموذج الاصلي للدين ، هو الوحيد الذي يتمتع بمشروعية كاملة ، أما النماذج المحلية فمشروعيتها نسبية ، ومشروطة بقربها الى الأصل أو بعدها عنه.
بالنسبة لمعظم الناس ، يبدو ذلك السؤال بديهيا وضروريا. فجميعهم يود الاقتراب من الاصل قدر المستطاع. لكنه ، من ناحية أخرى ، سؤال غير منطقي ، بل لا يبعد ان يكون بلا موضوع. فكل متدين ينظر الى كلا النموذجين: المحلي والأصلي ، من زاويته الخاصة. اي أن رؤيته محكومة بظرف الانقسام ، وبالتالي فهي منحازة. فهل يمكن لرؤية منحازة ان تقدم حكما محايدا؟.
نتيجة الجواب ليست مهمة ، المهم ان قبولنا بالسؤال في الاصل يمثل اقرارا ضمنيا بأن المعرفة الدينية نسبية ، وان التطبيقات الدينية من جملة تلك المعارف ، التي قد تطابق الحقيقة الدينية او تفارقها.
الشرق الاوسط 31 مايو 2017

http://aawsat.com/node/939756


17/05/2017

الفتاوى الغريبة وحكمتها الخفية


في ديسمبر 2008 نشرت صحيفة "الوطن" تقريرا للزميل عضوان الاحمري ، استعرض أغرب الفتاوى خلال العام. وتنشر الصحافة تقارير مثل هذا بين حين وآخر.
استغراب تلك الفتاوى لا يتعلق بصحة أو خطأ أدلتها. فليس هذا ما يهم عامة الناس. موضع الاثارة والاستغراب هو تطبيق مضمون الفتوى. وأذكر ان وزير الاعلام السابق د. محمدعبده يماني رحمه الله ، عرض علي يوما كتابا عن الحديث المعروف بحديث الذبابة. ووجدت ان كاتبه قد بذل جهدا فائقا في التحقق من الروايات التي تسند الحديث المذكور. لكن المرحوم يماني لم ينس الاشارة الى ان المشكلة لا تكمن في صحة الاستدلال ، بل في كون مؤدى الحديث مما يجافي الذوق العام. ولذا يقع موقع السخرية.
المرحوم د. محمد عبده يماني

اعلم أيضا ان بعض الفقهاء المعاصرين يختار السكوت عن فتاوى كانت محل اجماع في الماضي ، لأن الجمهور ما عاد يقبلها. ومن بينها مثلا فتاوى تحريم التصوير ، والدراسة في الخارج والعمل في البنوك واقتناء الاسهم ، و السفر الى البلدان الاجنبية ، والمتاجرة في الاسواق المستقبلية ، وتولي النساء للوظائف القيادية..الخ.
هذا يشير الى حقيقة ان المسألة الشرعية لا تنتهي بمجرد اعلان الفتوى فيها. دعنا نقول ان عملية الاجتهاد تتألف في المنهج الموروث من ثلاث مراحل ، هي التكييف الموضوعي للمسالة ، ثم البحث عن الادلة ذات العلاقة ، واخيرا انتخاب الحكم المناسب.
لكن التحولات الاخيرة في تعامل الناس مع الشريعة وأهلها ، تستدعي إضافة مرحلة رابعة ، هي اختبار الانعكاسات المترتبة على اعلان الفتوى. والمرجع في هذا الاقتراح ان المصلحة شرط في الحكم. واشتهر بين العلماء ان "الاحكام تدور مع المصالح وجودا وعدما". ومعنى هذا القول ان فتوى الفقيه تسقط من الاعتبار ، اذا ترتب عليها تضييع مصلحة عقلائية ، او تسببت في فساد.
ومن أجلى وجوه الفساد التسبب في إعراض الجمهور المسلم عن احكام الشريعة ، او جعلها موضعا للسخرية والتندر من قبلهم او من قبل غيرهم. ولا يختلف الحال بين ان يرفض الحكم لما يتسبب فيه من عسر على الناس او حرج ، كما في القول بحرمة السفر الى البلاد الاجنبية ، أو لأنه - في اللفظ او الفحوى - مخالف للذوق العام او طبيعة البشر ، كما في النهي عن محبة الزوجة غير المسلمة.
لا بد ان بعض القراء سيرى في الكلام السابق معالجة لسطح المشكلة. وهذا رأيي أيضا. لكن لو أردنا الذهاب درجة واحدة في العمق ، فقد نجد ان جوهر المسألة ليس رد فعل الجمهور على غرابة الفتوى ، بل في ان بعض الفتاوى تناقض حكم العقل أو تهدر المصالح الجارية للناس.
لا يتسع المجال للتفصيل في هذا. وزبدة القول ان المشكل الجوهري يكمن في الفرضية القائلة بان بعض الاحكام الشرعية ينطوي على حكم خفية لا يدركها العقل ، وان على المؤمن ان يأخذ بها تعبدا وتسليما ، لأنها حكم الله ، وهو الاعلم بما يصلح عباده وما يصلح لهم.
لا يوجد اي دليل معتبر على صحة الالزام بالفرضية المذكورة. فاحكام الشريعة ، سيما الموجهة للمجتمع كنظام ، غرضها تحقيق مصالح قابلة للتشخيص العرفي ، اي ان مضمونها ظاهر لعامة العقلاء. بديهي ان وضوح المصلحة العقلائية ، يستدرج حكمها ، لما ذكرناه من ان الاحكام تدور مع المصالح نفيا او اثباتا. ولنا عودة الى الموضوع في وقت آخر ان شاء الله.
الشرق الاوسط 17 مايو 2017

