تعالج هذه المقالة ما يعتقده الكاتب من تحول عميق في رؤية الشيعة العرب لانفسهم كفاعلين في المجال السياسي ، ولاسيما خلال العقود الثلاثة الاخيرة. وتبدا بعرض تعريفي مختصر للثقافة السياسية وموضوعها، ثم تعرض المصادر الاصلية لثقافة الشيعة السياسية وتاثيرها في تشكيل ما يسميه "الثقافة الاقلاوية". ثم تعرض ابرز التطورات السياسية التي ساهمت في تفكيك هذا النمط الثقافي ، وآذنت بالانتقال من حالة الانكفاء والسلبية الى التفاعل وسيادة السلوك البراغماتي.
المحتوى الثقافي للهوية السياسية
مواقفنا من القضايا السياسية تتشكل غالبا على ضوء رؤيتنا العامة لانفسنا كفاعلين في السياسة وفهمنا لطبيعة العلاقة بيننا وبين المحيط الذي تجري فيه تلك المسألة. ثقافة الفرد في تعريفها الموسع هي الخلفية الذهنية التي تشكل رؤيته للعالم ، وافعاله او ردود فعله ، وتصوراته عن الاشخاص والاشياء. ويظهر تاثير الثقافة – او الذهنية كما يصفها بعض الباحثين – في كل جانب من جوانب حياة الفرد ، سيما تلك التي تنطوي على علاقة بينه وبين الاخرين . الجانب السياسي من الثقافة يؤثر خصوصا في موقف الفرد تجاه المجال العام الذي يظهر فيه تاثير للدولة او بعض اجهزتها ، وكذلك القوى الاهلية التي تمارس نوعا من السلطة او تسعى اليها. ذهنية الفرد او ثقافته ليست صندوقا مغلقا ، فهي تغير بمرور الزمن ، واختلاف ظروف الحياة التي يعيشها. ربما يعي الفرد تحولاته الذهنية ، اي يستوعب حقيقة انه يمر بتحولات في تفكيره وشخصيته ، وقد تحدث من دون ان يعيها ، او على الاقل ، من دون ان يلاحظ تاثيرها في وقت حدوثه. نقول عادة ان شخصية فلان قد تغيرت ، ونقصد في حقيقة الامر ان صفاته الشخصية او سلوكه اصبح متفاوتا عما كان عليه قبل زمن محدد. كما نصف تغير سلوكيات شرائح اجتماعية او مواقف مجتمع باكمله بنفس الطريقة. فنقول انه اصبح اكثر براغماتية او اكثر تشددا في مواقفه او تعاطيه مع قضايا معينة.
ثقافتنا السياسية هي التي تقرر اذن سلوكنا ازاء النظام السياسي وفهمنا لانفسنا ودورنا ضمن الحياة العامة[1]. تتشكل الثقافة السياسية لمجتمع معين بتاثير عوامل عديدة من بينها التقاليد والقيم ، الذاكرة التاريخية ، الهموم والتطلعات والدوافع ، واخيرا الاحاسيس اي مصادر الفرح والالم ، والتصويرات الرمزية لمجموع هذه العوامل. يتجسد تاثير هذه العوامل في ثلاثة جوانب[2] :
أ- ذهني : معرفة الافراد ووعيهم بالنظام السياسي ،
ب- شعوري : الموقف العاطفي تجاه النظام ،
ت- قيمي : كيف يحكم الافراد على النظام.
تؤثر الثقافة السياسية في علاقة اعضاء المجتمع بحكومتهم. صورة الدولة في اذهانهم هي التي تحدد كيفية فهمهم لها (حكومة تمثلنا او حكومة تسيطر علينا) ، مشاعرهم تجاهها (حب او كره ، تعاطف او ارتياب) ، وتقييمهم لادائها (دون المتوقع او مطابق له او افضل منه ، مساعد لمصالح الجماعة او معيق الخ).
في دراستهما الهامة The Civic Culture ، قسم الموند وفيربا الثقافة السياسية الى ثلاثة انماط: ثقافة مشاركة ، ثقافة منفعلة ، وثقافة انعزالية. بعبارة اخرى فان مواقف المجتمعات وسلوكها السياسي يتسم بواحد من هذه السمات:
** ثمة مجتمعات تتفاعل مع فعل الدولة والقوى السياسية الاخرى: تستقبل تاثيراتها وتسعى ايضا للتاثير عليها. لانها تنظر الى نفسها كجزء من العملية السياسية القائمة ، كفاعل قادرعلى المشاركة والتاثير .
** وثمة مجتمعات تعي وجود الدولة او القوى السياسية الاخرى وتتلقى تاثيراتها لكن رد فعلها فاتر ، او ربما معدوم. فهي لا ترى نفسها قادرة على الفعل والتأثير ، او انها لا تعتبر الدولة قابلة للتاثر بنشاط الجماعة.
** واخيرا فهناك المجتمعات التي لا تشكل الدولة او قوى التاثير الاخرى جزءا نشطا من وعيها ازاء ظواهر الحياة الاخرى. انها بعبارة اخرى لا تعي وجودها كفاعل سياسي ، ولا تعي الطبيعة السياسية للدولة او القوى الشبيهة.
بكلام اجمالي يمكن القول ان الثقافة السياسية في مجتمعات الشرق الاوسط كانت – حتى وقت قريب - تتراوح بين النمطين الاول والثاني: المشاركة والانفعال ، مع غلبة ظاهرة للنمط الثاني. لكن المنطقة تشهد في السنوات الاخيرة تحولا عاما نحو ثقافة المشاركة. وتعزز هذا الميل مع انتشار وسائل الاعلام والاتصال ولا سيما قنوات التلفزيون الفضائية والانترنت خلال السنوات الاخيرة من القرن المنصرم. انعكس هذا التحول على صورة اهتمام متزايد بالسياسة بين الاجيال الجديدة ، خلافا للمفهوم القديم الذي يعتبر السياسة شأنا خاصا بالنخبة الحاكمة ، وهو المفهوم الذي يلخصه التعبير الشعبي السائد في الجزيرة العربية "الشيوخ ابخص=الزعماء اعرف". الثورات الشعبية التي اندلعت في العالم العربي منذ نهاية 2010 تشير الى تصاعد في ايمان عامة الناس بانهم قادرون على تغيير واقعهم من خلال فعلهم الفردي او الجمعي الذي يتجلى بشكل محدد في الضغط على الدولة القائمة لتغيير اشخاصها او سياساتها.
رغم ان الثقافة السياسية ليست – اجمالا- من الحقول الجذابة للباحثين في العلوم السياسية ، الا ان السنوات الاخيرة شهدت اهتماما متزايدا بهذا الحقل ، ولا سيما في دراسة التحولات السياسية والاجتماعية في الشرق الاوسط[3]. ما يهمنا في هذا المجال هو عملية توليد وتحول الثقافة السياسية في مجتمع الاقلية: كيف تؤثر في مواقفها تجاه المحيط ، وكيف تتغير بفعل التحولات السياسية والاقتصادية التي تحدث خارج اطارها. دراسة هذا الجانب ضرورية لفهم دوافع ومعاني الحراك الداخلي لمجتمع الاقلية. وبالنسبة للاقليات التي تميزها عن الاكثرية عوامل ثقافية بحتة ، كما هو الحال عند الشيعة السعوديين ، فان التغير في هذه العوامل يلعب دورا محوريا في واقعها وموقفها السياسي.
