07/09/2016

ايديولوجيا الدولة كعامل انقسام: كيف يحدث التفارق الآيديولوجي والثقافي؟


كرس كارل بوبر كتابه "المجتمع المفتوح واعداؤه" لنقد الرؤية المثالية ، التي وجدها أساسا للايديولوجيات السياسية الشمولية. وأظن ان هذا الكتاب هو الذي منح بوبر الشهرة الواسعة ، وجعله واحدا من اكثر الفلاسفة تأثيرا في الوسط الاكاديمي ، خلال الربع الاخير من القرن العشرين.

في هذا الكتاب الذي نشر عام 1945 تتبع بوبر جذور النزعة التسلطية -الشمولية في فلسفة افلاطون ، كارل ماركس ، وفريدريك هيغل. واظن انه ساهم في كبح الاتجاه الذي تعاظم في منتصف القرن العشرين ، والداعي الى الاخذ بنموذج معدل للاشتراكية في غرب اوربا.


رغم المسافة الشاسعة التي تفصل بين افلاطون وماركس وهيجل ، الا ان رؤية الفلاسفة الثلاثة تشكل أساسا لاتجاه عريض يركز على على أولوية "الصالح العام" ، على نحو يسمح بالغاء المصلحة الخاصة في حال التعارض. ان القبول المبدئي بهذه الرؤية التي تبدو في - الوهلة الاولى - معقولة ، ينتهي الى اضعاف المبادرة الحرة ، التي يحركها الميل الفطري عند البشر للكسب والاستزادة. كما يوفر تبريرا للتهوين من حقوق الافراد وحرياتهم.

وكما رأينا في التجربة الاشتراكية ومعظم التجارب العربية ، فان هذا الاتجاه قد ينتهي الى دولة بوليسية شديدة القسوة ومستعدة لاختراق كل الخطوط ، بما فيها الحقوق الأولية للافراد. وطبقا لوصف هما كاتوزيان ، فان دولة من هذا النوع لا تتوقف عند الفرض المتعسف لقانونها الخاص ، بل ربما تعطي لنفسها الحق في فرض اللاقانون ايضا ، حين تصبح أهواء رجالها وآراؤهم الشخصية واجتهاداتهم الخاصة أوامر لا تناقش.

ان التسلط مشكل بحد ذاته. لكن استناده الى ايديولوجيا حاكمة ، تجعله اكثر من مجرد سوء تقدير للعواقب او شخصنة للسلطة. كل صاحب ايديولوجيا ، ايا كان مصدرها او قاعدتها الفلسفية ، يتلبس – بالضرورة – دور الداعي الى ما يراه حقا او قيمة فوقية. وهذا يعني منطقيا تمييزه لنفسه ورفعها فوق من يدعوهم. في الحقيقة فانه يرى نفسه متفضلا عليهم حين يدعوهم ، وقد يستغرب من بجاحتهم حين يجادلونه ، او يلوم جهلهم اذا رفضوا دعواه.

لو كان داعية الايديولوجيا شخصا من عامة الناس ، فسوف يتوسل – كما هي العادة – بلين الكلام والجدل المعقول. وقد يعدهم خيرا او يحذرهم من سوء المآل لو اعرضوا عن رأيه. وفي نهاية المطاف ، فان غاية ما يصل اليه هو الابتعاد عن طريق الرافضين والتركيز على المستجيبين لدعوته.

لكن الامر مختلف تماما حين تكون الايديولوجيا خطابا تتبناه الدولة وتوجه سياساتها. الدولة – بطبيعتها - لا تعرف ، كما لاحظ الكسيس دو توكفيل ، سوى املاء قواعد صارمة ، وفرض الرأي الذي تميل اليه مهما كان كريها. بل حتى الارشاد والتوجيه العام ، يتحول في سياق عملها الى أوامر لا تقبل الجدل.

نعرف ان الدولة خادم للشعب ، وكيل عنه ، وأمين على ماله. فاذا تحولت الى داعية ايديولوجي ، تغيرت المعادلة ، وتحول شغلها الى تحديد من يقف مع الحق (اي خطابها) ومن هو منحرف عنه او معارض له. بطبيعة الحال فان المجتمع سينقسم الى موال مخلص ومعارض صريح ومعتزل مرتاب كاره للسياسة وأهلها.

واذا استعملت قوتها في فرض الحق الذي تتبناه ، اي الخطاب الايديولوجي الخاص ، فان جانبا مهما من رد الفعل الاجتماعي سينصرف الى تأليف ايديولوجيا نقيضة تبرر موقف الرفض او الاعتزال. وفي هذه النقطة يتحول التمايز الطبيعي بين الحاكم والمحكوم الى تفارق ايديولوجي وثقافي ، ومن ثم انشقاق اجتماعي.

