30/08/2017

سؤال العصر: اي دين لأي دنيا


محاضرة الدكتور زغلول النجار في جامعة فاس المغربية في ابريل الماضي ، حول الاعجاز العلمي في القرآن ، انقلبت الى هرج ومرج ، بعدما تصاعد الجدل بين الحاضرين والمحاضر. وتكرر الامر نفسه في يوليو ، اثناء ندوة عقدتها نقابة المهندسين الاردنيين ، بعدما رفضت مطالب الحاضرين بمناقشة مباشرة للدكتور النجار.
زغلول النجار
يشير كلا الحدثين الى ان حديث "الاعجاز العلمي في القرآن" فقد بريقه المعتاد في سوق الثقافة العربية. كثير ممن تبنى هذه الدعوة تخلى عنها ، لأن آلاف الذين كانوا يتابعونه بشوق ، باتوا أقل ثقة في فرضياته ودعاواه.
يرجع الفضل في اطلاق هذا الحديث الى المرحوم عبد الرزاق نوفل ، الذي اصدر 30 كتابا ، يمتليء معظمها بأقاصيص حول التطابق بين التعاليم الدينية وكشوف العلم الحديث. والحق ان نوفل لم يكن عالما متخصصا ، لكنه امتاز بجمال الاسلوب والعرض. وكانت كتاباته اشبه بالتقارير الصحفية ، التي تثير الاهتمام لكنها تفقد قيمتها في اليوم التالي.
كان المرحوم نوفل قد اكتشف مبكرا ، السؤال الذي يحاول الاجابة عليه الدكتور النجار وبقية المهتمين بالاعجاز العلمي ، أعني به سؤال: هل يعد الدين بشيء أكثر من الثواب الأخروي.
لو اردنا وضع هذا الكلام في قالب نظري ، فسوف نقول ان موقف الانسان المعاصر من الدين قد تغير جذريا. في الماضي كان الانتماء لدين بعينه ، واحدا من متطلبات النظام الاجتماعي. حين يتغير الحاكم ، يتحول الناس الى دينه او مذهبه ، دون مساءلة او اهتمام بتحديد موقف شخصي. ويكشف تاريخ المسيحية والاسلام وبقية الاديان ، ان هذا النوع من التحولات كان معتادا حتى نهاية القرون الوسطى.
أما اليوم فلا أحد يغير دينه او مذهبه ، تبعا لتغير دين الحكومة او مذهبها. كثير من البشر المعاصرين يحددون علاقتهم بالدين ، تبعا لما يوفره الدين لحياتهم الحاضرة. وحتى الذين لا زالوا ملتزمين بالنهج القديم ، فانهم يحاولون – بصورة واعية او عفوية – استكشاف المسافة بين ما يعطيه الدين لحياتهم الدنيوية ، وما يؤجله لما بعد الموت. وربما يقررون ، بناء على نتيجة هذا الاستكشاف ، معنى انتمائهم الديني ، او نسبة التزامهم بتفاصيله.
خلافا للمسيحية ، فان تعاليم الاسلام تغطي جانبا واسعا نسبيا من حياة الناس الدنيوية. وبنفس القدر ، فان المسلم المعاصر يتساءل الآن ، او سوف يتساءل في المستقبل ، عن التناسب بين التزاماته الدينية وانعكاسها الايجابي على حياته الدنيوية.
الفهم المسبق للدين يفترض ان معظم المكاسب المتوخاة من التدين ، مؤجلة الى الحياة الثانية بعد الموت. لكني افترض ان كثيرا من الناس سيسألون انفسهم: هل آمنت خوفا من جهنم ، ام لأن الدين يعطيني حياة دنيوية أفضل. وربما أخذ بعضهم المسألة الى حدود اكثر تطرفا فسأل نفسه: لو خيرت بين طريقين في الحياة ، احدهما يعدني بحياة كريمة مزدهرة في هذه الدنيا ، وآخر يدفعني لتقبل البؤس في الحياة الدنيا ، على أمل تعويضها بخير منها بعد الموت. هل سأختار الطريق الاول ام الثاني؟.
حديث الدعاة عن قوة الدين وعظمته وسبقه للعلم الحديث وماضيه الزاهي ، يلعب دورا توكيديا ، يريح انفس الملتزمين الموافقين في الاصل على تلك الدعاوى. لكنه لا يجيب على السؤال الجدي الذي أشرنا إليه ، وهو سؤال سيواجه بالتأكيد معظم الجيل الجديد من المسلمين.
الشرق الاوسط  الأربعاء - 8 ذو الحجة 1438 هـ - 30 أغسطس 2017 مـ رقم العدد [14155]
 http://aawsat.com/node/1011541

