13/12/1994

دولة واحدة ... مجتمعات عديدة



خلال الاشهر القليلة الماضية تابعت وسائل الاعلام عددا من القضايا التي تبدو في ظاهرها مختلفة باختلاف مواقعها ومبرراتها ، على الرغم من كونها تمثل تجسيدات لمشكلة واحدة ، الا وهي مشكلة التنوع القومي والثقافي ، في اطار الدولة الواحدة وحدود هذا التنوع ، من اتفاق الولايات المتحدة مع كوبا على الحد من هجرة المواطنين الكوبيين ، الى منع المحجبات من دخول المدارس الفرنسية ، مرورا بالجدل الدائر في السودان حول تطبيق الشريعة ، وانتهاء بمحاكمة النواب الاكراد في البرلمان التركي .

الدولة القومية
ظهرت فكرة الدولة القومية في اوربا في اواخر القرن التاسع عشر ، كواحدة من المحاولات الهادفة الى حل مشكلة التنافر الاجتماعي ، الناتج عن تعدد الثقافات وتعدد القوميات في الدولة الواحدة ، وفي ذلك الوقت فان طبيعة النظام السياسي في اكثر الاقطار الاوروبية ، كانت توجد اسبابا لقيام تقسيم طبقي على اساس الانتماء القومي ، مما يجعل طائفة من المواطنين محكومة بارادة الطائفة الاخرى ، فتشكل الاولى مجتمع الدرجة الثانية ، بينما تستأثر الثانية بالدرجة العليا ، ومايترتب عليها من امتيازات ومكاسب ، بل ان بعض الامبراطوريات قامت بمحاولات جادة وعنيفة ، لتذويب القوميات والثقافات في بوتقة القومية المسيطرة ، مع ما استتبع هذا السعي من تكاليف باهضة ، على الصعيد المادي والبشري ، كما على الصعيد السياسي ، ولاينسى معظم المؤرخين سياسة الفرنسة في الجزائر ، ولاسياسة التتريك التي قادها حزب تركيا الفتاة ، عشية الغروب المؤلم لشمس الدولة العثمانية ، فضلا عن محاكم التفتيش المشهورة ، التي اعقبت سقوط الدولة الاسلامية في الاندلس .

تنوع باهظ الـثمن
وفي الفترة بين الحربين العالميتين حاول الحزب النازي بزعامة ادولف هتلر ، الذي اصبح من ثم الحزب الحاكم ، احياء هذه النزعة وتأجيجها على نطاق اوسع ، يقوم على التمييز بين الالمان ، باعتبارهم النموذج الانساني الاصفى والارقى ، وبين بقية سكان العالم الذين اعتبرهم من الدرجة الثانية ، وادى ذلك الى الويلات والمآسي المعروفة في الحرب الكونية الثانية .
اما في العالم العربي ، فثمة امثلة عديدة على التنافرات السياسية ، التي نتجت عن التعدد الثقافي او القومي في القطر الواحد ، من بينها الحرب الطويلة المزمنة في شمال العراق ، بين الحكومة والاقلية الكردية ، والحرب الاهلية اللبنانية التي استعرت بين الطوائف الدينية ، مرتين على الاقل خلال اقل من قرن ، وحديثا جدا الدعوة المتعاظمة بين الجزائريين الذين يرجعون الى اصول بربرية ، للحصول على وضع مميز ضمن الدولة الجزائرية .

يطمح السياسيون الى دولة ذات مجتمع واحد ، بثقافة واحدة ، لاتقاء التعدد الذي قد يصبح في وقت من الاوقات ، مبررا للتنافر الاجتماعي ، لكن يبدو ان تحقيق مثل هذا المجتمع ، لم يعد الان ضمن قائمة الممكنات على الصعيد السياسي ، بل ان العالم يسير حثيثا باتجاه مستويات من التنوع الثقافي داخل كل دولة ، تعيد من جديد صورة الامبراطوريات الكبرى ، التي سادت في ازمان سالفة ، وضمت تحت لوائها قوميات وشعوبا عديدة ، على بقاع واسعة من الارض ، كما هو الشأن في الدول الاسلامية المتعاقبة ، وامبراطوريات القرون الوسطى الاوربية ، ان تزايد الاهتمام بقضية حقوق الانسان من جهة ، وتحرير التجارة الدولية من جهة اخرى ، اضافة الى التقدم العظيم في وسائل الاتصال الجمعي ، ولاسيما في الربع الاخير من هذا القرن ، يؤذن بسقوط الحواجز السياسية التي تفصل بين الدول القومية ، كما يعمل على تفتيت الحدود الثقافية ، التي تشير الى خصائص لمجتمعات تتميز بها عمن سواها .

تعدد تحت سقف واحد
وبالنظر الى هذه التطورات ، فان الرهان القديم على امكانية قيام مجتمع نقي العنصر ، موحد الثقافة ، اصبح جزء من الماضي ، وحل محله قبول يتزايد مع مرور الزمن ، بفكرة المجتمع المتنوع والمتعدد الثقافات ، ضمن الاطار القانوني لسيادة الدولة .
لكن التعدد كان في الماضي ارضية للتنافر الاجتماعي ، ادى في احيان كثيرة الى نزاعات سياسية مكلفة ، ولذلك فان اعتماده قاعدة للعلاقة بين الدولة الحديثة والمجتمع ، بحاجة الى منهج في العمل واجراءات سياسية ، تتيح معالجة الاشكالات التي لابد ان تنتج عن الوضع الجديد .
ان اهم جزء من منهج العمل ، هو الاعتراف بحق كل مجموعة ثقافية في التمتع بخصوصيتها ، وحماية حقها الكامل في التعبير عن توجهاتها الثقافية ، بما لايصل الى الاضرار المادي او المعنوي بالمجموعات الاخرى ، وهي تحصل على هذا الحق في مقابل اقرارها الكامل بسيادة الدولة ، وتعالي القانون الوطني ، ومعالجة اي جزء من ثقافتها الخاصة ، ربما ينطوي على توجهات مخالفة لمصالح مجموع البلاد .

كما ينبغي اتخاذ اجراءات تستهدف تأكيد الهوية الوطنية ، الجامعة لمختلف الافراد والمجموعات الثقافية والاجتماعية في البلد الواحد ، والتاكيد على اعتبار هذه الهوية وتطبيقاتها ، حاكمة على اي مجموعة بمفردها ، بالنظر لكونها تمثل الحد القانوني والمعترف به ، لمفهوم المصلحة العامة الذي يرجع اليه الجميع .

