17/06/2020

هل تعرف "تصفير العداد"؟


اشقاؤنا في اليمن هم اكثر العرب استعمالا لعبارة "تصفير العداد". ذلك ان رئيسهم السابق ، المرحوم علي عبد الله صالح (1942-2017) اعتاد تعديل البند الخاص بالفترات الرئاسية في الدستور  ، كلما انهى فترة رئاسية ، كي يترشح من جديد للانتخابات. وبلغت شهرة المصطلح ان الرئيس نفسه وعدهم يوما بانه "لن يصفر العداد" مرة أخرى. اما انا فتعلمت معنى "التصفير" من ابني الاكبر ، وهو مهندس كمبيوتر. في كل مرة اواجه مشكلة في جهازي ، كان ينصح بالتصفير = Reset.
مانويل كاستلز
موضوعنا اليوم ليس العداد الرئاسي ولا الكمبيوتري. انما اردت لفت انتباه القراء الاعزاء الى فكرة "التصفير العظيم = Great Reset" التي اظنها سترافقنا في قادم الايام ، بل اتمنى ان يكون العالم العربي ، لا سيما المثقفين والطبقات الجديدة ، جزءا من الحراك الذي يحمل هذا العنوان ، والذي اظنه أهم التحولات في تاريخ البشر.
صديقي الصحفي اللامع حسن المصطفى يقول ان التجارب الجديدة هي محور التاريخ البشري. وهي لم تتوقف أبدا. ولذا فالتحولات المنتظرة احتمال طبيعي. وبدا لي هذا القول صحيحا في الجملة ، لكن لعله يقلل من أهمية التحولات التي أدعي انها ستحدث بعد تلاشي جائحة كورونا.
لا اقول ان الجائحة أوجبت التحول او صنعته. فقبلها كان العالم يتهيأ لقفزة واسعة في حقل الاتصالات والمعلوماتية ، تؤذن بالانتقال الى عالم رقمي مخالف لما ألفناه حتى الآن.
حين تتبلور "الثورة الصناعية الرابعة" حسب وصف البروفسور كلاوس شواب ، فان جانبا اساسيا من الحياة سوف يتغير على نحو يصعب تخيله ، في الاقتصاد والتعليم والصحة والمواصلات على سبيل المثال. اقول هذا لان معظمنا لم يتخيل ، قبل 20 عاما فحسب ، انه سيعيش حياة ينظمها جهاز صغير في الجيب اسمه "الهاتف الذكي". 
قلة من الناس يرون المستقبل.  هذا مضمون اشارة الرئيس السابق باراك اوباما في رثاء "ستيف جوبز" مبدع فكرة الهاتف الذكي: "كان ستيف ثاقب البصيرة حين راى المستقبل يوم عجز الاخرون ، وكان شجاعا حين كافح من اجل الامساك به ، بينما تردد الاخرون".
في 2016 تبنى منتدى دافوس مفهوم "التورة الصناعية الرابعة". وقد تحدثت عنه في مقال بهذه الصحيفة منتصف نوفمبر الماضي. ونعلم ان المملكة قد وقعت اتفاقية مع المنتدى ، يجعلها جزء من هذا الحراك الانساني الجديد. نذكر ايضا الصراع الشديد بين الولايات المتحدة والصين ، حول امتلاك تقنيات الجيل الخامس ، التي ستكون عصب الشبكات والاتصالات في السنوات الآتية. هذا وذاك يشيران الى مسار تحول بدأ بالفعل.
لكن الجديد الذي اضافته "كورونا" هو تغيير  الاولويات وتسريع بعض المسارات. سيناقش منتدى دافوس فكرة "التصفير العظيم" في دورته القادمة. جوهر الفكرة ان الوباء كشف للعالم نقاط ضعف مؤثرة ، وقرب احتمالات كانت مؤجلة. وفقا لبعض الباحثين فان الاضطرابات العمالية في فرنسا نهاية 2019 ، والتظاهرات التي اجتاحت الولايات المتحدة في الشهر الجاري ، تستدعي مراجعة لفكرة "العقد الاجتماعي" و سبل تحقيق "العدالة الاجتماعية" ولاسيما التناسب بين دور الدولة والمجتمع المدني في هذا المجال.
هل لهذا علاقة بالتحول الى العالم الرقمي؟
في راي علماء مثل مانويل كاستلز  ، فان تبلور العالم الرقمي يؤدي الى:
 أ) تغيير جذري في مفهوم الهوية الشخصية وتركيبها ، اي الجواب على سؤال: من أنا؟.
ب) تغيير مؤثر في معادلات القوة وتوزيعها في المجتمع  والعالم. ستحوز الطبقات المهمشة دورا اكبر  مما عرفه العالم في اي وقت. وبسببه سوف نرى توزيعا مختلفا للسلطة وراس المال والتاثير الثقافي.
ولعلنا نعود لتفصيل الموضوع في وقت لاحق.
الشرق الاوسط  الأربعاء - 25 شوال 1441 هـ - 17 يونيو 2020 مـ رقم العدد [15177]