23/08/2017

العلمانية بين فريقين

||اهم انجازات الحداثة هو ارتقاء مكانة الانسان/الفرد من منفعل الى فاعل او متفاعل. وهذا يظهر بوضوح في تعامل الفرد مع الدين||. 
يمكن لمن شاء ان يكيل المدائح للعلمانية او يرميها بكل الموبقات. هذا لا يغير أي شيء في اي موضوع. العلمانية محايدة تجاه المعتقدات التي تسكن في ضمير البشر . ومن هنا فهي ليست داعما للمقدسات والجوانب الغيبية في العقائد والاديان. لكن هذا لا يجعلها عدوا للأديان ، ولا يجعلها بالتاكيد دينا بديلا عن اي دين او منافسا للدين.
المتحدثون في العلمانية فريقان ، يفهمها كل منهم في إطار مختلف. الفريق الاول يؤمن بها كايديولوجيا او شبه ايديولوجيا ، يريد تمكينها كمبدأ معياري في الحياة العامة. اما الفريق الثاني فيفهمها كمسار تحول في الافهام والتعاملات ، التي يطور البشر من خلالها حياتهم. لكنه لا يتبناها كمعيار او قيمة مستقلة. 
بالنسبة للفريق الاول فان الحياة ليست سوى مجال لتبادل المنافع المادية. وان التبادل المفيد هو ما ينتج قيمة مادية ، او يقبل التحويل الى قيمة قابلة للاحتساب ، وفق معايير الدنيا الحاضرة. القيم المعنوية والاخلاقيات مفيدة طالما امكن ترجمتها الى قيم مادية. فاذا اقتصرت عوائدها على منافع غير منظورة أو مؤجلة لما وراء الحياة ، فليست ذات موضوع.
انطلق هذا التصور من موقف معاد للأديان والتقاليد الروحية التي تحيل المكاسب لما بعد الحياة ، او تفترض وجود شريحة من الافعال والمسلمات ، لا يقدر العقل البشري على ادراكها واستيعابها. ولذا يجب فعلها والتسليم بصحتها  تعبدا ، او طمعا في الجزاء الأخروي.
اما الفريق الثاني فينظر للعلمانية كناتج طبيعي لانتقال المجتمع من عصر التقاليد الى عصر الحداثة. في عام 1616 حاكمت الكنيسة الكاثوليكية عالم الفيزياء الايطالي غاليليو ، لأنه برهن على صحة آراء كوبرنيكوس ، القائلة بان الارض تدور حول الشمس ، خلافا للتفسيرات المستمدة من الكتاب المقدس. نعلم اليوم ان الناس – حتى الاكثر تدينا منهم - يتعاملون مع الفيزياء والفلك كعلوم مستقلة بقواعدها وتجاربها ، ولا يعتمدون التفسيرات المستمدة من الكتب المقدسة. استقلال العلوم وفقدانها للقداسة او الخضوع للمقدس ، هو احد وجوه التحول الذي يوصف بالعلمانية. ومثل ذلك تماما استقلال القانون والاقتصاد وغيرها من جوانب الحياة.
بناء القوانين وانظمة الدولة والسوق على نتائج الدراسات العلمية والمداولات بين ذوي الاختصاص ، يزيل القداسة من تلك الانظمة ، ويحولها الى شأن عرفي يستمد الزاميته من ذاته او من توافق المجتمع عليه. اي ان طاعة القانون تفهم من جانب الناس ، كواجب يرتبط بالمصلحة العامة العرفية ، لا كتكليف ديني.
ونذكر أيضا ان اهم انجازات الحداثة هو ارتقاء مكانة الانسان/الفرد من منفعل الى فاعل او متفاعل. وهذا يظهر بوضوح في تعامل الفرد مع الدين. في عصر التقاليد كان واجبا على الفرد ان يسمع ويطيع. لأن التعاليم الموجهة اليه ، آتية من مصدر اعلى وأعلم بمصالحه. اما في عصر الحداثة ، فقد بات الفرد أقل اكتراثا بمصدر التعاليم ، واكثر اهتماما بالتحقق من فائدتها لحياته. بسبب هذا التحول فان التدين السائد اليوم ليس صورة عن تدين الآباء ، ففيه الكثر مما استعاره الأبناء من الزامات عصرهم ونتاجاته. تحول موقف الفرد وموقعه من الانفعال الى التفاعل ، هو مثال آخر على تغير مفهوم ومعنى المقدس وتقلص مساحاته في حياة الناس.
لو تركنا جانبا دعوة الفريق الاول ، التي تحمل مضمونا ايديولوجيا ، وركزنا على التأمل في تفسيرات الفريق الثاني ، فقد نجد ان العلمانية في هذا المعنى واقع يتحقق بالتدريج ، وليست مسألة مطروحة للنقاش.
الشرق الاوسط 23 اغسطس 2017 http://aawsat.com/node/1005801
 مقالات ذات علاقة