وياتي في طليعة تلك الاجراءات ، مساعدة كل مجموعة على الانفتاح على الاخرى ، ثقافيا واقتصاديا ، حتى يبقى التنوع في حدوده الطبيعة ، كخاصية للجماعة ، فلا يتعداها الى الحدود المبغوضة ، كأن يصبح مبررا للتعالي على الغير او اعتزالهم .

 وفي الولايات المتحدة ومعظم الدول الاوربية ، التي يهاجر اليها مئات الالاف من البشر كل عام ، تتبنى الحكومات سياسة مزدوجة لاستيعاب المهاجرين ، تتضمن ـ من جهة ـ التاكيد على كون وطنهم الجديد هو الوطن النهائي الذي يختص بالولاء والحب ، كما تتضمن ـ من الجهة الاخرى ـ حماية حقهم في التعبير عن هويتهم الثقافية الخاصة ، مع تعديلها لكي تتناسب ونمط الحياة ، ومتطلبات القانون في الوطن الجديد .

ويظهر من دراسة التجربة الامريكية على وجه الخصوص ، ان سياسة الدمج المتوازن تحقق نجاحات كبيرة ، فهذا البلد الذي تشكل اساسا من مهاجرين من مختلف ارجاء العالم استطاع الحفاظ على مكانته كاقوى بلد في العالم ، واكثرها تقدما ، بل انه استثمر ذلك التنوع في تعزيز نفوذه الاقتصادي والثقافي في معظم بلدان العالم الاخرى ، بخلاف التجربة السوفياتية البائدة ، التي قامت على الدمج القسري وسيطرة الاكثرية الروسية ، فانتهت الى النزاعات القومية الدامية ، التي قلّ ان تخلو صحيفة يومية من اخبار جديدة عنها وعن مآسيها .
نشر في (اليوم) 13-ديسمبر- 1994

28/11/1994

فضائل القـرية وحقائق المدينة


في منتصف السبعينات دعا الرئيس المصري الراحل انور السادات الى ما اسماه بالعودة الى اخلاق القرية ، وعزز هذه الدعوة بوضع عدد من التنظيمات التي تحقق هذا الغرض ، من ضمنها القانون المشهور باسم (قانون العيب) الذي الغي قبل اسابيع ، وقد قيل في تبرير هذه الدعوة ، بانه ثمة حاجة الى التصدي للتراجع المتفاقم في الاخلاقيات العامة ، الناتج عن انهيار الضوابط الاجتماعية التي يتمتع بها مجتمع القرية .

وتكشف هذه الدعوة والكثير من المقالات ، التي تنشرها الصحف حول فضائل القرية وفضائل الماضي ، عن الفزع الذي ينتاب كثيرا من الناس ، ازاء شيوع النزعة المادية وثقافة الاستهلاك في المجتمع المديني ، حيث اصبحت المعنويات والفضائل المتفق عليها ، مجرد حكايات للتفاخر او الذكرى ، تكافح ببسالة للحفاظ على ما تبقى لها من مواقع  في ميدان الحياة العملية .

لكن ـ مع هذا ـ لم يتوقع احد ان تحظى هذه الدعوة بنصيب من النجاح ، بل وصمت بانها مجرد تغطية لموقف غير عادل تجاه القوى الاجتماعية المدينية المعارضة لسياسات الرئيس .

اتجاه الهجرة
 والحق ان قليلا جدا من الناس في العالم العربي ـ ممن عاشوا حياة المدينة ـ يرغب في العودة الى القرية ـ كمكان او كأسلوب حياة ـ على الرغم من توافق الاكثرية على ان اخلاقياتها ، ماتزال اكثر استقامة من اخلاقيات المدينة ، وعلاقاتها الاجتماعية ماتزال اكثر دفئا .

ويمكن الاستدلال على هذا الاتجاه بالتضخم المضطرد ، في عدد المهاجرين القرويين الى المدن في معظم الاقطار العربية ، مما ادى الى تضخم مواز في حجم معظم المدن الرئيسية ، يقابله انكماش للريف ، وصل في بعض الحالات الى تفريغ قرى بأكملها من السكان ، وفي مثال ملفت للنظر نشرت صحيفة محلية في الاسبوع المنصرم ، اعلانا اصدرته بلدية احدى القرى ، يطلب من بعض الاشخاص ازالة بيوت لهم مهددة بالانهيار ، بعد تركها خالية لسنين طويلة ، الملفت في هذا الاعلان هو قول البلدية بان مناشدتها لهؤلاء الاشخاص على وجه التحديد ، اعتمد على شهادة اهل الخبرة بانهم يملكون تلك البيوت ، وتضمن الاعلان قائمة باسماء الملاك المشهود لهم ، اضافة الى مساكن وصفت بانها مجهولة المالك ، ويشير هذا الى التغير الكبير الذي طرأ على وضع القرية ، بسبب هجرة معظم سكانها ، بحيث اصبحوا منسيين من جانب الاخرين الذين فضلوا البقاء فيها ، الامر الذي ينطوي على مفارقة مثيرة .

وراء الدفء
ان عدم الرغبة في العودة الى القرية ، مبرر عند معظم المهاجرين ، بان المقارنة بينها وبين المدينة  ـ كموضوع اجتماعي ـ يتجاوز موضوع الاخلاقيات ، ويتجاوز العلاقات الدافئة الى فلسفة الاخلاق وارضية العلاقات الاجتماعية ، التي فيها من الفضائل بقدر مافيها من المعوقات ، بحيث يمكن القول ان النهوض الذي شهده العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين ، ترافق مع نقلة في الحياة الاجتماعية لمعظم العرب ، ابرز عناوينها هو التحول من حياة القرية ـ كظرف اجتماعي وثقافة ـ الى حياة المدينة ، بكل ماتتضمنه هذه من عناصر افتراق عن سابقتها .

ويبدو لي ان معظم الذين انتقلوا بين المكانين ، انما كانوا يسعون الى القبض على فرصتهم في الحياة ، فرصتهم الفردية التي تتيحها لهم كفاءتهم وطموحاتهم الى حياة ارقى واكمل ، ان سعة افق المدينة وتنوع مجتمعها ، وما يستتبعه من تعدد الفرص فيها ، هو المبرر الرئيسي لصيرورتها محلا لتحقيق الآمال .