03/05/2017

الحق في ارتكاب الخطأ

 في مقالة قصيرة نشرها يوم الاثنين الماضي ، أثار المحامي المعروف عبد الرحمن اللاحم ، مسألة استقلال الفرد ومدى سلطة المجتمع والقانون على حياته الشخصية. والمقالة جزء من جدل اجتماعي واسع حول الحق في الترفيه ، ومن ضمنه ذلك الذي يعتبر عند بعض شرائح المجتمع خاطئا او غير ذي أولوية.
للوهلة الأولى بدا ان محور الجدل هو التجويز الشرعي لعقد المناسبات الترفيهية والمشاركة فيها. لكنه في حقيقته العميقة متعلق بحق الانسان في ارتكاب الخطأ.  ولطالما تجادل الفلاسفة حول سؤال: هل يستطيع الانسان تحديد ما هو خير له وما هو شر.
تميل الثقافات التقليدية عموما الى اعتبار عقل الانسان قاصرا عن تشخيص المصالح والمفاسد. ولذا فهو بحاجة الى معلم ورقيب. هذه الرؤية قديمة في التفكير البشري ، وتحدث عنها ارسطو بصورة مفصلة في شرح نظريته الاخلاقية ، وقرر ان مهمة الدولة هي تعليم الرجال معنى السعادة وكيفية بلوغها. ومال كثير من قدامى المتكلمين المسلمين الى ان النقص الطبيعي في الانسان هو المبرر الرئيس للولاية عليه.

لكن منذ أواخر القرن السابع عشر ، مالت الفلسفة الى منحى معاكس ، يؤكد على أهلية الانسان لتشخيص الخير والشر اعتمادا على عقله المنفرد. وانه – لهذا السبب – حر في حياته ، مسؤول عن أفعاله. ولولا أهليته لتمييز الصواب والخطأ ، لما جاز محاسبته على أفعاله.
يطرح التقليديون مجادلة مقنعة في العادة لمستمعيهم ، فحواها ان الخطأ محتمل من الانسان ، وهو يتأثر بالغرائز والشهوات ، فضلا عن غواية الشيطان ، فلا يبعد ان يقع في الخطأ مرارا وتكرارا. ولو استمع لأمر المرشد الناصح قبل الاقدام على أي فعل ، لما انزلق في الأخطاء. فأيهما خير للانسان: أن يستمع دائما الى قول مرشده قبل الاقدام على أي فعل ، ام يتجاهل المرشد ، ويتصرف حسب إملاءات عقله القاصر ، المتأثر بالغرائز والشهوات وتزيين الشيطان؟.
واضح ان مستمعي هذه المجادلة ، سيميل أغلبهم الى الخيار الأول ، اي كبح عقله والاتكال على عقل المرشد.
-         فماذا لو قلت ان الخيار الثاني هو الصحيح ، رغم انه يؤدي أحيانا الى ارتكاب الأخطاء؟
 ثمة عشرت الادلة على هذا القول. لكن ابسطها هو مشكلة الدور. اذا كان النقص وارتكاب الخطأ جزء من طبيعة البشر ، فماذا عن المرشد.. اليس انسانا يحمل هذه الصفة؟. بديهي ان النقص يصيب العمل كما يصيب التفكير والتصور ، فما الذي يقيه من ارتكاب الخطأ في التفكير والارشاد.
لكن دعنا من الجدل الفلسفي ، ولننظر في التجربة الواقعية للبشر. هذا التقدم الهائل في العلوم والفنون ، الم يصنعه البشر الخطاؤون؟. فما هي انجازات المرشدين والمسترشدين في المقابل؟.
هل لانجازات الخطائين تلك ، قيمة معنوية واخلاقية ، ام انها بلا قيمة. هل يمكن للانسان ان يتعلم ويتقدم من دون تجربة الخطأ والصواب. هل يصح قصر التفكير والتجربة على شريحة محددة من المجتمع ، ام هو دور يقوم به جميع الناس؟.
زبدة القول اذن ان الحق في حرية التفكير يعادل في جوهره الحق في ارتكاب الاخطاء وتحمل المسؤولية عنها.
 حياة الانسان ليست سوى تجربة مستمرة من الافكار الصحيحة والخاطئة ، والافعال الصحيحة والخاطئة. وان ايقاف هذه التجربة يعادل ايقاف العقل ، وتحويل الانسان الى مجرد آلة مبرمجة خالية من الروح وعاجزة عن الحياة المستقلة. فهل يود أحد ان يعيش حياة كهذه؟.
 الشرق الاوسط 3 مايو 2017   http://aawsat.com/node/917211