16/08/2017

تأملات في جدل متكرر


||الاحكام الخاصة بالعلاقة مع المختلف الديني ، باتت بلا موضوع. لأن موضوعها السابق جزء من ظرف اجتماعي زال من الوجود. وحين يزول موضوع الحكم ، يزول الحكم تبعا له||
لا أظن عاقلا سيحفل بما قيل حول "جواز" الترحم على الفنان المعروف عبد الحسين عبد الرضا. كلنا نعرف ان ربنا سبحانه أكرم من هؤلاء الذين ضاقت صدورهم عن استيعاب معاني رحمته التي وسعت كل شيء. ليس في أقوالهم إذن ما يستحق التوقف.
لكن هذا الجدل يكشف في عمومه عن قضية جديرة بالتأمل ، يوضحها سؤال: ماذا نفعل لو طرحنا رأيا مستمدا من مصادر دينية ، لكن العرف العام رفضه وأنكره.. هل نتخلى عن هذا الرأي ام نجبر الناس عليه؟.
هذا السؤال كان واضحا جدا في الجدل المذكور. بعض الدعاة انكروا جواز الترحم على الفنان المحبوب. فرد عليهم عشرات الآلاف من الناس مستنكرين ، ومدافعين عن محبوبهم. والحق اني فوجئت برد الفعل الجارف ، كما فوجيء غيري. ورأى فيه بعض الكتاب مؤشرا على تراجع الانقسام الحاد الذي وسم المجتمع العربي في السنوات القليلة الماضية.
تشييع جنازة المرحوم عبد الحسين عبد الرضا
خلاصة الفكرة التي اقترحها في هذا الصدد ، ان اتجاه الرأي العام نحو مسألة ما ، يشكل اطارا موضوعيا جديدا للمسألة ، ويستدعي بالتالي البحث عن حكم شرعي جديد ، بخلاف الحكم المتعارف. وفي خصوص مسألتنا الحاضرة ، فان الحكم الشرعي يرتبط بموضوع العلاقة بين المؤمن والمخالف ، سواء صنف كمبتدع او  منحرف أو كتابي او كافر او ملحد الخ. فرضيتنا هي ان الاحكام الخاصة بهذه الاصناف ، ولدت في ظل نظام اجتماعي موحد على اساس ديني او مذهبي (متحد اجتماعي = community). اما اليوم فنحن نعيش في مجتمع تعددي متنوع ، اقرب الى المتحد الاقتصادي/السياسي (=metropole) حيث يميل اعضاء المجتمع الى التعامل فيما بينهم وفق معايير مصلحية مباشرة ، لا تتأثر حديا بالخلفية الثقافية او الانتماء الاجتماعي.
اذا صح هذا ، استطيع القول ان الاحكام الخاصة بالعلاقة مع المختلف الديني ، باتت بلا موضوع. لأن موضوعها السابق جزء من ظرف اجتماعي زال من الوجود. وحين يزول موضوع الحكم ، يزول الحكم تبعا له.
لقد ربطت الظرف التاريخي باتجاهات الرأي العام لسبب بسيط ، وهو ان الرأي العام المعبر عنه بصورة واضحة ، كاشف عن التغيير الذي يحدث في البنية الاجتماعية ، اي في الثقافة والقيم والاقتصاد ونظام العلاقات الاجتماعية والهموم الجمعية. حين تتغير رؤية الجمهور – او شريحة معتبرة منه – الى مسألة ، او يتغير تعامله معها ، فان هذا يكشف عن تغير في البنية التي تشكل قاعدة المصالح التي يقوم عليها موضوع المسألة ، والاطار القيمي الذي يحدد موقعها من المنظومة السلوكية أو الاخلاقية للجماعة ، وتشكل جزء من مفهومها.
لا يمكن النظر في اي مسألة خارج اطارها الاجتماعي التاريخي. ليس للمسائل موضوعات مستقلة او عائمة في الفضاء ، بل هي دائما عنصر في بنية اجتماعية. موضوع المسألة هو واحد من أجزاء الصورة الكبرى التي نسميها بالبنية الاجتماعية. هذه البنية كيان عضوي يتحول باستمرار مع مرور الزمن ، بسبب التحول في علاقة البشر مع الطبيعة المحيطة بهم ، وتقدم معارفهم ، وتعاملهم مع التحديات التي يواجهونها كل يوم في بيئتهم او في عالمهم.
اتفق فقهاء الاسلام على تغير الاحكام تبعا لتغير الموضوعات. ما اقترحه اليوم هو تعريف موسع للموضوع بحيث لا ينصرف الى مسألة بعينها ، بل يشمل أيضا الظرف الاجتماعي الذي تتموضع فيه المسألة. القبول بهذه المقدمة يضع اساسا لقانون عام يؤثر على معظم الاحكام الخاصة بالتعاملات الجمعية.
الشرق الاوسط 16 اغسطس 2017 http://aawsat.com/node/1000081