الفرد والجماعة
ان مكانة الفرد هي ابرز الامثلة التي تجسد الفارق بين القرية والمدينة ، فالفرد في القرية منسوب ـ في اغلب الحالات ـ الى عائلته أو قبيلته ، اي الى هوية يرثها ، وعليها يتقرر مكانه الاجتماعي ، بخلاف المدينة التي تقيم الاعتبار الاكبر لانجاز الفرد ذاته ، ويعني ذلك ان الفرصة الحقيقية للتعبير عن الطموح عند عامة الناس ، انما توجد في المدينة ، حيث يتاح للفرد ـ بغض النظر عن موروثه ـ ان يعبر عن نفسه وكفاءته ، وحيث يكون هذا سبيلا لنيل المكانة التي يطمح الى تحقيقها على الصعيد الاجتماعي .
ان دفء العلاقات القروية ، وقوة النظام الاخلاقي فيها ، يعبر ـ ضمنيا ـ عن صورة من صور السلطة الاجتماعية ، التي تستثمر في احيان كثيرة للتسلط على الفرد ، ويتجسد هذا التسلط على صورة (العيب) الذي يقابل كل خروج ـ ولو جزئي ومحدود ـ على مجموعة الاعراف والتقاليد ، التي يتسالم عليها المجتمع القروي.

وتلعب الاعراف والعادات دور الاطار الذي يطبق ضمنه هذا النظام ، وفي ظروف التطور الاجتماعي ، فان هذه العادات تلعب دورا فعالا ، في اعاقة محاولات التكيف الفردي مع متطلبات التطور ، ذلك ان بعضها ، بل جلها في الحقيقة ، تبلور كاستجابة لظروف مرت على المجتمع في وقت من الاوقات ، ظروف تتعلق بمعيشته او بأمنه الداخلي ، لكن تلك الاعراف  تجردت ـ بمرور الزمن ـ عن الظروف التي نشأت في ظلها ، واصبحت مطلقة تطبق باعتبارها قيمة مستقلة ولازمة من لوازم الحياة الاجتماعية ، تقوم بدور المنظم  والضابط لسلوك الافراد واختياراتهم .

مكان الجماعة
مجتمع القرية اذن هو مكان الجماعة ، وهو تجسيد لحاكمية الجماعة على الفرد ، حيث فرصته للتعبير عن ذاته ، مرهونة بتوافقه التام مع ارادة الجماعة ، وحيث ارادته ذائبة فيها والا فهي مقموعة ، بخلاف المدينة التي لاتوجد فيها جماعة  ـ بالمعنى القروي ـ لكي تكون فيها ارادة جماعية حاكمة ، اي ان الفرد متحرر من الضوابط الاجتماعية غير المحمية بالقانون ، فالطريق مفتوح امامه للكفاح في سبيل فرصة الحياة ، التي يتمناها ويطمح الى نيلها .

على ان لهذا التباين بين قوة الجماعة وقوة الفرد ، في مجتمع القرية فضيلة ليست قليلة الاهمية ، هي التكافل والتضامن بين ابناء المجتمع الواحد او القبيلة الواحدة ، حيث يشعر الفرد بانه ـ في صراعه مع متطلبات الحياة ـ ليس نبتا صحروايا يجاهد وحيدا للبقاء منتصب القامة ، فثمة من اهله وعشيرته من يستطيع دعمه واسناده عندما يحتاج .

 وقد جرى تطوير هذه الفضيلة على يد المهاجرين الى المدن ، على صورة عرف يقضي بان كلا منهم مسئول بدرجة او بأخرى ، عن مساعدة ابناء جماعته على النجاح في حياتهم الجديدة .
على ان لهذه الممارسة الفاضلة وجهها السلبي ، اذا استعملت كوسيلة للاستئثار ، شأنها في ذلك  شأن معظم الممارسات الاجتماعية ، التي هي في الاساس فضائل ، لكنها لاتخلو ـ اذا استعملت في غير محلها ـ من الاشكالات ، لكن دعنا نوكل الحديث عن هذا الجانب الى مقالة أخرى قادمة .
نشر في (اليوم ) 28نوفمبر 1994

مقالات ذات علاقة 
المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد ؟
اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

21/11/1994

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة



خلال تجربتها الانمائية الحديثة حصدت بلادنا الكثير من ثمار النمو الاقتصادي ، على اصعدة عديدة منها اتساع القاعدة الانتاجية للاقتصاد الوطني ، وارتفاع مستوى المعيشة ، فضلا عن تكامل الحد الادنى المطلوب من الخدمات المدنية ، وقد تغيرت صورة البلاد  بسرعة كبيرة ، قياسا الى التجارب المماثلة في بلدان أخرى ، فخلال السنوات القليلة الفاصلة بين أواخر الستينات ومنتصف الثمانينات ، تحولت من دولة يغلب عليها الطابع الصحراوي الخشن ، الى دولة حديثة المظهر حيوية الاقتصاد .
كان لهذا النمو السريع والشامل ، تكاليفه على الصعيد الاجتماعي كما كان له ثماره ، وتلك معادلة في الحياة الاجتماعية لايمكن التنكر لها او تغافلها .
على اي حال ، لانحتاج للوم انفسنا على الانعكاسات السلبية للنمو الاقتصادي. ثمة انعكاسات هي ناتج قسري عن تغير طبيعة العمل ومستوى المعيشة ، واخرى ناتجة عن اغفال المعالجة الضرورية ، للتطورات الاجتماعية المحتملة خلال مرحلة الانماء وما يليها ، فلننظر الى بعض الامثلة.

