20/05/2015

الهوية المتأزمة



ازعم ان الميل العميق للتمثل بالتاريخ ، سيما عند مسلمي الشرق الاوسط ، يمثل انعكاسا لهوية متأزمة. تقديس رجالات التاريخ واعتبار مجرياته معيارا يقاس عليه الحاضر ، يؤدي بالضرورة الى انكار الحاضر واعتباره نكسة. رغم ان التحليل الواقعي يؤكد عكس هذا تماما. 
صحيح ان المسلمين لم يعودوا سادة العالم ، لكن انتشار الاسلام اليوم ، وما يملكه اتباعه من علم وثروة وقوة يفوق كثيرا ما كان لديهم في ذروة مجدهم الغابر. اعتبار الماضي نموذجا ، يصدق في شيء واحد فقط ، هو تفوقنا السابق على غيرنا.
تصوير الاسلاميين والقوميين للغرب كعدو مطلق او كسبب لفشلنا الحضاري ، يعبر في احد وجوهه عن تلك الهوية المتأزمة ، التي لا تتشكل في سياق وصف مستقل للذات ، بل في سياق التناقض المقصود او العفوي مع "الاخر" الغربي الذي يوصف ايضا بالكافر. اما السبب المباشر لتأزم الهوية فيكمن في عجزنا عن المنافسة ، وهو ليس عجزا عضويا او تكوينيا. ان سببه كما اظن هو عدم الرغبة في دفع الثمن الضروري للتمكن من المنافسة. هذا الثمن هو ببساطة التماثل الاولي والتعلم ثم اعادة انتاج القوة ، تمهيدا لمنافسة الآخر على قدم المساواة وربما تجاوزه.
معظم النزاعات الدائرة حولنا تحمل هوية تناقضية. هذه نزاعات يحركها او يعمقها تناقض هوياتي ، يجري تبريره بمبررات دينية او قومية. ولذا فهي تسهم في تعزيز المفاصلة بين الدين والعصر ، وتشدد على ربط الدين بالماضي بدل الحاضر ، وبالتالي فهي تعزز اغترابنا عن عالمنا الواقعي.
من ملامح الهوية المتأزمة ايضا انها تحمل في داخلها ازدواجية مدمرة. تؤكد بحوث ميدانية ان معظم عرب المشرق يعتبرون "الغرب" سيما امريكا والولايات المتحدة عدوا حضاريا ، او على الاقل ، مصدر تهديد. لكن ارقام المبتعثين السعوديين مثلا تشير الى ان 67 بالمائة منهم اختاروا الدراسة في هذه الدول ، وعلى الخصوص الدول التي شاركت في حرب الخليج (1991) التي اعتبرها بعض الدعاة ذروة الهجوم الغربي (النصراني) على قلب العالم الاسلامي. ومن الطريف ان كثيرا من اولئك الدعاة رحبوا باختيار ابنائهم لتلك الدول بالذات للدراسات العليا. هذه الازدواجية تعني اننا نكره الاخر (الغرب) ونعتبره عدوا ، بل ونرحب بمن يقاتله.  لكننا بموازاة ذلك نحتفي به ونحب ان نكون مثله.
هذا يوضح اننا لا نشكل هويتنا ، اي معرفتنا بذاتنا وتصورنا لذاتنا بطريقة ايجابية تنطلق من الرغبة في ان اكون كما احب او كما يليق بي ، او - على الاقل – ان اكون كما استطيع. على العكس من ذلك فاننا نشكل هويتنا من خلال مناظرة الاخر ، اي في سياق التعارض معه والتباعد عنه ، ولو على المستوى الشعوري ، مع رغبتنا في تقليده على المستوى المادي.
خط التأزم هذا يحيل نقد الغرب الى مجرد كلام للتسلية وتبرير المواقف ، لكنه على اي حال يبقى فعالا في تعطيل التفاعل الايجابي البناء مع الغرب المعرفي والحضاري ، تفاعلا يقود الى التعلم العميق المؤدي للقدرة على المنافسة فالاستقلال.
من الناحية الواقعية لسنا قادرين على مناوأة الغرب ، ولا يوجد بيننا من يعتقد  - جادا – انه قادر على التحرر من الحاجة اليه في المدى المنظور. ومثل هذا الشعور المتناقض يحول التصارع الى جدل مؤرق داخل النفس ، الامر الذي يتطلب تنفيسا من نوع ما. ولسوء حظنا فقد استبدلنا المنازعة الملكلفة مع الغرب بمنازعة تبدو سهلة مع اطراف اخرى في المجتمع ، نختلف معها سياسيا او فكريا. العجز عن مناوأة الغرب يدفع دعاة الصراع الى مناوأة من يصفونها بالنخبة المتغربة او المتاثرين بالغرب اي – بعبارة اخرى – تحويل الصراع الخارجي المكلف الى صراع داخلي يبدو قليل الكلفة.
زبدة القول ان الهوية المتأزمة تفسر العديد من الصراعات الاجتماعية والسياسية ، التي يستعمل فيها الدين اوالقومية كشعار او كمبرر. انها تعبير عن ارادة للتحرر من "آخر" تجاوزنا ، ونشعر بالعجز عن مجاراته. لكن عجزنا عن دفع الثمن الضروري للمنافسة جعلنا ننشغل قاصدين او غافلين ، بصراعات داخلية بديلة ، تشير الى العدو لكنها لا تصل اليه.
الشرق الاوسط -  1 شعبان 1436 هـ - 20 مايو 2015 مـ
http://bit.ly/1LlwrlI

