اما وقد اقتربت
المملكة من الانضمام الى منظمة التجارة العالمية، فقد اصبح من الضروري التعجيل في اعداد
الاقتصاد الوطني لمرحلة العولمة الاقتصادية. خلال السنوات القليلة الماضية كتب
الكثير عن حسنات هذا التحول وسيئاته. وبدا ان معظم ما كتب يميل الى التشاؤم من
تبعات هذا التحول على اقتصادات الدول النامية. لا شك ان جانبا من التشاؤم يستمد
مشروعيته من العلاقة غير المتوازنة التي سادت حتى الان بين الشمال والجنوب.
لكن لا شك ان
الامور ليست سواء في كل الاحوال، كما ان المسؤولية عن انعدام التوازن ذاك تقع
علينا مثلما تقع عليهم. ومن هنا يمكن القول، ان العولمة تمثل فرصة في جانب وتحديا
في جانب آخر، ومن واجبنا ان نستوعب التحدي ونعد لمواجهته. ان اكثر المتضررين من
العولمة هم الذين دفنوا رؤوسهم في الرمال وانشغلوا في لعنها، واكثر المستفيدين هم
الذين بحثوا في كل سطر وكل نقطة وكل ثقب عن الفرص الجديدة التي تتيحها والامكانات
التي توفرها.
في ظني ان ابرز ما يترتب على عولمة الاقتصاد هو عودة نظام العمل الدولي القديم الذي قامت فكرته على تخصص اقطار العالم بين منتج للمواد الخام ومنتج للمواد المصنعة. هذا النظام سيعود الان في صيغة مختلفة تأخذ في الاعتبار التحولات التي طرأت على الاقتصاد العالمي منذ انتهاء الحرب الباردة، ونخص بالذكر تحول الاستثمار الصناعي الى الدول النامية القادرة على توفير بدائل افضل، مثل الصين ودول جنوب شرق آسيا، بسبب انتشار التكنولوجيا من جهة وتزايد كلفة الانتاج في الدول الصناعية من جهة اخرى.
في ظل هذا التحول فمن المؤكد الى حد بعيد ان
الدول المنتجة للبترول ستحصل على فرصة استثنائية للتحول من مصدر للبترول الخام الى
قطب عالمي للصناعات التي تعتمد على خامات البترول كمدخل اساسي، او تلك التي تحتاج
الى طاقة كثيفة. ونشير كمثال على القسم الاول الى صناعة المشتقات البترولية
والبوليمرات وبدائل المعادن والاسمدة، وفي القسم الثاني الى صناعات صهر المعادن
وتوليد الطاقة، اضافة الى الكثير من الصناعات الفرعية.
هذه الصناعات تمثل اليوم جزءا هاما من الاقتصاد
العالمي. وفي هذا الاطار تتمتع الدول المنتجة للبترول - مثل المملكة - بميزة نسبية
لا تقارن، وهي توفر المادة الخام الرئيسية، اي البترول، بكميات تفوق اي مكان آخر
من العالم، اضافة الى انخفاض تكلفة الانتاج النسبية بالمقارنة مع معظم دول العالم
الاخرى.
تدل مسيرة الاقتصاد العالمي خلال العشرين عاما
الاخيرة على ان الانتعاش الاقتصادي، لا سيما في الاقتصادات الجديدة، سوف يتواصل
حتى نهاية العقد القادم على الاقل. ونخشى ان يتولد عن هذا الانتعاش المستمر نوع من
التفاؤل الكاذب بامكانية اتكال البلاد على صادرات البترول الخام لعقدين آخرين،
خلافا لتحذيرات الخبراء من الافراط في التفاؤل، لا سيما بشأن عدم استقرار اسعار
البترول.
من الواضح اننا لا نتكلم هنا عن اسواق البترول،
ولا نستطيع تقديم تقديرات مؤكدة عن مستقبلها، رغم انه ليس من الحكمة اغفال تلك
التحذيرات. ما نتحدث عنه هنا هو ضرورة التحول من الاتكال الكامل حاليا على تصدير
البترول الخام الى تصدير المواد المصنعة ونصف المصنعة المستمدة من البترول. الغرض
بطبيعة الحال هو مضاعفة العوائد الحالية ثلاث مرات او اربع على اقل التقادير.
ان برميل البترول الذي يباع عند رصيف التصدير
حاليا بأقل من اربعين دولارا، يمكن ان يتحول الى مواد مصنعة او نصف مصنعة تتجاوز
قيمتها ثلاثة اضعاف هذا المبلغ على الاقل. بكلمة اخرى، فان ذلك التحول يوفر الفرصة
كي نضاعف القيمة المضافة لما نبيعه حاليا فنوفر مداخيل جديدة، وبالتالي فرصا جديدة
للعمل والرخاء.
لكن هذه الفائدة - على اهميتها - ليست الوحيدة
التي نحصل عليها من وراء التحول المنشود. ان التحول الى الصناعة، يرفع الاهمية
النسبية للبلاد في نظام العلاقات الدولية ويزيد تأثيرها، كما يساعد في الارتقاء
بمستواها العلمي، وبالتالي يعزز استقلالها واستقرارها.
لا اظن اننا نواجه مشكلة في توفير الاستثمارات
اللازمة لهذه الصناعات. لقد نجحت دول فقيرة نسبيا مثل كوريا وتايلاند والصين في
توفير الاموال اللازمة، ولا شك اننا اقدر على ذلك. ما ينقصنا بصورة جدية هو
التكنولوجيا وخطة التحول الى مجتمع صناعي. وكلا الامرين يتوقف على قرار وطني جاد
وحاسم. رغم ان بعض التكنولوجيا قابل للتوفير من الاسواق الدولية، الا انه لا يمكن
الاعتماد على استيراد التكنولوجيا الجاهزة حتى النهاية. لا بد من توطين التقنية،
وهذا يحتاج الى مشروع استثنائي يستهدف هذا الغرض خصوصا، ويحتاج الى مضاعفة
المخصصات المالية للبحث العلمي، ويحتاج بصورة حاسمة الى تطوير نظام التعليم كي
ينتج علماء وباحثين وتقنيين بدل الالاف المؤلفة من الكتبة الذين يتخرجون اليوم من
مدارسنا.
عولمة الاقتصاد هي تحد ينطوي على الكثير من
الفرص. وحري بنا ان نواجه بما يستحق من جدية وتصميم كي نصنع مستقبلا افضل من
حاضرنا.