اعوام العزلة

حتى منتصف الثلاثينات الميلادية كانت معظم اقاليم المملكة ـ باستثناء المدن الثلاث الرئيسية في الحجاز ، التي ياتيها الناس مرة او مرات قليلة في العمر ـ منعزلة عن الاخرى على المستوى الاجتماعي ، فلا طرق معبدة ولا وسائل انتقال ، ولا وسائل اتصال ميسرة ليجول الناس بين هذا الاقليم وذاك ، أو يعرف اهل هذا الاقليم عن جيرانهم في الاقليم الاخر ، ولهذا فقد كانت المجتمعات المتعددة التي تألفت منها المملكة ، غريبة عن بعضها ، مختلفة في وسائل تدبير لقمة عيشها ، وبالتالي في العديد من وسائل تعبيرها عن ذاتها ، وتقرير خياراتها الحياتية .
لكن وصول بعثات  التنقيب الاجنبية الاولى ، ثم تدفق البترول وما اوجده من فرص عمل غير متوقعة ، وما جاء به من ثروة ومكانة ، غير هذه الصورة  ،  فقد بدأ الالاف من الناس من مناطق مختلفة يتحركون صوب منطقة البترول ، التي يوفر العمل فيها عائدا مجزيا ومريحا ، بالقياس الى مصادر  العيش الضيقة المعتادة ، أو صوب المدن الرئيسية التي استقبلت ثمار الدفعات الاولى من عوائد البترول ، على شكل زيادة في الطلب على الخدمات والسلع ، مما ادى الى تنشيط سوق العمل.

توسع المدينة

 لعلها من المفارقات ان المئات من اهل بلادنا ، الذين غادروها في الربع الاول من القرن العشرين ، الى الهند والبحرين والعراق والشام بحثا عن الرزق ، اصبحوا الان قادرين على استقدام اعداد متزايدة من اهل تلك البلاد للعمل هنا ، فلقمة العيش كبرت واصبحت قريبة .

في الرياض ـ على سبيل المثال ـ لم يستطع الاستاذ محمد المانع (1903-1987) كما يخبرنا في بعض كتاباته ، العثور على سكن خاص له ولموظفين آخرين ، عملوا في الديوان الملكي في ثلاثينات القرن ، الا بعد جهد جهيد ، فلم تكن المدينة لتستقبل من الاغراب الا قليلا ، يحلون ضيوفا على اهلها ، ولم يتوقع احد ان احدا من خارج اقليمها بحاجة الى السكن الدائم فيها ، اما الاستاذ سعيد الغامدي الذي درس تطور المجتمع القروي في قرى بلحمر الجنوبية ، فيروي ان واحدا من اهلها استقدم عاملا يمانيا لمساعدته ، فكانت هذه الخطوة موضوع حديث المجالس لعدة اشهر ، وعقدت لاجلها اجتماعات ودارت مناقشات بين شيوخ القرية ، انتهت الى (قرار) بان يقيم الرجل سكنا خاصا لأجيره على اطراف القرية ، لان القرية لاتحتمل رؤية (اجنبي) بل وتخشى منه .

اما اليوم فهذه القرية ، كما هو الحال في الرياض ، تضم بين جنباتها من غير سكانها ، مايوازي عدد هؤلاء او ربما يزيد ، لقد تغير التركيب السكاني في مدن المملكة وقراها خلال العقود الثلاثة الماضية ، بحيث اصبحت قادرا على ان ترى في كل مدينة ، نماذج اجتماعية لكل اقليم من اقاليم المملكة .

تأثير الهجرة

يؤدي خروج عدد كبير من الناس من مجتمعاتهم الاصلية ، الى اهتراء في النظام الداخلي لهذه المجتمعات ، يتجسد في صورة انحلال لقوة الضبط الاجتماعي للافراد ، ثمة قرى كانت تعتبر الراديو اداة من ادوات الشيطان ، وتعليم العلوم الحديثة تهيئة للكفر بالله ، اما السفر الى البلاد الغريبة فهو رضى بالكفر عن الايمان ، لكن العشرات من الشباب الذين خرجوا الى المدن الكبرى ، لاجل العمل اكتشفوا عادة الاستماع الى الراديو ، ومن ثم الانخراط في الصف المدرسي ، ولحقتهم اخواتهم او بناتهم ، ثم استطاع بعضهم السفر الى البلاد المبغوضة ، فوجدوا ان متعة الاكتشاف تستحق التمرد على الضوابط القديمة .

ولان الامر لايبقى سرا على الدوام ، فقد انتهى ذلك التمرد الابتدائي ، الى تلاشي قدرة المجتمع على ضبط ابنائه ، ضمن الاطارات السلوكية السائدة ، والتي يحميها توافق اجتماعي ، هو مانسميه بالقيم او التقاليد ، بكلمة اخرى فان هذه التقاليد التي سادت عشرات من السنين ، اصبحت عاجزة عن الصمود في وجه رياح التغيير .

الفرصة والقصور

هل كان هذا الامر طيبا بصورة مطلقة ؟
ربما كان ضروريا ، له نتائجه الحسنة وهي كثيرة لكنه لايخلو من بعض الاشكالات ، من بين نتائجه الطيبة هو ظهور الفرصة التي تحتاجها البلاد ،  لتحقيق مفهوم التواصل الثقافي والاندماج الاجتماعي بين سكانها ، فلم يكن من الصحيح بقاء ابناء البلد الواحد ، غرباء عن بعضهم متجاهلين احوالهم ، بينما تفرض عليهم الحقائق الموضوعية ، ان يكونوا شركاء في سرائهم وفي ضرائهم .

ومن النتائج السلبية هو قيام مجتمعات جديدة غير متعارفة . في المدن الكبرى على سبيل المثال ، ستجد المهاجرين من الاقاليم ، اكثر ميلا الى اقامة شكل جديد عن مجتمعهم الاصلي ، يعبر عنه في صورة تكتلات اجتماعية لابناء قرية واحدة او قبيلة واحدة ، وينطوي هذا الاتجاه على مبررات للانعزال عن شركائهم في هذه المدينة ، ممن ينتمون الى الاقاليم والقرى الاخرى.

ولا ارى لهذا التوجه الانعزالي مبررات كافية ومعقولة ، ماخلا الشعور الطبيعي بالتوافق الثقافي ، بين ابناء القرية او القبيلة الواحدة ، وهو توافق يوفر لاصحابه الاطمئنان والامان النفسي ، ويندر تحققه بسهولة بين اشخاص ينتمون الى اقاليم مختلفة.