الثقافة السياسية للشيعة
ناقشنا في مقالة سابقة عملية تشكل الهوية السياسية ، واشرنا عند ذاك الى ان هوية الجماعة هي احد تمظهرات تجربتها الثقافية. كما اشرنا الى ان الهوية تتشكل في سياق تفاعل الجماعة مع الظروف التي تحيط بها سلبيا او ايجابيا. الموقف الايجابي للدولة والقوى المهيمنة تجاه الجماعة يؤدي الى تبلور ميول براغماتية تصالحية. كما ان الموقف السلبي او العدواني يحرك ردود فعل سلبية ، نشطة على شكل تمرد، او فاترة على شكل انكفاء واعتزال. بديهي ان الجماعة التي تتعرض للامتهان، سوف يتراوح رد فعلها بين الميل للاستسلام والتخلي عن العوامل التي تميزها عن الاخرين ، وصولا الى الذوبان في الجماعة الاكبر ، وبين تحويل تلك العوامل الى رموز للمقاومة ، بالاصرار عليها واحيانا المبالغة في تضخيم قيمتها ، حتى تتحول الى محاور رئيسية للحياة اليومية ، او مضمونا لشريحة واسعة من النشاطات الحيوية للجماعة. بخلاف المجموعات التي تعامل بصورة منصفة وايجابية ، فانها تميل لتنحية عوامل التمايز والتفارق ، وتحرص على ابراز عوامل التشابه ، كما تتعزز بين افرادها الرغبة في الاندماج في المحيط.
تعالج هذه المقالة ما حدث خلال الثلاثين عاما الاخيرة من تغيير جوهري في الثقافة السياسية للمجتمع الشيعي. وهو يظهر انه قد تحول من حالة الانكفاء واعتزال السياسة (قبل 1979) الى التمرد والفاعلية الشديدة (بين 1979-1990) ثم الميل الى البراغماتية (بعد 1990) واخيرا البراغماتية السياسية (بعد 2003). نعرف ان هذا التغيير قد حصل من مقارنة الفعل او رد الفعل السياسي للتيار العام في المجتمع الشيعي بين الفترات المذكورة. ونعرف من تحليل هذا التغيير واستقراء ما رافقه من تعبيرات فكرية ان عوامل التغيير كانت خارجية بالدرجة الاولى. لكنها ترافقت مع ، واثمرت عن ، تغييرات في ذهنية الجماعة الشيعية وفي تفكيرها.
في الصفحات التالية سوف نقدم خلفية عن الظروف التاريخية التي تشكلت في اطارها الثقافة السياسية للشيعة ، بدءا من المرحلة التاسيسية ، كما نمر على بعض ابرز التطورات التي جرت خلال العقود الثلاثة الاخيرة . ويكشف هذا العرض عن الترابط بين اتجاهات الثقافة – وبالتالي معرفة الذات او الهوية – وبين التحولات الجارية في المحيط ، ولا سيما دخول المجتمعات الشيعية في مسارات العملية السياسية على المستوى الوطني لكل بلد من البلدان التي ينتمون اليها.
المرحلة التاسيسية : بيت الاحزان
اختار المفكر الالماني هاينز هالم هذا العنوان (بيت الاحزان) للفصل الثاني من كتابه "التشيع من الدين الى الثورة". لم اكن قد رايت هذا التعبير في اي كتاب غربي قبل ذلك. ولهذا شدني بقوة حين رأيته للمرة الاولى في احدى مكتبات جامعة لندن خلال عملي في الابحاث التمهيدية لكتابي الذي صدر لاحقا بعنوان "نظرية السلطة في الفقه الشيعي". ربما لا يبتعد ذلك التعبير كثيرا عن المعنى الذي يشير اليه كتاب ابي الفرج الاصفهاني "مقاتل الطالبيين" ، الذي يلخص هو الاخر تاريخا طويلا من العذاب والالم ، اختصت به ذرية علي بن ابي طالب ومن تبعها من المسلمين. ذاك العنوان ، مثل هذا ، يلخص جانبا هاما من الثقافة الشيعية التاريخية ، الثقافة المليئة بالالم والتعبير عن الالم.
ولد التشيع في رحم المعاناة، وبقي كذلك حتى وقت قريب. ظهر كتيار سياسي يتمحور حول معارضة النظام السياسي الاموي. لكنه تخلى عن هذا النشاط بحثا عن الخلاص من الاضطهاد المزمن ، حين تحول على يد الامام السادس جعفر الصادق (702-765م) الى مدرسة عقيدية وفقهية تركز على البناء الثقافي الداخلي للجماعة بعيدا عن السياسة وتقلباتها . لم يعترف الصادق ولا اتباعه بشرعية الحكم القائم ، لكنهم ايضا لم يهتموا بمعارضته . بدلا من ذلك طوروا مفهوما للشرعية السياسية ، أدى – وظيفيا – الى تفريغ فكرة الزعامة من المحتوى السياسي وحصرها في البعد الروحي . القائد الشرعي حسب الرؤية الجديدة هو الامام او الزعيم الديني الذي ينحصر دوره في توفير التعليمات الدينية ورعاية الاتباع في هذا الاطار . من ينتمي الى المدرسة الجديدة فعليه الابتعاد عن السياسة: لا يجوز له العمل مع الحكومة القائمة على نحو يعزز سلطانها او يرسخ شرعيتها ، كما لا يجوز له الخروج عليها[4]. لم يكن من السهل على معظم الشيعة قبول هذه المعادلة في تلك الحقبة المشحونة بالصراع. لكن الذين تقبلوها وجدوها مبررة بعدما رأوا ان الوصول الى السلطة او المشاركة فيها لا يمثل فرصة قائمة او احتمالا جديا[5].
ثمة ما يشبه الاتفاق على أن المذاهب الفقهية والعقيدية والطوائف الدينية، بأشكالها التي نعرفها اليوم لم تكن موجودة في عصور الإسلام الأولى. وقد شهد التاريخ الطويل للأمة الإسلامية ظهور العديد من المدارس في الفقه والعقيدة والفلسفة. اندثر كثير منها خلال فترات الصراع ، وحافظ البعض الاخر على وجوده ضمن الاطار المدرسي ، اما الاكثر حظا فقد نجح في التمدد خارج هذا الاطار ، وتحول إلى جماعة متمايزة. وأرجع عدد من المؤرخين ظهور الفرق الدينية في الإسلام إلى القمع السياسي. التيارات التي بدأت كموقف سياسي تحولت بالتدريج إلى فرق دينية فراراً من بطش الدولة .[6]
تعدد المذاهب والمدارس الفكرية والكلامية كان – في جانب منه - انعكاساً لانفتاح المسلمين على العلوم الانسانية بعدما توسعوا خارج حدود الجزيرة العربية واتصلوا بالأقوام الأخرى. وكان في الجانب الاخر انعكاساً لارتقاء البنية الاجتماعية من الصورة البدوية القديمة إلى الصورة الحضرية أو شبه الحضرية، وما جاء في سياقه من تطور في العلم والثقافة ونظم المصالح. بعض الاتجاهات حظي برعاية الدولة وبعضها الاخر تعرض للقمع. لكن معظمها واصل العمل ، نشطا في بعض الاحيان وفاترا في احيان اخرى . وربما اضطر الى الانتقال من المراكز الى الاطراف بحثا عن الامان.
في منتصف القرن الثامن الميلادي ، وهي الحقبة التي شهدت انهيار الدولة الاموية وقيام الدولة العباسية ، تحول عدد من التيارات السياسية إلى مذاهب في الفقه أو العقيدة. وتبلور هذا الاتجاه بصورة أوضح في العصر العباسي. رغم أن السمات السياسية بقيت أكثر وضوحاً من الدينية، وبالتالي فإن تصنيف المذاهب والفرق كان أقرب إلى السياسي منه إلى الديني. واستمر هذا الحال حتى القرن العاشر الميلادي، حين حسم زعماء الفرق أمرهم باتجاه التخلي عن الربط بين المذهب والموقف السياسي لمعتنقيه. وعندئذ ظهر النموذج الأكثر اكتمالاً للمذهب الديني الخالص، الذي يضم بالإضافة إلى المدرسة الفقهية، منظومة آراء خاصة في الاعتقاد، وقدراً من التشكل الاجتماعي متمايزاً من الآخرين. وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من المراجع الرئيسة في الفقه والعقيدة لمختلف المذاهب الدينية، ترجع إلى تلك الحقبة وما بعدها، وتحديداً بين القرن العاشر والثاني عشر الميلادي.