الشرق الاوسط 7 سبتمبر 2016
 http://aawsat.com/node/732576

31/08/2016

تبعات الدولة الايديولوجية




ذكرت في مقال الاسبوع الماضي المعايير الثلاثة المقترحة لتطبيق وصف الدولة الفاشلة او المتردية. وابرزها عجز الدولة عن فرض سلطانها على كل اراضيها ، ثم انهيار نظام الخدمات العامة ، واخيرا تردد المجتمع الدولي في الاعتراف بالحكومة كممثل قانوني وحيد لبلدها. وقد رجحت المعيار الاول مع بعض التحفظ.
المعيار الاول ، وهو موضوع هذا المقال ، ينصرف عادة الى معنى محدد ، هو امتلاك الدولة لقوة عسكرية تمنع ظهور اي قوة مماثلة خارج نطاق القانون ، سواء كانت هذه جماعة سياسية مسلحة أو منظمات اجرامية كبيرة.
سبب التحفظ على هذا المعيار هو مسار الاحداث في ثلاث دول عربية هي العراق وسوريا وليبيا. قبل انفجار العنف كانت هذه الدول تخضع لحكومات قوية ، تملك منظومات أمنية شديدة الفعالية ، واسعة الانتشار ، متغلغلة في تفاصيل حياة المجتمع. لكنها فشلت جميعا في منع انزلاق المجتمع الى الانقسام وانفجار العنف الأهلي. بل ان القوات المسلحة نفسها ، فشلت في صون وحدتها ، فانقسمت وتصارعت.
هذا يستدعي اسئلة ضرورية ، مثل: هل تسبب انقسام المجتمع في انقسام القوات المسلحة ام العكس؟. وهل كانت بذور الانقسام كامنة في المجتمع او في القوات المسلحة ، حتى في ظل الدولة القوية؟.
لعل قارئا يجادل بان الانقسام ولد بعد انكسار النظام. بمعنى ان انكساره هو سبب الانقسام. وهذا الاستدلال غير صحيح. فهو قد يدل أيضا على ان الانقسام كان نشطا تحت السطح ، فلما انكسر السقف الامني ، ظهر الواقع المحتجب تحته. ولو كان انكسار الحكومة علة رئيسية ، لاستعاد المجتمع الليبي مثلا وحدته ، بعد خمس سنوات من سقوط النظام السابق.
فكرة احتكار الدولة للقوة المسلحة كدليل على نجاحها ، تنسب الى تراث ماكس فيبر ، عالم الاجتماع الالماني المعروف. لكن فيبر يشير ضمنا الى ان دور القوى المسلحة الحكومية يجب ان يفهم كقابلية لاستعمال السلاح وليس استعماله فعليا ، الا في مواجهة الجريمة او التمرد المسلح. وهو يستعمل في هذا السياق عبارة "التلويح بالقوة المسلحة".
اميل الى الاعتقاد بان تبني الدولة لخطاب ايديولوجي خاص ، هو العامل الرئيس للانقسام الاجتماعي. وهذا ما حصل في الدول الثلاث. تبنت النخبة الحاكمة في سوريا والعراق ايديولوجيا حزب البعث. وتبنى الليبيون ايديولوجيا الثورة الجماهيرية. وهي ايديولوجيات ما كانت تمثل – في احسن الاحوال - غير شريحة من المواطنين ، كبيرة او صغيرة. مالم يكن جميع الشعب مؤمنا بالايديولوجيا الرسمية ، فسوف تتحول بالضرورة الى عامل تقسيم للمجتمع ، بين اولياء الحكومة ،  المؤمنين بخطابها الايديولوجي ، واعداء الحكومة ، الرافضين لذلك الخطاب. وفي مثل العالم العربي ، فان رفض الخطاب الرسمي يتحول سريعا الى تصنيف سياسي ، يستدعي استعمال القوة العارية ضد الفريق الرافض. وبالتالي تحويل الانقسام من اختلاف في الرأي ، الى صراع نشط بين دائرة المحبين ودائرة الكارهين.
اتسمت علاقة المواطنين بالحكومة في الدول الثلاث بالارتياب المتبادل. وكان الخوف والحذر هو الطابع العام لموقف المواطنين من الدولة ، التي لم تتحفظ في استعمال قواها الامنية ضد من يختلف معها في راي او موقف سياسي او ايديولوجي.
هذا يحملنا على الظن بان مجرد احتكار الدولة للقوى المسلحة ، ليس معيارا لنجاحها كما رأى فيبر ، لانه لا يحول دون الانقسام الاجتماعي ، الذي قد يقود في لحظة ما ، الى انقسام تلك القوى المسلحة ، وعجزها عن ممارسة دورها كحارس للنظام الاجتماعي.
الشرق الاوسط 31 اغسطس 2016
http://aawsat.com/node/727171