على ان هذا التبرير يكشف ـ اذا صح ـ عن حالة غير مقبولة ، من ضعف التكيف الاجتماعي والثقافي لدى المواطن ، يعبر عنه بالهروب من المجتمع الواسع والمتنوع الذي تمثله المدينة ، الى مجتمع ضيق وأحادي ، هو اعادة انتاج متكلف لصورة القرية ، وهذا بدوره ناتج عن قصور في المنهج التعليمي والاعلامي ، الذي ينبغي ان يعيد صناعة صورة المجتمع في ذهن الفرد ، منذ طفولته وحتى يكبر ، المجتمع الكبير المتمثل في الوطن ، بديلا عن مجتمع القرية الصغير والسابق للدولة ، ان التواصل بين الافراد من مختلف الاصول والانتماءات الاجتماعية ، هو الذي يحقق مفهوم المواطنة ، ويقيم علائقها بين ابناء الوطن الواحد ، اما الانقطاع ـ ايا كان سببه ـ فهو سبب قوي لقيام حالة من الشتات الاجتماعي ، يصعب في ظلها بناء وطن للجميع .
نشر في (اليوم) 21نوفمبر 1994

مقالات ذات علاقة 

14/11/1994

يتحرك الاقـتصـاد والناس واقـفون



في الاسبوع المنصرم كرس الاستاذ محمد العلي زاويته الظريفة في هذه الجريدة ، لاثارة التساؤل عن امكانية جمود الانسان على قديمه بينما تتطور الاشياء من حوله ، وهو اجاب على تساؤله على صورة عنوان مع وعد بالتفصيل في المستقبل ، ومضمون الفكرة كما يبدو من العنوان ، ان هذا الاحتمال ممكن ، لان تطور الانسان يعني في حقيقته تطور شبكة العلاقات الاجتماعية ، اطارها ومضمونها.
 ثلاثـة اسئلـة
لقد سبق الاستاذ العلي الى اثارة هذا السؤال عديد من الباحثين ، الذين درسوا قضية التنمية والتحديث في العالم الثالث ، وفي هذا الاطار بالذات فمن الممكن اعادة طرح السؤال على صيغ ثلاث :
1/ هل يمكن تحقيق تنمية اقتصادية دون تنمية اجتماعية موازية ؟ .
2/ هل يمكن للانماء الاقتصادي ان يكون فعالا ، في وضع البلاد على ابواب المدنية والتحضر ، في ظل استمرار الحياة الاجتماعية على انماطها القديمة.
3/ هل يمكن الاعتماد على النشاط الاقتصادي كقاطرة لتحريك عجلة التغيير الاجتماعي؟.
 عن السؤال الاول يمكن الجواب بنعم ، اذا اخذنا المقاييس الكمية للنمو الاقتصادي ، دليلا في تحديد مستوى النمو المتحقق ، فثمة مجتمعات حققت معدلات جيدة من النشاط الاقتصادي ، وحظيت بنسبة نمو سنوي معقولة في ناتجها القومي الاجمالي ، على الرغم من انها لم تقم باي خطوة رئيسية ، في اتجاه تحديث وتطوير حياتها الاجتماعية ، بل ثمة بلدان قليلة السكان اقامت اقتصادا فعالا ، بالاعتماد شبه الكامل على اليد العاملة الاجنبية ، وهذا بذاته دليل على ان الحاجة الى المجتمع المحلي في تنشيط الاقتصاد ، غير حرجة الى الحد الذي يقال ان تنشيط هذا يتوقف على ذاك.
حيـاة مزدوجـة
ان السر في هذه الازدواجية ، يكمن في وجود قدرة حقيقية لدى اي انسان للفصل بين دائرتين في حياته ، هما دائرة العمل وكسب الرزق في جانب ،  ودائرة الحياة الاسرية والاجتماعية في جانب آخر ، فهو في عمله يستعمل احدث مافي العالم من وسائل ، بينما يرتاح لكل ماهو قديم وموروث في حياته الاجتماعية.
 وفي تاريخ بلادنا ثمة امثلة غير  قليلة على امكانية هذا الفصل ، في الثلاثينات الميلادية ـ على سبيل المثال ـ استطاعت ارامكو ، شركة الزيت العربية الامريكية التي كانت قد حصلت للتو ، على امتياز التنقيب عن الزيت في شرق المملكة ، استطاعت استقطاب الالاف من العمال المحليين ، على الرغم من وجود تيار قوي يدعو لعدم العمل عند النصارى والخضوع لامرهم ، وفي الوقت الراهن تجتذب البنوك المحلية ، مئات من الموظفين الذين يتساءل بعضهم عن امكانية ابراء ذمته ، بالنظر لكونه يعمل في مؤسسة ربوية.
بكلمة أخرى فان الناس قادرين على ايجاد قدر من التوليف ، بين ادائهم للمتطلبات المادية ، للحياة الجديدة التي تترافق مع النمو الاقتصادي ، مع اغفال متطلباتها الثقافية ، بل ومحافظتهم الحازمة على انماط من العلاقات الاجتماعية ، تنتمي الى مراحل زمنية سابقة ، وهذا الحال مشاهد ومحسوس يوميا ، بحيث لايحتاح الى بحث عن ادلة نظرية.
الاقـتصـاد والمدنيـة
اما السؤال الثاني فهو لب القضية والاجابة عليه تعتمد كليا على تعريفنا لمعنى المدنية والتحضر ، ومستوى التناسب بينها وبين النمو الاقتصادي ، وثمة اتفاق على ان المدنية بمفهومها المتداول ، غير قابلة للتحقق دون تحديث مواز للحياة الاجتماعية ، بما فيها من انماط تفكير وشبكة علاقات وقيم ناظمة لشئون الحياة المختلفة.
ويظهر الفرق بين المجتمعات المتمدنة ونظيرتها المتخلفة ، متجسدا في اربع صفات:
1 ـ الاستثمار الامثل للطاقات والامكانات المادية والبشرية المتوفرة في البيئة .
2 ـ الكفاية المعيشية لعامة الناس .
3 ـ ارتفاع مكانة الفرد ، وقدرته على التعبير عن ذاته ، واستثمار كفاءاته الشخصية في الارتقاء الاجتماعي .
4 ـ  قدرة المجتمع على تطوير امكاناته القائمة بما يلبي حاجاته الجديدة بأقل قدر من الاعتماد على الخارج.
واضح ان تحقق هذه الصفات في المجتمع ، لايأتي اذا اقتصر النمو على الجانب الاقتصادي ، وهذا يقودنا الى السؤال الثالث ، فهل يمكن اعتبار النشاط الاقتصادي محركا للتغيرات الاخرى المطلوبة ، لاسيما على المستوى الثقافي والاجتماعي؟.
يختلف الباحثون من العالم الثالث عن نظرائهم الغربيين ، في الاجابة على هذا السؤال ، وهم اميل الى القول بان تحديث المجتمع هو ثمرة لوجود ارادة محددة وقرار بالتغيير ، بينما يعتقد اكثر الباحثين الغربيين ، ان وجود اقتصاد نشط من شأنه ان ينتج اعتبارات وقيم جديدة ، تحتل مكان الثقافة التقليدية السائدة ، ويبدو لي ان الاتجاه الاول صحيح في حالة الدولة المنفصلة عن السوق الدولية ، وقد كان هذا هو التوجه السائد في معظم البلدان النامية ، في الفترة بين نهاية الحرب الثانية الى منتصف السبعينات الميلادية ، اما في حالة الاقتصاد الوطني المتواصل والمفتوح على السوق الدولية ، فان للاقتصاد فاعلية ملحوظة في التغيير الثقافي والاجتماعي ، لاتقل عن فاعلية القرار والارادة الوطنية ، على الرغم من ان التغيير لاياتي على صورة منظمة وخلال وقت قصير.
تكلفـة النمــو
ويرد على هذا التوجه اشكالات رئيسية ، اهمها ان استثمار آلية الانفتاح الاقتصادي في التغيير ، قد يؤدي ـ جبرا ـ الى تهشيم المقومات الثقافية الخاصة بالمجتمع النامي ، ومن بينها هويته ومتبنياته التي تعبر في مجموعها عن شخصيته الوطنية.
وبالنسبة للباحثين الغربيين فان هذه النتيجة ليست مؤلمة ، نظرا لسيادة فكرة العالم الواحد ، الذي لاتفصل بين اجزائه حدود ثقافية ولاتعيق معاملاته حدود سياسية ، لكن بالنسبة للعالم النامي فان هذا الانفتاح لايعني في خلاصته ، سوى تبعية دول الاطراف النامية ، للحواضر الرئيسية في الغرب  الذي يحتل الان مكان المركز.
يبدو ـ اذن ـ ان هناك امكانية لتطور ذي مسارين في اطار واحد ، احدهما سريع للاقتصاد ، والآخر بطيء للانسان الذي يعيش في نفس الاطار ، لكن هل تؤدي هذه المسيرة الى المدنية؟.
فلنقل انها ربما تؤدي الى الرفاهية ، والفرق بينها وبين المدنية في غاية الوضوح.
نشر في (اليوم) 14نوفمبر1994