تبلور المذهب الشيعي الامامي على يد الامام جعفر الصادق ، وتحولت مدرسته الفقهية والعقيدية إلى قاعدة لنظام اجتماعي جديد ، له نظام قيمي وعلائقي، متمايز عما سواه. و قامت في ظله فلسفة حياة خاصة وفولكلور - ثقافة شعبية- ونظام مصالح مستقل على النمط الريفي الذي يقرن بين الرابطة المذهبية والانتماء العائلي/ القبلي ، أو على النمط المدني الذي يعتبر المذهب محور الرابطة الاجتماعية.
ادى قيام هذه المدرسة الى تكريس الانقسام داخل الجماعة الشيعية بين تيار اكثرية يركز على السياسة ، وتيار اقلية قرر اعتزالها. البديل السياسي الذي اتخذه التيار الاخير هو فكرة المهدوية التي تقول بان العالم سيشهد في اخر الزمان ظهور المهدي المنتظر ، الذي "سيملأ الارض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا". وحتى ذلك الوقت فان التمرد على الحكومات القائمة ليس محبذا او مبررا من الناحية الدينية. طالما كان قيام الحكومة العـادلة مستحيلا ، فان السعي اليها عبث ورمي للنفس في التهلكة[7]. ولو كان الأمر غير هذا لظهر الامام الغائب وقام بالأمر بنفسه[8]. فما دام غائبا ، فان التفكير أو النقاش في السياسة يبقى بلا طائل.
لعل اعتزال السياسة هو الذي مكن المدرسة الشيعية الجديدة من الاستمرار والتوسع . فبينما تعرضت بقية الاتجاهات ، لا سيما الزيدية والاسماعيلية وعشرات المجموعات الاخرى ، للقمع والتفكيك بفعل انخراطها المزمن في الصراعات السياسية ، ركز قادة المدرسة الجديدة على البناء العلمي والتربوي للجماعة ، التي تحولت بالتدريج الى التيار الرئيسي في التشيع ، وهي تعرف اليوم بالشيعة الامامية الاثني عشرية.
انعكاسات التجربة التاريخية على الثقافة السياسية
الثقافة السياسية للاقلية ، او "الثقافة الاقلاوية" كما سنسميها لاحقا ، هي مفهوم سيكولوجي يشير الى نظام ثقافي فرعي وظيفته الاساسية هي حماية الرابطة الداخلية التي تجمع اعضاء الاقلية. قد يبدو هذا النظام مستغربا وغير ذي معنى عند الاخرين ، لا سيما الاكثرية او الجماعات المناوئة ، لكنه - عند اصحابه - ضروري لبقاء الجماعة واحتفاظها بخصوصياتها الثقافية. لا يمكن التوصل الى تقييم منصف للثقافة الاقلاوية دون الاخذ بعين الاعتبار العوامل التي جعلتها حاجة او ضرورة لتلك الجماعة. توفرت في السنوات الاخيرة فرصة لعرض التقاليد الثقافية الشيعية على قنوات التلفزيون ، وقد اثارت في اول الامر استغراب ، وربما استهجان المشاهدين الذين يتعرفون عليها للمرة الاولى. مشاهد مسيرات العزاء الضخمة ، ولطم الصدور وادماء الرؤوس ، والمشي عشرات الاميال لزيارة مشاهد الائمة في مناسبات مثل عاشوراء واربعين الامام الحسين ، وكذلك مجالس الدعاء والذكر التي يؤمها عشرات الالاف ، والمكانة الاستثنائية التي يحظى بها رجال الدين والخطباء بين الجمهور ، وغيرها من الاعراف التي تعد ضمن الخصوصيات الثقافية والدينية للشيعة ، كانت بالنسبة للاخرين مدهشة لغرابتها وصعوبة تفسيرها كممارسة مفردة. ومال بعض رجال الدين لاسيما غير الشيعة الى وصم هذه الممارسات بالبدعة ، وحاول بعضهم البحث عن تفسير من نوع ان الشيعة يقومون بها كتكفير عن عدم نصرتهم للامام الحسين وأهل البيت حين قاتلهم الامويون ، الى غير ذلك من التفسيرات. لكن كما اشرت سلفا ، فان النظر اليها من هذه الزوايا لن يقود الى فهم صحيح ولا تقييم منصف. وعلى اي حال فان "الثقافة الاقلاوية" تتمتع بمخزون سجالي فعال ، ولذا فهي قادرة دوما على مجادلة النقد الخارجي ، فضلا عن انها لا تعبأ كثيرا بتفسيرات الاخرين او تقييماتهم.
من المفهوم أن الجماعات المتمايزة، ولا سيما تلك التي تقوم في سياق هروبي (خوفاً من القمع مثلاً) تطور خطاباً داخليا يمارس وظيفة حمائية. فهو يعظم من القيمة المعنوية للداخل ، ويبالغ في تحقير القيمة المعنوية لكل ما هو خارج النظام. كما يتضمن منظومة متكاملة من الإشكالات الفرضية والرد عليها، هي أشبه بدليل عملي للسجال مع الغير. ومن البديهي أن يعمل النظام على استثمار عناصر التراث والتجربة التاريخية المشتركة مع الغير أداة في السجال، وذلك بإعادة تفسيرها على نحو يخدم النظام ويدعم موقفه في الصراع. وبحسب الاستاذ ولي نصر، فإن الجماعات الدينية التي قامت في العالم الإسلامي في القرون الاخيرة ، لم تنكر التراث الذي يجمعها مع البيئة التي انشقت عليها، بل أعادت تفسيره على نحو يجعله مصدر تسويغ لخطابها. يمكن تطبيق هذا التفسير من دون تحفظ على قيام وتبلور الاتجاهات السياسية/ المذهبية، أو المذهبية البحتة، في القرون الماضية . فالمذاهب التي تشكلت في القرون المختلفة لم تنكر التراث الاسلامي المشترك ، بل وضعه كل منها في اطار ايديولوجي/تفسيري محدد ، بحيث يخدم دعاواها الخاصة ضد دعاوى المنافسين. ومن هنا فان التراث المشترك الذي يمكن ان يتخذ - ضمن قراءة توحيدية - ارضية للتقارب ، تحول فعليا – بسبب القراءة الطائفية - إلى مبرر للتمايز وعامل للافتراق.
بعبارة موجزة فإن سياق تبلور الجماعة السياسية/ المذهبية أو المذهبية البحتة - سواء كانت أقلية أم أكثرية - يقود عادة إلى إنشاء إطار ثقافي - حياتي جديد متمايز بالضرورة، بل ومعارض في بعض الاحيان ، لكل ما هو خارجها. وتتحول المكونات الثقافية لهذا الإطار ، إلى وسيلة لبناء خلفية ذهنية خاصة ، تجمع بين أعضاء الجماعة ، وتقيم - في الوقت ذاته - جداراً بينهم وبين من هم خارجها.
في ظل التمايز المشار إليه، فإن النقاش بين المنتمين للجماعات/ المذاهب المختلفة لا يعود مثمراً أو مفيداً ولا يؤدي إلى زيادة العلم أو التقارب. لأن الذين يدخلون السجال لا يستهدفون اكتشاف الحقيقة أو التعارف أو التفاهم، بل يستهدفون فقط وفقط إفحام المنافسين أو على أقل التقادير الدفاع عن الذات.