24/08/2016

تبعات الدولة الفاشلة



في 2005 بدأت مجلة "فورين بوليسي" نشر القائمة السنوية للدول الفاشلة او المهددة بالفشل ، في اطار شراكة بحثية مع مركز الابحاث المعروف بصندوق السلام.
كان مفهوم "الدولة الفاشلة" قد لفت انظار الباحثين بعد نشر المجلة نفسها مقالا في نهاية 1992 بقلم جيرالد هيلمان وستيفن راتنر ، حول ظاهرة تفكك الدولة القومية وتصاعد الصراعات الاثنية في العالم ، سيما بعد انتهاء الحرب الباردة.
وخلال العقدين الماضيين حاول عدد من دارسي العلاقات الدولية ، وضع تعريف معياري للفشل ، يمكن احتساب عناصره بصورة موضوعية وقابلة للتطبيق في كل الحالات. لكن هذا الهدف لا زال بعيد المنال ، بسبب العلاقة الحرجة بين التعريف والمخرجات التي يصعب وصفها دون "نظرية مسبقة" ، اي – بصورة من الصور – تقرير شبه ايديولوجي يحدد كيف نرى الواقع وكيف نصفه.
لكن يمكن القول اجمالا ان الباحثين المتحفظين يميلون للحديث عن دولة "هشة" او "متردية". بمعنى انها مرشحة للفشل ، دون القطع بانها فاشلة فعليا. ويقترحون في هذا السياق 3 متغيرات معيارية ، تحدد تصنيف اي دولة بين ناجحة أو متردية:
ارتفاع معدلات الجريمة المنظمة ، او تزايد الجماعات المسلحة التي تعمل خارج اطار القانون ، او تستعمل مصادر قوة الدولة بخلاف اغراضها القانونية. وبالتالي عجز مؤسسة الدولة عن حماية المواطنين.
انهيار منظومات الخدمة العامة وفشلها في تلبية الحاجات الاساسية للمواطنين ، الامر الذي يجعل وجود الدولة كادارة للمجتمع ، غير ضروري او غير مفيد ، في رأي الجمهور.
تلاشي مصداقية الدولة في الاطار الدولي. اي عدم اعتراف المجتمع الدولي بهذه الحكومة كممثل وحيد او قانوني للبلد الذي تحكمه ، او عدم التعامل معها باعتبارها تملك سيادة كاملة على اقليمها.
يصعب القطع بانطباق هذه المعايير بصورة دقيقة على اي دولة في الوقت الراهن. لكن السياسيين يميلون عموما الى التركيز على العامل الاول ، بالنظر الى واحد من أهم مخرجاته ، وهو الهجرة الجماعية للسكان. وخلال السنتين الماضيتين بالخصوص ، كانت موجات الهجرة الجماعية الضخمة عبر البحر المتوسط ، سببا في تجديد النقاش حول مسألتين بالتحديد هما: 1- الكلفة التي يتحملها المجتمع الدولي نتيجة فشل دولة ما. وهم يشيرون خصوصا الى انتشار الارهاب والهجرة غير الشرعية. و2- مسؤولية المجتمع الدولي ازاء هذه الدولة ، التي سيؤدي اهمالها الى ما اسماه توماس فريدمان بانتقال عالم الفوضى الى عالم النظام ، اي ببساطة تحول الدول الفاشلة الى مولد لعوامل انكسار في الانظمة المستقرة سياسيا واقتصاديا.
لدينا تحفظات على صدقية المعايير السابقة. لكن ثمة ما يدفع للظن بأن الاول – من دون تفاصيل – يمثل قطب الرحى في اي توصيف لفشل الدولة او ترديها. ولعل حالة البلدين العربيين سوريا وليبيا ، نموذج واضح عن الحالة التي يمكن ان يصل اليها وضع الاقليم ككل ، عندما ينكسر النظام العام في احدى دوله.
يولد العنف في دولة محددة. لكن موجات الرعب التي يطلقها ، تتحول الى محرك للانقسامات الاجتماعية والتوترات السياسية على امتداد الاقليم. انتشار الازمات عبر الحدود ، كان المبرر الرئيس وراء الدعوة التي اطلقها بطرس غالي ، الامين العام السابق للامم المتحدة ، منتصف 1992 ، للتخلي عن التشديد التقليدي على مبدأ "السيادة الوطنية" كمرجع للعلاقات بين الدول ، والاهتمام بدلا منه بمفهوم "الاعتماد المتبادل" ، الذي يعني ايضا مسؤولية الجميع عن امن الجميع.
الشرق الاوسط 24 اغسطس 2016

