05/08/2020

لو كان للعلم قيمة حقا...

في هذه الايام لم يعد الناس مهتمين بالجدالات القديمة حول علاقة الدين بالعلم. لكن هذا لم يكن الحال على الدوام. ولعل بعض القراء (كبار السن خاصة) يذكرون الحماسة التي أثارها نشر كتب مثل "الإسلام يتحدى" لوحيد الدين خان ، و"العلم يدعو للايمان" لكريس موريسون ، و "مع الله في السماء" لاحمد زكي ، و "الطب محراب الايمان" لخالص جلبي ، والعشرات من أمثالها ، خلال عقد السبعينات من القرن العشرين. وكان جميعها يحاول اثبات ان الاسلام يحترم العلم ويقر بدوره في الحياة.  
الإسلام يتحدى - وحيد الدين خان
لكن يبدو ان المسألة بقيت في حدود الدفاع والتبرير ، ولم تتجاوزه الى المرحلة التالية ، اي سؤال: اذا كان الدين يعطي للعلم هذا المكان الرفيع ، فهل يأخذ الدين نفسه بنتائج البحث العلمي فيطبقها على نفسه؟.
والحقيقة ان هذا السؤال بقي على الدوام موجها الى اهل الاسلام ، من عامة الناس والدعاة والفقهاء. فثمة من يقول لهم: لو صح هذا الكلام الفخم ، لتحول العلم الحديث (ونتاج العقل الانساني عموما) الى عنصر اساسي في تصنيع الفكرة الدينية ، اعني الفتوى والسلوكيات والتوجهات والمتبنيات الحياتية ككل. ولو كان الكلام جادا لكان لأهل العلوم (المصنفة خارج اطار الدين) ذات المكانة التي يحظى بها الفقيه ، ولكان لرأيهم ذات القيمة ، ليس عند عامة الناس ، بل عند الفقهاء ، لان عالم الاقتصاد مثلا اعلم من الفقيه في مجاله. ومن هنا توجب على الفقيه ان يرجع اليه ويطيعه ، بنفس الدليل الذي يوجب رجوع عامة الناس الى الفقيه في المسائل الفقهية. لايوجد دليل يلزم عامة الناس بالعودة للفقيه في امورهم الشرعية ، سوى الدليل العقلي القائل بلزوم رجوع الجاهل الى العالم اذا احتاج الى العلم. اذا كنا نؤمن حقا بان للعلم مكانة رفيعة في الدين ، فيجب ان تظهر آثارها هنا ، قبل اي مكان آخر.
أعلم ان مدارس العلم الديني تقاوم "بشدة " فكرة تحديث المنهج الدارسي ، او الاقرار بأي دور مركزي لغير العلوم التي جرى ، منذ زمن طويل ، تثبيتها كمقدمات لفهم النص الشرعي والتأهل للاجتهاد والفتوى. وأبرز هذه العلوم هو التفسير وعلوم القران واللغة العربية والمنطق والحديث (الدراية) والرجال (الجرح والتعديل). هذه العلوم تعد مغذية وخادمة لعلم اصول الفقه الذي يمثل محور البحث العلمي في تلك المدارس.
لقد تطورت ادوات فهم النص ، بفضل تقدم نظرية المعرفة والتأويل الفلسفي ، فقد وفر كل منهما مناهج جديدة ، تتيح التوصل الى رؤى مختلفة تماما عما توصل اليه الاسلاف ، وتحقق المبدأ القائل بقابلية القرآن لعبور الزمن.
نعلم ايضا ان قضايا عديدة تعلقت بها أحكام واجماعات ، قد تغيرت في الواقع ، مع انها لا زالت على حالها في كتب التراث ونصوصه. ومنها مثلا اعتبار المصارف ربوية ، بناء على فهم قديم فحواه ان الفائدة المشروطة هي مناط الوصف والحكم. ومنها ايضا تحريم التعاملات المصنفة ضمن  السوق المستقبلية ، لقولهم بجهالة اطراف البيع وموضوعه. ومنه كذلك تحريم تقلد النساء لوظائف الولايات ، وحرمة السفر الى بلاد الكفار والقانون الدولي. ومنه قضايا الدولة الوطنية وعلاقة اهل الوطن ببعضهم ، فضلا عن اغفال مفهوم "الحق" بصورة عامة في البحث الفقهي والفكر الديني ككل.
انني مؤمن بان العلم ونتاج العقل الانساني عموما ، ينبغي ان يكون حاكما على حياة الانسان. وعندي ان هذا يلبي امر الله بالتعلم والعودة الى اهل العلم. هذا واحد من معاني دين النخبة ، مع انه يجعل مصدر العلم الديني واسعا جدا ، بل اقرب الى دين العامة ، كما اشرنا في مقال الاسبوع المنصرم.
الشرق الاوسط الأربعاء - 15 ذو الحجة 1441 هـ - 05 أغسطس 2020 مـ رقم العدد [15226]
https://aawsat.com/node/2429906