يتجلى هذا الموقف بصورة أكبر حين يبدأ كل طرف في الإعلان عن حدوده باعتبارها أيضاً حدود الحقيقة وحدود الحق الذي يعني بالضرورة تصنيف خارج الجماعة باعتباره موطناً للزيف أو الباطل. تجد هذا التصنيف في كثير من الادبيات الاسلامية القديمة والمعاصرة ، ويندر ان يخلو مذهب اسلامي من تصنيف من هذا النوع .
"الثقافة الاقلاوية" كاساس للتفكير في السياسة
رغم الحضور الكبير نسبيا للهم السياسي في التراث الشيعي، الا ان التعبير عن هذا الهم اتخذ - في معظم الاحيان - شكل الاحتفاء الفولكلوري بما جرى في قديم الزمان ، كما يتمظهر عادة في طريقة الاحتفال بذكرى عاشوراء. اما السياسة في معناها الفعلي ، فلم تعد هما يوميا. بل ان الثقافة الشيعية العامة تحولت الى طارد للسياسة الواقعية ومنكر لممارستها. وجرى التنظير لهذا الموقف في اطار مفاهيم شبه صوفية ، تربط بين السياسة وسوءات الدنيا. فالمهتمون بالسياسة يوصمون بالاقبال على الدنيا، والمقبلون على الدنيا لن تكون قلوبهم ونفوسهم خالصة الايمان.
يظهر هذا بشكل واضح في تحديد قيمة الزعيم. فالرجل المؤهل لقيادة المجتمع ينبغي – طبقا للتقاليد السائدة – ان يكون دارسا للشريعة متكرسا لعلوم الدين ، مقبلا على الاخرة، تاركا للدنيا. وهو يصبح مستحقا للزعامة اذا بلغ درجة من الكمال النفسي يحرره من ضغوط الدنيا والمال والسلطان، ويمكنه من كبح شهواته ورغباته وميوله المادية، حتى يخلص عقله وقلبه وعمله اليومي لمهمته الدينية . الربط بين تحرر الانسان self-mastery وبين الكمال الذاتيself-perfection بالمعنى السابق مشهور جدا في تراث الاديان والمذاهب الروحية وبين قدامى الفلاسفة[9]. وقد تبناه علماء الشيعة واصبح عنصرا بارزا في تحديد الاهلية للقيادة وفي التوجيه الديني على حد سواء.
كما امتد تاثيره الى الثقافة السياسية للمجتمع الشيعي على شكل انكار وتهوين لقيمة السياسة والعمل فيها ، وحث على الابتعاد عنها. بعبارة اخرى فقد وضعت القيمة السياسية في مقابل القيمة الدينية، كلما تقدمت واحدة تراجعت الاخرى. الفقيه البعيد عن السياسة ومجادلاتها وصراعاتها هو المثال الاعلى الذي يجسد صفاء الايمان وطهارة النفس واخلاص العمل. لهذا السبب فان الكتب الدينية التي طبعت قبل 1979 تخلو غالبا من اي اشارة الى الواقع السياسي او الاحكام الدينية التي تنظم علاقة المؤمن بالدولة. ولنفس السبب فان الفقهاء الذين وجدوا فائدة في نسج علاقة من نوع ما مع السلطة القائمة، او اضطرتهم الظروف الى ذلك، حاولوا جهدهم ابقاء هذه العلاقة معزولة عن مسار عملهم العام وعلاقتهم باتباعهم. غياب الهم السياسي بمعنى التعاطي مع العالم الواقعي المتغير هو الذي يفسر اهمال البحوث الفقهية بشكل كامل للتجارب السياسية حتى تلك التي كان الفقهاء جزءا منها ، موالين او معارضين.
تتسم السياسة بكونها عالما دائم التغير. لا شيء اقوى دلالة على الطبيعة المتغيرة للحياة والزمن مثل السياسة. مرت على الجماعة الشيعية منذ بداياتها ظروف ظاغطة تعرضت اثناءها للقمع والاذلال . كما مرت ظروف اخرى كشفت عن فرص لتغيير الاحوال. هذه الفرص المساعدة وفرت مبررات اضافية لاولئك الساخطين على استمرار التهميش كي يرفعوا اصواتهم ضد التصوير الايديولوجي القديم والمتحجر ، الذي يعتبر كل مسعى في الاتجاه السياسي عبثيا وانتحاريا او عونا للتسلط والطغيان. ولهذا السبب تحديدا ظهرت خلال اوقات متفرقة من تاريخ الشيعة دعوات لتجاوز المفهوم القديم للسياسة والسلطة ، والمشاركة فيها حيثما امكن.
لذا يمكن القول ان ابرز محطات التطور في المعرفة الدينية في الاطار الشيعي ، وبالخصوص محاولات الاصلاح الفكري ، كان باعثها الرئيس هو ظهور فرص للمشاركة السياسية. بعبارة اخرى فان التراث الديني كان يلعب دور التجميد وتثبيت الارث والاستمرار ، بينما كانت السياسة ، تلعب دور الضاغط من اجل الانفتاح والتحرر من الجمود الموورث. وتدل ابحاث اجراها الكاتب في هذا المجال على ان ابرز المبادرات الاصلاحية في الثقافة الشيعية ، قام بها زعماء يحملون توجهات سياسية او طموحات سياسية.
الاعتزال المزمن للسياسة جعل التشيع رجعيا وانعزاليا . بينما ساعدت المبادرات السياسية القليلة نسبيا على اطلاق توجهات اصلاحية في كل الجوانب ، بما فيها التفكير الفقهي والعقيدي ، فضلا عن الموقف من المحيط. الملاحظة الجديرة بالاهتمام هنا هي ان تاثير السياسة على ثقافة الجماعة الشيعية لم يتولد عن تحولات داخل الجماعة ، بل كانت انعكاسا لتغير الظرف السياسي المحيط بها . اي انه كان استجابة او رد فعل على الظرف السياسي. وهذا يساعد على الاستنتاج بان اتجاه الشيعة للانغلاق والتشدد الايديولوجي كان - في معظم الحالات - رد فعل على ظروف سياسية عسيرة . كما ان اتجاههم للاصلاح والانفتاح ونقد الذات كان انعكاسا لتحسن الظرف السياسي الذي يعيشونه.
شهد تاريخ الشيعة تجارب سياسية هامة ، شملت تشكيل حكومات . من بينها دولة البويهيين في العراق (1020-1055م) ، والفاطميين في شمال افريقيا (909-1171م)، والحمدانيين في سوريا (890-1004م)، والعيونيين في هجر (1076-1238م) ، فضلا عن الدولة الصفوية (1501-1785م) التي تحولت ايران في ظلها الى التشيع الامامي. كما كان للعلماء والجمهور دور محوري في صراعات سياسية رئيسية . من بينها موقفهم في مواجهة الغزو الروسي في القرن التاسع عشر . ودورهم القيادي في انتفاضة التنباك (1891)، ثم الثورة الدستورية (1905) ، وفي ثورة العشرين ضد الاحتلال الانكليزي للعراق عام 1920 . فضلا عن مشاركة بعضهم في حركة تاميم النفط في ايران عام 1953. شارك الجمهور الشيعي في جميع هذه التجارب. وشارك علماء الدين في بعضها ، رغم انهم لم ينخرطوا بشكل مباشر في العمل السياسي اليومي ، ولا استثمروا مشاركتهم كمنطلق لدور ثابت في الحياة السياسية في المراحل التالية. واظن ان اعراضهم عن هذا ، قد كرس المفهوم القديم الذي يفصل بين السياسة والدين ، ويرجع كلا منهما الى عالم اخلاقي وقيمي مختلف عن الاخر او متعارض معه. وهذا من ابرز المشكلات التي عانى منها التفكير الديني الشيعي حتى وقت قريب.