http://aawsat.com/node/721561

10/08/2016

العرب السعداء



اظن ان معظم العرب قد فرحوا بفشل الانقلاب العسكري ضد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان. بعضهم فرح لانه في الاساس ضد الانقلابات. وبعضهم فرح لانه مع الديمقراطية ، بغض النظر عن موقفه الخاص من الحزب الحاكم او قادته. لكن المؤكد ان تيار الاسلام الحركي كان اسعد الناس بما جرى ، للأسباب السابقة ، ولأسباب اخرى يعرفها الجميع.
ما وجدته مهما في المسألة كلها ، هو معنى الفرح العربي بما جرى. واستذكر هنا حلقة نقاش عميق عقدت قبل عقد من الزمن ، حول سؤال: هل سيكون وصول الاسلاميين الى السلطة عاملا في تجديد الدين ، ام سببا لتلويثه بعيوب السياسة؟.
لفت نظري في تلك الحلقة حديث حماسي لاحد زعماء الاخوان الخليجيين حول خطورة ما اسماه بالاسلام الامريكي ، الذي قال ان مؤسسة "راند" البحثية المعروفة تعمل على تسويقه. وفحوى تلك الفكرة ان واشنطن وضعت خطة كلفتها نصف مليار دولار ، تستهدف فرز الجماعات الاسلامية القادرة على التكيف مع النظام الدولي من تلك المعادية له. ثم فتح أبواب السياسة امام الصنف الأول. وقال المتحدث ان المقصود في نهاية المطاف هو تصنيع تيار مائع ذي مضمون علماني او شبه علماني ، يتغطى بعباءة الاسلام. وذكر في السياق عددا من الجماعات الاسلامية التي دخلت فعليا في هذه الخطة ، من بينها حزب العدالة والتنمية ، الذي لولا تنازلاته في الجانب السياسي والعقيدي ، لما سمح له الغربيون بالفوز في الانتخابات التركية.
 بعد سنتين تقريبا من ذلك النقاش ، التقيت صدفة بالرجل ، فأخبرني انه عاد للتو من اجتماع شارك فيه نظراء له من دول عربية عديدة ، وانه نصحهم بتبني خطاب سياسي ديمقراطي ، لأن الساحة تغيرت ، وان الديمقراطية هي طريق المستقبل لمن أراد ان يؤثر في عالم اليوم.

سألته ان كان لنجاحات حزب العدالة والتنمية تاثير في تغير المزاج السياسي لاعضاء الجماعة. فقال انه التقى شخصيا بعدد من زعماء الحزب ورجال الدين الذين يدعمونه ، فاكتشف ان الخطاب الديمقراطي الذي يتبناه ، أقرب الى مرادات الدين في هذا العصر ، وان فكرة "خلافة على منهاج نبوة" ليست قابلة للتحقيق في عالم اليوم ، ولذا فالتمسك بها عبث لا طائل تحته. وذكر عددا من الأمثلة على هذا.
اميل شخصيا الى الظن بأن السعادة الغامرة للاسلاميين تأتي في سياق المقارنة بين ما جرى في تركيا وما جرى في مصر سنة 2013. وضمن هذا الاطار فهي نوع من الشعور برد الاعتبار السياسي. الا ان من المهم التأمل في اللغة المستخدمة للتعبير عن هذا الموقف. وهي لغة يغلب عليها الاقرار – ولو ضمنيا – بفضائل الديمقراطية وتمجيد الحريات المدنية وتقبيح "التغلب" كوسيلة للوصول الى السلطة.
هذا لا يرقى بطبيعة الحال الى مستوى التبني الكامل للخطاب الديمقراطي ، والنبذ النهائي للعنف والمعتقدات التي تدعم الاقصاء والاستئثار بالسلطة او النفوذ. الا انها تشير بالتأكيد الى ان التيار الديني الحركي يتخلى بالتدريج عن إرثه التاريخي العتيق.
اعتقد ان تحول الثقافة السياسية للمجتمع العربي هو أمر في غاية الأهمية ، ولو كان بطيئا. كما اعتقد ان التحول في التيار الديني يكتسب أهمية خاصة ، لأنه لعب خلال نصف القرن الماضي دور حارس التقاليد ، والمولد الرئيس لقلق الهوية.
امام العرب طريق طويل قبل اكتمال التحول في الثقافة السياسية. لكن بالنسبة لمراقبين مثلي ، فان التحولات الصغيرة المتوالية ، تشكل دليلا على ما نخاله ضوء في آخر النفق.
الشرق الاوسط 10 اغسطس 2016

http://aawsat.com/node/710731

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...