07/11/1994

علم الوقوف على الاطلال



ينتمي كل انسان الى تاريخه بدرجة من الدرجات ، بحيث يندر ان تجد شخصا ، منفصلا عن تاريخه تمام الانفصال ، والمقصود بالتاريخ هنا ليس سيرة حياة الشخص على وجه التحديد ، بل مجمل التجربة التاريخية للبيئة الاجتماعية ، التي تربى وسطها وتشرب ثقافتها ، ومقومات نظرتها الى الحياة والاشياء .
ان ثقافة المجتمع لاتتكون دفعة واحدة ، بل عبر مسايرة طويلة الامد للتحديات المختلفة التي تواجهه ، يقوم خلالها بتشكيل نظرته الى من حوله وماحوله ، كما يقرر على ضوئها اسلوب عمله ، ومواجهته لمتطلبات الحياة ، وبدوره يحصل الفرد على هذه الثقافة بصورة تدريجية ، من خلال معايشته المستمرة لمحيطه الاجتماعي ، منذ ان يفتح عينيه على الحياة ، وحين يشب ويستوي رجلا ، فيتمثلها على صورة سلوك يومي ، او وعي اجتماعي ، او نمط في التفكير والتصور .
فلننظر الآن الى ثمرة هذا الموضوع ، وقد اخترت منه زاوية محددة ، تتعلق بنظرة الشخص الى تاريخه وتعامله معه ، والظروف التي تدفعه للعودة اليه .

تجربة متنوعة
ينتمي المسلمون الى تاريخ مليء بأسباب الفخر والاعتزاز ، لكنه كأي مسيرة طويلة الامد ، لاي أمة من الامم لايخلو من عناصر الضعف ومسببات الاذى النفسي ، نتذكر على سبيل المثال ان الامتداد الاسلامي الى الاندلس ، قد أوجد اساسات متينة للتقدم العلمي في اوربا ، ونتذكر في موازاة هذا ان اسلافنا قد اضاعوا هذا المجد ، بسبب نزاعاتهم الشخصية ، ومحاولة بعضهم الاستبداد بالامر ونفي الغير ، ونتذكر ان الحقبة الاولى من العصر العباسي ، قد شهدت وصول الدولة الاسلامية الى قمم من الحضارة ، غاية في العظمة والسمو ، لكن هذه الحقبة لم تخل من كثير من المنغصات ، ليس اقلها اضطهاد العديد من ائمة العلم ، وبينهم معظم رؤساء المذاهب الفقهية المعروفة ، فهذا الجانب وذاك هو الصورة الكاملة للتاريخ ، وأيا كان مرادنا من النظر فيه ، فان رغباتنا لاتغير من حقيقة كونه قد حدث ، واصبح جزء من الصورة .

وتحتاج كل امة الى قراءة تاريخها بين حين وآخر ، ليس لمجرد التسلي بالقصص والغرائب التي قد يحتويها في طياته ، بل للبحث عن عناصر للتعبئة واعادة شحن الههمم الخائرة ، فضلا عن استثمار مرجعية التاريخ ، في اضفاء المشروعية على توجه مرغوب ، او نزعها عن توجه مرفوض ، ان التاريخ بالنسبة لاي مجتمع هو النسب وشجرة العائلة ، التي من دونهما يشعر المجتمع بانه مستفرد وبلا جذور .

 ونلاحظ ان ثمة تناسبا طرديا ، بين تصاعد التحديات الخارجية في وجه المجتمع ، وبين سعيه لاستعادة تاريخه ، وأمامنا ثلاثة نماذج تمثل حالات لمجتمعات في ظروف مختلفة :

1/ محورية الحاضر
المجتمعات المستقرة المنشغلة بالتقدم هي اقل اهتماما بما مضى ، واشد تركيزا على استثمار عناصر الحاضر وامكاناته ، وهي لهذا اكثر واقعية واعتدالا في التعامل مع الغير ، اذ ان محورية الحاضر تكرس قيمة العناصر التي يشملها ، بما فيها الشراكة مع الاخرين .