29/07/2020

دين العامة ودين النخبة




احتمل ان عامة الناس يتقبلون التمييز بين الدين والمعرفة الدينية ، اي بين الوحي الذي وعد الله بحفظه ، وبين التفاسير والاجتهادات التي انتجها البشر ، في سياق دراستهم للوحي واستنباط مغازيه.
تحدثت في مقال الاسبوع الماضي ، عن التمييز الشائع بين الدين والمسلمين ، في الامور التي تستدعي النقد او العيب ، والذي يتجلى في القول بان "التقصير من المسلمين ولا يتحمله الاسلام". والمفهوم ان هذا التمييز محصور في الافعال التي يراها بعض الناس معيبة. 
المؤكد ان بعضكم قد صادف مواقف ينقلها اصحابها ، بقصد الاشارة لهذا التمييز. ومن ذلك مثلا قول احدهم انه أتى دائرة حكومية ، فقدم رشوة لموظفة هناك كي تعجل بانجاز معاملته ، هذه الرشوة تتضمن مبلغا من المال ولوح شوكولاته ، فاخذت الموظفة النقود واعادت الشوكولاته ، لانها كانت صائمة في هذا اليوم. والمراد انها تصوم وترتشي في الوقت نفسه. ونقل آخر ان أحد موظفيه لايترك الصوم المستحب في الاسبوع الاول من شهر ذي الحجة. لكنه يمضي معظم وقت الدوام نائما. ونقل ثالث صورة لمصلين افترشوا شارعا رئيسيا في عاصمة اوروبية ، كي يصلوا الجمعة ، فعطلوا حركة الناس والسيارات. 
واعلم ان معظم القراء رأوا او سمعوا قصصا كهذه ، وبعضها صحيح والاخر مختلق. لكنا نعلم بصورة اجمالية انه ثمة بين المسلمين من يصلي ويرتشي ، وثمة من يعطل الناس كي لاتفوته صلاة الجماعة ، الى غير ذلك من افعال تشير للتفارق ، بين روح الدين وما يمارسه بعض الناس من شعائر.
 ولو حدث أن ذكرت قصة كهذه لاحدهم ، فسوف يرد عليك فورا بأن العيب في المسلمين وليس في الاسلام!.
- حسنا .. هل قولهم هذا صحيح ام خطأ؟..
اذا كان صحيحا ، فهل ينطبق أيضا على ما نراه من تأخر وفوضى واحتراب وفقر في بلاد المسلمين ، شرقها وغربها؟ اي ان المسؤولية فيها ايضا تقع على عاتق المسلمين ، والاسلام بريء.
واذا كان خطأ ، فهل يعني ان العيب في الاسلام والمسلمين معا ، اي ان الدين يتحمل وزر اتباعه ان أساؤوا العمل؟
غرضي من عرض السؤالين ، هو حث القاريء على التفكير معي في مآلات الأفكار. ولكي نفكر بجد ، نحتاج للتوقف لحظات ، كي نراجع الافكار والاقوال التي تجري بين الناس مجرى المسلمات ، ومن بينها الفكرة التي نحن بصددها.
حقيقة الأمر ان الاسلام يتحمل جانبا من المسؤولية عن أحوال اتباعه وممارساتهم ، الحسنة والسيئة. ولهذا نشيد بالدين الحنيف ، اذا فعل اتباعه ما يستحق التبجيل والاشادة. ونعلم ان مبدأ العدالة يقرر ان من له الغنم (اي المديح والتبجيل) فعليه الغرم ايضا.
لكن مهلا.. اي دين نعني ، هل هو الدين الذي نزل من السماء ، ام الدين الذي فهمه الناس ومارسوه؟.
 دعنا نذهب مع الرأي الشائع الذي ينزه الوحي السماوي ، ويحصر النقاش في الدين الارضي ، اي الدين الذي تلقاه البشر وفهموه وطبقوه. فالواضح ان لدينا - في هذا المستوى – صنفان: دين النخبة من فقهاء ومفسرين وعلماء. ويتلوه دين عامة الناس. فهل نقول ان دين النخبة والعامة منزه أيضا عن العيب ، وان الخطأ يقع على الفقهاء والعامة؟ ام نقول ان الفقهاء منزهون ايضا وان العيب يقع على العامة وحدهم؟.
افترض ان النهايات المنطقية لكل من السؤالين قد اتضحت الآن. ولنا عودة للنقاش قريبة ان شاء الله.
الأربعاء - 8 ذو الحجة 1441 هـ - 29 يوليو 2020 مـ رقم العدد [15219]
https://aawsat.com/node/2417261