مقالات ذات علاقة
 الحداثة كحاجة دينية (النص الكامل للكتاب)

09/08/2017

العلمانية على الطريق


||الجدل الحالي حول العلمانية في العالم العربي ، لا سيما منطقة الخليج، يشير إلى تحول ملموس نحو القبول بالتعددية على المستوى الفكري والاعتقادي، وسيادة القانون على المستوى السياسي والاجتماعي||
عاد الجدل حول العلمانية إلى منتديات الخليج بعد الحديث المشهور لسفير دولة الإمارات في واشنطن. كانت الصحافة السعودية قد شهدت جدلاً أوسع في مطلع العقد الجاري، محوره المفاضلة بين الدولة الدينية والمدنية. وانقسم الناس يومذاك – كما اليوم – بين داعٍ للعلمانية وبين رافض لها من الأصل، وبين من يناقش في التفاصيل.
المقارنة بين جدل اليوم وجدل الأمس، تكشف أن بعض رافضي العلمانية في 2012 يميلون اليوم إلى التعامل معها كاحتمال ممكن، مع بعض التعديلات. ونشير إلى أن الجدل حول المسافة بين الدين والعلمانية، شأنه شأن كل القضايا المرافقة للتحول الاجتماعي، يتصاعد أو يتراخى بتأثير الصراعات السياسية، التي لا يخلو منها بلد عربي. ولذا فإنك لا تطمع في نقاش ثقافي متراكم، قدر ما تراقب التحولات الإجمالية على الخط الممتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
أظن أن النقاشات الأولى قد لفتت أنظار الإسلاميين إلى أعمال المرحوم د. عبد الوهاب المسيري، سيما كتابه «العلمانيةالجزئية والعلمانية الشاملة». وأرى أن كتاب المسيري يصلح للقارئ الأوروبي أكثر مما يصلح للقارئ العربي؛ فهو ينطلق من فرضية مكتومة إلى حد ما، فحواها أن العلمانية متحققة فعلاً، وأنها تفرز مفاعيلها الفلسفية والثقافية والمادية، وتؤثر في البنية العميقة للمجتمع. وهذه فرضية قد تكون صحيحة في المجتمعات الصناعية. لكنني أظنها غير واقعية في المجتمعات العربية.
د. عبد الوهاب المسيري