2/ الهروب الى الماضي
المجتمعات الهامشية او الضعيفة ، تعود الى التاريخ هروبا من صعوبات الحاضر ، وملجأ يقيها مشقة الاعتراف بالعجز عن تغيير احوالها ، وفي مثل هذا الحال تتحول حوادث التاريخ الى اقاصيص منتقاة ، ومعدلة بما يناسب المزاج الشعبي ، ويكرس عدم مسئولية الجيل الحاضر عن اوضاعه ، باضفاء صورة الاسطورة على شخصيات تاريخية معينة  ، اتصفت بالبطولة والاقدام ، والباسها رداء القوة الخارقة ، بحيث تتشكل الرسالة الاخيرة لهذا التحوير ، على صورة ان الوضع البائس ، غير ممكن التغيير ، الا اذا وجدت معجزة او ظهر رجل خارق ، وتجد مثال هذه الحالة في المجتمعات التي تنتشر فيها اقاصيص الرجال الاقوياء ، كعنترة بن شداد وابي زيد الهلالي .

 3/ مقاومة الاغتراب
المجتمعات المقهورة ، تطور ميلا اشد الى الاحتماء بتاريخها ، وتكرسه على صورة حد يميز بينها وبين الغير ، وفي هذه الحالة فان أهل الحاضر يعيدون تصوير التاريخ ، باهمال بعض جوانبه ، والتركيز على جوانب أخرى ، بما يخدم فكرة تميز هذا المجتمع بثقافته وهويته ، بكلمة أخرى فان التاريخ هنا لايعامل باعتباره ميدانا لتجربة سابقة للاسلاف ، ينبغي دراستها والاعتبار بنتائجها ، بل باعتباره مصدرا لتبرير الحاجات الراهنة ، واهمها حاجة الحفاظ على الهوية .

وثمة في الحاضر امثلة عديدة على اتجاه المجتمعات الى التاريخ ، كوسيلة لتجذير شخصيتها الخاصة ، والتاكيد على خصوصيتها ، في مقابل محاولات الغاء الهوية ، التي يقوم بها المحيط الاكثر قوة ، في القارة الامريكية على سبيل المثال ، كان من الوسائل التي اعتمدتها جماعات الحقوق المدنية للزنوج ، هو اعادة تأكيد الاصل الافريقي لزنوج القارة الامريكية ، ومايتضمنه هذا من تعظيم مبالغ فيه احيانا ، لقيمة الثقافة ووسائل التعبير الخاصة بالشعوب الافريقية .

لايمكن الادعاء ـ بطبيعة الحال ـ ان تاريخ الامم الافريقية ، قابل للمقارنة بحاضر الافارقة الذين اصبحوا امريكيين ، بالنظر الى المعاني الحقيقية للحضارة وموقع الانسان الفرد في مجتمع متحضر ، لكن التاكيد على الاصل ، حتى لو كان اقل شأنا من الحاضر ، يعتبر وسيلة فعالة في استعادة الثقة بالذات ، ومقاومة اشكال الاغتراب النفسي والاجتماعي ، التي يعانيها الانسان المقهور ، وسط مجتمع يعامله باستعلاء وتفاخر .

من هذا وذاك نستنتج ان الناس يعودون الى تاريخهم بين حين وآخر ، بحثا عن تعضيد لتوجهاتهم الراهنة ، أو هروبا من معاناة غير محتملة لهذا الراهن ، وتتعاظم هذه العودة عندما يتفاقم التصارع بين الحاجات النفسية للانسان ، والمتطلبات الصعبة للتعايش العادل مع المحيط.

التاريخ والايديولوجيا
في بعض الحالات ، يجري تبرير العودة الى التاريخ على اساس ايديولوجي بحت ، بل يجري تصوير التاريخ ، باعتباره جزء من الايديولوجيا حينا ، ومصدرا لقواعدها في بعض الاحيان ، ويعرض العائدون للتاريخ انفسهم في صورة المثال الحي المعاصر لاسلافهم ، وهم في هذه الحالة يستلبون عمومية الشخص التاريخي ، ويفرغونها في فرد واحد معاصر ، ثم يستعملون هذا التحويل القسري لمحاكمة الاخرين ، وما يتضمنه هذا من ادعاء الانفراد بالقدرة على عرض الحقيقة المطلقة ، ومنح المشروعية او حجبها عن الغير .

30/10/1994

من ثقافة النخبة الى ثقافة الشارع


تدل احصاءات التعليم على ان معظم الاقطار العربية ، قد تقدمت بصورة حسنة في مكافحة الامية ، وحصل نحو ثمانين بالمائة من الذكور الذين تقل اعمارهم عن 30 سنة ، على قدر من التعليم الاولي او المتوسط في خمس عشرة دولة عربية ، وهذا تطور يعتبر طيبا ، بالقياس الى الوضع الذي كان قائما عند نهاية النصف الاول من القرن العشرين .
سلامة موسى
ترى هل ادى هذا التطور الى جعل العلم موضع اهتمام لعامة الناس ، وهل ادى الى جعل العلم قاعدة نؤسس عليها حياتنا ؟ من الواضح ان هذه النتيجة المتوخاة لم تتحقق الى اليوم ، وهي ربما تتحقق في المستقبل ، لكن ليس اذا بقينا في حالة الاسترسال الراهنة ، ان أي تطور مهما قل شأنه ، لايتحقق الا بوجود محرك يدفعه ويقود عناصره الى غايتها.

بضـاعة بائـرة
 فعلى الرغم من تلك الجهود لايزال العلم بضاعة بائرة في عالم العرب ، ربما يرجع هذا الى ارتفاع نسبة صغار السن قياسا الى مجمل السكان ، وربما الى الفقر الذي من شأنه ان يشغل الفرد بهموم تدبير المعيشة عن هم الارتقاء العلمي ، او لظروف عدم الاستقرار السياسي التي تسود بعض البلاد ، او لاسباب اخرى ، ايا كانت فانها لاتغير من النتيجة شيئا ، فتراخي الاهتمام بالعلم ينتج تأثيراته السلبية ، التي من اهمها تراخي الاندفاع نحو التطور ، او انحراف الحركة في طريق غير قويمة ، ان العلم هو الدليل الامين لحركة المجتمع ، ومتى ماغاب فلا يأمن السائرون ان يضلوا درب السلامة.