انتقال التشيع من تيار سياسي الى مدرسة فقهية وعقيدية تنكر السياسة في القرن الثامن الميلادي ، اثمر عن تصنيف السياسة كعمل دنيوي جارح لورع المؤمن وصفاء نفسه ، وفرض شروطا شبه مستحيلة لاصلاحها وتقريبها من القيم الدينية. ابرز هذه الشروط هي كون الامام المعصوم رئيسا للدولة. ولما كان هذا الامر غير متيسر في الظروف الاعتيادية ، وهو لم يتيسر فعلا خلال الحقب التاريخية التي تلت تبني هذا المنظور ، فقد انتهى الامر الى قيام ثنائية الامامة/الغصب ، التي تعني ان اي حكومة لا يرأسها الامام فهي غاصبة للحق وغير مشروعة. التطبيق العملي لهذه القاعدة هو ان جميع الحكومات القائمة او التي ستقوم مستقبلا فاقدة للشرعية. صحيح ان العلماء قد توصلوا – في الازمنة التالية - الى بعض القواعد التي تسوغ مشاركة افراد الشيعة في الحكومات المصنفة كغاصبة ، الا ان هذا التسويغ لم يجر كقاعدة عامة في قياس مشروعية الحكم ، بل صنف كتطبيق فرعي لمبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كما عند الشيخ المفيد (ت- 1022م) [10]، او كوسيلة لتلافي الضرر الاكبر كما رأى البحراني[11] ، او كعمل مستقل عن المسار العام للحكم غير المشروع كما عند الحلبي[12] وابن ادريس[13].
اقول ان التعديلات المذكورة بقيت اشبه بقواعد العمل المؤقتة. ولم تتحول الى نظرية عامة في التعامل مع السلطة او في بيان مشروعيتها. وهذا واضح من حقيقة ان ايا من التجارب السياسية التي شارك فيها العلماء او كانوا شهودا عليها ، لم يحظ ولو باشارة في مجال التنظير العقيدي او الاستدلال الفقهي ، حتى المتعلق منه بمسألة الولاية او العمل مع السلطان. في الجانب المعمق من البحوث الفقهية الذي يدرس للمختصين في الشريعة (وهو ما يسمى بالفقه الاستدلالي) ، تبحث العلاقة مع الدولة ضمن باب خاص يسمى "عمل السلطان" او "الولاية من قبل الجائر". يقدم هذا الباب العلاقة مع الدولة باعتبارها حالة من حالات الاضطرار التي تحكمها التعليمات الخاصة بظروف الاضطرار ، لا علاقة طبيعية او ضرورية بين مواطن في بلد وبين حكومته. موقف المؤمن هنا موقف شخص منفعل ، متاثر ، خاضع لظرف غير مرغوب ، لا موقف شخص مشارك وفاعل ومريد للاصلاح والتغيير. والطريف في الامر ان الموضوع المحوري في معظم هذه المباحث هو حكم التعاملات المالية في اطار العلاقة مع الجائر ، سيما ما يكسبه الانسان من مال مقابل هذا العمل. اما الولاية بذاتها – خصوصا ما يخرج عن عنوان الولاية العامة - فجرى بحثها كتفريع عن حرمة المكاسب او حليتها.
من الانكفاء الى المعارضة الجذرية
عصر يوم من ايام يوليو 1978 كنت اقدم القهوة لعدد من رجال الدين والوجهاء الذين قدموا لتهنئة خالي الشيخ بسلامة الوصول من النجف الاشرف. كان الحديث يدور كالعادة حول ذكريات الحضور في النجف ، فمعظمهم عاش فيها سنوات من عمره. تطفلت على الحديث واخبرتهم ان ايران تشهد تظاهرات وان عددا من الناس قد قتل في مدينة تبريز الشمالية. سكت الجميع ، ساد صمت لفترة وجيزة ، قبل ان يقطعه قاضي المنطقة بجملة في صيغة حكم: "اذا ذهب الشاه سياتي الطوفان وما بعد الشاه الا الشيطان" . لم يعلق احد على قول الشيخ عدا رجل واحد وجه سؤالا الى الجميع : لماذا لا يقوم علماء الدين بدور سياسي شبيه بالذي نسمع عنه في ايران ؟. اجاب الخال الشيخ بنبرة دفاعية : هناك من يحتذي دور الحسين ، اي المعارضة العنيفة ، وهناك من يحتذي دور الحسن ، اي المسالمة. وكان يشير بالتاكيد الى ان الثاني هو خيارهم.
لو سمعت ما سيقوله الحاضرون بعد سبعة اشهر ، فلن تصدق انهم كانوا يفكرون بتلك الطريقة . قبل انتصار الثورة الايرانية كانت النخبة الشيعية – لا سيما خارج ايران - متشككة في ان هذه الثورة ستقود الى انتصار ، او انها ستحقق اي فوائد. كانت الفكرة الثابتة عند الشيعة العرب ، ولا سيما النخبة الدينية ، تميل الى ان التمرد لا يقود لسوى تعميق التصدعات الاجتماعية والمزيد من المشاكل ، فضلا عن كونه غير مبرر او مشروع من الناحية الدينية. اما بعد انتصار الثورة فقد تحول كل رجل دين الى مشروع زعيم سياسي . حدث هذا التحول خلال اسبوعين ، هي الفترة الفاصلة بين خروج الشاه من ايران في 16 يناير ، واعلان اية الله الخميني تشكيل حكومة الثورة في مقبرة الزهراء جنوب طهران في اول فبراير 1979.
لعل الصبغة الدينية لهذه الثورة هي التي حولتها الى نقطة اتحاد لهموم الجميع. مشاركة الزعماء الدينيين كانت على الدوام عنصر قوة في الحركات السياسية الشيعية ، رغم انها لم توفق جميعا ، او لم يكن لها ذات البريق الذي رافق ثورة 1979. في بداية القرن العشرين وفي منتصفه كانت الصبغة الدينية واضحة في حركة المعارضة ضد الحكم القاجاري ثم البهلوي في ايران. وفي 1974 اطلق الامام موسى الصدر "حركة المحرومين" كاول تنظيم سياسي يحمل هموم الشيعة اللبنانيين ويسعى الى فرضها على النظام السياسي الطائفي. قبل انتصار الثورة الايرانية ووجهت جميع الحركات الدينية بمعارضة من المجتمع الديني الذي وجد فيها خرقا لتقاليد الاعتزال الراسخة في التراث. لكن للانتصار الف اب والهزيمة تبحث عن اب كما يقولون . انتصار الثورة الايرانية حول المفاهيم التي جاء بها الخميني الى مسلمات لا يجادل فيها احد.
يميل بعض المحللين الى الاعتقاد بان الهموم الاجتماعية – الاقتصادية كانت هي العامل الثابت وراء الحراك السياسي عند الشيعة طوال القرن العشرين بمجمله. ومنذ بدايات حركة التحرر العربية بعيد الحرب العالمية الثانية ، التحق جميع الناشطين، شيعة وسنة بالتنظيمات اليسارية ، مركزين على تطبيقات التحرر والعدالة الاجتماعية كايديولوجيا عامة مستقلة عن الارضية الدينية او المذهبية. في العقد السابع من القرن العشرين ، بدأ الجمهور الشيعي يميل الى تكوين حركته السياسية الخاصة. ظهور تنظيمات مثل منظمة مجاهدي خلق الايرانية وحزب الدعوة ومنظمة العمل الاسلامي العراقيتين ، وحركة المحرومين اللبنانية في سبعينات القرن العشرين ، قد يكون دليلا على هذا المنحى. ويستنتج اصحاب هذه الرؤية ان الثورة الايرانية مثلت ذروة الحركية الشيعية وليس بدايتها[14].