ركز الكتاب على مخاطر المادية المفرطة وتغوّل رأس المال. وتبنى مقاربة طورها فلاسفة أخلاقيون غربيون، تحذر من تسليع الإنسان. وقد بسط النقاش في موضوع العلمانية وفصله، على نحو يقود القارئ – المتشدد خصوصاً – إلى رؤية تفارق الثنائية التقليدية التي تقرن العلمانية بالكفر، وتضع الدين والعلمانية على طرفي نقيض. وهي ثنائية تنطوي على محمول رمزي وعاطفي لا يسمح بتفكير واقعي.
احتمل أيضاً أن تأملات الإسلاميين في التجربة الناجحة لحزب «العدالة والتنمية» التركي، قد أسهمت في تعزيز مفهوم الدولة المدنية، التي تسمح بنوع من التعايش بين المشاعر الدينية والحكم المدني، في ظل قانون يحمي التنوع الثقافي والتعددية السياسية. وأذكر أن الرئيس رجب طيب إردوغان أثار جدلاً واسعاً في سبتمبر (أيلول) 2011 حين دعا المصريين إلى وضع دستور يحترم مبادئ الدولة المدنية. وصرح في حديث لقناة مصرية بأن «العلمانية ليست معادلة رياضية تطبق في كل مكان على نحو واحد. العلمانية تحترم كل الأديان ولا تنفي الدين أو تدعو إلى اللادينية. الحكومة التركية تطبق العلمانية، لكن الشعب حر في التدين وفق ما يعتقد».
زبدة القول إن الجدل الحالي حول العلمانية في العالم العربي، ولا سيما منطقة الخليج، يشير إلى تحول ملموس نحو القبول بالتعددية على المستوى الفكري والاعتقادي، وسيادة القانون على المستوى السياسي والاجتماعي. يجب القول إن هذا التحول لم يصل بعد إلى مراحل متقدمة، وإن مسافة طويلة تفصلنا عن مرحلة النضج، حين يتعامل المجتمع والقوى الناشطة فيه خصوصاً، مع حرية التفكير والاعتقاد وحاكمية القانون، كمسلمات وضرورات للحياة المدنية السليمة.
هناك بطبيعة الحال متشائمون يشيرون دائماً إلى تصريحات هذا الزعيم أو ذاك، كدلالات على أننا لا نزال في المربع الأول. لكن ما أظنه مهماً هو الحراك الاجتماعي الواسع، الذي يكشف عن تحول تدريجي في البنية وأنماط التفكير، قد لا نرى نتائجها سريعاً، لكننا نستطيع لمس بواكيرها.
الشرق الاوسط 9 اغسطس 2017 http://aawsat.com/node/994501
 مقالات ذات علاقة