06/05/2015

بين هويتين



ليس من طبائع المجتمعات ان تتوحد "قلبا وقالبا" كما يقال في الادب. هذا خلاف سنن الحياة الطبيعية. في كل مجتمع ، صغيرا كان او كبيرا ، مصالح متفاوتة وتطلعات مختلفة واراء متباينة وتجارب متنوعة ، يمثل كل منها أرضية اختلاف. يتحدث الباحثون في علم الاجتماع عن "دوائر مصالح" متنوعة ، كل منها يمثل اطارا يجمع طائفة من الناس حول فكرة او عاطفة او مصلحة مادية.
بندكت اندرسون
تعبير "مصالح" المستعمل هنا تعريب مقرب للاصل الانكليزي interests. وقد حرصت على هذه الاشارة لأن لفظة "مصالح"  في العربية المتداولة تشير غالبا الى امور مادية ، بينما يشير التعبير الاجنبي الى نطاق أوسع ، يشمل مثلا كل موضوع يجتذب اهتمام الانسان أو يحركه. وهو في هذا التعريف الواسع يشمل مختلف العناصر التي تحرك مشاعر الناس او تدفعهم للاجتماع مع بعضهم او توحيد نشاطاتهم.
هذه اذن طبيعة المجتمعات وهكذا تعيش. ثمة من يجتمع حول نسب واحد فيشكلون عائلة او قبيلة. وثمة من يجتمع حول قضية واحدة فيشكلون شركة تجارية او نقابة او جمعية مهنية او حزبا سياسيا او جماعة دينية او ثقافية وهكذا. كل واحدة من هذه التجمعات هي دائرة مصالح ، اجتمعت فيها شريحة من الناس ، طمعا في ان تحقق بعض ما يريدون.
بنظرة عامة نستطيع القول ان دوائر المصالح هذه نوعان: اولها عمودي موروث ينضم اليه الانسان بالولادة لا بالاختيار. فالانسان لا يختار انتماءه الديني والمذهبي والعرقي والقبلي ، فهذا ينتقل بين الاجيال بالوراثة. اما النوع الثاني فهو الافقي الذي ينضم اليه الانسان اختيارا ، ويتركه اذا شاء ، وقد يطلق عليه التعاقدي. ينضم الانسان الى جمعية تجارية او حرفية او سياسية او خيرية اذا شاء ويتركها اذا شاء.
لاحظ دارسو علم الاجتماع ان النمط الاول هو السائد في المجتمعات التقليدية ، بينما تتسم المجتمعات الحديثة بانتشار النمط الثاني. احد الاسباب هو سيادة مفهوم الاختيار والتعاقد القائم على تقدير الفرد لنفسه ، و- بشكل عام – ارتفاع قيمة الفرد والمبادرة الفردية في المجتمعات المتقدمة ، بخلاف نظيرتها التقليدية التي لا تمنح الفرد سوى قيمة ثانوية.
لاحظ الباحثون ايضا ان النمط الاول هو الاطار الاكثر شيوعا للتعصب والصراعات الطويلة الامد. اذا جرى شحن الانتماء القبلي او الديني او المذهبي او العرقي بمضامين سياسية ، فانه سيشكل قاعدة لتنازع مزمن ، بخلاف النمط الثاني الذي لا يخلو – هو الاخر - من تعصب ولا يحول دون انفجار صراعات ، لكنها قصيرة الأمد وقابلة للتفكيك والمعالجة باجراءات غير مكلفة. هذا هو السبب الذي يجعلنا نقول بان منظمات المجتمع المدني توفر اداة فعالة لتفكيك البنية الثقافية – الاجتماعية للتعصب ، وتسويد لغة الحوار والتفاهم بين الشرائح الاجتماعية من جهة ، وبينها وبين الدولة من جهة اخرى.
يفسر التقسيم السابق ايضا اسباب تصاعد المشاعر القبلية والطائفية مع انتشار وسائل الاعلام واتساع التعليم ، مع ان المفترض هو العكس تماما. وهذه احدى المسائل الرئيسية التي عالجها بندكت اندرسون في كتابه المرجعي "مجتمعات متخيلة".
تشجيع الناس على صب تطلعاتهم في اطارات حديثة تعاقدية ، أي تحويل مفهوم المصلحة من الانتماءات الموروثة الى الانتماءات الحديثة ، سيؤدي تدريجيا الى تفريغ الانتماءات التقليدية من مضمونها السياسي واضعاف قابليتها للشحن السياسي. لهذا تهتم الانظمة السياسية الحديثة بتشجيع ودعم المجتمع المدني في مختلف تعبيراته وتمثلاته ، حتى لو اتخذ – في بعض الاحيان – مسارات غير متوافقة مع سياسات الدولة الرسمية.  الامر ببساطة اختيار بين من يعارض الدولة في مجال محدد وبين من يعتبرها كينونة غريبة بناء على تبرير ديني او أثني او قبلي.
الشرق الاوسط 6 مايو 2015
http://goo.gl/E0po9W

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...