عندما تنظر إلى مجتمع عربي
من الخارج ، فسوف تراه شريحة واحدة ، يشبه كل فرد فيه الآخر ، في ملامحه وفي كلامه
وتفكيره ، وفي نمط حياته ، وهذا من طبيعة العقل الابتدائي ، الذي يميل إلى التعميم
ويتفادى التفاصيل ، إذ التفصيل يحتاج إلى تأمل وبذل شيء من الجهد الذهني .
وبالنسبة لكل عربي فان هذا
التقدير الأولي ، مرغوب ومطلوب ، كصورة نهائية للمجتمع الذي يود أن يراه ، فهو
يعكس ـ ولو على مستوى الاستعارة والمجاز ـ فكرة الوحدة التي تعتبر ثابتا من ثوابت
التفكير العربي والاسلامي ، وأملا عزيزا على قلب كل عربي ومسلم .
ربما كان الاستعمار ابغض شيء
عند المسلمين المعاصرين ، فهم يرونه تجسيدا مقاربا لمفهوم الشيطان ، الذي يؤكد
النص الديني على عداوته المطلقة للانسان وخالق الانسان ، ويحتفظ كل مسلم في ذاكرته
بفكرة تعد من الثوابت والبديهيات ، خلاصتها أن الاستعمار سعى بكل دأب إلى تفريق
الأمة الاسلامية وتقسيمها ، فكأن الاستعمار هو الشيطان الذي يقول عنه القرآن (إنما
يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء) ولهذا فان كل مبادرة أو مسعى ، يشم
منه رائحة الاختلاف عن التيار السائد ، فانه ينسب إلى خطة استعمارية .
لقد تحول العداء للاستعمار ،
إلى موضوع إجماع بين المسلمين ، فكل من تصدى لهذا الأمر أو دعا إليه ـ ولو على
مستوى الخطابة ـ حصل على تقدير العامة وتأييدهم ، ذلك لان مقاومة الاستعمار هي
الوجه الثاني للكفاح من اجل الوحدة .
والوحدة ، فوق أنها مطلب إنساني
فطري ، فهي إحدى الأولويات الدينية الكبرى ، التي دعا إليها القرآن بصورة مباشرة
وغير مباشرة .
ومع كل التأكيد على ضرورة
الوحدة ووجوب الحفاظ عليها ، فان المجتمع المسلم لم يكن في يوم من الأيام ، موحدا
بالمفهوم الذي يتخيله معظم الناس ، فقد كان هناك على الدوام آراء متباينة وتفسيرات
مختلفة واجتهادات متعددة ، على المستوى الفكري والعقيدي ، وعلى المستوى الاجتماعي
حافظت القبائل والطوائف والأعراق ، على قدر من الخصوصية والتميز عن غيرها ، وعلى
المستوى السياسي كان الوصول إلى السلطة وممارستها ، موضوعا ثابتا للخلاف بين مراكز
القوى ومجموعات الضغط المختلفة ، وعلى المستوى المعيشي كان هناك فقراء وأغنياء
ومتوسطون .
في ظل هذه التباينات التي هي
من سنن الحياة ، بقي المسلمون أمة واحدة ، ذلك أن الوحدة في حقيقتها هي اجتماع
المختلفين على قواسم مشتركة ، وكانت شهادة أن لا اله إلا الله ، والشعور بالمصير
المشترك ، والمصلحة الظاهرة في الوحدة ، هي هذه القواسم .
العجز عن تصور معنى التعدد
في إطار الوحدة ، هو واحد من ثمار
انقطاعنا الثقافي عن تجربة اسلافنا في العصور الاسلامية السابقة . وبسبب هذا العجز
فاننا نتطلع اليوم إلى وحدة قوامها انصهار المجموع في بوتقة واحدة ، اجتماعية
وثقافية واقتصادية ، انصهارا يذيب الفروقات الفردية ، ويلغي ذاتية كل فرد
واستقلاله .
نجد هذا الشعور الخفي ـ لكن
المسيطر على سلوكنا ـ في الضيق بالآراء المختلفة حتى لو لم تكن متناقضة أو متعارضة
، ونجدها في التوجس من تعبير الطوائف الاجتماعية أو الجماعات السياسية ، عن ذاتها
وأفكارها بصورة صريحة أو من خلال رموزها الخاصة ، حتى ضمن السياق الايجابي الذي
يتحاشى نقد الغير ، ونجدها في القلق الشديد من كل تشكل اجتماعي ـ سياسي أو فكري ـ
متميز عن التيار العام .
وبصورة عامة فان مفهوم الوحدة
الذي نحمله ويتبادر إلى أذهاننا ، يختلف عن مفهوم الوحدة الحقيقية ، كما لا يطابق
حقيقة الوحدة التي كانت سائدة في عصور الاسلام السابقة . يصعب علينا اليوم فهم
إمكانية ان يكون هناك تعبيرات عن الدين مختلفة ، وهي في نفس الوقت صحيحة ، أو ـ
على اقل التقادير ـ مبرئة للذمة ، ويصعب علينا تصور ان الطريق إلى الله ليس محددا
في مذهب معين ، أو اجتهاد مخصوص ، كما يصعب علينا أن نتعايش ، إذا كنا على خلاف في
بعض المعتقدات أو الفروع الفقهية .
ويضيف القلق الدفين من
مؤامرات الاستعمار على الوحدة الاسلامية ، زيتا على نار الرغبة المحمومة في
التماثل ، فكلما رأينا مختلفا يعبر عن رأيه ، أو يعلن عن نفسه ، استذكرنا سياسة
(فرق تسد) التي سار عليها الاستعمار ، فنسبنا ظهور هذا الاختلاف إلى مؤامرة
استعمارية جديدة ، أو رميناه بالتعاون مع الاستعمار أو ـ مع إحسان الظن ـ خدمة
أغراض الاستعمار دون وعي .
30 – 11- 1998
مقالات ذات صلة