واميل شخصيا الى الاعتقاد بان التشيع الحركي اتخذ بعد الثورة الاسلامية الايرانية نسقا جديدا يختلف تماما عن المراحل السابقة. في الخمسينات والستينات لم يكن التشيع ، كمذهب او كجماعة سياسية ، عنصرا مهما في الحراك السياسي. لان الدين والتنظيم الاجتماعي لم يكن عنصرا مؤثرا في النسق paradigm الايديولوجي والسياسي السائد يومئذ ، ولا سيما بين التيارات غير التقليدية[15]. لكن هذا الحال تغير بعد النهوض الديني الذي برزت معالمه في اوائل السبعينات ، ودخل منعطفا هاما بعد انتصار العرب على اسرائيل في حرب رمضان (اكتوبر 1973). اشتداد الميل الى التعبير الديني عن المطالب السياسية خلال هذه الحقبة ، دفع الجميع الى استنهاض ما لديهم من تراث نهضوي – ديني خصوصا – كي يستعمل وقودا للحراك الجديد. كان هذا بداية لنسق جديد وصل الى ذروته في نهاية السبعينات ، حين تحولت الظاهرة التي عرفت بالصحوة الاسلامية الى حركة شعبية سياسية تسعى لاسلمة الحياة العامة في العالم العربي والاسلامي كله.
اهتم الحركيون الشيعة باعادة تفسير التراث الديني على نحو يخدم اغراض الصراع السياسي ويسهم في تعبئة الجمهور. وقد استند اية الله الخميني الى تفسيرات جديدة للتراث الشيعي منقطعة تماما عن المفاهيم القديمة التي بررت لحالة الانكفاء واعتزال الحياة السياسية. واجرى – في هذا السياق - سلسلة من التعديلات ، طالت جوانب اساسية من العقيدة والفقه الشيعي التقليدي. من بينها مثلا فصله بين التطبيقات السياسية التي اعتبرها مسائل عقلية وظرفية ، وبين فكرة المهدوية وانتظار الامام ، التي اعتبرها امرا غيبيا لا يفترض ان تبنى عليه مفاهيم سياسية. ومنها فصله بين فكرة الامامة وعدالة السلطة ، وبين عون الظالم الذي يحرمه الفقهاء والمشاركة السياسية التي يمكن ان تقود الى فرض العدالة ، واخيرا ربطه بين شرعية السلطة وبين مشاركة الشعب من خلال الانتخابات العامة[16]. وقد لاحظ اية الله شبستري ان دستور الجمهورية الاسلامية الذي دعمه الخميني ، قدم للفكر الديني عددا كبيرا من المفاهيم الجديدة عليه مثل : حقوق الشعب ، سيادة الامة ، الحريات العامة ، الفصل بين السلطات ، الخ . بل ان مفهوم "الشعب" هو الاخر حديث الظهور في الثقافة الاسلامية ولا توجد له سوابق في التراث. ان تاييد الفقهاء لهذه المفاهيم يمثل مبادرة غير مسبوقة في التراث الديني[17].
كثير من المفاهيم الرائجة اليوم بين الشيعة لم تكن مقبولة عندهم قبل 1979. فكرة المشاركة في السياسة في ظل حكومات مختلطة او ناقصة الشرعية مثلا ، بل حتى السلطة التي يراسها فقيه كما هو الحال في ايران ، لم تكن هي الاخرى مقبولة الا عند اقلية من الفقهاء يعدون على اصابع اليد الواحدة. اما الاكثرية فكانت تتمسك بان مقعد السلطة العليا محجوز للامام المعصوم وليس لاحد اخر ايا كان.
لم تغير الثورة الايرانية توازنات القوى في الشرق الاوسط فحسب ، بل احدثت تحولا عميقا في الهوية السياسية للشيعة ، نال بصورة خاصة رؤيتهم لذاتهم ومحيطهم السياسي وتطلعاتهم . تحول المجتمع الشيعي من مجتمع يميل الى الانفعال والسلبية الى مجتمع متفاعل وطالب للمشاركة. وبدأ يفهم السياسة والسلطة كعالم متغير ، يمكن ان تتولد فيه فرص جديرة بالاهتمام ، بعدما بقي قرونا طويلة متحجرا على ثنائية الامامة والغصب القديمة . بعد 1979 اصبح الكلام في السياسة والتفكير في السياسة انشغالا يوميا لكل شيعي في هذه المنطقة . وخلال السنوات الخمس التالية شهدنا ولادة العشرات من التنظيمات الصغيرة التي تسعى لتعبئة الجمهور وراء مطالب سياسية. القاسم المشترك بينها جميعا هو قيامها على تبريرات دينية ، او استعمالها لغة تعبوية مستمدة من التراث الديني .
اتسم عمل المنظمات السياسية الشيعية خلال الفترة المذكورة بطابع ثوري شديد التمسك بالمفاهيم الايديولوجية الخاصة: حزب الوحدة في افغانستان ، مثل منظمة العمل الاسلامي ، وحزب الدعوة في العراق ، وحزب الله في لبنان ، ومنظمة الثورة الاسلامية في السعودية ، والجبهة الاسلامية لتحرير البحرين ، وبقية المنظمات التي ولدت او عادت الى الحياة السياسية بعد 1979 ، حملت جميعا شعارات التغيير الجذري ، واعلنت تناقضها التام مع حكومات بلدانها، كما ادانت كل اتصال او مساومة مع تلك الحكومات. لكن عداءها لم يقتصر على حكومات بلدانها ، بل اعتبرت النظام الدولي بمجمله معاديا ومؤسسا على قيم نقيضة. واتخذ جميعها هدفا مركزيا وحيدا هو التغيير الجذري والشامل، اي اسقاط الانظمة القائمة واقامة بديل اسلامي على انقاضها.
يمكن تفسير هذا الاتجاه على ضوء الطابع الديني لتلك المجموعات ، او كانعكاس للانطباع العام المتولد عن انتصار الثورة الايرانية ، التي كانت هي الاخرى جذرية وتغييرية . او يمكن اعتبارها انعكاسا لحداثة التجربة السياسية ، ليس فقط لمؤسسي تلك المنظمات بل لبيئتها الاجتماعية ككل. لكني اميل الى تفسيرها كانعكاس للثقافة الاقلاوية. وهذا ينطبق حتى في البلدان التي يشكل الشيعة اكثرية سكانها. هيمنة العنصر الديني على مركب الثقافة السياسية حددت وجهة دينية للنظر في الذات والمحيط. ولهذا لم ينظر الشيعة الى انفسهم كمجموعة اثنية في اطار اوطانهم ، بل كمدرسة دينية ذات مذهب متمايز ضمن الاطار الواسع للامة الاسلامية ككل ، وفي هذا الاطار ، فانهم بالتاكيد ليسوا سوى اقلية عددية وسياسية معا.
يضاف الى ذلك ، ان تعرض الشيعة للعزل السياسي والاضطهاد في بلدانهم – بما فيها تلك التي يشكلون اكثرية سكانها - قد همش في نفوسهم مفهوم الوطن الذي يعبر عن حالة سياسية وقانونية ، ابرز تجسيداتها المساواة والحماية القانونية للحريات الشخصية والمدنية. "الثقافة الاقلاوية" هي شكل من اشكال الثقافة السياسية التي تكونت بتاثير العزل والاحباط الناتج عن عدم المساواة . وهي تتسم بكونها دفاعية تركز على حماية الذات. كما تنطوي على ارتياب في الجديد والغريب والمختلف. وتميل الى الانكماش على الذات والمحافظة على الخصوصيات الثقافية والسلوكية في مجتمعات غير مختلطة. انها اذن – من حيث الواقع اقرب الى النمط الاول من انماط الثقافة السياسية (المشاركة والتفاعل) ، لكنها من حيث الوظيفة اقرب الى الثاني (المنفعل والسلبي). ولهذا فاني اميل الى اعتبارها مرحلة انتقالية يتجلى فيها تحول تدريجي من النمط الثاني الى الاول.