22/07/2020

في خطأ التمييز بين الاسلام والمسلمين



يستهدف هذا المقال مجادلة الفكرة الشائعة التي تفصل بين الاسلام والمسلمين ، حين تثار قضايا تستدعي النقد او العيب. اني واثق بانكم سمعتم عبارة من قبيل "التقصير من المسلمين ولا يتحمله الاسلام" ، او لعلنا قلناها مرة أو اكثر. ولهذا نعرف على وجه الدقة معناها والداعي لقولها.
ولا أعلم متى بدا استعمال هذا النوع من التبرير  ، ومن الذي استعمله أول مرة. سوى اني اذكر قراءة قديمة تنسب للمرحوم محمد عبده ، ونسبت في مكان آخر للمرحوم رفاعة الطهطاوي ، قولا فحواه انه زار اوربا فرأى اسلاما بلا مسلمين ، وعاد الى الشرق فرأى مسلمين بلا اسلام. ومراده ان حياة الغربيين سمتها النظافة والنظام والمساواة وسيادة القانون وحرية الفكر. وهي تطبيقات لقيم اسلامية ، او – على الأقل – حري بها ان تكون موضع احترام وتطبيق عند المسلمين. وقد وجد العكس من كل ذلك في بلاد المسلمين ، فحكم بان حياتهم بعيدة عن معايير الدين وأغراضه. وزبدة ما قال ان الاسلام كامل وفيه كل خير ، لكن المسلمين بعيدون عن الأخذ بهذا الخير او الالتزام بمقتضياته.
اني اجد الفصل بين الاسلام والمسلمين ، مجرد تعبير عاطفي انتقائي ، غرضه التهرب من نقاش اشكالية جدية ، برميها على غائب ، والعبور منها الى تبرئة الذات.
 في رأيي انه لا يوجد دين (بالمعنى الواقعي) ما لم يكن له اتباع واطار اجتماعي يتمظهر فيه. نعرف عن عشرات من الاديان والمذاهب القديمة التي زالت ونسيت ، لان اتباعها تخلوا عنها او ربما تناقصوا حتى انتهوا ، فتلاشى الدين او المذهب معهم. صحيح ان المرجع الاول للدين الاسلامي الحنيف هو القرآن الكريم ، والمصحف الذي بين الدفتين محفوظ بأمر الله. لكن مفهوم الحفظ الرباني هنا ، قد ينصرف الى ان الارض لن تخلو من المؤمنين بالاسلام والقرآن حتى يوم القيامة.
من هنا فان الاسلام النظري موجود في القرآن ، وفي مئات الكتب التي تشرح شريعته. اما الاسلام كديانة ، اي موضوع التزام وعمل في الدنيا ، فهو لا يقوم الا باتباعه ، ولا يتجسد الا في ممارساتهم الحياتية اليومية. نحن لن نعرف الدين الا من خلال فهم اتباعه لاحكامه ، وتفسيرهم لمصادره ونصوصه الأصلية. ولهذا فلو قلت لاي شخص: عرفني على الاسلام بكلمات موجزة ، لردد عليك كلام علماء الاسلام وائمته ، ولو جاء غريب الى بلدك وقال: ارني شيئا من دينكم ، فسوف تأخذه الى مسجد أنيق او داعية متمكن ، او ربما اعطيته كتابا يعرض رؤية طيبة عن الدين. وحين يبحث اي شخص عن صورة تدل دلالة جامعة مانعة على الاسلام ، فسوف يختار صورة لاحد المساجد الشهيرة ولاسيما المسجد الحرام.
فهذه الامثلة تدلنا جميعا ، على ان الدين لا يستطيع البقاء ما لم يتجسد في مظاهر مادية ، وأبرزها المجتمعات التي تدين به ، وتجسد احكامه في مناشطها اليومية ، من الازياء الى العبادات والعمران والاعمال واللغة والفولكلور والعلم والثقافة الخ.
الاسلام ثقافة مندمجة في حياة اتباعه ، يؤثر فيها ويتأثر بتحولاتها ،  وليس مجرد كتاب محفوظ في مكتبة. ولانه على هذا النحو ، فان النهر قد يلتقط بعض الزبد من هنا او هناك ، الامر الذي يستدعي التصفية بين حين وآخر. وهذا سر دعوات التجديد المشار اليها ايضا في الحديث المنسوب للنبي (ص).
ولنا عودة قريبة لهذا النقاش واشكالاته ان شاء الله.
الشرق الاوسط الأربعاء - 1 ذو الحجة 1441 هـ - 22 يوليو 2020 مـ رقم العدد [15212]

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...