02/08/2017

حول التفسخ السياسي

||يؤدي اهتمام الجيل الجديد بالشأن العام الى تصاعد تطلعاته ، بالتوازي مع اعتقاد ميتافيزيقي فحواه ان الحكومة تستطيع فعل كل شيء اذا ارادت||
رغم سمعته السيئة بين العرب ، فان صمويل هنتينجتون يعتبر واحدا من أهم علماء السياسة الامريكان. وله مساهمات مؤثرة في بحوث التنمية. وأشير مثلا الى دراسته الهامة "التنمية السياسية والتفسخ السياسي" التي تعد الآن نظرية قائمة بذاتها. نشرت هذه المقالة في 1965 ، وأثارت اهتماما كبيرا يومئذ. ثم تجدد الاهتمام بها في السنوات الاخيرة ، بعدما ناقشها بالتفصيل المفكر المعروف فرانسيس فوكوياما ، في كتابه المسمى "النظام السياسي والتفسخ السياسي". وفوكوياما تلميذ سابق لهنتينجتون.
نتيجة بحث الصور عن ‪SAMUEL hUNTINGTON‬‏
تنطلق نظرية هنتينجتون من فرضية محورية ، فحواها ان التحديث والتنمية ، سواء ركزت على المجال السياسي او الاقتصادي ، تولد بالضرورة تسارعا في الحراك الاجتماعي ، وزيادة مفرطة في اهتمام الاجيال الجديدة بالمجال العام ، وما يدور فيه من اسئلة ومشكلات. بعبارة أخرى فان قضايا الدين والسياسة والاقتصاد ، التي كانت حكرا على نخبة المجتمع ، تتحول الان الى موضوع اهتمام لعامة الناس ، سيما الشباب المتعلم الذي يشكل اكثرية نشطة في المجتمعات النامية.
يؤدي اهتمام الجيل الجديد بالشأن العام الى تصاعد تطلعاته ، بالتوازي مع اعتقاد ميتافيزيقي فحواه ان الحكومة تستطيع فعل كل شيء اذا ارادت. وأن كل مطالبه قابلة للتنفيذ لو استمعوا اليه. لكن هذا تصور غير واقعي. حين تجمع ما يريده الناس وما يتوقعونه ، فسوف ترى مجموعة مستحيلة الانجاز في أي ظرف. لكن كل فرد ينظر من زاويته الخاصة ، فيرى تطلعاته سهلة التنفيذ.
انفجار التطلعات والتوقعات المتفائلة ، يولد ضغطا منهكا على الادارة الحكومية ، التي – تبعا لقانون الندرة - لا تستطيع سوى تلبية القليل. وهذا بدوره يولد الاحباط بين الشباب ، ويوسع الهوة بينهم وبين الدولة ، ويفتح الباب امام انكسارات أمنية واجتماعية.
ان تأخر الدولة في استيعاب الحراك الاجتماعي الجديد ، سيقود الى ما أسماه هنتينجتون بالتفسخ السياسي ، اي تراخي الشعور بالمسؤولية ، وطغيان الاحاسيس السلبية والاحباط وعدم الفعالية على المجتمع الوطني ككل.
يعتقد هنتينجتون ان جميع المجتمعات النامية ستمر بهذا السيناريو في وقت ما. ولذا فهو يدعو الى علاج من ثلاثة أجزاء:
 أولها الاهتمام بتعزيز قوة الدولة وكفاءتها. انفجار التطلعات في ظل حكومات ضعيفة ، يولد بالضرورة فراغا سياسيا أو أمنيا ، ربما يطيح بالسلم الاجتماعي. مفهوم الدولة القوية الذي نتحدث عنه هنا ، يعني بالتحديد الفعالية والكفاءة والالتزام بفرض القانون ، وليس القهر والتسلط. الدولة القوية تدير عملها باتزان ، وهي في الوقت نفسه فعالة وسريعة الاستجابة للجمهور.
 الجزء الثاني هو تعزيز النظام المؤسسي ، وتطوير القانون والادارات التي تتعامل مباشرة مع الجمهور ، أو تلك التي يؤثر عملها على حياة الجمهور ، على نحو يجعلها أكثر مرونة واستجابة للمطالب والحاجات المتغيرة.
اما الجزء الثالث فهو تشجيع الاجيال الجديدة على "عقلنة" مطالبها وتطلعاتها ، من خلال إدماج المطالب الفردية المتعددة في مطلب عام ، والنضال لتحقيقها من خلال مجهوداتهم التعاونية ، أو من خلال المنظومات القانونية القائمة. ومفتاح هذا الجزء هو منظمات المجتمع المدني التي تستوعب المطالب الفردية وتدمجها ، كما تساعد على اكتشاف المسارات التي تمكن من تحقيقها في إطار القانون العام والموارد المتاحة ، أو تذهب بها الى المرحلة التالية ، اي اتخاذها مبررا لاستحداث موارد جديدة ، او مسارات قانونية جديدة ، تستوعب الحاجات التي لم تلحظ من قبل.
الشرق الاوسط 2 اغسطس 2017 http://aawsat.com/node/988616
مقالات ذات علاقة