من الجذرية الى البراغماتية: صدمة 2003
رغم اتفاق الجماعات الشيعية على استحالة نسخ التجربة الثورية الايرانية وتطبيقها في الدول الاخرى، الا انها نسخت ما هو اكثر من التجربة: الافكار، الاستراتيجيات، معايير الصداقة والعداوة، وحتى الهموم والمواقف اليومية واحيانا المصطلحات. من ذلك مثلا موقف الجماعات الشيعية من النظام الدولي ومؤسساته . وكذلك العلاقة مع دول العالم ، لا سيما تلك المؤثرة في مناطق عملها. اتخذت الثورة الايرانية موقفا معاديا للولايات المتحدة الامريكية وغرب اوربا ، ووصمت الاولى بصفة "الشيطان الاكبر". كما ان علاقتها مع دول الجوار لم تبدأ في التحسن الا بعد نهاية الحرب مع العراق في 1988.
يمكن تفسير هذا الموقف على ضوء التاريخ المرير للايرانيين مع واشنطن وحلفائها ، او موقفها الفعلي من الثورة . لكن لا بد ايضا من الاشارة الى قلق المؤامرة الراسخ في الثقافة السياسية الايرانية، وهو قلق قديم يستند الى تاريخ طويل من العداوة بين ايران وجيرانها ، وبينها وبين الدول العظمى. منذ القرن السادس عشر تعرضت ايران لغزوات متكررة من جيرانها واحتلت عاصمتها ثلاث مرات على الاقل (1514 ، 1722 ، 1943) ، كما سلخت اقاليمها الشمالية والشرقية والجنوبية . خلال النصف الاول من القرن العشرين كانت بريطانيا والولايات المتحدة تتحكم في القرار السياسي ، وتشكل الحكومات وتعزلها ، كما لو ان ايران ولاية تابعة لها. وقد ترك هذا السلوك تاثيرا عميقا على رؤية الايرانيين لمحيطهم وعلاقتهم مع العالم، جرى تعزيزه بعد الثورة بطابع ايديولوجي ديني. وقد اظهر بحث سريع على الانترنت اجراه كاتب هذه السطور ، ان لفظ "توطئه" ، وهو المعادل الفارسي لتعبير "مؤامرة" ، قد ورد في اكثر من نصف مليون صفحة الكترونية نشر معظمها خلال عام واحد (مارس 2008- فبراير 2009). كما ان بحثا عشوائيا على الصحافة اليومية الايرانية خلال اربعة اسابيع (اوائل 2009)، اظهر ان التعبير قد استعمل مرة واحدة على الاقل يوميا في كل صحيفة من تلك الصحف، الامر الذي يكشف عن انتشار الفكرة في الثقافة الايرانية المعاصرة، رغم ان المنشور منها على الانترنت يشكل جزءا صغيرا نسبيا من الثقافة العامة للمجتمع.
القلق من وجود مؤامرة معادية هو احد بواعث التفكير الدوغمائي في السياسة. وهو ايضا دافع من دوافع السياسات المتشددة تجاه الغير وتجاه الداخل على حد سواء. بالنسبة للمجتمعات التي ترى نفسها أقلية ، فان فكرة كهذه ستجد ارضية خصبة. ذلك ان كل اقلية تشعر – بشكل طبيعي– بالقلق ازاء الخارج. سيما اذا كانت ثقافتها السياسية تتسم في الاصل بالانفعال والسلبية.
رغم ان الولايات المتحدة قد خذلت العراقيين حين انتفضوا ضد نظام صدام حسين في مارس 1991، الا ان سياستها التالية ، ولا سيما بعد 11 سبتمبر 2001 ، مهدت الطريق امام تحول كبير في الظرف السياسي للشيعة وموقعهم ضمن المعادلات القائمة في المنطقة والعالم . وبلغ هذا التحول ذروته في ربيع 2003 حين دخلت القوات الامريكية بغداد ، واطاحت بحكم الرئيس صدام حسين. مثل ثورة ايران ، فان غزو العراق لم يغير الخريطة السياسية للمنطقة فحسب ، بل ادى ايضا الى فتح الباب امام تحول رئيسي آخر في ثقافة الشيعة ، في العراق وخارج العراق. امريكا ، الشيطان الاكبر الافتراضي ، ارسلت رجالها لتحطيم الشيطان الاصغر الفعلي الذي جرع الشيعة مرارة الذل ، والذي فشلت كل محاولة بذلوها لاسقاطه او حتى لتخفيف طغيانه. لم يتوقع الشيعة ابدا ان تتوافق مصالحهم يوما مع مصلحة عدوهم الافتراضي، لكن هذا حصل فعلا ، فوجدوا انفسهم امام مفارقة يستحيل تفسيرها في اطار الدوغما القديمة ، الامر الذي فتح الباب لصعود الفهم السياسي للسياسة ، اي فهمها كعالم متغير موضوعه الاساس هو المصالح وليس الافكار.
شكل الغزو الامريكي للعراق ذروة لتحول في التوجهات السياسية للنخبة الشيعية ، بدأ في 1988 حين وافقت ايران على وقف الحرب مع العراق "من اجل الحفاظ على الثورة" و "اعادة الاعمار" ، في اشارة الى تقديم الاولويات الوطنية الايرانية على الاهداف الدينية التي تتجاوز الجغرافيا والحدود السياسية . وقد جرى تبرير هذا التحول باشكال شتى ، مثلما فعل اية الله املي في وقت لاحق: "الدولة الاسلامية ليست مسؤولة عن اصلاح العالم الا اذا ظهر صاحب العصر [الامام المهدي المنتظر]. يجب ان تركز الحكومة اهتمامها على بناء البلاد واصلاحها ، وعلى المصالح العامة لمواطنيها" [18]. اتجاه الايرانيين الى التركيز على الداخل، دفع بالعديد من قادة المجموعات الشيعية الى مراجعة متبنياتهم السياسية السابقة. وظهرت اولى صور التحول في توجهاتهم بمغادرة كثير منهم للاراضي الايرانية الى اوربا ، بحثا عن فرص اكبر للتاثير في بلدانهم. وتصاعد هذا الاتجاه بعد الغزو العراقي للكويت اواخر 1990 ، حين شعر الشيعة الخليجيون بان مشكلتهم الكبرى لم تعد محصورة في التمييز الطائفي الذي يعانون منه ، بقدر ما تتمثل في احتمال ضياع وطنهم كله كما حصل للكويتيين . هذا الشعور عزز مصداقية تلك الشريحة من النخبة الشيعية التي كانت قد بدأت تدعو فعليا لتفكير براغماتي في السياسة ، بدل الجمود على المقولات الايديولوجية ، التي ظهر عجزها عن تفسير التحولات السريعة والعميقة في العالم المحيط بهم.