10/06/2020

كيف تقبلنا فكرة الانسان الذئب؟


اعود هنا لاستكمال المناقشة التي بدأتها في الاسبوع الماضي حول فكرة "الانسان الذئب". وقد اشرت هناك الى تبنيها من جانب المفكر الانجليزي توماس هوبز ، كمنطلق لدعوته الى حكومة قوية مطلقة ، لايحد سلطاتها عرف ولا قانون ، شرط تكريس همها لعمران البلد ومصلحة العامة.
وضع هوبز نظريته في غمرة الحرب الاهلية الانكليزية ، التي طالت عشر سنين (1642-1651) وخلفت فوضى عارمة ، وأحيت نزاعات دينية واقتصادية ومناطقية وغيرها. وفي غمرة الحرب خرج من يدعو لاحياء نموذج السلطة البطريركية التي تدعمها الكنيسة ، وتستند الى مبررات دينية وفلسفية. في المقابل ، أراد هوبز تأكيد المصدر الارضي لشرعية السلطة ، وكونها مستمدة من تمثيلها للمجتمع ، وليس من التفويض الالهي ، ولا من تمتع الحاكم بصفات العلم والحكمة ، وفق تصوير افلاطون.
والذي يبدو ان التفكير السياسي والفلسفي الذي عرفه العالم ، حتى منتصف القرن السابع عشر ، كان يتعامل مع فكرة الحكومة المطلقة ، باعتبارها النموذج الاعتيادي للحكم ، بل لايبعد ان يستذكر الكتاب حين يستعرضون نماذج السلطة ، نقد ارسطو للديمقراطية ، التي تساوي بين العالم والجاهل ، وبين علية القوم والسوقة.
هذه الرؤية تعرضت لتحد شديد في النصف الثاني من القرن السابع عشر ، حين تعرف العالم على فكر جون لوك (1632-1704) الذي قدم مايمكن اعتباره اول تنظير لمبدأ حقوق الانسان ، الذي نعرفه اليوم. وقد تبنى لوك  تفسيرا لأصل الدولة يعاكس مذهب هوبز. وقال ان الانسان صالح بالفطرة ، وان عقلانيته هي بالتحديد موضع الخير في نفسه. حين تعرف البشر على بعضهم في المجتمع السابق للدولة ، فان اول شيء فعلوه هو التعارف والتعاون ، الذي تطور الى وضع قانون ينظم العلاقة بينهم ، وهيئة تقوم على تنفيذه وهي الدولة.
وقد لاحظت خلال ابحاث سابقة ، ان تراث المسلمين أميل للرؤية الأولى ، اي القول بفساد الطبيعة البشرية. وهذا ظاهر حتى في الثقافة العربية المعاصرة ، التي تحتفي بالقوة والغلبة ، اكثر مما تحتفي بالمنطق العلمي والحوار. ان عددا كبيرا من العرب الذين تعلموا في المدراس القديمة والحديثة ، يحفظون قول ابي تمام
"السيف اصدق انباء من الكتب       في حده الحد بين الجد واللعب"
ويتعاملون مع فحواه كبديهية لا شك فيها. ولذا فان ما نذكره من تاريخنا هو الحروب والانتصارات الحقيقية والمزعومة. لكننا نادرا ما نتذكر تاريخ العلوم واهلها ، ولا نعرف الا القليل مما انجزه ابن الهيثم في البصريات وابن سينا في الفلسفة والرازي في الطب. ولاننا لم نعرف هؤلاء وامثالهم ، لم نستطع تبني المسار الذي اختاروه ، ولم نكتشف القيمة الرفيعة لهذا الجانب من تجربة الاسلاف ، الا حين وجدنا علماء الغرب يتحدثون عنه.
ثقافة الاحتفاء بالقوة التي تقول "كن ذئبا والا اكلتك الذئاب" هي التي حولت فكرة السلطة الى غنيمة لمن غلب ، بدل ان تكون محل خدمة للمجتمع وتمثيل لارادته ، واحتفاء بأفضل ما فيه. هذه الثقافة هي التي تتسامح مع المتسلطين والطغاة  ، وترى فيهم املها وصورتها النموذجية ، بينما  تحتقر المتسامح والمتساهل ، وتعتبره ضعيفا هزيلا لا يستحق الاحترام.
اما وقد وصلت الى نهاية المقالة ، فاني اريد التاكيد مجددا على ان فكرة "الانسان الذئب" من أسوأ ما انتج العقل البشري ، وهي تقع على النقيض تماما من حكم العقل ، واحسب ان هذا قد اتضح الآن.
الشرق الاوسط الأربعاء - 18 شوال 1441 هـ - 10 يونيو 2020 مـ رقم العدد [15170]
مقالات ذات علاقة
من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

لماذا يرفضون دور العقل؟

  ليس هناك – على حد علمي – من ينكر دور العقل بصورة مطلقة. لو فعل أحد ذلك فلربما عده العقلاء مجنونا أو ساذجا. لكننا نعرف أناسا كثيرين ينكرون ...