26/07/2017

القانون للصالحين من عباد الله

|| لا يخلو مجتمع في العالم كله ، من اشخاص فاسدين وعابثين. لكن مشيئة الله قضت ان يكون غالبية الخلق عقلاء ملتزمين بدواعي الفطرة السوية وإرادة الخير||
يخبرنا الزميل د. عبد العزيز النهاري عن حادثة ذات دلالة ، كان طرفا فيها. وخلاصتها انه قدم وصفة طبية لصيدلانية في مدينة ليفربول غرب انجلترا ، ومعها قيمة الدواء ، فأبت السيدة ان تأخذ المال ، لأن القانون يعفي الاشخاص فوق الستين عاما من كلفة العلاج (عكاظ 22 يوليو 2017). مثل هذا الحدث غير مألوف في العالم العربي ، لكنه اعتيادي في بريطانيا ودول أوروبية أخرى.
د. عبد العزيز النهاري - توفي في 7 يونيو 2020
وأذكر أيضا ما شاهدته في النرويج قبل عامين ، حين وجدت الناس يدخلون ويخرجون من محطة القطار ، دون ان يسألهم احد عن تذاكر الركوب. خلافا لما كنت اعرفه في بلدان أخرى. وعلمت لاحقا ان الهيئة المشغلة للقطار وجدت المخالفات نادرة جدا ، فاستغنت عن توظيف المراقبين. وأظن ان معظم الذين سافروا الى اوربا او عاشوا فيها ، يعرفون العديد من القصص المماثلة. ولا بد ان بعضهم يتمنى لو رأى مثلها في البلاد العربية والاسلامية.
العنصر الجامع بين القصتين هو طبيعة القانون وفلسفته. في الأولى حول القانون مبدأ التكافل الاجتماعي ، من اعتقاد ميتافيزيقي ، الى حق مادي لكل عضو في الشريحة الاجتماعية المعنية بالتكافل ، ووضع اجراءات محددة لتمكينهم من هذا الحق. وفي القصة الثانية استند واضع القانون الى قناعة فحواها ان معظم الناس يميلون للالتزام بمفاد القانون ، حتى لو استطاعوا مخالفته. وكلما صيغ القانون على نحو يسهل حياة الناس ، فان الالتزام به سيكون اوسع واعمق.
اني واثق ان جميع الناس ، في منطقتنا وسائر بلاد العالم ، يتمنون ان يكون القانون في خدمتهم ، ان يوضع على نحو يمكنهم من نيل حقوقهم دون عناء. وهم بالتاكيد يتمنون ان يعاملوا بثقة واحترام ، من جانب حكوماتهم ومن جانب كل طرف ذي علاقة بالمجال العام. ولا فرق في هذا بين النخب الحاكمة والجمهور.
حسنا. دعنا نسأل أصحاب القرار وصناع القانون ومنفذيه: لماذا لا يفعلون ذلك؟.
المرجح انك ستسمع جوابا واحد ، فحواه أن مجتمعاتنا مختلفة ، وأن ما يصلح في الغرب لا يصلح في الشرق.
قد يكون هذا الاعتقاد صحيحا وقد يكون خاطئا. لكن الحقيقة المؤكدة انه لم يخضع للتجربة على نحو كاف ، كي نتحقق من صدقه او خطئه. بل لدينا من الأمثلة ما يؤكد ان الجواب المذكور لا يخلو من مبالغة ، وقد يكون بعيدا عن الحقيقة. أذكر على سبيل المثال تجربة من بلادنا (السعودية) تتعلق بالتحول الذي جرى في إصدار الجوازات وبطاقات اقامة الوافدين. قبل عقد من الزمن ، كانت هذه مهمة مضنية ، تستهلك الكثير من الوقت والجهد في المراجعات الشخصية للدوائر. لكن الجزء الاعظم منها يجري الآن عبر الانترنت ، وترسل بطاقات الاقامة في البريد الى عنوان المستفيد. ونعلم ان تقليص الاجراءات والمراجعات الشخصية لم يتسبب في زيادة التزوير والتهرب من القانون. هذه التجربة دليل فعلي على اننا لا نختلف عن غيرنا ، واننا نستطيع تكرارها في قطاعات اخرى.
لا يخلو مجتمع في العالم كله ، من اشخاص فاسدين وعابثين. لكن مشيئة الله قضت ان يكون غالبية الخلق عقلاء ملتزمين بدواعي الفطرة السوية وارادة الخير. ومن هنا فان القانون الاجدر بالطاعة والتأثير ، هو ذلك الذي يصاغ على نحو يحاكي هذه الطبيعة ويخدم اصحابها ، لا القانون الذي يضيق على الناس حياتهم أو يهدر حقوقهم.
الشرق الاوسط 26 يوليو 2017 http://aawsat.com/node/982871
مقالات مماثلة


المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...