26/04/2017

بعد آخر في جدل الدين والتراث الديني ... الذاتي والعرضي في الأديان


في كتابه المثير للجدل "بسط التجربة النبوية" خصص عبد الكريم سروش فصلا موسعا لتفصيل رؤيته حول ما يصفه بالذاتي والعرضي في الاديان. والحق ان معظم مقولات سروش تتجاوز الحدود المتعارفة للنقاش في قضايا الدين. فهي تطرح تحديات عسيرة لمعظم ما ألفناه من مسلمات ، نقرأها دائما أو نسمعها ، ثم نعيد قولها دون ان نتوقف لحظة للتأمل في حقيقتها أو مراميها النهائية ، أو قابليتها للصمود في وجه المساجلة العقلية المتحررة من الشوق للقبول او الرغبة في التبرير.
يرجع مفهوم "الذاتي والعرضي" في الأشياء والافكار ، الى نقاشات الفلسفة اليونانية القديمة حول الجوهر والعرض. فالجوهر عند ارسطو مثلا هو حقيقة الشيء وعماد وجوده ، القابل للتحديد والتعريف بمفرده ، الذي لا يحتاج في وجوده إلى عامل خارجي يعرفه او يحدده. أما الاعراض فهي ما يلتحق بالذات او الجوهر ، ليلعب دورا اضافيا مثل التحسين او الايضاح او الربط. وهي أدوار لا تؤثر في وجود الذات او الجوهر ، لكنها تنظم علاقته بالذوات والاعراض الأخرى في محيطه.
اراد سروش من وراء هذه المساجلة ايضاح الفارق بين الدين والتراث الديني ، اي مجموع المعارف التي نشأت حول الدين ، من تفاسير وآراء واجتهادات وتجارب وتاريخ وثقافة شعبية وفولكلور ، وغير ذلك من المكونات المادية والنظرية والذهنية التي تدور في فلك الدين ، لكن لا وظيفة لها من دونه ، ولم تحصل على وصفها الخاص او قيمتها قبل ارتباطها به.
عبد الكريم سروش - آية الله منتظري
أظن ان كثيرا من الناس يوافقون سروش في هذه الرؤية ، من حيث العموم على الاقل. لكنها مع ذلك واجهت معارضة شديدة. فهي ، في نهاية المطاف ، تقول ان المعارف المرتبطة بالدين ، ليست جزء منه ، ولا تملك صفة الاطلاق والعمومية الخاصة به.هذا يعني ببساطة ان ما أنتجه السابقون وما ينتجه المعاصرون ، أي مجموع المعارف التي اعتدنا فهم الدين من خلالها ، ليست سوى معارف عادية ، يمكن للمسلم ان يستفيد منها ، دون ان يلتزم بمقولاتها ، كما يمكن له ان يضعها على الرف فلا يسأل عنها.
بديهي ان الأغلبية الساحقة من المشتغلين بالعلم الديني ، لن ينظروا لهذه الأقوال بعين الرضا. فهم اعتادوا على فهم الدين ، نصا وفكرا ، بالرجوع الى أفهام السابقين وتفسيراتهم. وهم لا ينكرون نسبية هذه الأفهام ، لكنهم يرونها أبوابا للدين يستحيل عليهم الوصول الى جوهر الدين دون عبورها. بل يمكن القول ان كلا منهم مضطر الى هذه الأبواب ، لأنه لا يعرف غيرها ولم يعتد على سواها. وهذه حال كل واحد منا. نحن نفهم الاشياء لاننا ننظر اليها من زوايا محددة ، تصف لنا ما نراه وتبرره ، ولو نظرنا اليها من زوايا مختلفة ، فلربما لم نعرف ما ننظر اليه.
لكن سروش لا يتوقف عند هذه النقطة. فهو يأخذ القاريء الى غور بعيد ، يتعلق بالنص ذاته ، حين يضع أمامه السؤال المحير: هل النص بذاته هو ذات الدين او جزء من ذات الدين ، أم هو من أعراضه؟. بعبارة أخرى: هل جرى اختيار لغة النص والقصة والمثال ونظام الجملة التي استعملت في النص ، باعتبارها جميعا جزء من ذات الدين وجوهره ، أم ان دورها وظيفي بحت ، مثل الظرف الذي تقدم فيه الرسالة ، أو الطبق الذي يقدم فيه الطعام؟.
الشرق الاوسط 26 ابريل 2017
http://aawsat.com/node/911051

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...