وليس من الصعب العثور على مشجب ، نعلق عليه وزر ماحدث من قصور او تقصير ، لكن ليس هذا موضع التحقق من مسئولية التقصير ، فالذي ينبغي ان يأخذ اهتمامنا هو سبل العلاج ومسئولية القادرين عليه .

مسئولية المثـقفين
من الواضح ان جميع الفئات الاجتماعية تتحمل بدرجة او باخرى ، قدرا من مسئولية نشر العلم وتعميمه ، نظرا لانها تستفيد كغيرها من نتائج هذا العمل ، لكن فئة المثقفين واصحاب الفكر تتحمل في هذا الميدان مسئولية اكبر من غيرها ، لا تخصيصا لها بهذا الحمل الثقيل ، بل لانها اول مستفيد من تصحيح الوضع الخاطيء ، فقد استتبع انكماش الاهتمام بالثقافة ، انحدارا في الاعتبار الاجتماعي الذي هو حق لاهل العلم ، فاصبحوا ياتون ـ من حيث التسلسل الواقعي للمراتب الاجتماعية ـ في المرتبة الثالثة أو الرابعة ، وربما ادنى من ذلك ، خلافا لماينبغي ان يكون عليه الحال ، من تقديم للعلم واهله ، ووضعهم في مواضع الشرف والريادة الاجتماعية .

الحلول والاحلام
ثمة وسائل عديدة لاستعادة هذه المكانة اهمها ـ في تقديري ـ الاقتراب من قضايا الناس الصغيرة واليومية ، والاقتراب من الفهم العام عند معالجة القضايا المختلفة ، ان الانصراف الى معالجة القضايا الكبرى واقتراح الحلول التاريخية ، والاقتصار على مخاطبة المختصين ، انما ينتج في حقيقة الامر ضيقا في المساحة الاجتماعية التي تتعامل مع النتاج العلمي .
 المسألة هنا ليست صعوبة الفكرة أو سهولتها فقط ، المسألة هي ايضا في ابتعاد الفكرة عن المعاناة اليومية للناس ، او غربتها من طموحاتهم القصيرة الأمد ، ستجد الكثير من الكتب التي تبحث في مشكلات الأمة العربية وهي تطرح لذلك حلولا تاريخية جذرية ، فالعديد من الباحثين الذين عالجوا اسباب الفشل الذي منيت به تجارب التطور الاقتصادي والاجتماعي في العالم العربي ـ على سبيل المثال ـ شخصوا المشكلة باعتبارها نتيجة مباشرة لوضع التنمية في اطار الإقليم أو الدولة الواحدة ، التي لاتستطيع نتيجة لضيق الموارد او المساحة او الكفاية السكانية ، ان تواجه التحديات الضخمة لمتواليات التخلف ، وعلى ذلك فان حل هذه المشكلة لن يكون ميسرا إلا بتنمية في إطار قومي .

بكلمة أخرى فان الرسالة التي تنطوي عليها مثل هذه المعالجة ، هي ان على كل دولة من دول العالم العربي ان تنام على وسادة الانتظار حتى تتحقق الوحدة العربية ، أو نمطا جزئيا من أنماطها على الأقل ، حتى تتوفر الفرصة للاقلاع من مستنقع التخلف ، مثل هذا الحل الذي ربما ينظر اليه أهل الإختصاص باعتباره جذريا وتاريخيا ، لاعيب فيه سوى ان أحدا من الناس حكاما ومحكومين لايستطيع القيام به ، في المدى المنظور على الأقل ، ليس لأن الشعب العربي لايريد الوحدة ، بل لأن همومه اليومية وهموم حكوماته كثيرة وضاغطة ، بحيث يبدو هذا المطلب بالنسبة اليهم مؤجلا الى زمن بعيد في المستقبل ، اي انه قابل للتصنيف ضمن دائرة الاحلام ، وليس الاهداف والمخططات ، ولهذا السبب فان المعالجة التي تشترط قيام الوحدة قبل التنمية ، تعتبر بالضرورة غير ذات قيمة على الصعيد التطبيقي ، لانها تعجز عن اثارة اهتمام الناس ، فضلا عن اصحاب القرار ، فتبقى مجرد محاولة حظها الوحيد هو الحفظ على الرفوف .

ثقافة للشارع

وفي منتصف القرن ، كان المفكر المصري سلامة موسى يدعو في مقالات صحفية ، الى خطة وطنية لتوفير المراحيض الصحية للفلاحين في القرى ، قائلا ان انعدامها أدى الى استيطان الأمراض في الريف ، فعاب عليه نظراؤه من المثقفين هذه الدعوة ، لأنها - كما قالوا - نزول بالثقافة من عليائها الى أوساخ الشارع. وكتب احدهم مقالا عنوانه (الثقافة المراحيضية) كرسه للسخرية من دعوة الكاتب. كما دعا بعضهم - على سبيل التهكم - الى تحويل المعاهد العلمية الى معاهد سمكرية ، انسجاما مع دعوة سلامة موسى تلك .
لكن هذا يرتبط بتشخيص المثقف العربي لدوره في المجتمع. فأمثال سلامة موسى يتطابق جدا مع مثقف يعتبر ان دوره تحريضي في المقام الأول. هو قد يدعو الى أمور مختلفة ، بحسب مايناسب الزمان والمكان ، ولدينا أمثلة على قصائد شعراو مقالات أو كتب الهبت حماس الناس لمقاومة مستعمر ظالم ، أو عالجت مشكلة مستعصية لأنها جاءت في وقتها ، ولأنها انطلقت من تشخيص دقيق للداء وتحديد مماثل في الدقة للدواء ، فالمثقف هنا مارس دوره كمحرض للمجتمع ، واستعمل قلمه ليس لاظهار مقدرته الابداعية ، او استعراض عضلاته العلمية ، بل للتعبير عن حاجات الناس .
ولابد من افتراض ان مثل هذه المعالجة على بساطتها ، هي احد الاساليب الفضلى لتجسير الفجوة بين اهل العلم وعامة الناس ، هناك بطبيعة الحال عشرات من القضايا ، هي هموم قائمة لاكثرية الناس ، بعضها نظري واكثرها عملي ، تمثل ميدانا يستطيع المثقف من خلاله التدليل على الفائدة الحقيقية للعلم ، بدل التحويم حول الخيالات والرموز أو الدعوة الى الاحلام .
نشر في (اليوم) الاحد 30 ـ10ـ 1994

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...