اما بعد دخول القوات الامريكية الى العراق في 2003 فقد كان نخبة الشيعة وعامتهم ، لا سيما في العراق ، مستعدين تماما لتناسي المقولات القديمة ، والدخول في تحالف سياسي مع الولايات المتحدة الامريكية، شانهم في ذلك شأن مواطنيهم الاخرين ، السنة العرب والاكراد، الذين كانوا قد تبنوا المعارضة ضد نظام صدام حسين. دخل الشيعة العراقيون في لعبة السياسة بكل طاقتهم. وتناسوا كليا ونهائيا تراثا ضخما يدعم موقف الاعتزال والقلق من الخارج . ويحرم العمل في سلطة لا يرأسها امام معصوم او حتى نائب عن الامام . اختار العراقيون طريق الحداثة السياسية فذهبوا فورا الى انتخابات عامة . وساهموا في وضع دستور جديد ينص صراحة على منع اصدار اي قانون او تبني سياسة تتعارض مع الحريات العامة او تضيق مساحتها. ورغم الموقف الايجابي الذي اتخذه الزعماء الدينيون ، لا سيما المرجع الاعلى اية الله السيستاني ، الا ان الجميع – بما فيهم هؤلاء الزعماء انفسهم – اصر على ان يتولى المدنيون السلطة وان يكون الشعب المصدر الوحيد للشرعية السياسية.
هذه التحولات ، بدءا من الاصرار الشديد على المشاركة السياسية ، والدخول في مساومات مع المنافسين ، والتاكيد على الدولة المدنية والحداثة السياسية ، مرورا بالتاكيد على المفاهيم الجديدة في الدولة ، وانتهاء باختيار التحالفات الدولية ، تشير جميعا الى ثقافة سياسية جديدة تترسخ بالتدريج بين الشيعة العراقيين . لكن الامر لا يتوقف هنا ، فالشيعة الاخرون في العالم العربي بدأوا يفكرون الان بطريقة مشابهة ، ويتحدثون عن المشاركة السياسية والتنافس الديمقراطي وصيانة حقوق الانسان باعتبارها متبنياتهم الرئيسية . لا تسمع اليوم بين الشيعة من يتحدث عن تغيير جذري ، ولا تسمع من يفكر في "جمهورية اسلامية" ثانية على النمط الايراني . من المحتمل ان اختيار هذا الاتجاه جاء نتيجة للعجز عن تحقيق هدف التغيير الجذري. لكن مهما كان السبب ، فان الاجماع على هذا الخيار ، بين النخبة والعامة يشير ، مثل خيار الاعتزال في الماضي ، الى تحول جديد في الثقافة السياسية باتجاه المشاركة في الحياة العامة بكل اتجاهاتها ومتغيراتها، والتفاعل مع المحيط السياسي بكل ما فيه من اطياف وقوى ومستجدات.
انعكاسات هذا التحول واضحة في جميع الاقطار التي تنشط فيها جماعات شيعية سياسية ، ومن بينها السعودية ، التي شهدت تحول المجتمع الشيعي من الانكفاء الى المعارضة الجذرية واخيرا البراغماتية السياسية.
الخلاصة
ناقشنا في السطور السابقة ابرز التحولات التي تعرضت لها الثقافة السياسية للمجتمع الشيعي العربي ، ولا سيما في العقود الثلاثة الاخيرة. العسر الذي رافق بدايات التشيع اعاد انتاج الصورة الذهنية للسياسة كعالم بغيض ومتعارض مع الصفاء الديني. التركيز على حماية الجماعة فتح الباب امام تجذر "الثقافة الاقلاوية" التي تعبر عن نظام ثقافي فرعي وظيفته الاولى هي حماية الرابطة الداخلية التي تجمع اعضاء الاقلية. في ظل هذه النظام ، جرى تهميش قيمة السياسة كثقافة وكتفاعل حيوي مع المحيط . قيام الثورة الاسلامية في ايران اثمر عن تحول عميق في ثقافة الشيعة وهويتهم السياسية ، فتخلى المجتمع الشيعي عن ميله التاريخي للاعتزال والسلبية ، واتجه للمشاركة والتفاعل. لكن الثورة الاسلامية عززت الايمان بنظرية المؤامرة ، كما بررت الاتجاه للتشدد والجذرية في العمل السياسي. في العقد الاخير من القرن العشرين بدأ هذا المنحى بالتفكك لصالح اتجاه اكثر براغماتية ، وبلغ هذا الاتجاه ذروته مع الغزو الامريكي للعراق ربيع 2003 حين وجد الشيعة امكانية فعلية للقاء بين مصالحهم ومصالح الولايات المتحدة الامريكية التي كانت توصف سابقا بالشيطان الاكبر وتمثل – في اذهانهم على الاقل – رمزا للمؤامرة الدولية عليهم. الثقافة العامة للشيعة تميل اليوم الى البراغماتية والبناء على المصالح الواقعية ، بدل الجمود على الدوغما القديمة التي لا تتطابق مع حقائق العصر. البراغماتية تجعل الشيعة – كمجتمع – اقدر على التفاهم مع الحكومات الوطنية والقوى السياسية الاهلية في بلدانهم ، وتوفر اساسا قويا لاتخاذ منهج اصلاحي معتدل ، منقطع الى حد كبير عن املاءات التاريخ وذكرياته المؤلمة.
[1] Gabriel A. Almond & Sidney Verba, The Civic Culture: Political Attitudes and Democracy in Five Nations, (Sage 1989), pp 12-14
[2] Dennis Kavanagh, Political Culture, (Mackmillan, London 1972), p. 11
[3] Mehran Kamrava, Cultural Politics in the Third World, UCL Press, (London, 1999), p. 41
[4] لتفصيلات حول هذا المنحى ومبرراته ، انظر : كاظم الحائري : ولاية الامر في عصر الغيبة ، (قم 1994) ، ص 69-85
[5] Heinz Halm, Shi’a Islam : From Religion to Revolution, (Princeton 1996), p. 88
[6]Etan Kohlberg, “The Evolution of the Shi‘a”. in Kohlberg, Belief and Law in Imami Shi‘ism, (Hampshire , UK 1991) article I, p. 4.
[7] ابو جعفر الطوسي : كتاب الغيبة (بيروت 1412) 331
[8] محمد حسن النجفي : جواهر الكلام ، (طهران 1988) 21/397
[9] For more on the topic, see: Jane Clark, “Fulfilling our Potential: Ibn ‘Arabi's Understanding of Man in a Contemporary Context” The Journal of the Muhyiddin Ibn Arabi Society, vol. 30, (Autumn 2001). www.ibnarabisociety.org/clark.html
[10] الشيخ المفيد محمد بن النعمان : المقنعة ، (قم 1990) ص. 810
[11] يوسف البحراني: الحدائق الناضرة (بيروت 1993) ج 25 ص 488
[12] ابو الصلاح الحلبي : الكافي في الفقه (اصفهان 1983) ص 420-423
[13] ابن ادريس الحلي : السرائر 3/545 . لتحليل موسع عن هذا التحول ، راجع توفيق السيف: نظرية السلطة في الفقه الشيعي ، الباب الثاني
[14] Jelle Puelings, Fearing a Shiite Octopus: Sunni – Shi`a Relations and the Implications for Belgium and Europe, Egmont, The Royal Institute for International Relations, (Brussels, 2010) p. 10. www.egmontinstitute.be. The study offers interesting information on the shift of Shia groups to civil politics.
[15] On the case of Bahrain for example, see Uzi Rabi and Joseph Kostiner, ‘The Shi'is in Bahrain: Class and Religious Protest’, in Ofra Bengio & Gabriel Ben-Dor (eds), Minorities and the State in the Arab World, Lynne Rienner Publishers,(Boulder, CO. 1999), pp 171-188
[16] حول التعديلات التي اجراها الخميني، انظر توفيق السيف : حدود الديمقراطية الدينية (بيروت 2008)، الفصل الثاني
[17] محمد شبستري : نقدى بر قراءت رسمى از دين ، (تهران 2000) ، ص 186
[18] اية الله جوادي املي : خطبة الجمعة ، (قم ، 14 يونيو 2002 ). صحيفة ايران 15-6-2002
www.iran-newspaper.com/1381/810325/html/politic.htm#s121497